فقالت متلجلجة: «كلا. ليس ليس فورا، ولكن عن قريب، ويلوح لي أني لا أستطيع البقاء في هذه الدنيا إذا حرمت رؤيتك إلى الأبد.»
ويعقب ذلك فترة سكوت يعتريهما خلالها كرب وضيق، ويبقى هو جامد الحركة، إحدى يديه في جيبه، والثانية مسلوبة القوة مدلاة إلى جنبه.
ويرنو أحدهما إلى الآخر، وكل منهما يصور لنفسه فرط اللذة والسعادة التي كان يجدها الآن في العناق لو تعانقا لحظة، ولكن كلا يرى دون ذلك زاجرا في نفسه مخالفا لما يراه الآخر؛ فزاجر الفتى هو «ليس هذا من الصواب والحكمة»، وزاجر الفتاة هو «لقد كنت أعانقه لو يرضى، ولكنه لا يقبل.»
أخيرا يقول لها: «لا بأس علينا من هذا الفراق ما دمنا نستطيع تبادل الرسائل.»
فتجيبه الفتاة بوجد وحرارة: «ولكن ماذا تجدي الكتب، وماذا تغني الرسائل؟!»
ثم يدفعها فرط شغفها به، وشعورها بحبه إياها، وعلمها أن من الحماقة تضييع مثل هذه الفرصة التي عليها تتوقف سعادتها، أو شقاؤها وحياتها، أو هلاكها - لسبب حقير تافه كالمحافظة العمياء على الكرامة والعزة والإباء - فتقول له: «أنت تعلم - وما إخالك إلا تعلم - أنك أحب ما في الوجود إلى نفسي، وإني لا أحفل في الحياة بشيء غيرك.»
وكان في صوتها حدة من حرارة وجدها، وقد مدت ذراعيها قليلا نحوه كالمبتهلة المتضرعة.
يرى إصطفيان ذراعيها ترتجفان، ووجهها يصفر، وتلتهب في عينيها لوعة الجزع والكرب، فلا يتزعزع ولا يتضعضع، ولا يلين ولا يرق، بل يثبت كالطود الراسخ مع ما يجيش بقلبه من الحب والهوى، ويغلي في جوفه من الوجد والجوى (لقد تعجب من ذلك إصطفيان نفسه من وقت آخر بعد مرور هذه الحوادث وانقضاء هذه المأساة).
لقد أدهش إصطفيان هذا الموقف وحير لبه، حتى أوشك أن يرتاب في صدق عواطف الفتاة، وهتف به هاتف شك من أعماق نفسه يناجيه: «أحق ما تقول الغادة أم دعوى زور وبهتان، ومظهر من مظاهر التصنع والرياء؟»
وهنا يضاعف حذره واحتياطه، ويزيد قلبه منعة وحصانة، فيقوم كالبرج المشيد والقلعة العصماء في وجه الفتاة، ويزيده إغراء بذلك شدة استيائه من مفاجأة الفتاة إياه ومهاجمته على غرة، ومحاولتها أن تستخرج منه بطريق المباغتة والتوريط ذلك الوعد الذي أفهمها أنه يكره أن يفوه به إليها.
Página desconocida