Lágrimas del Payaso: Colección de Cuentos Publicada por Primera Vez
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
Géneros
إنها ثروة العمر، سبعة جنيهات، أجل، سبعة جنيهات قد حفظتها لألقي إليك بها الساعة. - ولكن ...
ووجدت زينب أباها يبحث عنها، فاقتربت منه خائفة، ومد الشيخ يديه إليها، ثم جذبها إليه في قوة وضمها إلى صدره، وهمس في أذنيها: سبعة جنيهات يا زينب، ستدخلين بها الفرن، سبعة جنيهات يا زينب، اشكري أباك الذي صنع لك مستقبلا، وسألته زينب عن هذا الفرن وماذا عساه أن يكون؟ ولكنه وضع يده على فمها فسكتت، وسمعته يقول: «نحن فقراء يا رب، ولكننا مذنبون، وهذا الفرن، والنار التي تتضرم فيه، فكيف بنا على احتمال نارك الحامية؟» وكان رأسه يهتز ويترنح وصوته يختلج وينساب فيه الندم، ثم يندفع في نشيج متصل لا يهدأ، ويعود كالمستيقظ من نوم متعب لكي يذكر امرأته بالنار، وبأن فرنها هذا الماثل أمامها ليس إلا شبحا للفرن الذي أعد للمذنبين، وللفقراء، وبأن دموع الندم وحدها هي التي تطفئ لهبه. والحق أن زينب لم تدرك من ذلك كله شيئا، ولم ترد أن تفهم منه حرفا، وإنما ثبتت عيناها عند الصرة الملقاة في حجر أمها، المحجوبة تحت رأسها المطرقة في خشوع، ثم التفتت إلى الوراء فوجدت الفرن كما هو، يشكو من أن ناره حامية، وأن عذابها كبير. ولقد فكرت زينب طويلا في ذلك الفرن الآخر الذي ستدخله بهذه الجنيهات السبع الملقاة في حجر أمها، وسألت نفسها إذا كان الناس يعذبون ويؤجرون بالمال أيضا، ولما لم تفهم شيئا تركت أباها في نشيجه المحزن ذلك، وأمها التي لم تزل تندب ذنوبها وأيامها التي ضيعتها في غير الاستغفار، ثم طلعت على الفرن، وسحبت اللحاف، واستسلمت لنوم هادئ لا يعكره شيء.
6
وهي تذكر أن أباها قد لبث على حاله تلك سبعة أيام متتاليات، يصحو في الصباح فيضم زينب إليه، ثم يهمس في أذنيها بأنه قد حفظ لها على مدى العمر سبعة جنيهات، وبأنها ستدخل دنيا جديدة لم ترها من قبل، وكان في أغلب حالاته يقول لها: «هيه يا زينب! إنك ستدخلين الفرن بهذه الجنيهات، فاشكري أباك.» وهي تبحث الآن في ذكرياتها عن اليوم الذي مات أبوها فيه، ولكنها لا تحفظ من ذلك أثرا، فإن مشهدا آخر يزحم كل ذكرياتها، ويتقدمها، ويمثل أمامها في صورة أمها المتشحة بالسواد تقترب منها وتنهي إليها في كلمات قصار: «سنذهب بك غدا إلى المنصورة.»
وهي لا تجد في مخيلتها من هذه الرحلة الغريبة في البلاد الغريبة إلا أنها قد صحبت أمها إلى دكان امتلأ بالذهب، وأن أمها قد جلست أمام الخواجة الذكي الثرثار منشرحة الصدر سعيدة ضاحكة كما لم تسعد أو تضحك في يوم من أيام حياتها الطويلة. كانت أمها ضعيفة البصر، نصف عمياء، فراحت تقلب بين يديها ما يعرض أمامها من الأساور والحلقان والعقود، فتتحسسه بكفيها النحيلتين، أما هي فقد كانت صامتة ساكنة، لم يكن الأمر يعنيها في شيء، لقد قضت حياتها متفرجة على الأشياء والأحياء.
وهي تذكر أن أمها، من فرط فرحتها قد تناولت من يد الخواجة أسورة ذهبية، ثم عالجتها في يدها، وأخذت تدفعها في معصمها وفي ذراعها، وتتحسسها بين الحين والحين، وتخرجها من يدها ثم تعود فتحاول أن تدفعها في ذراع كالعصا الجوفاء صنعت من القش الواهي.
ولقد كانت أمها تميل عليها وتهمس في أذنها بأنها في زمانها لم تستطع أن تشتري ذهبا ولم تدخل محل جواهرجي، بل قنعت بالزواج الخشن، من الزوج الخشن، على الفراش الخشن. ولقد ابتاعت أمها من الخواجة الذكي الثرثار قطعة أو قطعتين، ربطتهما في صرة من القماش قبضت عليها في اعتناء وحذر، كما يقبض الميت على ثروة يود لو يستطيع أن يستأثر بها وحده وأن يصحبها معه إلى قبره، لتقبض عليها يداه، في الظلام الخالد.
وحين عادت زينب مع أمها في قطار البراري كان الليل قد نشر عتمته على راكبي الدرجة الثالثة، وجلست وأمها على مقعد خشن، تنفذ إليهما الريح كألواح الثلج من نافذة متخرقة، ليلتحم الراكبون وتلتف أجسادهم، لتدفئ برد الشتاء وقسوة الليل، ثم تنطلق أفواههم بأحاديث لا ينصت لها قائلوها، وتدور أعينهم في الوجوه الجامدة المتعبة، قانعة بالتفرج لأنها لا تريد أن تؤول شيئا مما تراه، وكل ما تراه متماثل واحد لا يتغير ولا يتفاضل أبدا. ولقد احتضنتها أمها، واشتكت لها من أنها لم تعد تقوى على احتمال البرد، فانعطفت وضمتها إليها في إصرار، ومسحت خديها بكتفها ووجهها، وأرادت أن تقول شيئا ولكنها لم تجد صوتا تحرك به حنجرتها فقنعت بالصمت، ووجدت أمها تهمس في أذنها ضاحكة: «ليس لك أن تشتكي من البرد، فالدفء ينتظرك في بيتنا، أولست ستدخلين الفرن عما قريب؟» ولقد سرت في جسدها رعشة خفية، وغامت أمام عينيها سحابة من هم، وحاولت أن تفهم هذا الفرن، وراحت تستعيد ما قاله لها أبوها، ثم تهز رأسها وإن كانت في صميمها تشتاق إلى تعرف هذا الفرن، والتلظي بناره.
ولقد عادت في مساء ذلك اليوم إلى بيتها، تحمل في رأسها صورة غامضة عن الفرن الذي سيلقى بها فيه، وتحمل أمها في يدها صرة قبضت عليها في حذر. وحين أرادت أن تضع المفتاح في باب حجرتها، ألفت شبحا يتحرك في الظلام، فتراجعت، ولكنه اقترب منها، وحرك شفتيه بأصوات مرتفعة، ودت لو أنها كانت في الظلام همسا، ثم التفتت إلى أمها فوجدتها تقبل ضاحكة مستبشرة، ثم تربت على كتفه وتشير له إلى ابنتها ثم تعود إلى ضحكها، وتفتح له يدها، لتريه الصرة، ثم تفتحها أمامه، وتعرض عليه أسورتين نحيلتين من الذهب، تلقفهما في يديه، وأخذ يقلبهما مشدوها.
ولقد عرفت فيما بعد أن محمودا كان ينتظرهما قلقا متشوقا، وأنه قد لبث واقفا أو قاعدا أمام بابهما طيلة ذلك اليوم حتى انتصف ليله أو كاد، فلما أن عاد دلف معهما إلى الداخل، وأخذ يتحسس كل شيء يجده في طريقه متهللا، فرحا، ثم اقترب من الفرن الرابض في هذه الغرفة فطلع عليه، وأخذ يتمرغ عليه، ويضحك ويقهقه، ويدعو زينب وأمها، بإشارته ، إلى الضحك.
Página desconocida