Lágrimas del Payaso: Colección de Cuentos Publicada por Primera Vez

Abd Ghaffar Makkawi d. 1434 AH
76

Lágrimas del Payaso: Colección de Cuentos Publicada por Primera Vez

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

Géneros

مرت الشهور بعد الشهور وأنا أتابع جولاتي الوحيدة وأراقب هيبارخيا وهي تواصل طوافها بالقرى وبيوت المرضى والمحتاجين وتواظب على رعاية الشجر والزهر والزرع في حديقتنا الصغيرة وتقول كلما طلبت منها أن تستريح: على الإنسان أن يزرع حديقته يا زوجي الحكيم! وكان عبدي السابق يتردد علينا ويساعدها في العمل ويجمع الخضر والثمار ويبيعها في السوق ويشتري بثمنه ما نحتاج إليه من الخبز والزاد. أيقنت أنني أصبحت وحيدا بعد أن تغير الزمن وانفض الرفاق والأتباع كل في طريق، وكنت أذهب أحيانا إلى الأيكة وأجلس هناك حتى تغرب الشمس وتطير الغربان والبوم ثم أرجع إلى الكوخ، وأحيانا أخرى أتجول في المدينة وأنظر وأسمع وأتعجب لأن الصغار لا يجرون ورائي ولا يقذفونني بالحجارة، بل ينظر الجميع إلي كأنني أثر قديم يمرون عليه غير مبالين. آه يا صديقي الذي أنتظره منذ سنين! يا من احترفت الموت منذ كلفتك به الآلهة وأرسلتك إلى الهالكين، هل علمت أن الموت الحقيقي هو عدم الاكتراث؟ وهل جربت أن تمد يدك أو منجلك فتحدق الروح في عينيك وتقول: سواء فعلت أو لم تفعل فالموت والحياة عندي سواء. •••

رجعت قبل أيام من جولتي الوحيدة في الشارع الكبير المؤدي إلى «الأجورا»، كانت الحقيقة قد تجلت لي ولم تتح لي الفرصة لتجربتها واختبار صدقها من كذبها، وكان الجميع ينظرون إلي نظرة عدم الاكتراث التي لا أثر فيها لما عرفت من الاحتقار والازدراء والسب واللعن، وكنت أحاول أن أواجه الجميع بمثل ما يواجهونني به وأنا غير واثق من أنني قد امتلكت الحقيقة التي تجلت لي حتى سمعت صياحا وهتافا وصليل أجراس وزعيق أبواق تصم الآذان. قلت لنفسي لن أكترث بالتوقف وإلقاء نظرة على الموكب الذي بدأ يلوح من بعيد. فكرت أنه ربما يكون موكب الإسكندر، ثم تذكرت ما سمعته قبل شهور من أنه قد مات بالطاعون في بابل بعد أن هدم «بيرسيبوليس» وفتح الهند ومصر. خلف الطاغية طغاة بعد طغاة، لكن ماذا يعنيني منهم؟ ماذا يهمني ممن ذهب أو جاء؟ وتقدمت العربات تجرها الخيل المطهمة بالسروج المذهبة وعلى رءوسها وخوذات قوادها ريش ملون كريش الطواويس، وقفت العربة الأولى بجانبي، فأعطيتها ظهري ونويت أن أتابع الطريق، ورنت صيحة جلجلت بعدها الضحكات وسمعت من ينادي قائلا: هذا يا مولاي هو كراتيس الكلبي المشهور! سأل القائد الضخم الذي يتوسط سائر القواد: ألست أنت الذي زاره الإسكندر العظيم؟ اقترب أيها الكلب الجليل. نظرت إليه متأففا وتابعت طريقي، فعاد يصيح: أنا الطاغية سيلويقوس، أسألك كما سألك قائدنا العظيم: أليس لك طلب عندنا؟ أليست لك حاجة نلبيها؟ أردت أن أقول له: وما شأني بالقائد الكبير أو الصغير، ذهب طاغية وجاء طاغية وامتلأت البلاد بالعبيد والسجون والكلاب، لكنني لم أقل كلمة واحدة، أعطيته ظهري وبصقت على الأرض، وابتعدت العربة والخيول والضوضاء ورن صوت ضاحك: لا بد أن تلبوا طلباته، إنه الآن أشهر معالم ثيبة، لا بد من المحافظة عليه لجذب الزوار والسياح! •••

رجعت إلى الكوخ وفي جرابي وملء فؤادي الحقيقة المتجلية، وحكيت لهيبارخيا ما جرى مع القائد والموكب. وسألتها وأنا أتوقع أن يتفجر منها ينبوع الضحك ولا يتوقف: ماذا يهم يا حبيبتي أن أكترث أو لا أكترث، حتى عدم الاكتراث لن أكترث به، وقفت صامتة تتفرس في كأنها تراني لأول مرة، ثم صرخت وأقبلت علي مسرعة كأنها تريد أن تطفئ نارا توشك أن تحرقني أو تمنع عني صاعقة تمحقني: ولكن هذا هو الموت!

قلت في هدوء: وما الفرق بين أن يحيا كراتيس أو يموت؟ يحترق أو ينطفئ، يسكن أو يتحرك، يأكل أو يجوع؟

هتفت كأنها تنتشلني من تحت الأنقاض: أفهم ألا تكترث بالمدينة وطغاتها وناسها وكلابها، أفهم أن الزمن تغير ولم يتغير شيء، أن الكلاب ما زالت تنبح وتعض وتتكالب حتى الموت، لكنك عشت وقاسيت لكي يتغير شيء، ورضيت بأن أحيا معك وأن أتعلم منك، ماذا كنت تعلم ولماذا ولمن؟ قلت بهدوء: عشت لكي يتغير شيء، لكن لم يتغير شيء، ما الفرق إذن أن أحيا أو أتمنى الموت؟ قالت ممتعضة: تسألني ما الفرق؟ تريد أن أعيش مع ميت؟ قلت ضاحكا وأنا أمد ذراعي إليها: ميت لم يدفن بعد، يكفيني أنك حية !

قالت وهي تهز رأسها الجميل الصغير: لا لن أغفر لك هذا اليأس، ثم فجأة كأن الحقيقة تجلت أمام عينيها: لم لا تكتب؟!

قلت بهدوء: كتبت كثيرا، لم يتغير شيء، جاء زمان ذهب زمان لم يتغير شيء.

قالت وهي تفتش بين ركام الأوراق والأقلام والمحابر وألواح البرجامون والبردي: اكتب لزمان آخر للأجيال الأخرى، أين أشعارك؟ - نسيتها، لم يبق منها غير نعيي لنفسي! - ومسرحياتك؟ ألم تؤلف المآسي في شبابك؟ - وأهملها المحكمون في المهرجانات الأوليمية. - وأين رسائلك؟ - تلك التي قلدت فيها أفلاطون؟ أحرقتها قبل أن أرسلها لأصحابها!

قالت فجأة وهي تقترب مني وتمسك بيدي: افعل أي شيء، اكتب وصيتك! ضحكت وأنا أضمها إلى صدري وأمر بكفي على وجهها الجميل الذابل: بماذا أوصي ولمن؟ لك وأنت لا تريدين أن تملكي شيئا لكي لا يملكك شيء؟ أم لبازيكليس الذي ذهب ولا ندري إن كان سيرجع؟ أراحت رأسها الجميل على كتفي وقالت: اكتب هذا في الوصية، قل لم تملك شيئا كي لا يملكك شيء، تحررت من كل شيء كي يتحرر غيرك، تعريت وجعت كأبأس كلب كي لا يبقى إنسان حولك مثل الكلب!

قربت فمها من فمي وقبلتها قبلة ذكرني دفؤها بأيام الشباب: وأني قبلتك وختمت بذلك وصيتي! •••

Página desconocida