Lágrimas del Payaso: Colección de Cuentos Publicada por Primera Vez

Abd Ghaffar Makkawi d. 1434 AH
74

Lágrimas del Payaso: Colección de Cuentos Publicada por Primera Vez

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

Géneros

هل تعرف ماذا قالت بعد سكوت طويل؟ «ذهب!» لم أسألها عما فعلت بعد خروجها، لم أحاول الاقتراب من بئر أسرارها وظنونها ومخاوفها، ولا معرفة من قابلته ولا من سألتهم من أصحابه ورفاقه، رأيت شيئا واحدا يجمع ويفصل بيننا منذ ذلك اليوم: جدار الصمت.

جازفت بعدها بأيام وربما أسابيع أن أكسر ذلك الجدار الأسود، أو على الأقل أفتح فيه ثغرة، أو حتى أتسلقه وأخطف من ورائه نظرة إلى الوجه الحبيب والعينين اللتين لم يغب عنهما الحنو رغم ستار الحزن المتكاثف يوما بعد يوم، قلت فجأة : أنا واثق أنه سيرجع، واثق أنه سيرجع. نظرت إلي طويلا ورأيت بوضوح كيف تقيم سدا منيعا يوقف الحمم الفوارة في داخلها، وانفرجت أساريرها قليلا كأنما تتعمد أن تخترق الجدار الأخرس أو تذيب الجليد: أنا أيضا واثقة أنه سيرجع، لكن هل سيبقى؟ •••

ظلت حياتي وحياة هيبارخيا وأصدقائنا وأتباعنا وإخوتنا وأبنائنا على ما هي عليه، أخذت تتكرر كل يوم كما تكررت آلاف الأيام والليالي، أشبه بطواحين الزيت التي كنت أملكها أو بالأحرى تملكني، بالسنين الكونية الجبارة الغامضة وقانون الميلاد والحياة والموت الذي يفرض جبروته على كل حي، ربما لم يجد عليها غير القلق الغامض والخوف المجهول من إعصار قادم، إعصار كان يحدثني عنه الرفاق في رهبة كأنه سيهب علينا وعلى مدينتنا لا محالة، وقل عدد الأصحاب والأتباع كما قلت لك، ودب السأم من التكرار في الجميع دون استثناء، وحاولت جهدي أن أواصل رغم كل شيء: فأقدم النموذج الكلبي الذي عشت له وآمنت بأنه يمكن أن يجعل أهل مدينتنا يراجعون حياتهم الكلبية، ورحت أجرب وأتأمل كل شيء بنفس التعاطف والحنو الذي جذب أحب الناس إلي وأولادهم بالتعاطف والحنو، وكان الملل من الكائنات جميعا يزداد كل يوم مع تزايد عذابي وسأمي وعجزي وانتظاري، وتنظر إلي هيبارخيا ونحن تحت الأيكة وترسل من عينيها الوميض الحبيب المتألق، وعند رجوعنا لا تضن علي بلمسة دفء من يدها على يدي أو رفة بسمة من فمها الصغير الرفيق كوردة ذابلة، وكنت أغبط نفسي على هذا الحنان الذي لا أستحقه وأستعين به على مواجهة الجدار الأسود الذي لم يشأ أن يتزحزح عن موضعه.

وبدأت أنباء الإعصار تتسلل على ألسنة الناس، حذرة واهنة في أول الأمر ثم عالية مدوية بعد ذلك، وفي يوم من الأيام كنت راجعا إلى الكوخ بعد الطواف بجراب حكمتي وعظاتي ونصائحي على أبواب قرية صغيرة باغتها الجراد بعدما نسيها المطر، وفاجأني عجوز قميء خلته في البداية واحدا من رفاقنا وإن لم أتأكد من ذلك، كانت رائحته الكريهة المنبعثة من هلاهيله الذرة تشي بأنه كلبي وإن لم يسمع عن الكلبيين، وكانت الأبخرة العفنة الخارجة من فمه توحي بأنه سكير عنيد لا يتوب، أوقفني في منعطف الطريق الضيق المظلم رغم أن الشمس لم تكن قد غربت، وقال ضاحكا: ما رأيك الآن أيها الكلب العجوز؟ ولما لم يجد مني إلا الاشمئزاز من هيئته وصوته القبيح استطرد يقول من أنفه المفلطح: ها هو الإعصار يكتسح كل شيء أمامه، أليس كذلك أيتها الشجرة العجوز التي تسقطها هبة ريح؟ قلت في غضب وأنا أحاول مواصلة سيري: لا أدري عما تتكلم ولم أسمع عن هذا الإعصار - قال ضاحكا: ولم تسمع عن الجيش الذي احتل أثينا، وعن ديموستينيس الشجاع الذي هرب أو اختفى أو انتحر، وعن أرسطو الذي فر كالجرذان ولم يستطع أن ينتظر الإنقاذ على يد تلميذه العزيز؟ لم تسمع شيئا عن هذا؟

دمدم صوتي الغاضب بامتعاض لا مثيل له: قلت لك لم أسمع، لم أعرف. واصل الضحك وهو يرفع قنينة غامقة اللون إلى فمه المتآكل الأسنان: لا عجب، لا عجب، أنت وهلاهيلك وكلابك الحارسة التي لا تدري كيف تحرس نفسها ولا غيرها، انتهى زمنكم يا صديقي، هذا زمن آخر يأتي معه بأبطال وحكماء آخرين، اذهب إلى كوخك وتأكد بنفسك!

لم أرد عليه بكلمة واحدة، ولم أفهم ماذا يقصده بالذهاب والتأكد بنفسي، كان شبح اليأس والملل قد جثم علي وسد كل طريق، وانطلقت راجعا إلى الكوخ وصوته يردد في أذني: هذا زمن آخر، زمن آخر. •••

عندما اقتربت من الدرب الهابط إلى الكوخ الراقد في المزرعة الصغيرة المهجورة خيل إلي أنني أسمع هديرا كصوت البحر القادم من بعيد، خطوت خطوات أخرى فلمحت موكبا صغيرا من الخيول والفرسان الذين تلمع الخوذات فوق رءوسهم والدروع والسيوف في أيديهم وجنوبهم. كان الموكب الصغير يقف هناك بلا ضجيج، وكأن الفرسان ينتظرون الإشارة التي تأذن لهم بالحركة في اتجاه معلوم، ما هذا؟ من هؤلاء؟ ماذا يريدون؟ ولماذا ينتظرون قريبا من الكوخ الصغير؟ وفي حيرتي وتعثر خطواتي سمعت صوتا مجلجلا ينادي كأنه يزف إلي البشرى السعيدة: اقترب يا كراتيس، أسرع، أسرع ، أيصح بحق زيوس أن ينتظرك بطل الأبطال؟ أيصح أن يحضر لزيارتك ولا يجدك في انتظاره؟ الإسكندر بنفسه ينتظرك يا رجل!

أسرعت بقدر ما تقوى رجلاي على حمل جسدي المنهار، خيل إلي أنني أقفز كجدي ضامر عجوز، ودخلت الكوخ المفتوح الأبواب بعد أن ألقيت تحياتي المرتبكة على الحراس المتناثرين في كل مكان، لم تبحث عيني في أرجاء القاعة التي تضيئها المشاعل عن سيد الإعصار، بل راحت تفتش خائفة عن هيبارخيا حتى عثرت عليها مكومة كالطل الحزين في ركن معزول، كان الإسكندر يتجول في الكوخ ويلمس كل شيء ويفحصه كأنه طفل كبير يعبث بألعابه الصغيرة، وكنت أقف كالحجر المنسي عندما التفت ورآني وأشار إلي وهو يرفع ذراعيه في الهواء: أحكم حكماء ثيبة وأشهرهم يقف بعيدا ولا يتكلم؟! أتريد أن تستقبلني كما فعل معلمك المتوحش العجوز؟ حركت قدمي خطوة وأنا أقول: معذرة يا مولاي، لكنه كان في البرميل وأنا بين يديك، جلجلت ضحكته كصليل السيوف اللامعة المتدلية من خصور جنوده وضباطه وقال: لقد طلب مني أن أبتعد ولا أحجب عنه ضوء الشمس، ماذا ستطلب مني أنت يا كراتيس الطيب العجوز؟ قلت متلعثما وأنا أتطلع لوجهه الناضر الجميل وقامته الممشوقة الفارعة وخطواته السريعة القلقة كأنها تتحرك على إيقاع موسيقى خفية عذبة: عفوا يا مولاي، إنك تعلم أن الكلبيين لا يطلبون شيئا. مد ذراعيه القويين ووضع يديه الرخصتين على كتفي وقال: أعلم، أعلم، ويحيرني أنكم تحيون حياة الكلاب لكي يقلدكم الناس. جمعت أطراف نفسي الضائعة واندفعت قائلا: كلا يا مولاي، بل لكي يتجردوا من شهوات الكلاب ويصبحوا بشرا.

ضحك كأني نطقت بدعابة مسلية أو رويت حكاية عجيبة، وقال في ود ظاهر ولطف محبب: ليتكم عشتم حياة الأسود أو النمور أو حتى الذئاب أو الضباع لكي يقوى جيش الإغريق ويوحد العالم والبشرية تحت راية «هيلاس»، ليتكم ... قاطعته بحسم وقلت بكلمات واضحة: «نحن أيضا نؤمن بوحدة البشرية وندعوهم أن يحيوا أحبابا في بيت العالم، هذا هو ما نطلب يا مولاي.» نظر من النافذة الخالية من الزجاج والعارية من الأستار، وعاد يقلب في الصحون الصدئة المتراصة فوق المائدة الصغيرة المجدولة من أعواد الجريد، ومشى خطوات بجانب الحائط فوجد الجراب الجلدي القديم معلقا على مسمار ومعه بعض الهلاهيل، رفع رأسه إلى أعلى بعنف ثم تفرس في وقال: ولكن لا بد أن يكون لك طلب تريد تحقيقه، تكلم يا كراتيس الطيب العجوز، قل للإسكندر ماذا تريد؟

لمحت شابا يتقدم منه ويحني رأسه أمامه ثم يهمس له بكلمات، واستدار الشاب فرأيت وجهه والتقت عيناي بعينيه في لمحة خاطفة، صحت وقد أذهلتني المفاجأة: يا إلهي زيوس! هل يمكن أن يكون؟ حدق في الشاب محذرا وعينه تطق الشرار، بلعت الغصة وتوقف عقلي عن التفكير، أليس هذا هو بازيلكيس الحبيب؟ أليست هذه هي ملامحه ورأسه وشفتاه وعيناه؟ ألم أقل لك يا هيبارخيا إنه سيعود؟ لا بد أن يعود، وأيقظني صوت الإسكندر وهو يتحرك نحو الباب الذي سبقه بازيكليس إليه وقال بصوت المودع لصديق قديم: أعرف، أعرف يا كراتيس أنك لا تطلب شيئا لنفسك، لكن ربما تطلب شيئا لمدينتك، لقد دخلناها اليوم وتهدمت رغما عنا بعض المباني والبيوت، ألا تبتغي أن ترى مدينتك وقد أعيد بناؤها؟ لم يكن عقلي معه وإن كان جسده الممشوق يقف أمامي وسترته التي تلمع فوقها قطع السيوف والحراب الصغيرة والأزرار الذهبية تخطف بصري كالنجوم البراقة، قلت ورأسي ما زال يدور في الدوامة التي تموج وتفور حول بازيكليس المسكين: ولم التعب يا مولاي؟ سوف يأتي إسكندر آخر ويدمرها! ولدهشتي لم يغضب البطل الرائع اللامع اللطيف، قال في هدوء وهو يخبط كتفي كصديق قديم: سآمر ببنائها على كل حال قبل أن نواصل زحفنا الليلة، إنها وطنك يا كراتيس، أليس كذلك أيها الكلبي الطيب؟

Página desconocida