ولم أكد ألقى ربة البيت ومن حولها بناتها وخادماتها يعملن وتعمل معهن، يتحدثن وتشاركهن في الحديث، حتى أحسست أني سأجد في هذه الدار راحة وتعبا، وسألقى فيها نعيما وبؤسا. وقد صدق حسي، فنعمت في هذه الدار وشقيت: نعمت بهذه السذاجة التي ردتني إلى شيء يشبه حياتي في أقصى الريف، وخلطتني بأهل الدار كأني واحدة منهم، وألغت ما بين السادة والخدم من الفروق أو كادت تلغيه، ولكن أي حياة يموت فيها العقل أو يأخذه شيء كالموت! لم آسف على ما فقدت من الترف، ولعلي لم آسف على ما فقدت من صحبة خديجة؛ فقد استيأست من صحبتها واتخذتها - سواء أردت أم لم أرد - لنفسي خصما، حاربتها وإن زعمت أني كنت أدافع عنها، وظلمتها وإن زعمت أني أنقذتها، وانتصرت عليها وإن زعمت أني لم آسف لما فاتني من صحبتها فلم يكن من ذلك بد! ولكن أي أسف وأي حزن وأي لوعة وحسرة، وأي ندم يذيب القلب ويملأ النفس كآبة ويأسا هذا الذي كنت أجده إذا أصبحت وأمسيت وقضيت الليل والنهار بين عمل باليد أو حديث مع أهل الدار لا متاع فيه للعقل ولا لذة فيه للقلب!
أين القراءة مع خديجة، وأين القراءة منفردة؟ أين هذه الكتب العربية وهذه الكتب الفرنسية التي كنت أنفق معها أكثر النهار وشطرا من الليل قارئة أو متحدثة عما قرأت أو متمنية لاستئناف القراءة؟ لقد تركت هذا كله في بيت المأمور، وأقبلت إلى بيت لا يقرأ من أهله أحد، إلا رب البيت؛ فإنه يقرأ إذا أصبح، ويقرأ إذا أمسى، وأنا أسمعه في الصباح والمساء، وأكاد أحفظ عنه ما يقرأ. وما يعنيني مما يقرأ! إنما هي أوراده وأدعيته، ودلائل الخيرات. وأين أنا من هذا، وأين هذا مني؟!
ولقد خرجت من بيت المأمور لم استصحب كتابا، وما كان لي أن أستصحب كتابا، وإنما كانت كلها كتب لخديجة. ولقد سألت نفسي ألف مرة ومرة: أين يمكن أن أظفر بهذا الكتاب؟ فليس في هذه المدينة من مدن الريف كتب تباع إلا هذه التي يعرضها الطوافون في أيام السوق أو في يوم الخميس من كل أسبوع، يعرضونها في السوق ويمرون بها على الدور، وليس لي فيها أرب ولا منفعة، إنما هي قصص لا تعجبني ولا تروقني وسحر لا أحسنه، وصلوات دينية لا أعرف منها قليلا ولا كثيرا.
أين هذه الكتب المترفة ذات الطبع الجميل والجلد الأنيق، هذه التي تأتي من القاهرة والتي كنت أجد اللذة والمتاع حين آخذها في يدي أو حين أنظر إليها؟ أحيل بيني وبينها آخر الدهر؟ أقضي علي أن أرد كما كنت فلاحة من بنات الريف تنفق نهارها في هذا العمل الآلي الذي لا يكاد يفرق بينها وبين ما يحيط بها من النبات والحيوان؟ كلا ...!
هؤلاء فتيان الأسرة قد أقبلوا من القاهرة، وقد رأيتهم يفرغون حقائبهم، فما أكثر ما رأيتهم يستخرجون منها من الكتب ذات الأحجام المختلفة المتباينة، منها الضخم ومنها النحيف، منها متقن الطبع ومنها ما أهمل طبعه إهمالا، منها ما جلد في عناية وما ترك على حاله التي خرج بها من المطبعة! ولكن أين مني هذه الكتب؟ وكيف السبيل إلى النظر فيها؟ بل كيف السبيل إلى الوصول إليها؟ هنا حدثتني نفسي بما لم تحدثني به قط، فأنكرت حديثها بعض الشيء، ولكني لم ألبث أن عرفته وقبلته واطمأننت إليه ثم صممت عليه تصميما، وأي بأس في أن أختلس الكتاب اختلاسا فأنظر فيه وقتا طويلا أو قصيرا، ثم أرده إلى مكانه لم يمسسه بأس ولم يصبه مكروه؟ أسرقة هذه؟ أإثم هذا الذي أنا مقدمة عليه، إن وجدت إلى الإقدام عليه سبيلا؟ والله يشهد ما سرقت ولا فكرت في السرقة، وما اختلست ولا فكرت في الاختلاس إلا هذه المرة، والله يشهد ما لمت نفسي على ذلك ولا أشفقت عليها من تورط في الإثم أو تعرض للعقاب، وإنما قضيت أسابيع غريبة فيها مهارة لم أكن أعرف لنفسي منها حظا، وفيها خوف وإشفاق، وفيها بين ذلك لذات لن أنساها، فكم خدعت أهل الدار، وكم تغفلتهم، وكم اختلست الكتاب من هذه الكتب فأخفيته بيني وبين ثوبي، ثم انحزت به إلى حيث اتخذت لنفسي مأمنا لا أخشى أن يعثر علي فيه، ثم أخذت أقلب صفحاته وألقي عليه نظرات طوالا أو قصارا تغريني به أو تصرفني عنه، وأنا أجد لهذه المخادعة ولهذا الخوف ولهذه القراءة لذة غيرت حياتي تغييرا وكادت تصرفني عن هذه الخواطر التي كانت تصاحب نفسي وتملأ قلبي وترسم أمام عيني بيت المأمور وبيت المهندس، صورة خديجة وصورة هذا الشاب.
نعم! كادت هذه الحياة الجديدة تصرفني عن هذا كله، لولا حديث سمعته وأنا أطوف بألوان الطعام وأقداح الماء على سادتي في ليلة من الليالي: سمعت حديثا عن المأمور اضطربت له نفسي اضطرابا، ولولا أني أنفقت جهدا عنيفا لظهر هذا الاضطراب ولسقط من يدي ما كنت أحمله من آنية؛ فقد نقل المأمور من المدينة إلى مدينة أخرى في أقصى الأرض مما يلي البحر، وكان هو الذي طلب هذا النقل وسعى فيه وتوسل إليه بفلان وفلان، والناس يهمسون بأنه إنما فعل ذلك ليفر بابنته من جوار المهندس الذي كان قد خطبها ثم قطعت الخطبة، والناس يختلفون، فمنهم من يرى أن المهندس هو الذي قطع الخطبة لأشياء بدت له، ومنهم من يزعم أن المأمور هو الذي رفض الخطبة لما تبين من سوء سيرة هذا الشاب.
سمعت هذا واضطربت له، وكظمت عواطفي وأكرهت نفسي على التزام الأمن والهدوء ما اضطررت إلى الخدمة، فلما أتيحت لي العزلة أرسلت نفسي على سجيتها فقضيت ليلة ساهرة حائرة مفكرة محزونة. ولكن الصباح لم يسفر حتى أسفر معه للنفس أمل لا يخلو من حزن ولكنه أمل على كل حال، من أجله أفسدت الأمر على خديجة، ومن أجله خرجت من بيت المأمور، ومن أجله نفيت نفسي في هذه الدار، فقد خلا الجو لي في المدينة، وأصبح من الممكن أن تتصل الأسباب بيني وبين هذا المهندس الشاب، وأصبح من الممكن بل أصبح مما لا بد منه أن يكون الصراع بينه وبيني، فليعلمن بعد وقت قصير أو طويل أذهب دم هنادي هدرا أم لا يزال على هذه الأرض من هو قادر على أن يظفر له بالثأر ويشفي نفسه بالانتقام؟
الفصل العشرون
وقضيت بعد ذلك أسابيع حائرة أشد الحيرة، مرتبكة أعظم الارتباك، تضطرب الخواطر في نفسي وتختلف وتزدحم دون أن أقدر على تنظيمها أو أجد لي منفذا منها إلى هذا الخاطر الذي كنت أطلبه وألح في طلبه وأريد أن أطمئن إليه. فلم يكن بد من أن أتصل بخدمة هذا المهندس الشاب، ولم تكن السبيل إلى ذلك ميسرة؛ فأنا عاملة في هذه الدار لا أجد من أهلها ما يزعجني عنها أو ما يضطرني إلى فراقها، وسكينة عاملة عند المهندس، لا تجد منه ما يؤذيها، ولا يجد منها ما يصرفه عنها أو يزهده فيها.
وكنت أجهد نفسي أثناء هذه الأسابيع إجهادا شديدا متصلا ألتمس مخرجا لي من هذه الدار ومخرجا لسكينة من تلك، وأريد مع ذلك أن أجتنب الشر والإساءة ما وجدت إلى اجتنابهما سبيلا، وكثيرا ما سمعت سادتي يتحدثون أثناء الغداء أو أثناء العشاء عن مبادلة يسعى فيها أكبر أبناء الدار وكان موظفا في إقليم بعيد، وكان يريد ويريد أهله أن ينتقل إلى المدينة التي نحن فيها ليعيش بين أهله مسرورا موفورا، فكان يسعى في أن يبادل موظفا في المدينة ليأخذ كل منهما مكان صاحبه، وكان التراضي قد تم بينهما بعد أخذ ورد وبعد سعي وإلحاح، وكان السعي متصلا في أن ترضى الحكومة عن هذه المبادلة، وكان الأمل يدنو حينا من هذه الأسرة ويبعد حينا آخر، وكان رب البيت وربته يحرصان على تحقيق هذا الأمل أشد الحرص، ويكثران الحديث فيه، وكانا يتصوران ابنهما وقد عاد إليهما بعد طول الغربة في أقصى الصعيد، وكانا يهيئان له في أحاديثهما غرفته وينظمان فيها الأثاث ويذكران ما يجب أن يشتري من المتاع، ويتحدثان بما سيتغير من نظام الدار إذا أقبل هذا الشاب الذي تعلم في المدارس وتعود حياة الترف والنعيم، والذي يتكلم الفرنسية ويتأنق في اللباس، ولا يأكل كما يأكل أهل الدار جالسا على الأرض إلى هذه المائدة المنخفضة، عليها هذه الصينية النحاسية البيضاء في الأيام العادية، وعليها تلك الصينية الصفراء التي لم تكن توضع حتى يسرع إليها الصبيان والشبان يتكلفون قراءة ما كان عليها من بعض النقوش قبل أن يرص الخبز عليها رصا فيخفي هذه النقوش إخفاء.
Página desconocida