خواطر كانت تملأ قلبي في اليقظة، وكانت تملؤه في النوم، وكانت تصرفه عن كل شيء إلا عن هذه الفتاة التي سفك دمها في ذلك الفضاء العريض، فذاقت الموت وذهبت نفسها إلى السماء وهوى جسمها إلى الأرض وهيل عليه التراب؛ وإلا هذا الفتى الذي مازال يغدو ويروح فرحا مرحا، مغتبطا مستبشرا، تبسم له الحياة ويبسم هو للحياة.
ليتني أدري أيذكر ضحيته تلك أم قد نسيها. وليتني أدري أيذكرها إن ذكرها في شيء من الرفق بها والعطف عليها والحنين إليها، أم يذكرها إن ذكرها في إعراض الزاهد وانصراف المزدري! وأين تكون هذه الفتاة من نفسه، وما أكثر الفتيات في نفسه! لقد كان بالقياس إليها كل شيء، ولم تكن هي بالقياس إليه شيئا، لم تعرف غيره وعرف هو غيرها كثيرات، لم تذق لذة الحياة إلا بين ذراعيه، وما أكثر المواطن التي ذاق هو فيها لذات الحياة! وما أكثر ما ذاق من ألوان اللذات وما بلا من صنوف النعيم! وليتني أعرف كيف يلقى ذكرها إن ذكرت له، أيبسم لصورتها أم يلقاها بالعبوس! بل ليتني أعرف كيف يلقى النبأ البشع المروع إن ألقي إليه، أيحزنه أن يعلم أنها ذاقت الموت وأنها ذاقته لأنه هو قد دفعها إليه، أم يقع هذا النبأ من نفسه موقعا يسيرا فلا يثير في قلبه حزنا ولا أسفا ولا يسلط على نفسه لوعة ولا ندما؟!
وكذلك امتلأت نفسي بهذا المهندس الشاب، حتى لقد كنت ألتمس الفرار منه فلا أظفر به إلا في جهد أي جهد وعناء أي عناء، وحتى لقد أنكرت نفسي وأنكرت من كان حولي من الناس والأشياء، وأنكرني من كان حولي حين طال عليهم ما كنت مغرقة فيه من الوجوم والذهول، إلا خديجة فإنها لم تنكرني ولم أنكرها، وإنما مضت فيما كانت رفيقة بي عطوفا علي، تعزيني وتسليني وتفتن في ذلك ما وسعها الافتنان. وأنا أعرف لها هذا فأحمده وأقدره وأرد عليها بعض ما كانت تسدي إلي من جميل، فأنصرف إليها حين ألقاها عن هذه الخواطر، ويفرغ قلبي لما أسمع من حديثها ولما أشاركها فيه من درس، ولكن لا ألبث أن أعود إلى ما كنت فيه من وجوم وذهول، وتحس هي مني ذلك فتنصرف عني بعض الشيء وتتركني لما أنا فيه، كأنها تقدر أني أجد في هذا الوجوم والذهول لذة وراحة واطمئنانا.
وما تزال هذه الخواطر تلح علي وتستأثر بي حتى تستحيل إلى شيء من الرغبة القوية الملحة في أن ألقى هذا الشاب فأسمع منه وأتحدث إليه، وأنا أتلمس أخباره وأتتبع أسراره وأتلقط ما يلقى عنه من حديث، ولم تكن داره بعيدة من دارنا، وكأن الظروف قد ائتمرت بي فهيأت لي أن أرى ذهابه ومجيئه من نافذتي حين يغدو من داره أو يروح إليها، من هذه النافذة التي طالما كنت أبادل أختي منها الإشارة وأسارقها منها بعض الحديث، من هذه النافذة التي لم أذكرها ولم أدن منها حين عدت إلى الدار، وإنما مكثت أياما وأسابيع أجهلها جهلا وأهملها إهمالا، ثم خطرت لي فجأة، وفرض علي مكانها فرضا، فإذا أنا أدنو منها وجلة وأفتحها جزعة محزونة، أريد أن أقف إليها لأتمثل فيها صورة «هنادي» ذاهبة جائية، متغنية بما كانت تتغنى به من أغاني الريف ثم أغاني المدينة. وإني لآخذ موقفي من النافذة في الأيام الأولى فلا أرى شيئا ولا أسمع شيئا، وإنما هو قلب ينفطر، ودموع تنهمر، وصورة لأختي لا تأتي من الدار ولا تعبر إلى ما بيني وبينها من طريق، وإنما تأتي شاحبة حزينة من قلبي هذا الآسف الحزين. وأنا مع ذلك أطيل الوقوف إلى النافذة وأكرره، وأدنو منها كلما أتيح لي الدنو في النهار حينا وفي الليل أحيانا. آلفها وتألفني، حتى أصبح وقوفي منها وجلوسي إليها عادة طبيعية من عاداتي كلما دخلت الحجرة وأغلقت بابها من دوني. والأيام تمضي وتتبعها الليالي، وإذا أنا أقف إلى النافذة وأجلس إليها فلا تنهمر الدموع، ولا تتمثل لي صورة أختي شاحبة كئيبة، وإنما أنا أرى أمامي وأنظر، فإذا صورة أختي كما كنت أعرفها تذهب وتجيء، صوت أختي ينتشر في الفضاء فيملؤه فرحا ومرحا وبهجة وسرورا، متغنية بهذه الأغنية التي طالما كانت ترددها بصوتها الرخيم الممتلئ العذب فيحملها الهواء إلى النفوس كأنها قطرات الندى:
آه يانا يانا من غرامه يانا
وإن كنت أحبه ما علي ملامه
وما كنت أفهم من هذه الأغنية إلا ما يفهمه الناس جميعا، إن كان الناس يفهمون منها شيئا؛ فهي شائعة ذائعة في المدينة وفيما حولها من القرى، تسمعها في كل عرس وتسمعها من كل امرأة ومن كل فتاة، بل من كل صبية تحاول الغناء أو تقصد إليه. أما الآن فمالي أتمثل أختي كئيبة حزينة يائسة، كأنها ظل شاحب ليس له ثبات ولا استقرار، وإنما هو هائم مضطرب يصدر عنه صوت ضئيل نحيل كأنه الصدى، وهو ينتشر في الجو انتشارا يملأ القلوب لوعة وأسى، وهو يحمل هذه الأغنية كأنها شرر النار لا تمس قلبا إلا أحرقته إحراقا، ولا تبلغ نفسا إلا فرقتها تفريقا؟! مالي أسمع هذه الأغنية فأفهم منها ما لم أكن أفهم، وأعلم منها ما لم أكن أعلم، وأحس منها ما لم أكن أحس، وأستكشف فيها من المعاني والمرامي والأغراض ما لم يكن يخطر لي من قبل على بال؟
إن هذه الآهة التي يرسلها الصدى النحيف ممتدة ضئيلة لا تكاد تثبت ولا تكاد تنتهي، لتثير في نفسي عواطف لم أكن أعرفها ولم يكن لي بها عهد. وإن هذا النداء ليصور لنفسي الأنين كما يصور لنفسي الاستغاثة، وكما يصور لنفسي اليأس من البر حين يتكرر. وإن هذا الاعتذار ليصور لنفسي الهيام في غير احتفال بالعاقبة، ولا ندم على ما كان، ولا تقدير لما هو كائن، وإنه ليصور لنفسي جرم هذا الخال الأثيم الذي سمع الأغنية ألف مرة ومرة فلم يعقلها ولم يفهمها، ولم يبرئ هذه المحبة الهائمة من اللوم، ولم يعفها من الإثم، ولم يصرف عنها العقاب؛ لأنه جامد القلب جافي الطبع، خشن النفس غليظ المزاج، لم يذق لذة الحب ولا ألمه، ولم يعلم أن من الحب ما يكون فوق اللوم، وما يكون فوق الإثم، وما يكون فوق العقاب.
نعم! وإني لأسمع هذا الصوت الضئيل النحيل ينشر هذا الغناء اليائس الحزين، فأتصور هذا المهندس الشاب قد برع جماله حتى أصبح فتنة لا تتقى وسحرا لا يقاوم، وقد رق حديثه حتى أصبح شركا يصيد القلوب وحبالة تختلس النفوس، وقد لطفت حركاته حتى لم يبق للامتناع عليها سبيل. وإني لأنظر فإذا هذه الأغنية تثير أمامي صورا ثلاثا: صورة هذا الفتى الجميل الرائع يغري بالإثم ويدفع إليه، وصورة هذا الشيطان الآثم المريد يأخذ بالإثم ويعاقب عليه، وصورة هذه الفتاة البائسة اليائسة يتنازعها الإغراء المضني والعقاب المفني. ثم أنظر إلى هذه الصور فأسأل نفسي أين أنا منها؟
أما خالي فإني أبغضه بغضا لا حد له، ولو ظفرت به لمزقته تمزيقا، وأما أختي فإني أرثي لها رثاء لا حد له، ولو استطعت لرددت إليها الحياة، وأما هذا المهندس الشاب فما أدري أين يكون مكاني منه! أهو مكان المبغضة العدو أم هو مكان المحبة الهائمة؟! إنه النار المضطرمة، وإني الفراشة التي تهفو إليها وتكلف بها، ولكن عن علم بأنها محرقة مهلكة ... لأعلمن من علم هذا المهندس الشاب أكثر مما علمت، وليكونن لي منه مكان لم أقدره. لأطفئن هذه النار أو لأحترقن بلهبها المضطرم!
Página desconocida