Doctrine of Monotheism in the Holy Quran
عقيدة التوحيد في القرآن الكريم
Editorial
مكتبة دار الزمان
Número de edición
الأولى ١٤٠٥هـ
Año de publicación
١٩٨٥م
Géneros
المقدمة
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فإن عقيدة التوحيد هي العقيدة التي بعث الله بها رسله، وأنزل بها كتبه من لدن آدم ﵇ إلى محمد ﷺ، وقد كان كل رسول يدعو قومه إلى التوحيد الخالص بأقرب الطرق وأيسرها على أفهام الناس، بحيث كان القوم كلهم يفهمون ما يريده رسولهم منهم بكل وضوح ويسر. حتى جاء آخر الرسل ونبي الإنسانية كافة محمد ﷺ الذي أنزل الله عليه القرآن هدى وشفاء ورحمة للمؤمنين، وداعيا إلى عقيدة التوحيد متبعًا في ذلك منهجًا خاصًّا يناسب جميع الناس ومختلف الفئات.
وكان الصحابة ﵃ يفهمون هذه العقيدة من القرآن الكريم مباشرة، ومن النبي ﷺ دون أن ينهجوا طرق الجدل العقيم الذي سلكته طوائف من بعدهم ودون أن يعرفوا شيئا من فلسفة اليونان.
فلما كانت حركة الترجمة للكتب اليونانية وترجمت كتب الفلاسفة وأبحاثهم في الإلهيات تأثر كثير من المدافعين عن عقيدة الإسلام ضد الزنادقة بالفلاسفة ظانين أن طرقهم الجدلية طرق صحيحة ولا يكون الانتصار على الخصم إلا بسلوكهم هذه الطرق، مما أدى إلى تعقيد مسائل العقيدة وخروجها عن طابعها السهل الواضح الذي تلقاه الصحابة من القرآن والسنة.
1 / 5
وقد فكرت طويلًا في الموضوع الذي أختاره لنيل درجة الماجستير في العقيدة إلا أنني لما كانت طريقة القرآن في تقريره لعقيدة التوحيد ومحاربة الشرك قد بهرتني وأنا أطالع آيات الكتاب الكريم لبساطتها ووضوحها وملاءمتها للفطرة، ولم أجد فيها ذلك التعقيد الذي يشمئز منه الدارس لكتب الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين -لما كان الأمر كذلك- رأيت أن يكون عنوان الرسالة: عقيدة التوحيد في القرآن الكريم.
هذا وبعد أن انتهيت مع جمع مادة البحث واتضحت لي أكثر مسائلة رأيت من المناسب أن يكون الموضوع مشتملًا على مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة فجاء على الصورة التالية:
الباب الأول:
العقيدة ومكانتها وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: تعريف العقيدة: وقد عرفت فيه العقيدة لغة وشرعًا.
الفصل الثاني: مصدر العقيدة الإسلامية: وقد بينت فيه أن العقيدة الإسلامية عقيدة توفيقية تعتمد على الكتاب والسنة.
الفصل الثالث: مميزات العقيدة الإسلامية: وقد بينت فيه ما تمتاز به العقيدة الإسلامية من مميزات على غيرها من العقائد.
الفصل الرابع: أثر العقيدة الإسلامية في سلوك الفرد والمجتمع وجاء الكلام فيه بخمس نقاط:
أ- سلطان العقيدة على النفوس.
ب- حالة العرب قبل الإسلام.
جـ- أثر العقيدة في سلوك الفرد.
د- أثر العقيدة في سلوك المجتمع.
هـ- أمثلة لآثار العقيدة.
الفصل الخامس: ثبات عقيدة التوحيد وأنها أصل الرسالات: وفيه أربع نقاط:
1 / 6
أ- مذاهب التطوريين والدر عليها.
ب- أسباب القول بفكرة التطور.
جـ- خطأ التطوريين في منهاجهم الذي سلكوه وأسباب هذا الخطأ.
د- الرد الإجمالي على نظرية التطور.
الباب الثاني:
حقيقة التوحيد وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول:
وقد بينت فيه معنى كلمات الإله والرب والدين والعبادة.
الفصل الثاني:
أنواع التوحيد وفي أيها وقع النزاع بين الرسل وأممهم وفيه أربع مسائل:
أ- أقسام التوحيد.
ب- شبهة المنكرين لهذا التقسيم والرد عليها.
جـ- معاني أنواع التوحيد الثلاثة.
د- العلاقة بين أنواع التوحيد.
الفصل الثالث:
الضرورة إلى عقيدة التوحيد، وقد تكلمت فيه عن الحاجة إلى التوحيد في الدنيا والآخرة.
الباب الثالث:
المنهج القرآني في تقرير عقيدة التوحيد وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول:
تقرير القرآن للتوحيد بالأدلة الكونية وفيه أربع نقاط:
أ- اشتمال الآيات القرآنية على دليلي الخلق والعناية.
ب- آية السماوات والأرض.
جـ- آية الشمس والقمر والليل والنهار.
د- آية الرياح والمطر والنبات.
الفصل الثاني:
تقرير القرآن للتوحيد بضرب الأمثال: والأمثال التي ذكرتها في هذا الفصل:
1 / 7
١- إما أن تكون مضروبة لله ولما يعبد من دونه.
٢- وإما أن تكون مضروبة لكلمة التوحيد وكلمة الشرك.
٣- وإما أن تكون مضروبة للحق والباطل.
٤- وإما أن تكون مضروبة لعجز آلهة المشركين.
٥- وإما أن تكون مضروبة لوصف حالة المشرك وحالة الموحد.
٦- وإما أن تكون مضروبة لقلب الموحد وقلب المشرك.
٧- وإما أن تكون مضروبة لحواس الموحد وحواس المشرك.
٨- وإما أن تكون مضروبة لبيان فساد أعمال المشركين.
الفصل الثالث: تقرير القرآن للتوحيد بالقصص القرآني وفيه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قصص أربعة من أولي العزم من الرسل:
هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ﵈.
القسم الثاني: قصص رسل من غير أولي العزم هم: هود وصالح وشعيب ويونس ويوسف وسليمان ﵈.
القسم الثالث: قصتان لغير الرسل من الموحدين وهما قصة أصحاب الكهف وقصة أصحاب الأخدود مع الموحدين.
1 / 8
الفصل الرابع:
تقرير القرآن للتوحيد بالتذكير بنعم الله، والكلام فيه على سبع نعم هي:
١- نعمة الشمس والقمر والليل والنهار.
٢- نعمة الأرض والجبال.
٣- نعمة البحر.
٤- نعمة الرياح والمطر والنبات.
٥- نعمة الأنعام.
٦- نعمة السمع والبصر.
٧- نعمة الأمن.
الفصل الخامس:
تقرير القرآن للتوحيد بالأدلة العقلية: والكلام فيه بمبحثين:
المبحث الأول: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالله وفيه خمسة أدلة:
١- دليل الخلق والملك.
٢- دليل عدم فساد الكون.
٣- دليل نفي الولد عن الله.
٤- دليل الرزق.
٥- دليل النوائب.
المبحث الثاني: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالأصنام وفيه دليلان:
١- دليل النقص.
٢- دليل العجز.
الباب الرابع:
مميزات طريقة القرآن الكريم على طريقة المتكلمين والفلاسفة في تقرير عقيدة التوحيد.
والكلام فيه بثلاثة فصول.
1 / 9
الفصل الأول: ميزة طريقة المتكلمين.
الفصل الثاني: ميزة طريقة الفلاسفة.
الفصل الثالث: ميزة طريقة القرآن الكريم.
الخاتمة: وفيها خلاصة البحث.
وقد حاولت منذ بداية البحث أن أسير مع النصوص القرآنية حيث سارت دون محاولة للي أعناقها فكنت حريصا على أن أبقى في دائرة النص القرآني مستشهدا لما أقول بالآيات وأقوال المفسرين فيها، لذلك اعتمدت بالدرجة الأولى على أمهات كتب التفسير كالطبري وابن كثير والقرطبي والكشاف والبحر المحيط، كما أنني اعتمدت كثيرًا على كتب العقيدة لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله وغيرها من المراجع مما نجده موضحا في آخر البحث.
وأحب أن أشير إلى أنني لا اعلم أن أحدًا سبقني إلى الكتابة في هذا الموضوع على هذا المنهج المبوب وما تحت كل باب من الفصول.
كذلك أحب أن أنبه إلى أن المادة التي دونت تحت كل فصل منها ما هو منقول عن العلماء نصا وأشير في الحاشية إلى نفس المرجع الذي أخذت منه، ومنها ما أختصره وأشير إلى المواضع المحذوفة منه بوضع نقط وأذكر بعد نهايته "انتهى بتصرف أو باختصار"، وأذكر في الهامش اسم المرجع الذي نقلت منه، ومنها ما يكون معناه من غيري وأصوغه بلفظي وهذا أعبر عنه في الهامش بكلمة "انظر كذا"، ومنها ما يكون إنشاؤه مني وهذا يبقى بدون إشارة.
وأحب أن أشير إلى أنني لم أفهرس للآيات القرآنية لكثرتها واكتفيت بفهرس للمراجع والموضوعات.
على أنني لا أبرئ نفسي من النقص والعيوب والأخطاء فأن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان.
1 / 10
وفي الختام أحمد الله تعالى الذي أعانني على إتمام هذا المبحث وأقدم شكري لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان عضو هيئة كبار العلماء بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الذي تكرم بالإشراف على هذا البحث. كما أقدم شكري لكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض حيث أتاحت لي فرصة تقديم هذا البحث لنيل درجة الماجستير، أسأل الله أن يجزي الجميع خير الجزاء وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
1 / 11
العقيدة ومكانتها
تمهيد الباب
...
تمهيد الباب
إن للعقيدة الصحيحة مكانتها العظمى في إصلاح حياة الناس ونشر الطمأنينة والإستقرار في جوانب النفس وفي ربوع الأرض.
ولما كانت العقيدة تتعرض دائمًا إلى هجوم مستمر من أعداء الله على مدى الأيام حتى أثرت هذه الهجمات على كثير من الشباب في مختلف أقطار العالم الإسلامي، فأضعفت العقيدة في نفوسهم -وبدا ذلك واضحا في انحراف الشباب إلى الاقتداء بالغرب والارتواء من عقائدهم الفاسدة- اشتمل هذا الباب على فصول خمسة:
أولها: عرفت فيه العقيدة لغة وشرعًا.
وثانيها: بينت فيه أن العقيدة الإسلامية توقيفية لاعتمادها على الكتاب الكريم والسنة النبوية.
وثالثها: وضحت فيه مميزات العقيدة الإسلامية على غيرها من العقائد.
ورابعها: بينت فيه أثر العقيدة الإسلامية في سلوك الفرد والمجتمع.
وخامسها: بينت فيه أن عقيدة التوحيد ثابتة لا متطورة.
وقد مهدت لكل فصل منها عند افتتاحه بمزيد من البيان لمحتوياته.
1 / 15
تعريف العقيدة
تعريف العقيدة لغة
تمهيد
...
الفصل الأول: تعريف العقيدة
تمهيد
اعتمدت في هذا الفصل على كتب اللغة وغيرها من الكتب العلمية لتعريف العقيدة لغة وشرعًا.
أ- تعريف العقيدة لغة
كلمة العقيدة في اللغة مأخوذة من العقد، وهو نقيض الحل، وهو يدل على الشدة والوثوق، ومنه: عقد الشيء يعقده عقدا وانعقد وتعقد، والمعاقد: هي مواضع العقد، والعقدة: القلادة، والعقد: الخيط ينظم فيه الخرز وجمعه عقود، ويقال: اعتقد الدر والخرز وغيره وغيره: إذا اتخذ منه عقدا، وعقدت الحبل اعقده عقدا وقد انعقد، ومعقد الحبل مثل مجلس، وهو موضع عقده يقال له: عقده، وجمعها عقد، لأنها تمسكه وتوثقه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد﴾ ١: أي السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن فيها٢.
هذا هو أصل العقد: وهو أنه نقيض الحل، وهو وصل الشيء بغيره كما تعقد الحبل بالحبل، ثم استعمل في جميع أنواع العقود في المعاني والأجسام٣، فمن
_________
١ سورة الفلق آية ٤.
٢ انظر معجم مقاييس اللغة ٤/٨٧ ولسان العرب ٣/٤١٣.
٣ انظر الآية الأولى من سورة المائدة بتفسير القرطبي ٦/٣١ والبحر المحيط ٣/٤٠٩.
1 / 17
استعمالاته في المعاني أن يقال: عقد العهد واليمين يعقدهما عقدا وعقدهما: أي أكدهما، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُم﴾ ١ وقرئ بالتشديد ومعناه التوكيد والتغليظ كقوله تعالى: ﴿وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ ٢، ومنه قول الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا٣
فجعلوا العناج والكرب مثلين لتأكيد الوفاء بالعهد٤.
والمعاقدة: المعاهدة، وفي قراءة ابن عباس: ﴿وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ ٥، وكقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَان﴾ ٦، ويجوز أن تقرأ بالتخفيف.
ثم أطلق العقد على العهد وجمعه عقود، وهي أوكد العهود، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ٧، فإذا قلت: عاقدت فلانا وعقدت عليه، فتأويله: عاهدته وألزمته ذلك باستيثاق.
كذلك استعمل العقد في البيع والنكاح وغيره فيقال: عقد البيع وعقد النكاح، وعقدته: أي إبرامه وإحكامه ووجوبه، ومنه: اعتقد الأمر: أي صدقه، واعتقد
_________
١ سورة النساء آية ٣٣.
٢ سورة النحل آية ٩١.
٣ العناج خيط أو سير يشد في أسفل الدلو ثم في عروقها أو في إحدى آذانها، فإذا انقطع الحبل أمسك العناج الدلو أن تقع في البئر، والكرب: حبل يشد على عراقي الدلو ثم يثنى ثم يثلث والجمع أكراب.
٤ انظر تفسير الطبري ٦/٢٧.
٥ سورة النساء آية ٣٣.
٦ سورة المائدة آية ٨٩.
٧ سورة المائدة آية ١.
1 / 18
الأخاء: ثبت، واعتقد كذا: عقدت عليه القلب والضمير، حتى قيل: العقيدة: هي ما يدين الإنسان به١.
ومن استعمالاته في الأجسام كأن نقول: اعتقد الشيء: أي صلب، وعقد العسل: أي اشتد، وإذا أطبق الوادي على قوم فأهلهكهم يقال: عقد عليهم، وعقد الحبل أو الخيط: إذا شده.
إذن فلفظ العقد أصل وضعه: نقيض الحل، قال في تاج العروس عند لفظ عقد: "والذي صرح به أئمة الاشتقاق: أن أصل العقد نقيض الحل، ثم استعمل في جميع أنواع العقود في البيوعات وغيرها، ثم استعمل في التصميم والاعتقاد الجازم".
والمعتقد: مصدر ميمي بمعنى الاعتقاد: أي ما يعتقده الإنسان.
بناء على ما تقدم في كلمة عقد واشتقاقها، يتبين لنا أن كلمة العقيدة لغة: فعيلة، من عقد بمعنى معقودة "أي بمعنى اسم المفعول" فهي تطلق لغة على الأمر الذي يعتقده الإنسان ويعقد عليه قلبه وضميره، بحيث يصير عنده حكمًا لا يقبل الشك فيه لدى معتقده، فاعتقد كذا بقلبه: أي صار له عقيدة؛ لأنه لما كان العقد لغة: هو الجمع بين أطراف الشيء، فكأن المعتقد قد جمع أطراف قلبه وعقد ضميره على معتقده فأحكم وثاقه بالأدلة القاطعة لديه والبراهين التي قامت على معتقده حتى يكون لانعقاد القلب عليه أثر ظاهر من الإذعان والخضوع له، فأشبهت العقيدة العهد المشدود والعروة الوثقى لاستقرارها في القلب ورسوخها في الأعماق٢.
_________
١ انظر معجم مقاييس اللغة ٨٨/٤ والمصباح المنير ٢/ ٧١.
٢ انظر المصباح المينر ٢/ ٧١.
1 / 19
ب- تعريف العقيدة شرعًا
والعقيدة شرعًا: هي ما يدين به الإنسان ربه وجمعها عقائد، والعقيدة الإسلامية مجموعة الأمور الدينية التي تجب على المسلم أن يصدق بها قلبه، وتطمئن إليها نفسه، وتكون يقينًا عنده لا يمازجه شك ولا يخالطه ريب، فإن كان فيها ريب أو شك كانت ظنًّا لا عقيدة، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ ١، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه﴾ ٢ وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيه﴾ ٣
فالعقيدة إذًا ليست أمورًا عملية، إنما هي الأمور الدينية العلمية التي تجب على المسلم اعتقادها في قلبه لإخبار الله تعالى بها بكتابه أو بسنة رسوله ﷺ، يقول صاحب لسان العرب: "والعقيدة في الدين ما يقصد به الإعتقاد دون العمل كعقيدة وجود الله وبعثه الرسل وجمعها عقائد"٤.
وزاد هذا المعنى كذلك إيضاحًا محمود خطاب فقال: "العقيدة هي مثل عليا يؤمن بها الإنسان فيضحي من أجلها بالأموال والنفس؛ لأنها عنده أغلى من الأموال والنفس"٥.
_________
١ الحجرات آية ١٥.
٢ سورة البقرة ٢.
٣ سورة آل عمران ٩.
٤ لسان العرب ٣/٤١٣.
٥ بين العقيدة والقيادة ص ٣٣.
1 / 20
الفصل الثاني: مصدر العقيدة الإسلامية
العقيدة الإسلامية من الأمور التوقيفية التي لا يجوز الاجتهاد فيها، لذلك كان السلف الصالح ﵃ يكتفون بما ورد في القرآن والسنة وأقوال الصحابة ﵃، ويوضح ذلك منهج الإمام أحمد ﵀ في العقائد، كما في رسالته لعبيد الله بن يحيى، فقد روي ابن الجوزي بسنده عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "كتب أبي إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان: لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتاب أو حديث عن رسول الله ﷺ أو عن أصحابه، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود"١.
هذا النص يبين لنا أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، التزم في كلامه بالعقائد بهذين الأصلين الجليلين، الكتاب والسنة، فطريقته هي طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين، مبتعدًا عن الجدل والفروض والفلسفات العقيمة، مثبتًا لله تعالى ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله ﷺ من غير زيادة ولا نقص، ولذلك ذم الإمام أحمد ﵀ علم الكلام والمتكلمين؛ لأنهم يقدمون العقل على النص، ويجعلونه حاكمًا على الكتاب والسنة، فإن كان المنقول -يعني النص- موافقًا لعقولهم قبلوه، وإلا فتحوا باب التأويل لكي يجمعوا بين النقل والعقل، بدعوى أن العقل أصل يرجع إليه في كل نقل يتعرضون له، حتى جانبوا الصواب وحادوا عن منهج القرآن لمناهج فلاسفة اليونان.
_________
١ أصول مذهب الإمام أحمد د. عبد الله التركي ص٧٣.
1 / 21
إذن فالعقيدة عند السلف رحمهم الله تعالى -توقيفية، لا مجال لآراء البشر فيها، وكثير من نصوصها بكلمة "قل" التلقينية مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ١. وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌِ﴾ ٢. وقوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ٣. وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ ٤، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ ٥، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ ٦، وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ ٧، وقوله
_________
١ سورة الإخلاص.
٢ سورة الكافرون.
٣ سورة البقرة آية ١٣٦.
٤ سورة الأنعام آية ١٤- ١٦.
٥ سورة الأنعام آية ١٩.
٦ سورة الأنعام آية ٥٦- ٥٨.
٧ سورة الأنعام آية ٦٣- ٦٤.
1 / 22
تعالى: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ١، وقوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ ٢.
وهكذا نجد أن مسائل العقيدة الإسلامية توقيفية، لا تؤخذ من آراء البشر لورود أكثرها في القرآن بكلمة "قل" التلقينية.
_________
١ سورة الأنعام آية ٧١.
٢ سورة الإسراء آية ١١١.
1 / 23
مزايا العقيدة الإسلامية
مدخل
...
الفصل الثالث: مزايا العقيدة الإسلامية
سبق أن بينا أن العقيدة الإسلامية عقيدة توقيفية بمعنى أنها موحى بها من عند الله تعاالى، ولم تكن نتاج عقل بشري، ولا تستمد من غير الوحي، وذلك تمييز لها عن الفلسفة التي ينشئها الفكر البشري حول الإله، وتمييز لها كذلك عن المعتقدات الوثنية التي تنشئها المشاعر والأخيلة والأوهام والتصورات البشرية.
وهذه العقيدة الإسلامية هي العقيدة الوحيدة التي سلم أصلها من التحريف، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾ ١. بينما العقائد السماوية التي جاءت بها الديانات السابقة، قد دخلها التحريف في كل صورة من صورها، وقد أضيفت إلى أصول الكتب المنزلة شروح وتأويلات وزيادات ومعلومات بشرية، وأدمجت في صلبها حتى صار الحق فيها باطلًا، وبقي الإسلام وحده محفوظ الأصول، ولم يشب نبعه الأصيل كدر، ولم يلبس فيه الحق بالباطل، قال تعالى عن أهل الكتاب: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ٢، وقال تعالى عنهم: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ ٣.
وبما أن العقيدة الإسلامية امتازت عن غيرها من العقائد بالميزة الكبرى، حيث
_________
١ سورة الحجرات آية ٩.
٢ سورة البقرة آية ٧٥.
٣ سورة البقرة آية ٧٩.
1 / 24
إن أصولها سلمت من التحريف وأن مسائلها توقيفية، لذلك كان لها مميزات أخرى نجملها فيما يلي١:-
_________
١ انظر الإيمان والحياة للدكتور يوسف القرضاوي ص ٤٧- ص٥٧.
١- أنها عقيدة واضحة سهلة بعيدة عن تعقيدات المذاهب الأخرى، وليس فيها أشياء غامضة ولا جوانب محتكرة لرجال الدين كما في بعض العقائد جوانب مقصور حق فهمها على رجال الدين، وتنادي بالمبدأ القائل: "اعتقد وأنت أعمى"١. إن العقيدة الإسلامية يستوى في فهمها وحق العلم بها كل مسلم، سواء أكان متعلمًا أو أميًّا؛ وذلك لأنها خالية من تعقيدات المذاهب الأخرى، كالتثليث والمثنوية والبرهمية وغيرها، فهي تتلخص بأنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن لهذا الكون خالقًا أحكم صنعه وقدر كل شيء فيه تقديرًا، وهذا الخالق هو الإله الواحد الذي ليس له شريك ولا شبيه ولا صاحب ولا ولد، ويتصف بجميع صفات الكمال، منزه عن جميع صفات النقص. وما دامت هذه العقيدة توقيفية، فهي مبرأة من كل نقص، سالمة من كل عيب، بعيدة عن الحيف والظلم؛ لأن الله له المثل الأعلى في السموات والأرض: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ ٢. _________ ١ انظر مناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر الألمعي ص١٥. ٢ سورة النساء آية ٨٢.
١- أنها عقيدة واضحة سهلة بعيدة عن تعقيدات المذاهب الأخرى، وليس فيها أشياء غامضة ولا جوانب محتكرة لرجال الدين كما في بعض العقائد جوانب مقصور حق فهمها على رجال الدين، وتنادي بالمبدأ القائل: "اعتقد وأنت أعمى"١. إن العقيدة الإسلامية يستوى في فهمها وحق العلم بها كل مسلم، سواء أكان متعلمًا أو أميًّا؛ وذلك لأنها خالية من تعقيدات المذاهب الأخرى، كالتثليث والمثنوية والبرهمية وغيرها، فهي تتلخص بأنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن لهذا الكون خالقًا أحكم صنعه وقدر كل شيء فيه تقديرًا، وهذا الخالق هو الإله الواحد الذي ليس له شريك ولا شبيه ولا صاحب ولا ولد، ويتصف بجميع صفات الكمال، منزه عن جميع صفات النقص. وما دامت هذه العقيدة توقيفية، فهي مبرأة من كل نقص، سالمة من كل عيب، بعيدة عن الحيف والظلم؛ لأن الله له المثل الأعلى في السموات والأرض: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ ٢. _________ ١ انظر مناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر الألمعي ص١٥. ٢ سورة النساء آية ٨٢.
1 / 25
٢- ومن مزايا العقيدة الإسلامية أنها عقيدة فطرية
، بمعنى أنها ليست غريبة
عن الفطرة أو مغايرة لها، بل هي تلائم الفطرة وتنميها ولا تصادمها، وهي عقيدة تشبع الجوعة الفطرية التي لا تشبعها النظم الفلسفية، ولا المذاهب الوثنية، ولا السلطان السياسي، ولا الثراء المالي، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ١، وقال ﷺ: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ " ٢.
والفطرة هنا هي دين الإسلام وعقيدته، ولم يقل في الحديث: أو يسلمانه؛ لأن الإسلام فطرة مركوزة في النفس الإنسانية، وهو الوضع الطبيعي لها، فلا يحتاج إذن لتأثير الأبوين، أما باقي المذاهب الإلحادية فهي تغطي الفطرة وتنكسها وتصادمها، لذلك فهي لا تأتي على النفس من داخلها، إنما تأتي بمؤثر خارجي كما بان لنا من الحديث السابق.
_________
١ سورة الروم آية ٣٠.
٢ الحديث رواه عن أبي هريرة البخاري في كتاب الجنائز ومسلم في كتاب القدر واللفظ له ٤/ ٢٠٤٧.
٣- ومن مزايا هذه العقيدة الإسلامية أنها عقيدة ثابتة محددة، بمعنى أنها لا تتغير ولا تتطور بمرور الأزمان وتعاقب الأجيال، فلا مجال فيها للزيادة والنقص، ولا تقبل التحريف والتبديل، فلن يستطيع حاكم أو مجمع أو مؤتمر أن يضيف إليها ما ليس منها أو ينقص منها ما هو داخل فيها، وكل محاولة في ذلك يوصف صاحبها بالكفر، لأن الوحي قد انقطع بالتحاق رسول الله ﷺ بالرفيق الأعلى، وبقيت النصوص ثابتة إلى يوم الدين لا ينسخها ناسخ ولا يبدلها إلا كافر.
٣- ومن مزايا هذه العقيدة الإسلامية أنها عقيدة ثابتة محددة، بمعنى أنها لا تتغير ولا تتطور بمرور الأزمان وتعاقب الأجيال، فلا مجال فيها للزيادة والنقص، ولا تقبل التحريف والتبديل، فلن يستطيع حاكم أو مجمع أو مؤتمر أن يضيف إليها ما ليس منها أو ينقص منها ما هو داخل فيها، وكل محاولة في ذلك يوصف صاحبها بالكفر، لأن الوحي قد انقطع بالتحاق رسول الله ﷺ بالرفيق الأعلى، وبقيت النصوص ثابتة إلى يوم الدين لا ينسخها ناسخ ولا يبدلها إلا كافر.
1 / 26
أما غيرها من العقائد فقد زيد فيها ونقص منها؛ لأنها كانت تخضع لأهواء الحكام والمجامع الدينية، ثم يجبر الناس على ما يتخذه هؤلاء من القرارات في أمر دينهم وعقيدتهم كما قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ١.
فالعقيدة اليهودية، والعقيدة النصرانية كذلك، رغم أن أصلهما وحي من عند الله، إلا أن التحريف قد دخلهما حتى أصبح وصف الإله فيهما لا يختلف كثيرًا عن أوصاف البشر، بل قد تضمنت كتبهم المحرفة أوصافًا لله لا ترتفع كثيرًا على أوصاف الإغريق لآلهتهم الوثنية، فاليهود يصفون الإله بالأكل والشرب والنوم والراحة والتعب وما إلى ذلك من النقائص التي لا تليق بالله سبحانه، وأما العقيدة النصرانية فكانت حالتها أدهى وأمرّ، حيث اختلطت مبادؤها بالوثنية اليونانية، ونشأ من هذا الخلط دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء، واختلاف النصارى في طبيعة المسيح وتفرقهم إلى طوائف عديدة، يبين لنا بوضوح مدى التلاعب والتحريف بعقيدتهم، ومدى التخبط الذي يعيشونه.
إن أي مسلم عادي ولو كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، يرد بكل بساطة واطمئنان على كل من يحاول أن ينحرف في مفهومه لهذه العقيدة.
وقد قيض الله ﷾ على مدار القرون من العلماء الأثبات والفحول الثقات من يرد على زيغ المنحرفين، ويظهر باطلهم ويزهقه، ويبين ما في كتبهم من البدع والخرافات، كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى:
- في القرن الثالث الهجري. وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله تعالى- في القرن الثامن الهجري.
_________
١ سورة التوبة آية ٣٠.
1 / 27
٤- ومن مميزات العقيدة الإسلامية أنها عقيدة مبرهنة،
بمعنى أنها تقيم البراهين الساطعة والحجج الباهرة على كل مسألة فيها، ولا تلزم الناس بالتسليم الأعمى كما في بعض العقائد الأخرى: "اعتقد وأنت أعمى" أو "أغمض عينيك ثم اتبعني"، بل كان القرآن الكريم يقيم الدليل على كل مسألة من مسائل العقيدة، ثم يطلب من خصومه إقامة الدليل على ما يعتقدون بقوله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين﴾ ١. ولا يقول عالم مسلم بأن هذه العقيدة تكتفي بإثارة العواطف ومخاطبة القلب والوجدان، بل إنها تخاطب العقل بالحجج الدامغة، ثم تأخذ طريقها إلى القلوب والأفئدة؛ لأن العقل الصريح يوافق المنقول الصحيح.
وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كتابًا اسمه: "درء تعارض العقل والنقل" وهو مشتهر باسم آخر وهو: "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول"، وقد بين ﵀ في هذا الكتاب أنه لا يوجد قط نص صحيح يخالف العقل، وإذا وجدت المخالفة، فإما أن تكون مخالفة ظاهرية وإمكانية الجمع بينهما حاصلة، وإما أن تكون المخالفة ناشئة عن علة في العقل، كأن يكون صاحبه من أهل البدع والأهواء، فيحاول أن يلوي النص ليوافق عقله؛ لأنه من الذين يقدمون العقل على النص، وإما أن تكون المخالفة من جهة أن نسبة النقل إلى النبي ﷺ غير صحيحة.
إن القرآن الكريم يقيم الأدلة من الكون والنفس والتاريخ على ربوبية الله وألوهيته وكماله، ويقيم الأدلة على البعث كذلك بخلق الإنسان أول مرة، وخلق السموات والأرض، وإحياء الأرض بعد موتها، ولن تجد مسألة واحدة من مسائل العقيدة الإسلامية إلا وهي مبرهنة وفيها أدلة كافية لمن كان له قلب يفقه به ويتذكر، ولنضرب بعض الأمثلة:-
_________
١ سورة البقرة أية ١١١ وسورة النمل آية ٦٤.
1 / 28