/3/ (¬1) الجزء الثاني من كتاب الضياء
فيما يجوز من صفات الله تعالى وما لا يجوز
تأليف الشيخ العالم العلامة
سلمة بن مسلم العوتبي الصحاري
رحمه الله وغفر له
Página 5
ويتلوه الجزء الثالث في شيء من الأصول، والواجب على من أراد التفقه أن يعرف (¬1) أصول الفقه. وفي الولاية والبراءة والفرق (¬2) .
/1/ [أبواب الكتاب]
1- باب فيما يجوز من الصفات حقيقة ومجازا.
2- باب ما لا يجوز من الصفات.
3- باب في القول في آيات.
4- باب في نفي الرؤية.
5- باب في قول «لا إله إلا الله».
6- باب في القضاء والقدر.
7- باب في الرزق وطلب المعيشة.
8- باب في القرآن.
9- باب في أحكام القرآن.
10- باب في المحكم والمتشابه.
11- باب في الأوامر والمناهي.
12- باب في الأخبار عن النبي j.
13- باب في شيء من الأخبار.
14- باب ما لا يسع جهله.
15- باب ما يسع جهله.
تمت الأبواب (¬3) .
/4/ بسم الله الرحمن الرحيم
باب ما يجوز من الصفات حقيقة ومجازا
جائز أن يقال: لم يزل الله سميعا، وهي صفة ذات. وجائز: لم يزل بصيرا، وهي صفة ذات، والمعنى: بأنه عالم؛ لأن العالم بالشيء بصير به، وقد يكون معنى ذلك أن المبصرات إذا وجدت كان مبصرا لها. كما عنينا بوصفنا له بأنه لم يزل سميعا أن المسموعات إذا كانت كان سامعا لها.
Página 6
والوصف له تعالى بأنه راء (¬1) قد يتصرف على وجهين:
- فأحدهما أن يوصف بذلك ويعنى به أنه عالم؛ فعلى هذا المعنى جائز أن يقال: لم يزل رائيا على معنى لم يزل عالما، إذا كانت الرؤية في اللغة علما.
- والوجه الآخر أن يعنى به أنه مبصر للمبصرات؛ فلا يجوز من هذا الوجه أن يقال: إنه لم يزل رائيا، كما لم يجز أن يقال: لم يزل مبصرا؛ لأن المرئي المدرك لا يكون مرئيا إلا وهو موجود.
وجائز أن يوصف بأنه لم يزل قاهرا، ولم يزل قاهر الأشياء قبل أن يخلقها؛ لأنه لم يزل مقتدرا عليها، فاقتداره على ما لم يوجد هو قهره لذلك.
وجائز أن يوصف بأنه لم يزل باقيا، ومعنى باق أنه كائن بغير حدوث، وكل كائن بغير حدوث فواجب أن يوصف بأنه باق. فلما كان الله تعالى لم يزل موجودا بغير موجد (¬2) وجب أنه لم يزل باقيا.
وجائز: لم يزل فردا منفردا.
وجائز أن يوصف بأنه قريب من الخلق، والوصف له تعالى بذلك (¬3) على جهة التوسع، والمراد أنه عالم بنا وبأعمالنا، وأنه سامع لقول الخلق، وراء لأعمالهم، وأنه لا ستر بينه وبينهم، ولا حجاب ولا مسافة. فلما كان على ذلك قيل في سعة اللغة: إنه قريب منا، إذ كان لا يشاهد أعمالنا أحد من المخلوقين إلا من كان منا قريبا.
* مسألة [تقرب العباد إلى الله مجاز أم حقيقة؟]:
فإن قال قائل: خبروني عن تقرب العباد إلى الله تعالى بالطاعات أهو عندكم مجاز أو حقيقة؟ قيل له: بل هو مجاز وتوسع، ومعناه: طلب المحبة والكرامة منه؛ وإنما قيل لذلك تقرب لأنا في الشاهد إذا /5/ أحببنا شيئا قربناه منا، وإذا بغضناه بعدناه منا؛ فلهذا قيل لذلك: تقرب إلى الله عز وجل على المجاز.
Página 7
* مسألة [وصف الله تعالى بالقوة والقدرة والمعرفة والدراية والوجدان والشهود والاطلاع والغنى]:
وجائز أن يقال: إنه تعالى قوي على الحقيقة، كما يقال: إنه قادر على الحقيقة. وجائز القول بأنه عارف بالأشياء، كما يقال: إنه عالم بها؛ لأن العلم هو المعرفة، والعالم بالشيء في الشاهد (¬1) هو العارف به.
وجائز أن يقال: يدري الأشياء، كما يقال: إنه يعلمها، وإن كان استعمال هذه اللفظة في صفاته قليلا؛ لأن الوصف للعالم في الشاهد بأنه يدري الأشياء بمعنى الوصف له أنه يعلمها ويعرفها؛ فلما كان الله تعالى عالما بالأشياء صح أنه يدري بها، وقد جاز ذلك في صفاته جل وعز عند أهل اللغة؛ وقال بعض الشعراء:
لا هم لا أدري وأنت الداري (¬2)
يريد: لا أعلم أنت العالم.
وجائز أن يوصف بأنه يجد الأشياء؛ لأن العلم وجدان في اللغة، والعالم بالشيء في اللغة واجد له، فلما كان الله تعالى بالأشياء عالما كان لها قادرا.
Página 8
وقد يوصف تعالى بأنه شاهد كل نجوى، ومعنى ذلك أنه راء لها وسامع، فقيل له من معنى الرؤية والسمع (¬1) : إنه شاهد، على التوسع؛ لأن المشاهد منا الشيء هو الذي يراه أو يسمعه دون الغائب منا.
ويوصف بأنه تعالى مطلع على العباد وعلى أعمالهم توسعا، ويراد أنه عالم بهم وبأعمالهم، وإنما قيل له مطلع على المجاز؛ لأن المطلع منا على الشيء من فوقه يكون أعلم به، وأولى بأن لا يخفى عليه شيء منه؛ فلما كان الله تعالى بالأشياء كلها عالما لا يخفى عليه شيء منها قيل: إنه مطلع عليها مجازا.
ويوصف بأنه لم يزل غنيا عن الأشياء، ومعنى ذلك أنه لا تصل إليه المنافع ولا المضار، ولا تجوز عليه اللذات والسرور والآلام والغموم، ولا يحتاج إلى غيره يستعين به في أفعاله وتدبيره. بل هو بنفسه عليها قادر، وبها عالم، فوجب له أن يوصف بأنه لم يزل غنيا بنفسه عن سائر الأشياء.
ويوصف بأنه تعالى يغضب ويسخط، ومعنى هذا الوصف له هو غير معنى الوصف لنا بهذا الفعل في الشاهد؛ لأن (¬2) غضبنا وسخطنا يحلان فينا، وغضب الله وسخطه لا يحلان فيه.
/6/* مسألة [لم جاز وصف الله تعالى بالغضب والسخط؟ وما معناهما؟]:
فإن قال (¬3) قائل: فإذا لم يجز عندكم أن يحل فيه الغضب والسخط فلم وصفتموه به وأجريتموه عليه؟ قيل له: جاز أن نصفه بذلك بأن يفعله من غير أن يحل فيه، كما جاز أن نصفه بالكلام وبالأمر والنهي بأن يفعل ذلك من غير أن يحل فيه.
Página 9
وقال أهل العلم: إن غضبه وسخطه هو عقوبته وناره. وإن حبه ورضاه هو ثوابه وجنته. ولا يجوز أن تكون العقوبة إلا محدثة؛ لأنه لا يجوز أن يحدث ذلك إلا عندما يستحقه منه المذنب، ولو كان لم يزل غضبانا على من لم يعصه لكان بذلك ظالما له (¬1) . وأيضا: فلو كان لم يزل غضبانا لنفسه لا بحدوث غضب لم يجز أن يصير راضيا. ولو كان راضيا لنفسه لم يجز أن يغضب.
ويستحيل أن يقال: لم يزل راضيا لنفسه وساخطا لنفسه، كما يستحيل أن يكون لم يزل جاهلا بنفسه، ولم يزل عالما بنفسه، ولم يزل عاجزا بنفسه، ولم يزل قادرا بنفسه، فصح بهذا أن الرضا والغضب وسائر ما ذكرنا هي أفعاله إذ كان موصوفا بها وبأضدادها، من نحو الكراهة والإرادة والحب والبغض؛ لأن أضداد صفاته لذاته لا تجوز عليه، كما لم يجز عليه الجهل لما كان لم يزل بنفسه عالما. ولم يجز عليه العجز لما كان لم يزل بنفسه قادرا. ولا يجوز عليه الحدث لما كان لم يزل بنفسه قديما. فصح بهذا أن ما جاز أن يوصف به وبضده، أو بالقدرة على ضده من نحو الإرادة والكراهة، والحب والبغض والرضا والغضب والسخط أن ذلك هو فعله.
* مسألة [هل يجوز: لم يزل الله ساخطا أو راضيا ؟]:
إن سأل سائل فقال: هل يجوز أن يوصف الله تعالى بأنه لم يزل ساخطا على أهل النار ولم يزل راضيا على أهل الجنة، قيل له: نعم، على أنه هو المعاقب لأهل النار، والمثيب لأهل الجنة. وينظر في هذه المسألة والتي قبلها.
فصل [وصف الله تعالى بأنه يحب ويبغض]
Página 10
وجائز أن يوصف [الله] تعالى بأنه يحب ويبغض، ومعنى الوصف له بالمحبة هو معنى الوصف له بالإرادة، ومعنى الوصف له بالبغض هو معنى الوصف له بالكراهة، وذلك أن كل ما كره الله تعالى كونه من العباد فهو مبغض كونه منهم، وكل ما أراد كونه من العباد فقد أحب كونه منهم (¬1) ، وكل من أراد إكرامه من عباده فهو له محب، وإرادته لإكرامه ولتعظيمه /7/ هي محبته لإكرامه ولتعظيمه. وكراهته لإكرامه وتعظيمه هو بغضه لإكرامه وتعظيمه، وهو بغضه له؛ لأنه ليس معنى حب الله للعباد إلا حبه لإكرامهم ولتعظيمهم، وليس بغضه لهم إلا ضد ذلك.
والرضا والمحبة من الله تعالى معناهما أنهما صفة من صفات فعله، وذلك أنه تعالى إذا رضي عن عبده وأحبه أوجب له الجزاء والثواب بفعله المرضي عنه به. وقد حكي عن بعض المفسرين أن قوما زعموا أنه تعالى لا يحب ولا يبغض على الحقيقة؛ لأن الحب عندهم من طبع البشر، ولو كان الأمر على ما قالوا لنفوا عنه تعالى جميع صفاته؛ لأن العلم إنما يكون من الخلق بمعاني معلومة وآيات معروفة، والله تعالى عالم بخلاف تعارف الخلق منهم في العلم. والله تعالى يحب عبده على الإحسان والطاعة على الحقيقة، لا حب طبع ولا لهو ولا مشاكلة.
فصل [معنى أن الله تعالى نور]
Página 11
ويقال: إن الله نور على ما قال الله تعالى (¬1) واستعمله المسلمون، وإنما قال ذلك توسعا ومجازا، وإرادته هادي أهل السماوات والأرض، ومبين لهم، فقال تعالى: إنه نور السماوات والأرض مجازا، إذ كان به يهتدي أهل السماوات والأرض في دينهم ومصالحهم كما يهتدون بالنور والضياء؛ لأن النور المعقول المستحق لهذا الاسم حقيقة إنما هو الضياء المشاهد من نحو ضوء الشمس والقمر وما أشبه ذلك. فلما لم يجز أن يكون الله تعالى ضوءا ولا من جنس الضوء والأنوار، إذ كان الضوء والأنوار محدثة، والله تعالى لا يشبهه شيء من أجناس المخلوقات صح أنه إنما قال: إنه نور السماوات والأرض مجازا لا حقيقة.
وعلى هذا السبيل قال: إن القرآن نور (¬2) ، وإن الإيمان نور (¬3) ، وأراد بذلك أن القرآن يهتدي به الناس في دينهم كما يهتدون بالنور الذي هو ضياء لمصالحهم، وكذلك الإيمان، فقال تعالى: إنهما نور على التوسع دون الحقيقة؛ لأن القرآن الإيمان هما مخالفان للأنوار والضياء في الجنس، فإنما أجرى عليهما اسم الأنوار والضياء توسعا ومجازا على ما بيناه.
Página 12
* مسألة [لماذا تسمية الله تعالى بالنور ليست على الحقيقة؟]:
فإن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون سمى الله تعالى نفسه نورا على الحقيقة وإن لم يكن من جنس الأنوار والضياء؟ قيل له: إن الله عز وجل /8/ لا يجوز عليه أن يسمى بالأسماء على جهة الألقاب (¬1) ، ولا يسمى بالاسم إلا بعد أن يكون مستحقا لمعنى ذلك الاسم من جهة العقول واللغة، كنحو تسميته نفسه بأنه قديم (¬2) وأنه واحد، وأنه عالم، وأنه رحيم؛ لأنه لو جاز أن يسمى بالأسماء على جهة التلقب لجاز أن يسمى بأنه جسم وبأنه محدث وبأنه إنسان، فلما لم يجز أن يتسمى بذلك إذ كان خلاف ما يستحقه من الأسماء والصفات صح أنه لا يجوز أن يسمى إلا بالاسم الذي يكون مستحقا له ولمعناه من جهة العقول واللغة.
Página 13
وأيضا: فإن الاسم إذا سمي به المسمى على جهة التلقب من غير أن يكون مستحقا له ولمعناه من جهة العقول واللغة لا يجوز أن يكون وصفا للمسمى به، وذلك أنا لو سمينا صبيا بقولنا: "مسلم" وبقولنا: "صالح" وما أشبه هذه الأسماء على جهة التلقب والتعريف لم يجز أن يصير قولنا: "مسلم" و"صالح" صفة لهذا الصبي، ولا يجوز أن يقال: رأيت صبيا صالحا ولا مسلما. ولو كان مستحقا للتسمية ب"مسلم" و"صالح" من جهة العقول واللغة جاز أن يوصف بهذه الأسماء. كما إذا سمينا المطيع لله تعالى بأنه مسلم وأنه صالح لاستحقاقه ذلك بعمله جاز أن يوصف بهذه الأسماء، فيقال: مررت برجل مسلم وبرجل صالح. فلما كانت أسماء الله تعالى يوصف بها علمنا أنه إنما استحقها من جهة العقول واللغة، وأنه لم يتسم بشيء من ذلك على جهة التلقب.
فلما علمنا أنه لا يجوز أن يكون ذلك (¬1) وصفا له على الحقيقة إذ كان خلاف الأنوار والضياء، وأنها لا تشبهه ولا يشبهها، كما لا يشبه سائر ما خلق علمنا أنه وصف نفسه بأنه نور مجازا لا حقيقة.
[وصف الله تعالى بالعدل والسلام والحق والغياث]:
ولهذا نظائر في اللغة وفي القرآن، وذلك أنه يقال: إن الله عدل كريم، فالوصف لله تعالى بأنه عدل هو توسع ومجاز؛ لأن العدل في الحقيقة هو المصدر، فقالوا: «عدل هو»، وأرادوا أنه العادل، فتوسعوا في هذا القول، إذ كان يعقل عنهم ما أرادوا بذلك من الصفة بأنه عادل.
Página 14
ومثله وصفه لنفسه تعالى بأنه السلام (¬1) ، والسلام إنما هو المصدر المعقول، فلما كان يعقل عنه ما أراد بوصفه لنفسه بالسلام أنه الذي تكون السلامة /9/ من قبله جاز أن يوصف بذلك نفسه (¬2) توسعا.
ومثله: {ذالك بأن الله هو الحق} (¬3) فوصف نفسه بذلك مجازا؛ لأن الحق مصدر في أصل اللغة، والله تعالى لا يشبه شيئا من المصادر، وأراد بذلك أن عبادة الله تعالى هي الحق، وأن عبادة غيره هي الباطل. وقد يجوز أن يعني بقوله: {بأن الله هو الحق}: أن الله هو الباقي المحيي المميت، {وأن ما تدعون من دونه هو الباطل} (¬4) أراد به يبطل ويذهب، وأنه لا يملك لأحد ثوابا ولا عقابا.
ومن ذلك أيضا قول المسلمين: «يا غياث المستغيثين، ويا رجاء المستجيرين»، والغياث (¬5) والرجاء: هما المصدر في حقيقة اللغة، فوصفوا الله بهما توسعا ومجازا، وأرادوا بذلك أنه المغيث للمستغيثين، وأنه مرتجى الآملين.
مسألة [النور والسلام والحق والعدل والغياث والرجاء أأسماء هي أم صفات؟]:
Página 15
فإن قال: أفتزعمون أن قول الله عز وجل: {الله نور السماوات والأرض} (¬1) وقوله: {السلام} وقوله: {الحق}، وقول المسلمين: «عدل وغياث ورجاء» هي أسماء وصفات له؟ قيل له: ليست بأسماء له عز وجل، ولا صفات له، ولكن جعلت مكان أسمائه وصفاته مجازا وتوسعا، إذ كانت تدل على أسمائه وصفاته عز وجل.
فصل [وصفه تعالى بأنه طالب ومدرك]
وجائز أن يوصف تعالى بأنه طالب ومدرك، ومعنى الطالب أنه يطلب من الظالم حق المظلوم؛ لأنه لا يضيع للمظلوم عنده حق. ومعنى المدرك أنه الذي لا يفوته شيء طلبه ولا يعجزه أحد، ولا يمتنع عليه شيء. وليس الوصف له تعالى بأنه مدرك مثل الوصف له بأنه غالب؛ لأن هذا الإدراك إنما هو فعل منه، وهو إنصافه المظلوم من الظالم، والوصف له بأنه غالب إنما هو من صفات الذات؛ لأن معناه أنه قاهر الأشياء مقتدر عليها.
* مسألة [كيف يجوز أنه تعالى طالب وكل شيء في قبضته؟]:
فإن قال قائل: أليست الأشياء كلها في قبضته وسلطانه؟ أوليس هو بها جميعا عالم؟ قيل له: بلى، فإن قال: فكيف يجوز منه الطلب لما هو عارف بمكانه ومقتدر عليه؟ قيل له: هو وإن كان عالما بكل شيء ومقتدرا على كل شيء فقد يسمى أخذه للظالم بحق المظلوم طلبا لحق المظلوم منه؛ لأن هذا يسمى في اللغة منا طلبا وإن كنا مقتدرين على من نطالبه بذلك.
فصل [وصف الله تعالى بأنه راحم]
Página 16
ويوصف تعالى بأنه راحم لعباده، ومعنى راحم أنه منعم وأنه ناظر لعباده، /10/ وأنه محسن إليهم. وقد بين الله تعالى ذلك فقال: {ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (¬1) ، فإرساله النبي j هو نعمة منه تعالى على عباده، وهو رحمة منه لهم، كقوله تعالى في وصف القرآن: إنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون (¬2) . والقرآن نعمة من الله تعالى على عباده، فسماه رحمة لهم. وقد أجمع أهل اللغة والمسلمون على أن الغيث رحمة، والغيث أيضا هو نعمة من الله تعالى، فعلمنا بهذا أن معنى الرحمة من الله عز وجل معنى النعمة.
* مسألة [اختلاف رحمة الله عن رحمة العباد]:
فإن قال قائل: أفليس الرحمة من الله عز وجل معنى النعمة منا هي رقة القلب؟ قيل: لا؛ لأن رقة القلب ليست هي فعل الراحم، والرحمة هي فعل الراحم منا. وذلك أن الرقيق القلب ربما حمل نفسه على قتل من يرق له قلبه، فلا يكون راحما له إذا قتله، وإن كان قلبه رقيقا عليه، وإنما الرحمة له تخليته له، وإرادته له الصلاح والنجاة. وإنما توهم قوم أن الرحمة هي رقة القلب، وسموا من كان رقيق القلب رحيما لكثرة ما توجد الرحمة من الرقيق القلب. كما سمى قوم الشهوة محبة لكثرة ما توجد المحبة مع الشهوة، والشهوة في الحقيقة خلاف المحبة.
فصل [وصف الله تعالى بأنه مصلح وخير]:
ويوصف الله تعالى بأنه مصلح؛ لأن فاعل الصلاح يسمى مصلحا.
ويوصف بأنه خير؛ لأن فاعل الخير إذا كثر ذلك منه استحق أن يقال له: "خير"، فلما كان فعل الخير من الله تعالى موجودا وجب أن يسمى خيرا.
Página 17
ويقال: إن الله أصلح لنا من غيره، وخير لنا من غيره، وهذا القول أيضا توسع، والمراد به نعمه وفضله وخيره. ويقال: الله تعالى خير أفعال منك.
* مسألة [هل الشدائد من الله تعالى شر ؟ ]:
يقال: الله عز وجل قد فعل الشدائد والآلام وليست بشر على الحقيقة. وقوله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (¬1) ، وقوله عز وجل: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه} (¬2) هو شدائد ومصائب وليس بشر على الحقيقة. وقوله: {إن شر} (¬3) مجازا وتوسعا، وأراد به ضررا وشدائد؛ لأن الشر هو عيب وفساد، وفاعله شرير إذا كثر ذلك منه، وجميع فاعل الشر هم الأشرار، والله تعالى يجل أن يكون شريرا أو أن يكون مع الأشرار، فصح بهذا أن الله تعالى لا يفعل الشر على الحقيقة.
* مسألة [ هل عذاب جهنم شر؟ ] :
فإن قال قائل: خبرونا عن عذاب جهنم أشر هو أم خير، قيل له: ليس هو شرا ولا خيرا، ولكنه عدل وحكمة؛ لأن /11/ الخير ما كان نفع فيه لأهله، والشر هو ما وصفنا من العيب والفساد والظلم، فما لم يكن في هذا العذاب نفع لأهله ولم يكن مع ذلك ظلما ولا فسادا لم يكن خيرا ولا شرا.
[ هل يقال: الله تعالى ينفع ويضر ؟ ]:
Página 18
فإن قال: أفتزعمون أن الله تعالى ينفع ويضر، قيل له: نعم هو ينفع المؤمنين وغيرهم، ويضر الظالمين بعقابه إياهم. فإن قال: أهو ضار لهؤلاء الظالمين بعقابه إياهم؟ قيل له: نعم. فإن قال قائل: فإذا جاز عندكم أن يكون ضارا على ما وصفتموه فلم لا يجوز أن يكون مفسدا؟ قيل له: إن الضرر قد يكون حكمة وعدلا إذا كان من فعل به [ذلك] مستحقا، والفساد لا يكون حكمة ولا عدلا، فلهذا لا يجوز أن يكون عز وجل مفسدا ولا فاعلا للفساد. وأيضا: فليس قياس الضرر قياس الفساد، وذلك أنه لو أفسد رجل بناء لرجل أو مالا له كان إنما أضر بذلك صاحب المال على الحقيقة، ولم يكن أفسد بذلك صاحب المال والبناء، وإنما أفسد المال والبناء على الحقيقة دون صاحبهما، فصح بهذا أنه لا يجب أن يكون الشيء فاسدا من حيث كان ضررا إذا لم يكن فاسدا لمن هو ضر له، ولا إن استحق ذلك الضرر؛ فجاز أن يكون عذاب (¬1) الله تعالى للكافرين عقابا لهم لما بينا من الفرق.
فصل [وصف الله تعالى بأنه مختار] :
ويوصف تعالى بأنه مختار، ومعناه أنه مريد له إذ (¬2) لم يكن ملجأ إلى ما أراده، ولا مضطرا إليه. والإرادة هي الاختيار في اللغة في وصفنا له تعالى بذلك، وفي وصفنا لغيره؛ إذا كانت على ما وصفنا من زوال الإلجاء والاضطرار إليها.
ويقال: إن اختيار الله الذي اختاره وهو غير المختار، كما أن الإرادة غير المراد من الله تعالى ومن العباد.
Página 19
ووجدت في بعض الكتب أنه لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى يختار، قال: ومعنى الخيار كالذي يروي (¬1) بين الشيئين فينظر أيهما يختار لجهله وقلة علمه بالأجود منهما، وذلك منفي عن الله تعالى؛ لأنه عالم بحقيقة الأشياء، وبفاسدها من صحيحها. وفي القرآن ما يؤيد القول الأول وهو قوله عز وجل: {وربك يخلق ما يشآء ويختار}، قال ابن عباس: يختار من يشاء من خلقه فيجتبيه بقول يجعله نبيا ورسولا، {ما كان لهم الخيرة} (¬2) ما كان لهم أن يختاروهم. /12/ وقال المفضل (¬3) : أي الخلق له، فيختار منه من يجعله نبيا ومن يجعله رسولا ومن يجعله شهيدا، {ما كان لهم الخيرة} أي: الاختيار.
Página 20
والخيرة (¬1) مصدر في الاختيار والخير جميعا، فالله أعلم بالأصح من القولين.
* مسألة [معنى اختيار الله تعالى لأنبيائه] :
فإن قال: أفتزعمون أن اختيار الله تعالى لأنبيائه صلواته عليهم هو إرادته لهم؟ قيل له: إن اختياره تعالى للأنبياء هو اختياره لإرسالهم إلى العباد، وذلك إرادته لإرسالهم إلى العباد، فجعل اختياره لإرسالهم (¬2) اختيارا لهم في سعة اللغة. فإن قال: أفتزعمون أن اصطفاء الله تعالى للأنبياء هو اختياره لهم؟ قيل له: اصطفاؤه إياهم هو اختصاصه إياهم بها، وليس معنى الاصطفاء معنى الاختيار؛ لأن جميع ما يريده الإنسان من غير أن يلجأ إليه فهو مختار له، وليس يجب أن يكون مصطفيا له. كما يكون مختارا للأكل والشرب، ولا يكون مصطفيا لهما.
فصل [معنى خلة الإنسان لله تعالى] :
ويقال: إن الإنسان يكون خليلا لله تعالى، ومعنى الخلة الاختصاص، فمن اختصه برسالته ووحيه، وأفضى إليه من ذلك بما لم يفض به إلى غيره من الناس كان لله خليلا؛ لأن الله تعالى قد خصه بما وصفناه، ولهذا كان إبراهيم j خليلا لله، إذ كان قد خصه (¬3) بما لم يؤته غيره من الناس؛ ولهذا كان الرجلان إذا اختص بعضهما ببعض وأفضى كل واحد منهما إلى صاحبه بما لم يفض به إلى غيره سمي خليلا له في اللغة.
Página 21
ولا يجوز أن يقال: الله تعالى خليل لأحد من أنبيائه ورسله وخلقه على الحقيقة؛ لأن الخليل في اللغة إنما خاصته الذي يفضي إليه بأسراره وأموره دون غيره؛ لأنهم لم يخصوا الله تعالى بشيء فيكون لذلك خليلا لهم، كما كانوا أخلاءه لما خصهم به من الوحي والرسالة.
* مسألة [هل كل الأنبياء أخلاء لله ؟ ]:
فإن قال: أفتزعمون أن جميع الأنبياء أخلاء الله، إذ كان قد خصهم بما خص به إبراهيم صلى الله عليهم ؟ قيل له: قد روي عن النبي j أنه قال: «إن الله قد اتخذ صاحبكم خليلا» يعني نفسه، ولهذا قال: «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» (¬1) ؛ لأن رسول الله j لا يختص أحدا من أمته بشيء من الدين والعلم لا يظهره لغيره، ولا أسر بذلك لأحد؛ /13/ لأنه قد بعث إليهم جميعا، فهو يعمهم بالإبلاغ والدعوة؛ فلما لم يخص أحدا بذلك من أمته لم يكن أحد منهم خليلا له.
Página 22
قد يقال في سعة اللغة للإنسان خليل، على معنى الحبيب، وهذا هو مجاز لا حقيقة؛ لأنه لو كان الحبيب خليلا على الحقيقة لكان المؤمنون جميعا أخلاء الله كما أنهم أحباؤه، وهذا غير صحيح ولا سائغ في حقيقة اللغة. فإن قال: أفليس قد روي عن أبي هريرة أنه قال: سمعت خليلي رسول الله؟ (¬1) قيل له: قد يجوز أن يقول أبو هريرة هذا على التوسع، وأما حقيقة الخلة [ف]هي ما وصفنا، وهي تأويل حديث رسول الله j في أبي بكر رضي الله عنه.
* مسألة [أيجوز أن يتخذ الله صديقا من خلقه ؟ ]:
فان قال: أفيجوز أن يتخذ الله صديقا من خلقه، فيكون صديقا للمؤمنين، والمؤمنون له أصدقاء؟ قيل له: لا. فإن قال: وما الفرق بينهما؟ قيل له: لأن الصديق في اللغة بأن يصدق صاحبه الود والمحبة، وأن يكون ضمير كل واحد منهما لصاحبه كعلانيته، فلما لم يجز أن يوصف الله تعالى بأن سريرته للأنبياء كعلانيته، وأن ما يضمر لهم كما يظهر، إذ كان الضمير والطوية لا يجوزان عليه لم يجز أن يكون صديقا لهم.
وأيضا: فإن الصديق إنما هو اسم وقع في اللغة على التوسع، وذلك أنه اشتق من صدق المودة، والصدق في حقيقة اللغة إنما هو الخبر الذي وقع مخبره على ما أخبر به المخبر، فلما كان استعمالهم الصدق في المودة مجازا غير حقيقة لم يجز أن يسمى الله تعالى به؛ لأنه تجب التسمية له عز وجل من جهة الحقائق لا من جهة المجاز؛ فلهذا لم يجب أن يقاس الصديق على الخليل، إذ كانت (¬2) التسمية بالخليل حقيقة، والتسمية بالصديق مجازا، والمجاز لا يجب أن يقاس على الحقائق.
Página 23
فصل [امتحان الله لعباده واختبارهم وابتلاؤهم]:
ويقال: إن الله تعالى يمتحن عباده توسعا ومجازا، والمراد أنه يكلفهم طاعته ويأمرهم بها؛ لأن الامتحان في أصل اللغة إنما هو التجربة وطلب معرفة حقيقة الشيء الذي يمتحنه، فلما كان الله سبحانه بالأشياء عالما وبما كان من أخبارها وما يكون لم يجز عليه التجربة ولا الامتحان /14/ على الحقيقة، وإنما قيل مجازا، وأريد به أن يكلف ويأمر.
وكذلك يقال: إنه يختبر مجازا لا حقيقة؛ لأن الاختبار هو طلب المختبر للخبرة بالشيء الذي يختبره والعلم به، فلما كان الله سبحانه وتعالى لم يزل بالأشياء عالما لم يجز عليه أن يختبر شيئا وأن يطلب العلم به.
وكذلك يقال: إنه يبتلي توسعا ومجازا لا حقيقة، ويراد بذلك أنه يكلف ويأمر؛ لأن الابتلاء في حقيقة اللغة هو الفعل الذي يطلب الفاعل أن يعرف به صبر المبتلى وما يكون منه عند الابتلاء. قال الشاعر:
بليت وفقدان الحبيب ... بلية ... وقد يبتلى الحر الكريم ... فيصبر (¬1)
فلما كان الله تعالى عالما بكل شيء قبل أن يخلق عباده وقبل أن يأمرهم لم يصح (¬2) أن يريد بأمره إياهم معرفة ما يكون منهم إذ كان لم يزل عالما (¬3) فلم يجز أن يبتلي العباد على الحقيقة، وإنما توسعوا له في الوصف بأنه يمتحن ويختبر ويبتلي، وأرادوا بذلك أنه تعالى يأمر ويكلف توسعا ومجازا.
* مسألة [ تكليف الله لعباده هل هو على الحقيقة ؟ ] :
Página 24