162

Estudios en doctrinas literarias y sociales

دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية

Géneros

أما في البلاد التي تخلفت فيها الصناعات فلا استقرار له بين أهلها ولا قدرة له على التماسك والثبات في وجه القوى التي تنوشه من جميع جهاته وتعمل على التعجيل بذهابه، وقد تقوضت أركانه في بلاد زراعية لم تتقدم فيها الصناعة الكبرى، وتقوضت أركانه في بلاد يتوسط فيها الأمر بين الزراعة والصناعة، ولم يكن الفضل في رجوعه - بعد ذهابه - لقوة فيه أو مقاومة فعالة بين أجزائه، وإنما كانت علة رجوعه حماقة أعدائه وجهلهم بالسلاح الذي يرديه، كما تبين ذلك مرتين من تجربة المجر بعد الحرب العالمية الأولى، وتجربة إسبانيا قبل الحرب العالمية الثانية ...

فالثورة على عهد الإقطاع إنما أخفقت في بلاد المجر بعد الحرب العالمية الأولى؛ لأن القائم بالثورة «بلاكون»، كان يجهل الشيوعية التي يدعيها كما يجهل أطوار الأمم وأنظمة الحكم وأساليب الإصلاح، فجرد الملاك الكبار من ضياعهم، وأبى كل الإباء أن يوزعها على صغار الفلاحين؛ لاعتقاده أن الملكية تناقض الماركسية، وأن المالك الصغير يقاوم الشيوعية كما يقاومها المالك الكبير، والواقع أن الشيوعية تناقض الملكية كما اعتقد «بلاكون» ولكنه لم يلتفت إلى رأي أستاذه «لنين» في مرحلة الانتقال بين ملكية الإقطاع والملكية العامة، فلم يجد لنظامه سندا من كبار الملاك ولا من صغار الفلاحين، وانهزمت ثورته العاجلة بعد قليل كما ينهزم كل نظام بغير نصير.

وجاءت التجربة الثانية في المجر نفسها فأفلحت حيث أخفق «بلاكون»؛ لأن القائمين بها حاربوا الإقطاع وسالموا صغار الفلاحين، وتدرجوا من الملكية الإقطاعية إلى الملكية التعاونية والملكية الجماعية، فانهزم الإقطاعيون ولم تقم لدولتهم قائمة.

أما التجربة الإسبانية فقد كانت حماقة الشيوعيين فيها أظهر وأخرق من حماقة «بلاكون»، فتماسك عهد الإقطاع بحماقة خصومه ولم يتماسك بقوة أركانه وصلابة بنيانه، واشتركت العوامل الخارجية مع العوامل الداخلية، فاستفاد منها النظام القديم لكثرة مؤيديه من الخارج والداخل وتفرق الكلمة بين خصومه ومنكريه.

لقد كانت الغلطة الكبرى التي تورط فيها الجمهوريون الإسبانيون أنهم صادروا أملاك الكنيسة وصادروا مدارسها في وقت واحد، ولم يحسبوا حسابا للفلاحين الذين كانوا يحرمون على أنفسهم استغلال الأرض «المقدسة»، ولا حسابا لعشرات الألوف من الأطفال الذين كانوا يتعلمون في مدارس الكنيسة ولم يجدوا مدارس للحكومة تغنيهم عنها، فأصبح آباء هؤلاء الأطفال يرحبون بكل نظام ينقذ أبناءهم من نشأة الجهل والتشرد بغير أمل في تربية الصبا ولا في التعليم العالي الذي يعقبها، وأطبقت البلوى حين تهجم أراذل الشيوعيين على الأديرة والكنائس، فلوثوها واعتدوا على راهباتها وهتكوا الأعراض جهرة بغير حياء على مرأى ومسمع ممن ينكرون هذه الفضائح ولو لم يكونوا من المتدينين.

وانفرد الجمهوريون بعد حين بين خصوم من الإقطاعيين وخصوم من الشيوعيين، بل خصوم من معسكرهم نفسه؛ لأنهم منحوا المرأة الإسبانية حق الانتخاب فانتخبت مرشحي الكنيسة سرا وعلانية، وكلهم ساخطون على النظام الجديد.

ثم أطبقت العوامل الخارجية فوق هذه العوامل الداخلية، فجاء الانقلاب من القوة المرابطة في مراكش بمعزل عن الحكومة، وظفر هذا الانقلاب بتأييد النازيين والفاشيين ولم يلق معارضة قط من الدول الديمقراطية التي كانت تحارب النازية والفاشية، وتوالى التأييد للانقلاب من أمم أمريكا الجنوبية التي كانت تحارب الشيوعية، وتناصر كل من يخذلها، فأخفقت التجربة بحماقة أنصارها، ولم تخفق بقوة الإقطاع في البلاد الإسبانية، على كونه قوة لا يستهان بها في تلك البلاد.

واتفق أن الشعور الوطني في هذه الآونة كان عونا للإقطاعيين ولم يكن عونا للجمهوريين؛ لأن الجمهورية اعترفت لقطالونيا وبلاد الباسك بحكومتين منفصلتين وفيهما من السكان نحو تسعة ملايين، فقيل يومئذ إن النظام الجديد يمزق الوطن الإسباني ويوقع الفتنة في الوطن الكبير بعد انفصال هذه الأقاليم.

وجملة القول أن التجربة الإسبانية تجربة شاذة لا يقاس عليها؛ لأن العوامل فيها بين النظامين غير متكافئة، وهي من جهة أخرى عوامل خاصة بالبلاد الإسبانية لا تتكرر في غيرها، بل لعلها خاصة بالفترة التي وقع فيها الانقلاب من حيث علاقته بالحوادث الوطنية المحلية وعلاقته بالحوادث العمالية وحوادث أمريكا اللاتينية على التخصيص.

أما التجارب في البلاد الأخرى، سواء في أوروبا الوسطى أم أوروبا الشرقية، فهي آخذة في التطور والانتقال إلى حالة جديدة غير حالة الإقطاع، ولم تبق فيها للإقطاع قوة قادرة على استئناف حياته الأولى، لو وقف هذا التطور يوما لعارض من العوارض التي لا تدخل الآن في الحساب.

Página desconocida