Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Géneros
Sociologie .
ولا بد لنا - قبل كل شيء - من إزالة اللبس الذي يسهل الوقوع فيه هنا من جراء الاشتراك اللفظي لهذه الكلمة، نعم، لا بد لنا من تفسير كلمة «روح» التي يرى المذهب الحيوي أن التجارب في شأنها كافية لإيقاظ الاعتقاد بروح علوية جديرة بالعبادة، كما يجمل بنا بعد ذلك أن نسلك في تقرير النظرية منهجا مستقلا ينفذ إلى لبها وجوهرها، قبل الإشارة إلى عناصرها الإضافية القابلة للمناقشة.
ليس المقصود بالروح هنا - حسبما يوحي به التعبير غير الموفق باسم المذهب الحيوي - مبدأ الحياة الحيوانية، أعني: تلك القوة التي تقوم عليها وظائف النمو، والتنفس، والحس، والحركة. بل المقصود نوع آخر أسمى من ذلك، هو مبدأ حياة التفكير، والإرادة المنظمة، والعاطفة، والضمير. وبالجملة: مبدأ الحياة العاقلة الرفيعة.
كل أحد يستطيع أن يميز بين هذين النوعين ، ويدرك أن هذه الروح، التي هي خاصة الإنسانية، ذو كيان مستقل عن تلك الروح المشتركة بين الإنسان والحيوان، فنحن نرى النائم والمغمى عليه والمصروع يتنفسون ويتغذون ويمشون؛ فهم أحياء بالحياة الحيوانية ليس غير، حتى تعود إليهم تلك القوة الخاصة فيعود إليهم شعورهم المنظم وتفكيرهم المستقيم.
هذه التجربة تجربة صحيحة؛ والفكرة التي استنبطت منها، وهي: التمييز بين القوتين، فكرة سليمة، لا يزال العلم يقررها حتى يومنا هذا.
ولكن الفكر، إذا أرسل على سجيته لا يقف عند هذا الحد في الاستنتاج، بل إنه يصعد من التفرقة العملية بين الوظيفتين، إلى التفرقة الذاتية بين القوتين؛ فيجعل منهما مبدأين منفصلين، وجوهرين مستقلين ... حتى إذا ما تقرر عنده هذا الطابع الاستقلالي انتقل به خطوة أخرى؛ ذلك أنه متى اقتنع بأن الروح العاقلة، حين تغيب عن بدنها بالنوم لم تصبح عدما محضا؛ أخذ يتساءل: لم لا يكون الأمر كذلك في انفصالها بالموت؟ نعم، إن تناوب الحياة والموت على الشخص الواحد لم يتحقق في التجارب العادية كتبادل اليقظة والنوم عليه، ولكن الحكم بعودة الروح إلى البدن بالفعل أو عدم عودتها إليه، شيء، والحكم بأنها بانفصالها قد أصبحت عدما صرفا شيء آخر لم يقم عليه دليل، بل تأباه الطباع السليمة، وتقاومه غريزة الحياة النفسية الموصولة من أحد طرفيها بماض لا تطيق تناسيه، وتحرص على استبقاء ذكرياته، ومن الطرف الآخر بمستقبل تنتظر فيه عودة الغائب وإن بعدت غيبته، ووجدان المفقود ولو طال فراقه، بل نقول: إن هذا الحكم تأباه العادة العقلية التي تستمد أحكامها من تجارب الواقع وسننه المستمرة.
فكما أنه ليس من المألوف أن شيئا يصبح لا شيء، وكل ما يتصوره العقل في فقد الأشياء إنما هو تغير صورها، وتبدل في أوضاعها الزمانية والمكانية. فالتصور الطبيعي لظاهرة الموت أنها انفصال لعنصري المادة والروح، يرجع به كل منهما إلى طبيعته وبيئته، فتعود المادة إلى عالمها، وتأخذ الروح صورة أخرى من صور الوجود الغيبي، وهكذا ينشأ الاعتقاد بوجود أرواح مستقلة عن الأبدان.
وهنا تجيء الحلقة الرابعة والأخيرة في هذه السلسلة المتصلة، بل في هذه الدوائر المتداخلة، من التفكير الطبيعي؛ ذلك أن انتقال العنصر الروحي من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ليس من شأنه حتما أن يضعف سلطانه، بل من المعقول أنه قد يزيده قوة؛ لأن الروح في عهد اتصالها بجسم معين تظل شبه أسيرة لهذا الهيكل، مشغولة بتدبيره، وليس لها سلطان مباشر على غيره من الكائنات؛ ولذلك ليس من حقها في هذه الحال أن تسمى روحا مسيطرة
esprit ، وإنما هي نفس مسخرة
ame ، فإذا ما قدر لها أن تنفصل عن ذلك الجسم بالنوم أو بالموت أو بسبب آخر، أصبحت جديرة باسم «الروح»، وأضحت أوسع مجالا، وأملك لحرية العمل في الميدان الذي تختاره: إن نفعا وإن ضرا، من حيث لا يشعر بها أحد.
Página desconocida