Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Géneros
أتراه وقف أمامه وقفة الشاعر الهائم، أو وقفة العاشق المتدله؟ كلا، ولكن وقفة الناسك، الخاشع، المتأله.
7
الفصل الثالث
ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية
(1) نزعة التدين امتداد لقوى النفس الثلاث
ما هذه إذن تلك القوة الغلابة، التي لا تزيدها المقاومة إلا عنفا واشتعالا، والتي تقهر في النهاية أنصارها وأعداءها على السواء؟ أليست هي قوة الفطرة التي إن تورق وتثمر كلما عاودها الربيع فبلل ثراها وسقى أصولها؟ بلى! وإن هذا الربيع قد تكفي منه قطرة، وربما تبلور في نظرة، فما هي إلا طرفة من تأمل الفكر، أو لحظة من يقظة الوجدان، أو أزمة من صدمات العزم ... فإذا أنت تسبح بخيالك في عالم الغيب الذي منه خرجت، أو في عالم الغيب الذي إليه تصير. (1-1) قوة الفكر في التطلع إلى الأسباب الأولى
لو كانت نزعة الإيمان بالغيب والتطلع إليه من ناحية طرفيه: الماضي والآتي، عنصرا من عناصر الفكرة الدينية وحدها، لكان الإنكار لما وراء الحس إلحادا فحسب. ولو كانت هي النتيجة الختامية لتقدم العلوم واتساع أفقها - كما رأينا - لكان هذا الإنكار نقصا في العلم وقصرا في النظر وكفى. أما وتلك النزعة بنت الغريزة والجبلة، فإن الأمر أعظم من ذلك وأخطر؛ إنه نكسة في فطرة الإنسان ترده إلى مستوى الحيوان الأعجم، ولا نقول: إلى مستوى الطفولة الغافلة؛ فإن كثيرا من الأطفال ذوي الفطر السليمة لا يقنعون بالأمر الواقع المشاهد، ولا يقفون في تعليله عند حلقة من حلقات أسبابه وغاياته القريبة، بل يصعدون دائما إلى أسبابه الأولى، ويسترسلون في تعرف نتائجه الأخيرة، فهذه صورة مصغرة من تلك النزعة الفكرية الإنسانية التي هي أبدا في حركة وتقدم يأبيان الوقوف والجمود.
إن غريزة التطلع هذه هي مبدأ العلم والإيمان معا، وإن الذي يقف بها عند حدود الواقع الحاضر في الحس ليصد الإنسانية عن سبيل الكمال، ويحرم العالم من خير كثير؛ فضلا عن أنه بذلك يقاوم طبيعة الأشياء، ويحاول تبديل الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
غير أن العقول حين تنفذ بنورها من نطاق هذا العالم الحسي، سعيا إلى الاطلاع على مبدئه ومصدره، وعلى مصيره وغايته؛ ليست على درجة واحدة في هذا السعي، «فأما» العقل القانع المتعجل فإنه يقف عند أدنى مبادئ الغيب وأقرب غاياته، مكتفيا في كل فصيلة من الظواهر الكونية المتشابهة بأن يلمح من ورائها مبدأ يدفعها وينظمها، ومن أمامها قبلة معينة تتجه نحوها؛ وقلما يعود إلى السؤال عن منشأ كل واحد من المبادئ ومآله، أو إلى السؤال عن مبدأ الكائنات جملة أو عن وجهتها الكلية من حيث هي كتلة واحدة، ذات وظائف متساندة، وهكذا تتعدد في نظره القوى المدبرة، أو الآلهة المقدرة: فللريح إله، وللخصب إله، وللحياة إله، وللموت إله، وللشعر إله ... «وأما» العقول الواعية، الطليقة، المتسامية، التي تسعى إلى هدفها على بصيرة فيما تطلب، وفيما تأخذ أو تدع، غير متعرجة في السير، ولا متناقضة في الحكم، فإنها من جهة ترى أن مطلبها أسمى من أن تحده حدود المكان، أو تقيده قيود الزمان ... حتى إنه لو أحصى لها العادون ما جمعته البشرية وما ستجمعه من علوم وفنون، ومتع بدنية وعقلية؛ لبقي أمامها في طرفي الوجود شيء لا تفسره العلوم، ولا تحققه الفنون، ولظل فيها فراغ عميق لا يملؤه الماضي ولا الحاضر، ولا المستقبل القريب ولا البعيد ... ولن يتوقف منها هذا التطلع والتسامي، ولن يستقر فيها هذا القلق والاضطراب، ولن ينحسم عنها هذا اللجاج في الطلب ... إلا بحقيقة هي اللبنة الأولى واللبنة الأخيرة لكل الحقائق، حقيقة تأبى طبيعتها الأفول في أفق الحدوث والإمكان، ولا تدع مجالا للسؤال عن قبل أو بعد في الزمان أو المكان.
ومن جهة أخرى فإن هذه العقول الفسيحة الأفق تطلب دائما تحت كل اختلاف ائتلافا، ومن وراء كل كثرة وحدة؛ ولذلك تأبى الوقوف عند المقاييس النسبية ، والتفسيرات الجزئية، ولا ترضى بآحاد القوانين حتى تسمو إلى قانون القوانين. بل إنها لتستشرف إلى اليد التي جمعت تلك القوانين ونسقتها، وجعلتها تتعاون على أداء الوظيفة المشتركة لهذا البنيان الكوني، يا سبحان الله! أليست وحدة النظام بين هذه الكتائب المختلفة الطبيعة، المتنوعة العمل، من الكائنات السماوية والأرضية، آية على وحدة القيادة العامة التي تشرف عليها، وعلى وحدة الخطة المرسومة التي يسير على هداها كل جهاز من أجهزة هذه الآلة الكبرى؟
Página desconocida