Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Géneros
وأما الشعبة الجديدة المبتكرة، فهي ضرب من الدراسات النظرية، والاستنباطات الكلية، التي تهدف إلى إشباع نهمة العقل في التطلع إلى أصول الأشياء ومبادئها العامة، حين تتشعب عليه جزئياتها وتفصيلاتها.
بيان ذلك - في موضوعنا - أن الذي يستقرئ الملل على كثرتها، إذا درسها دراسة مقارنة، وأخذ يعزل ما فيها من المفارقات ووجوه الاختلاف، سيجد فيها البتة وجوها من المشابهة تتلاقى عندها كل الديانات، وسيجد في نفسه إذ ذاك باعثة تصعب مقاومتها، تدفعه إلى استخلاص هذه المبادئ العامة، وجمعها في وحدة كلية يحدد بها طبيعة الدين من حيث هو، كما أنه حين يرى ظاهرة التدين حظا مشاعا في الجماعات، مشتركا بين الأمم الحاضرة والغابرة، البادية والمتحضرة، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه السؤال عن منشأ هذه الظاهرة العالمية ومصدرها: هل لها منبع في طبيعة الفرد أو المجتمع؟ أم كانت وليدة المصادفة، أو ثمرة الصنعة والابتكار؟ أم ماذا؟ وهل كان في اختلاف صورها ومظاهرها في غضون التاريخ ما ينم على وجود ضرب من التسلسل والتولد بين بعضها وبعض، أو ما يدل على الأقل على شيء من التدرج التصاعدي أو التنازلي بينها؟ أم أنها لم تسر على سنن واحدة، بل كانت تصعد تارة، وتنحدر تارة، وتقف طورا، وترجع عودا على بدء كرة أخرى ...؟
هذه الأسئلة وأشباهها يصطدم بها دارس الأديان المختلفة في خاتمة مطافه فيضعها في صيغة نيرة محدودة؛ ولكنها تتجمجم غامضة مبهمة في صدر كل شغوف بالمعرفة ولو لم يكن ذا إطلاع على غير دينه الخاص، وقد خاض فيها علماء أوروبا وأدباؤها في العصور الحديثة، وعرض كل منهم وجهة نظره في حلها، ولكنهم تناولوها أشتاتا في مناسبات متفرقة، ومنهم من أدخل مسألة أخرى في طي بحوثه الأدبية، أو نظرياته الفلسفية العامة، ومنهم من وضع مسألة ثالثة في مقدمة دراسته لدين معين، ومنهم من ألم بهذه أو تلك في مدخل تأليفه عن تاريخ الأديان العام، ومنهم من ساقها نكتة عابرة، ومنهم من أطنب في الشكل والمظهر، وكان أقل عناية بالصميم والجوهر ...
وأنت، ألست ترى معنا قبل كل شيء أن هذه المسائل ألصق بالدراسات الدينية منها بشيء آخر من الفنون والآداب؟ أولست ترى بعد ذلك أن ما فيها من تجانس الموضوع يجعلها جديرة بأن تجمع في سفر، وأن يتألف منها شعبة مستقلة غايتها دراسة الظاهرة الدينية في جملتها، دراسة تبسط وجوه النظر المختلفة في كل بحث، وتعرض وجه الفصل فيه بميزان العدل الذي لا يحابي ولا يماري؟ ثم ألست ترى أن هذا النوع من الدرس لتاريخ الديانة بإطلاق أحق بالصدارة والسبق على الدراسات المشهورة لتواريخ الأديان مفصلة، وأنه يستأهل بطبيعته التعليمية أن يكون مقدمة لتلك الدراسات؟ إذ إن مهمته هي تقرير المبادئ العامة، ووضع الأسس الكلية، التي لا بد من إرسائها قبل الشروع في تحديد ماهية كل دين على حدة.
من أجل ذلك كله وجهنا أول عنايتنا لمعالجة هذه الجانب من البحوث، ورأينا حقا علينا أن نسجل ها هنا خلاصة ما سبقت معالجته منها.
المبحث الأول
في تحديد معنى الدين
الفصل الأول
المعنى اللغوي
الوضع المنطقي السليم في ترتيب أعمالنا العقلية يقتضينا حين نطلب تفسير حقيقة معينة أن نبدأ بمعرفة عناصرها العامة، ومقوماتها الكلية، قبل أن نأخذ في البحث عن مميزاتها ومشخصاتها.
Página desconocida