إذا كنتم تعتقدون حقيقة بذلك فقد أنكرتم الله وجحدتم العدالة وقررتم الإباحة وبررتم قول من يقول: بطون تدفع وأرض تبلع فلا نظام ولا ناموس.
فصاح حينئذ واحد من صفوف رجال الدين: هذا قول بارد، فإن الإنسان حر، وله أن يتصرف بحريته كما يشاء، ولذلك كان مسئولا عن أعماله، وما الحيلة بسنة تنازع البقاء.
فاستشاط الخطيب حينئذ وصاح مخاطبا فريق الدين: لله ما أجهلكم.
فأجابه ذاك: لله ما أحمقكم.
فقال الخطيب: نعم نحن نحمق من جهلكم، ألا تعلمون أن سنة تنازع البقاء هذه سنة وحشية تناقض كل سنة دينية، ألا تعلمون أن السنة الدينية ما وضعت إلا لمقاومتها، ألا تعلمون أن رجال الدين إذا قالوا بها كانوا كأنهم ينتحرون وينحرون مبادئهم.
سنة تنازع البقاء معناها أن كل واحد من البشر يسعى لنفسه ويجاهد رفيقه ليستأثر بالمنافع والخيرات دونه، وتكون خاتمة هذا الجهاد أن الأقوى يكون الفائز، والضعيف يغلب ولا بأس أن يموت أيضا؛ لأن الهيئة الاجتماعية في غنى عنه، وبعض المتقدمين كانوا يقتلون أطفالهم الضعفاء وفقا لناموس بقاء الأفضل، فهذه الحالة هي حالة الحيوانات تماما أيها السادة، كذا تحيا وتعيش وتموت وتنمو أو تنقرض، فهل صار من فخرنا في تمدننا هذا أن نقتدي بالحيوانات في معيشتها الدنيئة.
فمبدأ تنازع البقاء وبقاء الأفضل مبدأ فظيع وحشي يهدم كل ما بنته الأديان وكل ما وضعه الفلاسفة وعلماء الآداب في الأرض، إذ ما الفائدة من مراعاة الآداب والفضائل ما دامت الطبيعة تسن أن للقوي أن يتمتع بكل قواه، ولماذا توضع الحدود والشرائع لكف الناس آذاهم بعضهم عن بعض ما دام القوي معذورا في اعتدائه لأنه يعمل وفقا للناموس الطبيعي، ولماذا تكذب الأديان وتحثنا على الخير والبر والرفق والزهد والوئام والسلام ما دام كل هذا مخالفا لناموس تنازع البقاء، والكلمة العليا هي لهذا الناموس دائما، أليس ذلك بمثابة غش للضعفاء من أجل منفعة الأقوياء.
فرحماكم لا تخلطوا بين الحالة الطبيعية والحالة الاجتماعية، إن تنازع البقاء وبقاء الأفضل أمران صحيحان في الحالة الطبيعية، وهنالك لا مرد لهذين الناموسين الهائلين، لذلك يأكل القوي الضعيف ويسحق الكبير الصغير كما تصنع الحيوانات الوحشية، أما في الاجتماع فإن الحالة تختلف كل الاختلاف، ذلك أن الحكومة قد أخذت على نفسها من حين عزم البشر على الاجتماع والمعيشة معا في مدينة واحدة «أن ترفع ظلم القوي عن الضعيف وتمد الضعيف بالقوة ليعيش بأمن وسلام»، وهذا ميثاق معقود بين الحكومة والناس، وبموجبه يعيش في المدن جنبا إلى جنب الأقوياء والضعفاء، الأغنياء والفقراء، المرضى والأصحاء، فلزم عن هذا إذا أن يكون للحكومة حق التداخل لرفع ظلم القوي عن عنق الضعيف كلما شكا الضعيف من الظلم، أي أن وظيفة الحكومة الأصلية التي أعطت على نفسها بها عهدا إنما هي حماية الضعفاء من الأقوياء، أي: مقاومة ناموس تنازع البقاء.
فعلى الحكومة إذا لا أن تنزل الأقوياء من طبقتهم لمساواتهم بالضعفاء بل أن ترفع الضعفاء من طبقاتهم لمساواتهم بالأقوياء، وهذا أمر ممكن وذلك بالتعليم والتدريب والمساعدة، ومتى حصل هذا وصار جميع أفراد الشعب أقوياء بتربيتهم العمومية سقطت حجة الذين يقولون إن البشر نبيه وخامل، وإنه لا بد من تسلط الأول على الثاني كما قال الخطيب.
هذا ما نسميه إصلاح ظلم الطبيعة، على أننا لو كنا حيوانات ضارية نعيش في واسع البر لكان من المحتمل أن نترك الطبيعة تفعل فعلها الذي يحلو لها.
Página desconocida