Religión Humana
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Géneros
لقد رأينا سابقا كيف يقوم المعتقد الأسترالي على المبدأ الطوطمي، الذي يعادل مفهوم المانا لدى شعوب ميلانيزيا. وسوف نوضح فيما يأتي كيف توصلت الثقافة الأسترالية لدى بعض قبائلها إلى فكرة الكائن الأعلى، علما بأن هذه الحالات النادرة التي استطاع الباحثون التأكد من وضوح مفهوم الكائن الأعلى فيها، هي الحالات التي عول عليها شميدت دون غيرها، في بحثه عن التوحيد الأصلي في أستراليا، واعتبرها بمثابة الأمثلة الدامغة على أولوية الألوهة المشخصة ممثلة بالإله الأكبر.
18
يميز الأستراليون بين النفس (=
soul ) والروح (=
spirit )؛ فالنفس هي ذلك الشبح الأثيري المحبوس في جسد الكائن الحي، وهي رغم إمكانياتها المحدودة على الحركة من وإلى الجسد، ضمن شروط معينة وفي أوقات معينة، فإنها لا تستطيع التخلص من إساره تماما إلا بموت الجسد. أما الروح، فرغم أنها قد جبلت من المادة الأثيرية التي للنفس، إلا أنها أكثر قوة وحرية، وهي رغم ارتباطها أحيانا بموضوع مادي تحل فيه، كصخرة أو شجرة أو كوكب ... إلخ، إلا أنها حرة في التنقل خارجه والعودة إليه متى شاءت، وذلك على عكس النفس التي لا تملك فعالية تذكر خارج حدود الجسد الذي ترتبط به. ولكن النفس بعد الموت تكتسب بعض خصائص الروح، فتغدو أكثر حرية وأقدر على الحركة، فبعد انتهاء طقوس الدفن والحداد، تمكث النفس بين أهلها وأصدقائها فترة من الوقت ثم تغادرهم إلى عالم الأموات، وبعد ذلك غالبا ما تتردد إلى مساكن أهلها لتتجول في الدغل قرب البيوت، فتقدم العون أو تسبب الأذى، وذلك تبعا لنوع المعاملة التي تتلقاها من الأحياء. ومع ذلك فإن أشباح الموتى هذه تبقى أقرب إلى المتشرد الذي لا يملك وظيفة أو عملا محددا؛ لأن الموت قد وضعها خارج كل الأشكال والصيغ النظامية. أما الروح، فإنها تملك على الدوام قوة من نوع ما، ومجال فعل يتحدد بظاهرة ما من ظواهر الطبيعة أو المجتمع الإنساني؛ أي إن لها وظيفة محددة في النظام الكوني.
يستثنى من هذا التقسيم نفوس معينة تتمتع بخصائص النفس والروح معا، فهي من جهة أشباح موتى عاشوا على الأرض منذ قديم الزمان، ومن جهة ثانية هي أرواح ذات قوة كبيرة ومجال فعل وتأثير واضح وواسع؛ إنها نفوس الأسلاف الأسطوريين الذين وضعهم خيال القوم عند بداية الزمن، والذين تمتعوا إبان حياتهم بقوة لم تتيسر لغيرهم من الأحياء أو الأموات بعد ذلك. هؤلاء الأسلاف لم يولدوا من جيل سابق عليهم، بل انبثقوا إلى الوجود مع انبثاق مظاهر الطبيعة ذاتها، ثم أنجزوا كل الأعمال الجليلة الضرورية لاستمرار البشرية من بعدهم ، وعندما انتهت مهمتهم غادروا الحياة الدنيا وولجوا إلى باطن الأرض، ولكن نفوسهم بقيت بمثابة أرواح خالدة ترعى سلالتهم من بعدهم. وقد تحولت النقاط التي عبر منها الأسلاف نحو باطن الأرض إلى بقاع مقدسة، فهنا تودع العشيرة أدواتها الطقسية، وهنا تقام الطقوس الدينية الرئيسية.
ويعزو الأسترالي إلى أسلافه الأسطوريين قوى فوق طبيعانية خارقة، فهم الذين أعطوا منذ البدء للأرض شكلها الحالي، وهم المسئولون عن ظهور الكائنات الحية عليها. ويبلغ من قدراتهم أنهم يتحركون فوق الأرض أو تحتها بلمح البصر، يخترقون الجبال والحواجز الطبيعية كما الشعاع في الماء، وقد يغمرون البلاد بطوفانات عظيمة، أو يفجرون الينابيع فتملأ بحيرات لا حصر لها. ولعل من أهم المعتقدات المتعلقة بهؤلاء هي مسئوليتهم عن إخصاب النساء وتكوين الأجنة في الأرحام؛ فالفعل الجنسي ليس السبب المباشر في حمل المرأة، بل هو مجرد وسيط يسمح لأحد الأسلاف بأن ينفخ في الرحم من روحه، ويحل فيه بجزء منه فيما يشبه التقمص. وبذلك يزدوج السلف في كل مرة وإلى ما لا نهاية، من غير أن يفقد من كيانه الأصلي شيئا؛ لأن ما يحل منه في الرحم عند كل تقمص لا يعدو أن يكون قبسا ضئيلا أو نفخة طفيفة. وبهذا يغدو كل فرد في العشيرة مرتبطا بشكل وثيق بأحد الأسلاف الأسطوريين، فهو ممثله وصورة عنه في جماعته. ونظرا لمسئوليته المباشرة عن إنجاب الطفل، فإن السلف المعني يتابع اهتمامه به منذ ولادته وحتى مماته، فإذا اشتد عوده يمضي معه إلى الصيد فيدفع الطرائد إليه، وهو يحذره في أحلامه من المخاطر الممكنة، ويحميه أنى تحرك من أعدائه.
إلى جانب العلاقة التي تربط بين أرواح الأسلاف وأفراد العشيرة، هناك علاقة من نوع آخر تربط أرواح الأسلاف إلى مظاهر الطبيعة ؛ فروح السلف تقيم معظم وقتها في الهيئة الطبيعية التي دلف منها ذلك السلف إلى باطن الأرض في غابر الأزمان، وتغدو هذه الهيئة بمثابة الجسد المرئي له، وموضع تقديس عظيم، كما تغدو روح السلف، وبالمقابل، بمثابة روح للهيئة الطبيعية ذاتها. فإذا ما ارتبطت الهيئة بظاهرة من ظواهر حياة الطبيعة، كأن يرتبط نبع ماء مقدس بتهطال المطر، فإن روح السلف الحالة في هذا النبع تعتبر بمثابة روح للمطر ومسئولة عنه أو موكلة به؛ وبذلك تلعب بعض الأرواح دورا جديدا وهاما على مستوى الطبيعة. لقد دعا بعض الباحثين هذه الزمرة من الأرواح التي ارتقت إلى وظائف عليا بالآلهة، إلا أن تعبير الآلهة هنا غير دقيق تماما؛ لأننا لا نزال في الواقع أمام مفهوم أرواح ارتقت إلى منزلة أرقى، وصار لها مجال فعل أوسع، غير أن هذا المفهوم الجديد إنما يضعنا في الواقع على الدرجات الأولى نحو التشخيص التدريجي للقوة الإلهية، مما سوف نتابعه فيما يلي.
رغم الاختلاف في الطقوس الدينية المتبعة ضمن العشائر المكونة للقبيلة الواحدة، فإن هذه الطقوس تؤلف فيما بينها دينا مشتركا بين الجميع، وتتأكد الوحدة من خلال تشابهات أساسية تبدو واضحة تحت مظهر التنوع. وبشكل خاص، فإن طقوس التعدية (=
initation ) تظهر تشابها لدى جميع العشائر، كما أن إجراءها لا يتم على مستوى العشيرة بل على مستوى القبيلة وبحضور جميع العشائر، حيث يتم من خلالها تقديم البالغين من الذكور إلى دين القبيلة وتعريفهم بأسراره. وقد قاد هذا التشابه في طقوس التعدية، وغيرها من الطقوس المشتركة بين العشائر، أو حتى بين مجموعة قبائل في بعض الأحيان، إلى الاعتقاد بالأصل الواحد لهذا الطقس المشترك، وبأنه يرجع إلى سلف بعينه، قام بتأسيسه وتعليمه للقبيلة كلها. فلدى جماعات الأورنتا، يسود الاعتقاد بأن سلف عشيرة القط البري هو الذي أوجد الأدوات الطقسية المعروفة بالتشورينغا، وأباح استعمالها طقسيا لجميع العشائر. ولدى جماعات الدبيري، يسود الاعتقاد بأن سلف عشيرة التمساح هو الذي أرسى أسس طقوس الختان وعلمها لجميع العشائر. هذا النوع من الأسلاف لا يوضع على قدم المساواة مع البقية؛ فإضافة إلى مسئولية هؤلاء عن بعض الطقوس المشتركة ومراقبتهم لأدائها، فإن الخيال الديني يعزو إليهم كل ما هو أساسي في حياة الجماعة، مثل الابتكارات التكنولوجية والمؤسسات الاجتماعية. وقد توصلت عشائر الكايتيش إلى النظر إلى السلف المدعو أنانتو على أنه من صنع نفسه بنفسه في السماء، وابتكر الاسم الذي يحمله، وأن نجوم السماء هي بناته وزوجاته، كما يعتبر اسمه بمثابة تابو لا يجوز التلفظ به أمام من لم يمر بطقوس التعدية ويستلم أسرار دينه.
Página desconocida