Religión Humana
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Géneros
أما الرسم التخطيطي الثالث، فيوضح درجات انفتاح الوعي؛ من وعي الصحو إلى وعي الغيب الفردي (وهو الخافية الفردية)، فوعي الغيب الجمعي (وهو الخافية الجمعية الإنسانية)، فالوعي الكوني الذي يوحد الفرد والجنس البشري بالكون.
ينغرس الوعي في صميم المادة-الكون، ويعطي الإنسان شعورا بالخروج من ذاتيته والتوحد بكل ما عداه. وهذا الشعور ليس شعورا وهميا، بل إنه أكثر المشاعر الإنسانية حقيقية. كما أنه في الوقت ذاته ليس شعورا اصطناعيا ناجما عن إعمال فكر في طبيعة الكون والمادة وعلاقة الإنسان بهما، بل هو أشبه بوظيفة نفسانية مؤسسة بشكل راسخ؛ لأنه يعكس بالفعل حالة انغماس الوعي بالقاع الكلي للوجود. وفي الواقع، فإن وعي الغيب يعمل بطريقة آنية وأكثر مباشرة من وعي الصحو، الذي يعمل بطريقة تحليلية بنائية شديدة التعقيد. ففي وعي الصحو، نحن نتلقى المعلومات عن الحوادث الخارجية بواسطة الحواس التي تنقلها إلى المراكز الدماغية عبر سيالات كهربائية، حيث يجري فرزها وتحليلها، والاستعانة بالذاكرة من أجل تمييزها وتقييمها، ثم تعمل مراكز المنطق في الجهة اليمنى من الدماغ، بعد ذلك، على تمحيص هذه المعلومات وتفسيرها، إلى آخر هذه العملية التي يجري بعضها عفويا وبعضها بشكل قصدي إرادي. أما في وعي الغيب، فإن العالم كله معطى لنا بشكل آني مباشر، وما علينا سوى الاستسلام إليه والثقة به. ولا أدل على هذه الآلية المباشرة في عمل وعي الغيب من حالة الحلم؛ ففي الأحلام يحمل لنا وعي الغيب الجمعي، ومن دون جهد يذكر من قبلنا أو قصد، رموزا ورؤى تنبع من أعماق الخافية، لا تنفع في وصفها وتحليلها مئات الصفحات المكتوبة، توضع أمام وعي الصحو من أجل استيعابها وفق معارفه الخطية.
ولكن الإنسان، عبر تاريخ طويل من اعتماده على وعي الصحو من أجل الارتقاء بتقنياته في مواجهة شروطه البيئية، قد وسع باستمرار مساحة الصحو في وعيه على حساب مساحة الغيب، إلى درجة جعلت من العالم التجريبي الظاهري المجال الوحيد لما هو أصيل وحقيقي، ودفعت بوعي الغيب ومحتوياته إلى أعماق منسية في النفس الإنسانية؛ الأمر الذي كان يعمل باستمرار على تكريس استقلال الذات الفردية، حتى وصل الإنسان الحديث إلى أقصى درجات الفردية والعزلة التي تقطعه عن بقية الأفراد وعن الطبيعة. والحقيقة أن الإنسان بحاجة إلى إقامة توازن دقيق بين وعي صحوه ووعي غيبه؛ لكي يشعر باستقلال كاف يساعده على التعامل بكفاية مع محيطه وبيئته وتنمية تقنياته المختلفة، ولكي يؤمن في الوقت نفسه حالة توازن نفسي وروحي مع الكون؛ ذلك أن طغيان وعي الغيب يقف حجر عثرة أمام التعامل المباشر مع الطبيعة، أما طغيان وعي الصحو فيدفع الأفراد إلى هوة البؤس النفسي والروحي. ولعل من أهم منجزات علوم الطبيعة والنفس ، أنها قد فتحت عيوننا على تكامل شطري الوعي وضرورتهما بعضهما لبعض.
وهكذا، وعلى ضوء توحيد النتائج المعرفية والفلسفية للفيزياء الحديثة مع سيكولوجيا الأعماق، تبدو أمامنا المسائل الأساسية للمعرفة، وهي الكون والمادة والحياة والوعي، وقد اجتمعت في مسألة واحدة. وصرنا نرى هذه العناصر المستقلة كإسقاطات لحقيقة واحدة هي الكلانية التحتية غير المتجزئة. ولكن الوعي الديني قد أحس دوما بهذه الحقيقة البسيطة، وعبر عن هذا الإحساس بمعتقد يقسم الوجود إلى مستويين؛ هما المستوى الظاهري للخبرة الحياتية العادية، والمستوى القدسي الغائب الذي يصدر عنه عالم الظواهر. يجتمع هذان المستويان على استقلالهما الظاهري في دارة وجود واحدة، لحمتها القوة السارية التي تصدر من عالم اللاهوت لتعطي كل حركة في عالم الناسوت. أو بمصطلح الفيزياء الحديثة؛ الطاقة الصافية، التي تصدر عن النظام المنطوي الخفي، لتتخذ أشكالها على هيئة حوادث دائمة التبدل والتغير في المستوى المنبسط السطحي. إن أشكال المعتقدات الدينية كافة ليست إلا تنويعات على هذه القاعدة الأساسية للحد الأدنى الاعتقادي، الذي توصلنا إليه في دراستنا الحالية.
ولكن وعي الغيب ووعي الصحو لم يكونا دوما في حالة توازن مثالي. ففي المراحل الأولى للحضارة الإنسانية، كان وعي الغيب يشغل مساحة تزيد عن مساحة وعي الصحو ، والإنسان الأول كان يشعر بوحدته مع كل أشكال الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية، بل كان يرى أيضا إلى الكون كعضوية تتخللها حياة واحدة ونفس واحدة. ولقد أنتج هذا الوعي الغيبي الكلاني بالوجود معتقدات المجال القدسي والقوة السارية في ثقافات العصر الحجري والثقافات البدائية، وكل أشكالها الأنضج في الحضارات الكبرى للهند والشرق الأقصى؛ لأن الإنسان كان يواجه الكلانية الوجودية بموقف كلاني، وفكر كلاني يصدر عن وعي غيبه أكثر من صدوره عن وعي صحوه. غير أن نمو وعي الصحو على حساب وعي الغيب، ومقابلة الكلانية الوجودية بموقف تجزيئي، وفكر تجزيئي يصدر عن وعي الصحو أكثر من صدوره عن وعي الغيب، قد أدى إلى الظهور التدريجي للإله المشخص، الذي كان بمثابة تسوية سيكولوجية بين شطري الوعي. فإذا كان الوجود للأجزاء، فلا بد أن تكون الألوهة شخصا ذا هوية محددة وكيان مفارق؛ وبذلك سار الوعي في إحساس مباشر بالكلانية، إلى إحساس غير مباشر بها عن طريق توسيط كائن ما ورائي يضمن وحدة شطري الوجود.
وجماع القول هو أن الدين لا يقوم على أساس وهمي، ولا على أساس عدد من الأفكار الخاطئة التي تم تكوينها في طفولة الجنس البشري؛ فالإحساس الذي يجعل الدين ممكنا إنما يقوم على اختبار نفسي في وعي الغيب للوحدة الكلية للوجود، ومنعكساته في وعي الصحو. وبصرف النظر عن الإله المشخص الذي يوسطه الإحساس بالوحدة الكلية، فإنه يبقى معبرا إلى ما وصفته في الصفحات الأولى بأنه: حالة الوجود الحق.
ثبت المراجع
(1) في الدين والميثولوجيا وتاريخ الأديان
ابن الكلبي، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي، القاهرة 1965م.
ابن النديم، الفهرست، تحقيق الدكتورة ناهد عثمان، الدوحة 1985م.
Página desconocida