Religión Humana

Firas Sawwah d. 1450 AH
181

Religión Humana

دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني

Géneros

منشأ الدافع الديني

إذا كان الوعي من حيث الأساس هو نصف الحقيقة، وإذا كان الكون لا يقفز إلى عتبة الوجود بغير الإنسان، فلماذا كان علينا أن ننتظر درس الفيزياء الحديثة ليطلعنا على هذا الواقع؟ وجوابي على هذا التساؤل المشروع، هو أن الإنسان كان يشعر دوما، وفي المستوى الآخر الأعمق لوعيه، بكلانية الكون وبلا تمايزه عن الوعي. وليس الدين إلا ظاهرة عبرت، منذ بزوغ الوعي، عن هذا الإحساس المتأصل بالتكامل مع العالم والمشاركة في «الحقيقة»، وإن الدافع إلى التدين وإلى تكوين المعتقد الديني لينشأ عن هذا الإحساس بالكلانية، وبالمشاركة في كون واحد حي.

لقد علمتنا الفيزياء الحديثة أهم دروسها، وهو أن الأجزاء المستقلة ظاهرا، ترتبط مع بعضها ارتباطا لا زمانيا ولا مكانيا، وأن هذا الارتباط يرجع إلى جذر واحد مشترك، يكمن في نظام خفي منطو، تقوم عليه كل الحوادث الفيزيائية الظاهرة في النظام المنبسط السطحي. وبتعبير الفيزيائي دافيد بوهم، فإن حوادث الحركة في هذا النظام المنبسط، التي تؤدي إلى إظهار الكون برمته، ليست إلا فقاعة طافية فوق أوقيانوس النظام الخفي المنطوي. وبما أن الوعي هو الشكل الآخر للمادة وصنوها الذي لا تقوم للحقيقة قائمة بدونه، فإنه هو أيضا موزع بين نظامين؛ نظام سطحي منبسط ونظام خفي منطو. وهذان الوجهان للوعي أدعوهما بوعي الصحو ووعي الغيب. يتجه وعي الصحو نحو المستوى المتجزئ الظاهري، حيث تلعب الأجزاء دور الاستقلال والانفصال، وتؤثر ببعضها وفق سببية ظاهرية، فيحصل على معرفة خطية (أي من الأسباب الظاهرية إلى نتائجها الظاهرية في اتجاه واحد) تجمعه إلى بقية الظواهر، وتساعد الإنسان على حفظ الفردية والتلاؤم مع محيطه. أما وعي الغيب فيتجه نحو المستوى المنطوي للوجود، حيث تلتقي الأجزاء وتجتمع في كلانية غير متجزئة، فيحصل على معرفة غير خطية، تجعل الإنسان في اتساق مع الكل وتعطيه حس الاتصال بكل ما عداه.

إن توضيح العلاقة بين الوعي والمادة، كان من المهام الصعبة عبر التاريخ الفكري للإنسان. وتأتي الصعوبة من ذلك التمايز الجذري الذي يبدوان به أمام تجربتنا من ناحية، ومن تلازمهما تلازما غير مفهوم من ناحية ثانية. ولعلنا واجدون في التفسير الذي أتى به ديكارت مثالا على كيفية التعامل مع هذه المسألة الشائكة؛ فديكارت يعرف المادة على أنها «جوهر يتمتع بخاصية الامتداد في المكان»، ويعرف الوعي على أنه «جوهر يتمتع بخاصية التفكير»، وعلى تباعد هاتين الخصيصتين، فإن الاتصال بينهما غير ممكن، في رأيه، على الإطلاق، إلا بواسطة الخالق الذي يوجد خارجهما معا، ويضمن في الوقت ذاته اتصالهما واللقاء بينهما.

ولكن البيولوجيا والفيزياء الحديثة تشير اليوم بكل وضوح إلى أن الوعي ليس شيئا غريبا عن العالم يضاف إليه من خارجه، بل إنه بطريقة ما ناتج عن مادة هذا العالم من جهة، وإنه يعمل بعد تكوينه على إعادة صياغة العالم. فالوعي ينطوي على المادة لأنه يدركها، والمادة تنطوي على الوعي لأنها تنتجه؛ فهما مستقلان ظاهرا متحدان ضمنا، في بنية كلانية تحتية غير متجزئة. وقد كان للسيكولوجي المعروف كارل غوستاف يونغ أفكار نبوئية حول هذا الموضوع. يقول في كتابه

Aion

ما يلي: «عاجلا أم آجلا، فإن فيزياء الذرات وسيكولوجيا اللاشعور سوف تقتربان من بضعهما كثيرا؛ لأنهما، ومن موضعين مستقلين، قد شقا طريقهما نحو أرض مشتركة ... إن النفس لا يمكن لها أن تستقل تماما عن المادة، وإلا فكيف تؤثر فيها؟ والمادة ليست غريبة عن النفس، وإلا فكيف تعمل على إنتاجها؟ إن المادة والنفس موجودتان في العالم نفسه، وكل واحدة منهما تشارك في الأخرى. وبدون هذا فإن أي تبادل للفعل بينهما يغدو مستحيلا. فإذا قيض للبحث الجاري أن يتطور بما يكفي، فإننا لا شك واصلون إلى لقاء تام بين المفاهيم الفيزيائية المادية والمفاهيم السيكولوجية. إن محاولاتنا الجارية الآن في هذا الاتجاه جريئة، ولكني أعتقد بأننا نسير في الطريق الصحيح.»

1

لقد أمضى يونغ حياته العلمية في تتبع آثار جدلية الخافية الفردية (الخافية = اللاوعي) مع الخافية الجمعية، وأظهر بمقتربه التجريبي وبصيرته الثاقبة ، وحدة الوعي الإنساني، واتصال الذوات الإنسانية عند أعمق مستويات الواعية الفردية، حيث تتلاشى سيكولوجية الفرد في البحر العظيم لسيكولوجية الجنس البشري. ورغم أنه لم يتوصل صراحة إلى ما يمكن أن ندعوه بالوعي الكوني، فإن مثل هذه النتيجة المنطقية تغدو بين أيدينا إذا نحن زاوجنا بين سيكولوجيا الأعماق ليونغ والنتائج المعرفية الفلسفية للفيزياء الحديثة. ولشرح مثل هذه المزاوجة التي تظهر لنا الوعي الكوني الكامن فينا وطريقة عمله، سأقوم برسم المخطط التوضيحي التالي الذي يعبر عن نظريتي في منشأ الدافع الديني:

فالوجود عبارة عن دارة مغلقة ذات قرصين يدوران على بعضهما دوران الرحى؛ الأول هو الكون، والثاني هو الوعي. وبدوران هذا على ذاك يظهر الوجود. فإذا زال الوعي، تحول الكون إلى أنماط موجية احتمالية لعوالم متراكبة تنحو نحو الوجود، ولكنها لا تستطيع إنجاز هذه الخطوة منفردة. وإذا زال الكون تلاشى الوعي لتلاشي موضوعه. وفي الرسم التخطيطي الثاني أدناه، أوضح كيفية انقسام الكون والوعي، إلى مستوى تجزيئي ظاهري ومستوى كلاني تحتي. ففي المستوى التجزيئي تمارس الأجزاء وجودا مستقلا ظاهريا، كما يمارس وعي الصحو الفردي أيضا وجودا مستقلا ظاهرا، فيشعر الفرد بأناه المنعزلة وبممارسته للمعرفة التجزيئية، التي تجعله يتعرف على الموضوعات المتجزئة الأخرى . وفي المستوى الكلاني التحتي تتحد الحوادث المادية، كما يتحد الوعي الفردي بالوعي الجمعي ثم يجتازه إلى الوعي الكوني، حيث يتلاشى الوعي في المادة وتتلاشى المادة في الوعي، في وحدة متكاملة.

Página desconocida