Religión Humana
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Géneros
5
لا تحتوي معابد الجاينية على صور الآلهة، بل على صور للمرشدين الروحيين في أوضاع الاستغراق الباطني. أما الطقوس التي تجري في هذه المعابد فلا علاقة لها بالتقرب إلى الكائنات العليا، وإنما تتركز حول الاحتفالات التذكارية بالمراحل الخمس التي ترسم سيرة حياة المهافيرا، وهي: (1) الحمل به. (2) ولادته. (3) تزهده. (4) الاستنارة. (5) الانعتاق الأخير. وذلك إضافة إلى بعض الحركات الطقسية مثل غسل الصور المقدسة بالماء، والتلويح بالمصابيح الزيتية أمامها، وما إلى ذلك. ورغم أن الجاينية قد أدخلت إلى معتقداتها الشعبية الإيمان بالآلهة المشخصة، وبقدرة هذه الآلهة على عون الإنسان، إلا أن الآلهة بقيت جزءا من الوجود المادي الذي تعيشه الأرواح في الحياة الدنيا، ولا علاقة لها بالعوالم الأخرى التي ترحل إليها أرواح المتحررين. فالآلهة موجودة بالنسبة للناس العاديين لعونهم ومواساتهم، ولكن فقط إلى حين نجاح هؤلاء في تحقيق التحرر بقواهم الذاتية فقط.
6 (2) طريق النيرفانا
يطرح أمامنا طريق البوذا أوضح مثال على النهج الديني المتحرر من أية صلة بعلم اللاهوت، ومعرفة الآلهة بأي مفهوم لها أو تصور. فهنا، وكما في الجاينية، لا يوجد إله تقدم له فروض العبادة، ولا طقوس تقرب الإنسان من خالقه، ولا دار آخرة ترحل إليها أرواح الموتى. وأكثر من ذلك؛ فلا وجود للأرواح الفردية التي تخلد بذواتها بعد فناء أجسادها. ومع ذلك، فإن البوذية لم تبذل أي جهد لأجل نفي الإله، كما فعلت الجاينية وبعض الاتجاهات الهندوسية؛ لأن فكرة الإله لم تكن ضرورية للطريق الذي رسمه البوذا من أجل التحرر ودخول النيرفانا، فلا هي أثبتت ولا هي نفيت؛ لأن في صميم كل إثبات عقلي نوعا من النفي، وفي صميم كل نفي نوعا من الإثبات. إن ما بحث عنه البوذا هو نوع مختلف من الإثبات لحقيقة شمولية واحدة تتجاوز المنطق الذهني، وتقع فيما وراء ثنائيات هذا العالم وتقسيماته الوهمية. أما الطريق إلى ذلك فيسير بشكل معاكس لطريقة العلوم اللاهوتية. فهنا، وفي مقابل توسيط الإله وما يرتبط بعالمه من مفاهيم ورموز، يعتمد طريق البوذا على التواصل غير الذهني مع المستوى الحقيقي للوجود، بدون أفكار وبدون مفاهيم وبدون إعمال فكر. فالعقل هو جزء من عالم الظواهر المادية، عالم السمسارا الذي يمسك بالأرواح في إساره إلى ما لا نهاية إن لم تفلح في الانعتاق؛ ولذلك فإن طريق الخلاص يسير في اتجاه مغاير لاتجاه العقل، إنه طريق «اللاعقل» أو «اللافكر» على حد تعبير التاوية. فهنا، وبدلا من أن تتجه التجربة الوجودية نحو الخارج في رحلة بحث ذهنية، تنكفئ نحو الداخل في عملية استغراق باطني فردي، تؤدي بالمستغرق إلى تلمس القاع الكلي للوجود، أي النيرفانا بالمصطلح البوذي، وهي الحالة التي يتلمسها المستنير في هذه الحياة، قبل أن يدخل فيها كلية بعد الممات.
إلا أن ما يميز النيرفانا كمستوى مواز للوجود (بالمعنى الذي استخدمناه حتى الآن) عن مفهوم براهمان في الهندوسية ، هو أن البوذية لا تتعامل مع النيرفانا باعتبارها مفهوما يمكن التأمل فيه بمعزل عن التجربة الذوقية الفردية، ففي حالة النفي المطلق لكل ما نعرف، ومن غير حاجة إلى تعريف أو تقريب للأذهان بأية صيغة تتضمن المحاكاة أو التشبيه. وقد رفض البوذا طيلة حياته وضع مفهوم ذهني للنيرفانا، على طريقة حكماء الأوبانيشاد، كما رفض الدخول في الموضوعات الميتافيزيقية الأخرى التي كانت موضع جدال بين الفرق الهندوسية؛ لأن مثل هذه الموضوعات لم تكن في اعتقاده ذات أهمية مباشرة لسعي الأفراد نحو الخلاص. وفي التعاليم الأصلية المنسوبة للبوذا، نراه يوضح هذه المسألة لتلامذته على أفضل وجه: «ضعوا نصب أعينكم ما أكدته لكم وميزوه عما لم أؤكد لكم؛ فأنا لم أؤكد لكم بأن العالم أزلي، ولم أؤكد أن العالم حادث. وأنا لم أؤكد لكم بأن العالم زائل، ولم أؤكد لكم بأن العالم أبدي. أنا لم أؤكد لكم بأن الروح والجسد واحد. أنا لم أؤكد لكم بأن المستنير يتابع وجوده بعد الموت، وأنا لم أؤكد لكم بأنه لا يتابع وجوده بعد الموت، كما أني لم أؤكد لكم بأن المستنير يصير إلى حالة لا هي بالوجود ولا هي بالعدم بعد الموت. أما لماذا لم أؤكد لكم هذه الأمور؟ فلأنه لا فائدة منها، ولا علاقة لها بأساسيات تعليمي. وبالمقابل، فلقد أكدت لكم بأن وجود الإنسان شقاء، وأشرت إلى سبب هذا الشقاء، وعلمتكم الطريق لرفع الشقاء عنكم. أما لماذا أكدت لكم هذه الأمور؟ فلأنها ذات فائدة ترجى، ولأنها متصلة بتعاليمي، تزيل الرغبة من نفوسكم وتهبكم المعرفة والحكمة العليا التي تقود إلى النيرفانا.»
7
وبكلمات أخرى، فإن المسألة ليست في الطريقة التي يفلسف الإنسان بها وجوده، بل في طريقة إحساسه بهذا الوجود. من هنا فإن عليه ألا يبدد جهده الفكري في الغيبيات، بل أن يحصره في فهم رغباته والتحكم بها عن طريق الإرادة؛ لأنها مكمن الخطر عليه. ويقود هذا الموقف بالطبع إلى عدم الالتفات إلى مسألة الآلهة وجودا أو عدما؛ فالآلهة في حال وجودها هي كائنات خاضعة لدورة السمسارا، وليس لديها ما تقدمه للإنسان في كدحه نحو الخلاص؛ لذلك فإن التعبد إلى هذه الكائنات وتقديم القرابين لها، وغير ذلك من الممارسات الدينية، هي جهد ضائع يجب توفيره؛ إذ ليس للإنسان إلا نفسه.
8
ولد الأمير سدهارتا غوتاما (البوذا فيما بعد) عام 563ق.م. على ما تذكره التقاليد البوذية. وتبدي سيرة حياة سدهارتا شبها واضحا بسيرة حياة المهافيرا، إلى درجة التطابق الكامل في بعض التفاصيل؛ الأمر الذي دعا بعض الدارسين إلى الاعتقاد بأن الشخصيتين هما في الأصل شخصية واحدة؛ فكلا الرجلين ولد في بيت ملكي، ثم تزوج مبكرا، وأنجب ولدا واحدا أو بنتا، وكان منذ صغره كثير التأمل، غير قانع بما تقدمه الهندوسية الكلاسيكية من أجوبة على تساؤلاته، وكلاهما هجر عيشة الملوك وتحول إلى ناسك متجول يبحث عن سبيل لخلاص الروح البشرية، ثم جاءته ساعة الاستنارة بعد سنوات طويلة من التزهد والتأمل.
عاش الأمير سدهارتا في وقت كانت فيه تعاليم الأوبانيشاد في ذروة تأثيرها على الفكر الديني الهندي. وعندما قرر الأمير الشاب ترك زوجته الشابة وابنه الصغير، والتحول إلى حياة الزهد والتجوال، فإنه كان يتبع تقليدا هنديا شائعا يحض من بلغ أواسط العمر وأدى معظم أو كل التزاماته الاجتماعية والعائلية، على ترك الحياة التقليدية والالتحاق بالنساك الباحثين عن الحقيقة، بعيدا عن التجمعات السكنية الكبيرة. بعد قضاء ست سنوات من الزهد والتطواف كناسك هندوسي تقليدي، اكتشف أنه كان يسير في الطريق الخاطئ؛ فخلال هذه السنوات الطوال، حاول قهر جسده بالصوم والعري والسهر، كغيره من النساك الهائمين على وجوههم يحدوهم الأمل في تحقيق الخلاص لنفوسهم من دورة الحياة والموت، والنفاذ إلى أسباب السر في شبكة المايا، ولكن جهده ضاع سدى. كان يشعر كلما لجأ إلى التأمل والاستغراق، أن النفس التي يحاول تخليصها تزوغ منه، وكلما ركز انتباهه إلى أعماق فكره لسبر غوره، لم يكن يشعر إلا بجهده المبذول في التركيز، أما موضوع ذلك التركيز فغائب تماما. في النهار الذي سبق ليلة الاستنارة، وقع الأمير مغشيا عليه من الوهن، وظن صحبه من النساك أنه قد مات، ولكنه ما لبث أن تحامل على نفسه واتجه نحو جدول قريب، فاغتسل بمائه الذي أنعش جسده وفكره. وهنا قرر الكف عن سعيه وقطع صيامه، فقبل صحنا من الأرز المطبوخ قدمته إليه فتاة عابرة، وعندما انتهى من تناوله شعر بقوة في عقله وجسده، فاتجه إلى دغل قريب مع حلول المساء، حيث جلس تحت شجرة تين وارفة، وأقسم ألا يبرح مكانه حتى تأتيه الاستنارة الكاملة. ومع أول شعاع ضوء عند الفجر، استفاق سدهارتا من استغراقه العميق على الحقيقة الكاملة، متحررا من إسار المايا ودورة الحياة والموت، فصار البوذا؛ أي المستنير. ورغم أنه كان جاهزا للانعتاق والدخول في النيرفانا الأبدية، إلا أنه فضل البقاء في هذا العالم من أجل إرشاد البشر إلى الطريق الذي انكشف أمامه، فانطلق يبشر ويجمع الأتباع حتى بلغ الثمانين من عمره، وقرر أن مهمته قد انتهت، وأن أتباعه صاروا قادرين على الاستمرار بدونه.
Página desconocida