Damasco, ciudad de magia y poesía
دمشق مدينة السحر والشعر
Géneros
سكان دمشق وخصائصهم
من الصعب تحديد المقدار الذي دخل في الدمشقيين من دم الآراميين أو الروم، أو دم الأنباط والعرب، أو من سائر العناصر الأخرى التي تديرت هذه الحاضرة، وامتزجت بسكانها الأصليين؛ ذلك لأن من العادة أن تدخل في الحواضر الكبرى أجناس مختلفة من الخلق في كل دور من أدوار الدول، وفي كل عصر من عصور التاريخ، فيتعذر وضع إحصاء لكثرة ما يدخل فيها ويخرج منها في كل عقد، فمال الحال بعشرات من العقود أو عشرات المئات من الأعوام.
اتصلت هجرة العرب قبل الإسلام وبعده إلى هذه الديار اتصالا لم ينقطع، وكان من أكبر الحوافز إلى ذلك شئون اقتصادية وآفات سماوية، وربما جاءت القبيلة برمتها أو أكثرها، وتفرقت في أحشاء القطر، فأصاب حاضرته قسط غير قليل منها. لا جرم أن الكتلة الأولى من العرب الذين أووا إلى دمشق كانوا من غسان على كثرة، ومن التنوخيين والسبأيين والنبطيين على قلة، يقول اليعقوبي: وكانت دمشق منازل غسان وبطون من قيس وبها جماعة من قريش . وقال غيره: إذا جزت جبل عاملة تريد قصد دمشق وحمص وما يليها، فهي ديار غسان من آل جفنة وغيرهم، وإلى قيس ويمن يرجع مجموع أصول القبائل العربية المهاجرة، وهم الذين يطلق عليهم اسم العشران جمع عشير.
كثرت العناصر في الشام على عهد الإسلام، فنزل في بعض أرجائها جاليات من الفرس، وبعدها قبائل التركمان، نزلوها منذ عهد السلجوقيين، ثم انهال عليها الأكراد والقوقازيون من الجراكسة والطاغستانيين والكرج، ثم الهنود والأفغانيون والمغاربة والأرمن، يتكلمون بلغتهم أولا ويتعلمون لغة البلاد حالا، وفي هذا العصر انتشرت الفرنسية والإنكليزية وغيرهما من لغات الغرب، إلا أن العربية ما زالت تستغرق كل طارئ، وكل غريب نزل دمشق يلقف هو وأولاده هذه اللغة، ويندمج في أهلها، فتصير منه البوتقة العربية رجلا عربي اللسان، يصبح بعد بطنين عربيا بلسانه وعواطفه.
وانتفع الدمشقيون بهذا الاختلاط، وكان من تماذج الجنس الآري بالسامي خاصة نسل جميل متين فيه أجمل خصائص هذين الجنسين، أو الأجناس السائرة التي امتزج دمها بدماء أخرى.
وبهذا الاختلاط كثر الذكاء والمضاء، وتوفر في أهلها الحزم والعزم، على ما أشار إلى ذلك الباحثون في طبائعهم.
ورأينا الدماشقة يجدون ويهزلون، وجدهم جد وهزلهم هزل، ورأيناهم وقد جعلوا لبلدهم طابعا خاصا في مرافقها ومصانعها ومساكنها، يكاد لا يجتمع مثله في عاصمة من عواصم الشرق القريب، وكان الدمشقيون على الأيام إذا عانوا التجارة جاءوا في الصف الأول بين تجار الأقطار المجاورة، وإذا مارسوا الصناعة بذوا غيرهم وأتقنوا عملهم، وإذا انقطعوا إلى الزراعة قلبوا وعمروا وغرسوا، وإذا تولوا الأعمال الإدارية والحربية والدينية كانوا على الأغلب مثالا صالحا، وها نحن نرى رجالا منهم استولوا في عهدنا على التجارة في شرق الأردن وفلسطين، وكانت امتدت أيديهم إلى قسم عظيم من تجارة بيروت، كما استولوا على جزء من تجارة مصر، فنازعوا فيها الرومي والإيطالي وغلبوهما في بعض الأحيان، ومنهم مئات كان لهم من صبرهم ودءوبهم ما أعانهم على الاستئثار بقسط من تجارة العراق وإيران، أما في المهاجر فليسوا فيها دون سائر الشاميين، إلا أن سكان الجبال أصبر على شظف العيش من سكان السهول، ويغلب على التاجر الدمشقي النظام، كما يغلب عليه التدقيق والحرص في الغالب، لا يفرط ولا يفرط، ويحافظ على شرف توقيعه، فيؤدي ما يفرض عليه أداؤه من دين في حينه.
وفي بعض الإضرابات الأخيرة في سبيل الاستقلال، وهو إضراب دام خمسين يوما جملة، ما تلكأ تاجر واحد عن تأدية ما استحق عليه للمصارف، وحاولت السلطة أن تكره التجار على فتح مخازنهم وحوانيتهم، فلما أبوا فتحت هي محال تجاراتهم وصرفت منها الحراس وقطعت عنها النور؛ لتحمل أصحاب الأسواق على معاودة أعمالهم متى أوجسوا خيفة من اللصوص على أموالهم، فما مد أحد يده إلى شيء، لأن السارقين والطرارين تعاهدوا كما تعاهد المومسات ألا يمارسوا عملهم ما دام الإضراب، وما شكا أحد من الفقراء جوعا في بلدة كان رزق أكثر سكانها مناط عملهم اليومي، فقام أهل السعة بإطعام أرباب الفاقة؛ فلم يسمع حس تذمر ولا تأفف، ولم يسجل غير دبيب المطالبة الصامتة بالحق المسلوب، وهذا مما يستغرب من مدينة عظيمة فيها أصناف من الخلق، وسكانها مع الضواحي لا يقلون عن نصف مليون من النفوس.
والدمشقيون من أكثر العرب حنينا إلى بلادهم؛ إذا اغتربوا وإذا اغتنى الدمشقي قليلا لا يلبث أن يعود إلى مسقط رأسه.
وفي الدمشقي قوة التمثل؛ إذا دخل بلاد الترك أو الهند أو فارس أو أرض الإفرنج، تعلم في الحال لغة البلاد التي نزلها، أما من تعلموا لغة من تلك اللغات الغربية في المدارس، فإنهم يتكلمون بها ويكتبونها كأهلها، وهكذا كان لنا أدباء بالتركية وأدباء بالفرنسية وأدباء بالإنكليزية، ويشبه استعداد الدمشقي في باب إتقان اللغات الأجنبية استعداد أهل بولونيا في أوربا لتلقف اللغات.
Página desconocida