إن هذا السفر النفيس، يجسد شخصية الفيلسوف المتأمل لما وراء الطبيعة، من خلال الكلمات التي قيلت في الله تعالى، وفي أصل الكون. كما نجد فيه شخصية الفارس من خلال الخطب الحماسية التي تدفع أجبن الناس إلى خوض ساحات الوغى. وتلتفت هناك فتجد فيه شخصية الحكيم الذي اختبر الحياة قرونا من الزمان، فجاءت منه الكلمات التي تدلنا على طريقة الحياة بشكل منساب لا تكلف فيه، وبعمق لا نظير له. كما تجد فيه شخصية المنظر السياسي من خلال الكلمات التي أرشد بها عماله إلى طرائف الحكم. كما تجد العارف بالله الذي لا يرى لوجوده، بل ووجود كل ما حوله إلا تجليا لعظمة الله ولقدرته. كما تجد الخاشع لله، الذي لا هم له إلا بأن يلتئم وجوده مع إرادة الله جل جلاله وعز سلطانه. وتجد أيضا شخص المراقب الذي ينظر إلى ما حوله من الخلق، فيصفه. وتجد السياسي الذي يحاول أن يوازن بين مجموعة كبيرة من المتناقضات التي اتسم بها عصره، ولكن من خلال وسائل وطرائق لا تبعده عن أصل مراده، وأهم غاياته. ثم تجد أن كل تلك السمات تتداخل معا بحيث تخرج بكثير منها من خلال خطبة واحدة أحيانا.
وفي كل ذلك تجد وحدة ووحشة لرجل لم يكن من حوله قادرا على استيعاب مراده، ولا على الوصول إلى مقامه. ولذلك تجد في خطابه لمن حوله، نفثة الحسرة، حسرة من يرى الآفاق كلها، ولكن بغير أن يقدر على أن ينقل الناس إليها. لقد كان يريد أن يسبح بهم في ملكوت الله، وأن يرتفع بهم إلى مقامات الكرامة والعزة، ولكن أرادوا الاستكانة، وطلبوا الدعة، فكانت عليهم الذلة في الدنيا والسخط في الآخرة.
Página 3