وضحكت معجبا بحساسيته بإشعاعات اللفظ والإحاطة بكل ما يثيره من معان.
أما أم كلثوم فتحفظ كثيرا من الشعر ونطقها للعربية قمة في النقاء، وما هذا بغريب على سيدة بدأت ثقافتها بحفظ القرآن وتجويده وتلاوته. حدث لي حادث سيارة اضطرني أن ألزم الفراش بضعة أسابيع في بيتي الذي أقيم فيه الآن في الزمالك. وجاءت السيدة أم كلثوم لزيارتي. وكان المفروض أن تبقى بضع دقائق ريثما تشرب ما يقدم لها أهل البيت من إكرام، ولكن حلا لها أن تكلمني في الشعر، فإذا زيارتها تمتد ثلاث ساعات كاملة دون أن نشعر بالوقت.
ومن أعظم سجايا أم كلثوم أنها لم تتنكر لماضيها قط.
دعتها والدتي إلى الغداء في بيتنا بالعباسية. وقبل الغداء قالت لها والدتي: «إني أعددت لك مفاجأة على المائدة أعتقد أنها ستسرك كل السرور.»
فقالت: «نشوف.»
وحان موعد الغداء، وقمنا إليه، وكانت هناك صينية تتوسط المائدة وعليها غطاء، وجاءت والدتي ونحن ما نزال وقوفا، ورفعت الغطاء في فخر وثقة لتظهر أم كلثوم المفاجأة التي أعدتها لها. ونظرت أم كلثوم العظيمة الواثقة بنفسها، ثم قالت في لهجة غاية في خفة الدم والطرافة: «ما هذا، حميض؟ إيه جابك هنا؟ والله زمان يا حميض.»
ونظرت إلى أمي وقالت: «هي دي يا أختي المفاجأة، والله زمان لا أذوقه أبدا هو أنا كان لي شغلة أيام الفقر إلا لم الحميض من الغيطان وأكله، شيلي، شيلي.»
والحميض نبات شيطاني ينبت في حقولنا، ويأكله من لا يستطيع شراء غيره.
أرأيت مثل هذه العظمة وهذا الصدق، رحم الله أم كلثوم علامة أجيال في الفن، وفي الخلق على السواء. •••
وبعد فهذه نثار من ذكرياتي ما رجوت منها إلا أن أنادمك إذا قرأتها في نهار، أو أسامرك إن قرأتها في مساء، وقد أطلقت نفسي تمتح من معين الأيام ما يحلو لها. فهي تختار ولا تؤلف.
Página desconocida