وأنا لا أستطيع أن أنسى فضل العوضي علي أستاذا في اللغة العربية؛ فهو أعلم من عرفت بأصول اللغة العربية وقواعدها سواء كان ذلك في النحو والصرف أم في علم البيان. وقد كان متفوقا في ذلك على إخوانه وهم العلماء الكبار في هذا الميدان، فهم أبناء دار العلوم التي أرست قواعد اللغة العربية عهدا عهيدا من الزمان، والتي ظلت علما خفاقا في هذا الميدان، ولم ينكس العلم إلا حين أصبحت كلية تقبل أي منتسب لها بعد أن كانت لا تقبل إلا حملة ثانوية الأزهر الذين كانوا يدخلونها وهم حافظون للقرآن الكريم جميعا مع ألفية ابن مالك، ومع إتقان لعلوم الأزهر التي تعد الشباب أحسن إعداد لتلقي الدراسة العليا في كلية دار العلوم.
والأستاذ العظيم العوضي لم يكن يدرس لي أثناء السنة، ولكنه كان بوفائه الذي لا مثيل له يبيت في منزلنا ليلة امتحان اللغة العربية، ويراجع معي كل القواعد لا يترك منها شيئا. وكانت تكفيني هذه المراجعة لأحصل على درجة مشرفة في مادة اللغة العربية.
وقد كرم الله العوضي الوكيل إكراما لا مثيل له في أبنائه، فابنه البكر ممدوح طبيب عظيم في الولايات المتحدة الأمريكية، وابنه الأصغر شريف حاصل على الدكتوراه في العلوم، وأستاذ في جامعة الأزهر، وابنته الوحيدة د. شفيق حاصلة على الدكتوراه في الهندسة وأستاذة هي أيضا.
وقد درس شعر العوضي في عديد من الكليات في مصر والخارج، وكتبت عنه دراسات كثيرة، وأنا مهما أتحدث عن عظمة شعره لن أبلغ ما أريد في وصف هذه العظمة، رحم الله الشاعر العظيم في الخالدين.
وبعد، فهذا نثار من ذكريات لا يجمعها في نفسي جامع إلا الحب لمن ذكرت. لم أذكرهم لأكثر عددا، ولكنني لم أجد بيني وبينهم من الذكريات ما يجوز له أن يروى.
فقد عرفت مثلا شيخ القضاة الذي كان جبلا ضخما في عصره من الفقه والخلق الأبي الرفيع عبد العزيز باشا فهمي، ولكنني عرفته كما يعرف الحفيد جده. وعرفت الرجل الذي كان سمة عصره في الكبرياء والوطنية إبراهيم باشا عبد الهادي، وكنت منه لفترة طويلة بمثابة الابن، وعرفت غيرهما كثيرين من أعلام العصر، أو من الأصدقاء الذين أبادلهم أجمل الحب وأكثره صفاء ويبادلون، ولكن لم أجد شيئا يمهد لي العذر أن أذكرهم عندك. (8) أم كلثوم
نشأت وأنا أجد أم كلثوم صديقة لوالدتي ولأسرتي جميعا. فمنذ وعيت أراها في بيتنا كأنها واحدة من أسرتنا لا نفرق بينها وبين قريباتنا إلا أن اسمها لا يحمل لقب أباظة. وقد كان عمي عبد الله فكري أباظة وزوجته من أكثر الناس صلة بها. وقد كان يدعوها إلى بيتنا في غزالة دعوات متكررة تروح بها عن نفسها، وتترك نفسها على سجيتها، وكان لنا قريب مقيم بالريف اسمه السيد حسن أباظة. وكان يحب أن يمازح الناس، وكان مزاحه في غالب الأمر شتيمة وسبابا. وقبل أن أروي ممازحة السيدة أم كلثوم له أذكر عنه قصة من أظرف القصص التي سمعتها.
ركب يوما حصانا، وأخذ طريقه إلى بلبيس، وهي تبعد عن كفر أباظة، حيث يقيم حوالي عشرة كيلومترات. وكان في ذلك اليوم يلبس حلة بيضاء ناصعة، وكان يعتني بشاربه كل العناية، ويبرمه إلى أعلى في فخامة وضخامة، ويلبس الطربوش طبعا.
سار في طريقه إلى بلبيس، وراح يمازح ضابط الشرطة في النقطة التي يعملون بها، وكانوا جميعا أصدقاءه. وكان الحر قائظا فكان يميل على كل نقطة يشرب ماء، أو ما يقدمونه له من مياه غازية.
ووصل إلى بلبيس، وراح يمازح في شتيمة وسب الضابط المسئول عن النقطة الواقعة على مشارفها، ثم تركه وراح يقضي ما جاء من أجله إلى بلبيس، وبينما هو عائد مال على ضابط النقطة، وراح الضابط يسرف في تحيته، وأقسم أن يقدم له زجاجة مثلجة من الكازوزة وقابل التحية بالشتيمة، وشرب الزجاجة وانصرف.
Página desconocida