فقال: «لا.» قلت: «فكيف وصل إليك البيان؟» وكأنه لم يكن يتوقع هذا السؤال فراح ينظر حواليه وهو يقول: «أنا، أنا.» فتركته لحظات، ثم قلت له: «لقد وصل إلى لبنان بنفس الطريقة التي وصل بها إليك.» فنظر إلى الأستاذ سعيد فريحة، وقال له: «شفت أنهم لم يرسلوا البيان.» فقال: الأستاذ سعيد فريحة إن مندوب الأنوار في القاهرة طلال سلمان، وهو شاب شيوعي هو الذي أرسل البيان، وقد نشرته حين وجدت عليه توقيع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وثروت أباظة، وحينئذ سأل الدكتور العطيفي عما أردناه بالبيان، فقلت: «الحرية .» فقال: «وهل كانت هناك حرية قبل العهد الحاضر؟» فقلت: «إنه لا شك أن قدرا من الحرية قد تحقق، ولعل هذا القدر هو الذي أتاح لنا أن نكتب هذا البيان، ولكن الحرية لا تتجزأ.» وقال الأستاذ فريحة: «ما هي الحرية التي تريدونها؟» فقلت له: «لا تحتاج الحرية إلى تعريف فهي معروفة تماما.» فقال مستنكرا: «هل تطلب الحرية في زمن الحرب؟» فقلت له: «لا تذكر الحرب؛ فقد كان برناردشو يلعن أبو تشرتشل على الجزمة في أشد أوقات الحرب العالمية الثانية عنفا، ولم يصنع تشرتشل شيئا إلا أنه كان يقول نحن نعمل والبهلوان يلهو، وكمان يا أستاذ سعيد نحن لسنا في حرب منذ 5 يونيو سنة 1967م نحن لسنا في حرب.» فقال الأستاذ فريحة: «فعلا هذا صحيح.»
وقال الدكتور: «وما هي مظاهر عدم الحرية؟» فقلت له: «لقد وصلت الرقابة إلى القصص.» فقال: «مثل ماذا؟» فقلت له: «مثل رواية الحب تحت المطر للأستاذ نجيب محفوظ التي مزقتها الرقابة.» فقال: «وهل أنا مسئول عنها؟» فقلت: «إنك على رأس الجهاز، فأنت مسئول عن كل موظفيه.» فقال: «وماذا أيضا؟» فقلت له: «لقد منعت لي قصة في الجمهورية.» فقال: «يا أخي أنت صديقي وتزورني في بيتي، (والواقع أنني كنت أزوره قبل أن يعود إلى الوزارة، كما إنني أكن كل حب وتقدير له) فلماذا لا تخبرني؟» فقلت: «أنا أزورك في بيتك لأسأل عن صحتك، أو لنتكلم في مسائل عامة، ولا أرى من اللائق أن أزورك لأقول لك أن قصة لي منعت من النشر.» فقال الوزير: «إنكم أنتم الدولة، ولكنكم تعرفون الظروف التي نمر بها.» وقال الأستاذ نجيب إن رئيس الجمهورية قد دعا إلى حرية الرأي، فإذا لم نقل رأينا، فكأننا لا نعبأ بدعوة رئيس الجمهورية، وهي أشرف دعوة يمكن أن توجه إلى أصحاب الرأي. ولا شك أنكم تعرفون أننا توفيق بك وثروت وأنا لسنا من طلاب البطولات، وقال الدكتور جمال العطيفي : «الواقع إن الحياة النيابية سواء في العهد الماضي أو في عهد الثورة لم تشهد حرية برلمانية كالتي شهدتها في ظل مجلس الشعب الحالي.» فقلت: «لا، لا، يا دكتور جمال، مش للدرجة دي.» فقال: «كيف أنا أستطيع أن أتحدث في هذا الموضوع؟» فقلت: «كلنا نتحدث أنت لا تستطيع أن تنسى أن مجلس النواب الوفدي في عهد الوزارة الوفدية قد منع قانون الصحافة أن يصدر.» فقال: «آه تقصد الفترة من 1950 إلى 1952م فعلا لقد كانت أحسن الفترات في العهد النيابي.» فقلت: «كانت أحقر الفترات في العهد النيابي.»
وفي نهاية الحديث قال الدكتور جمال لي: «لقد قلت جملة مهمة وهي أن قدرا من الحرية قد تحقق، إن هذا القدر هو الذي جعلكم تكتبون البيان.» ولا أدري لماذا توقعت من هذه الجملة أن إجراء معينا سيتخذ ضدي.
وقد عزلت، عزلت من الاتحاد الاشتراكي، ولم أكن عضوا به في يوم من الأيام، ولكنها كانت الوسيلة الوحيدة لإعلان غضب الحكومة علي، لحرماني من الكتابة أو التعامل مع وسائل الإعلام التي تشرف عليها الدولة من إذاعة وتليفزيون وسينما ومسرح، وطبعا يلحق بذلك منعي من السفر. ومنع اسمي من أن يذكر في أية جريدة، أو أي جهاز من أجهزة الإعلام، أما بالنسبة لتوفيق بك ولنجيب بك، فقد صدرت الأوامر بمنعهما من التعامل معه كما صدرت الأوامر بعدم نشر أي شيء لهما أو عنهما دون أن يرد اسم أي منهما في قوائم العزل، وهذا هو البيان:
بيان من الكتاب والأدباء
نحن الكتاب والأدباء الموقعين على هذا البيان قد رأينا من واجبنا أن نعاون ونشارك من مواقعنا في المجتمع مؤسسات الدولة في تقصي الحقائق في حالة الاضطراب التي بدت بوادرها الآن في بعض الأحداث الجارية. يدفعنا إلى ذلك شعورنا بالمسئولية التاريخية وثقتنا بشعبنا وتقديرنا لوطنية رئيس الدولة. واعتقادا منا بأن في استطاعته الإمساك بالزمام للسير بالبلاد في طريق محفوف بالمخاطر تهب عليه الزوابع من كل جانب، ويحتاج إلى الحكمة وسداد الرأي لتجنيب الوطن ويلات الشطط، وتوجيهه إلى حيث يجد نفسه ، ويؤكد شخصيته ويسترد قوته.
ولما كان من خصائص الكتاب والأدباء بحكم رسالتهم في الأمة أن يكتشفوا باطنها وضميرها. في حين أن مهمة الصحافة هي تحري أخبارها ومهمة الهيئات الرسمية هي تقصي حقائقها من واقع أحداث معينة قد تكون مجرد بثور خارجية لمرض دفين، ودخان ظاهري لنيران متأججة تحت رماد؛ لذلك كان علينا نحن الكتاب والأدباء أن نكمل الصورة ونقدم المعونة بإبراز ما استتر وتخفى مما يعتمل الآن، ويضطرم في باطن الأمة وضميرها.
وليس ذلك فقط لمجرد استكمال عمل تقوم به الهيئات الأخرى، ولكنه أيضا للخشية من أن يهمل أمر هذا الغليان الذي يفور في نفوس الناس، فيجد طريقه في أي لحظة إلى الانفجار وتقع الكوارث. وذلك أنه مما لا شك فيه لدينا أن البلد يغلي في الباطن على نحو لم يعد يخفى على أحد. وقد لا يعرف كل الناس تعليلا لما يشعرون به من قلق واضطراب وغليان داخلي. وقد يبدي البسطاء من الناس والأبرياء من الشباب تعليلات مختلفة يسوقونها بغير تفكير أو تمحيص، ويرددونها في أحاديثهم، أو يصعدونها في منشوراتهم. وهذه التعليلات أو المطالب أو الاحتجاجات قد تبدو في أغلبها سطحية أو غير ناضجة أو مدروسة، ولكن يكفي الحقيقة التي لا شك فيها وراء كل هذا، وهو شعورهم جميعا بأنهم قلقون بشيء ما أو أنهم ما عادوا يحتملون ما هم فيه من إحساس بالضياع.
والآن ما هو منشأ هذا الإحساس العام بالقلق والاضطراب والضياع في نفوس الناس؟
لعل السبب الأهم في ذلك هو عدم وضوح الطريق أمامهم، فالصيحة المرتفعة في كل حين بكلمة المعركة، وأن الطريق هو المعركة كان من الممكن أن يكون هو الجواب على أسئلتهم، والطريق الواضح أمام أعينهم.
Página desconocida