وبدأ يهدي إلى أبي كتبه، ولم يكن يعطيه كتابا واحدا أو اثنين، وإنما كان يهديه عدة كتب قد تصل إلى ثمانية أو عشرة، وكنت أدخل إلى حجرتي وأغلق الباب بالمفتاح، ولا أخرج حتى أنتهي من كل الكتب التي أهداها الأستاذ الكيلاني إلى أبي. ومن هذه الكتب عرفت حكايات ألف ليلة وليلة كلها، وعرفت روايات شكسبير مبسطة، وعرفت روبن صن كروزو وحي بن يقظان، وحين كنت في العاشرة كنت أقرأ توفيق الحكيم وطه حسين والمازني، ووجدت نفسي بعد ذلك أقرأ الأدب الكبير كله في سهولة لا مثيل لها.
وكان أبي معجبا بشوقي غاية الإعجاب فقرأت رواياته، وأذكر أنني وأنا أنتظر نتيجة الشهادة الابتدائية قرأت مجنون ليلى ثلاث عشرة مرة متتالية.
وكنت سريع الحفظ لدرجة أنه حدث مرة وأنا في السنة الثانية الابتدائية أن كتب أستاذنا الفاضل العظيم الوقور محمود الشيباني قصيدة من عشرة أبيات على السبورة، والتفت إلينا وسأل: «من يقرأ هذه الأبيات؟»
فرفعت أصبعي، فأشار إلي أن أقف لأقرأ الأبيات، فإذا بي أستدير إلى الحائط، وأولي السبورة ظهري، وألقي الأبيات جميعا، وإذا بالفصل يصفق دون أن يأمره بذلك الأستاذ الشيباني، وحين انتهى التصفيق قال الأستاذ الشيباني: «ماذا أقول لك يا بني، ابن الوز عوام.»
وقد فعلت ما فعلت، وأنا أحسب أنني أصنع شيئا طبيعيا لا غرابة فيه، حتى لقد فوجئت بتصفيق الفصل وإعجاب الأستاذ، وقد كان مطلع هذه القصيدة:
انظر لتلك الشجرة
ذات الغصون النضرة
وأذكر أن أبي في هذه الأيام كان دائم الاجتماعات في مكتبه بالبيت بأشخاص لا أعرفهم، وإنما عرفت أنهم يعدون لإقامة ذكرى وفاة حافظ إبراهيم، وعرفت أن الاحتفال بهذه الذكرى سيستمر لمدة ثلاثة أيام بدار الأوبرا المصرية، وحدث أن دخلت إلى مكتب أبي وهو في اجتماع من هذه الاجتماعات، فقال لي مداعبا: «أنشد لنا شيئا من محفوظاتك في المدرسة.»
فأنشدت هذه القصيدة، وما إن فرغت منها حتى قال أحد الجالسين: «رفع الله رأسك يا بني كما رفعت رأسي.» وإذا به الأستاذ محمد الهراوي مؤلف القصيدة.
وأذكر أنني حضرت الحفلات الثلاث التي أقيمت بدار الأوبرا، وما زلت أذكر المازني وهو يترك المنبر إلى مقدمة المسرح، ويقول: «أشهد الله والحق أنني والعقاد قد حاولنا أن نهدم شوقي وحافظ؛ لننال منهما، ولنقف على أنقاضهما، فلم ننل إلا من الحق ومن أنفسنا.»
Página desconocida