المواهب الثلاث
لم أكتشف مواهبي في الكتاب؛ «كتاب الشيخ سيد» ولا في المدرسة الأولية؛ مدرسة سليمان جاويش، ولا في المدرسة الابتدائية؛ مدرسة السلحدار، بل اكتشفت مواهبي في المدرسة الثانوية؛ مدرسة خليل أغا في فرق النشاط المدرسي.
وفي كتاب الشيخ سيد، كنا نحفظ القرآن، نحضر للشيخ طبق سلطة كل يوم أو مبلغ قرش واحد ندفعه له، وكنت أتساءل: «كيف يمكن حفظ القرآن في هذه السن الصغيرة؟ وما الفائدة من حفظ شيء لا نفهمه؟ ولماذا نعاقب من الشيخ بالضرب بالعصا إذا ما نسينا؟»
وكان الشيخ يجلس على الأرض مربعا أي واضعا ساقا فوق الأخرى، كنا نرتدي الجلاليب مقلدين إياه في جلسته، لا يستطيع أحد منا أن يأتي متأخرا وإلا ضربه الشيخ بالعصا.
وكانت الأمهات سعيدات بإرسال أطفالهن إلى الكتاب حتى يتفرغن لشئون المنزل.
وفي المدرسة الأولية كنا نلعب في فناء المدرسة ، وفي الفسحة كنا نخرج ونقف على باب المدرسة لشراء «السميط» وهو خبز يعجن على شكل حلقة مستديرة ينثر عليها السمسم، وكان ثمنها نصف قرش، وكان البائع يجلس على الأرض يضع صاج «السميط» أمامه، ويفرد جلبابه أمامه؛ ليضع الأطفال القروش عليه، كان الزحام عليه شديدا، وكان اسمه «صبحي». فيأخذ الطالب «السميط» بيسراه ويدفع نصف القرش بيمناه. وتقع في حجره، ولم يكن معي نصف قرش فكنت آخذ السميطة وأقول له: «السميط أهو يا صبحي.» وكان لا يعرف كيف يسيطر على الزحام فلا يرد، ولا ينتبه، ولا يطالبني بالنصف قرش، فكنت آخذه وآكله أثناء الفسحة ولكنني كنت أعرف أنني أعمل عملا غير صحيح، فكنت بعد أن آكل السميط في الفسحة أشعر بالألم، ويتجهم وجهي، وليس لي الرغبة في اللعب.
وفي المدرسة الابتدائية كنا نلعب كثيرا لكبر واتساع فناء المدرسة المحاط بالأحجار والتماثيل التي تتساقط من سور صلاح الدين، وكان يتسع للجري واللعب والاختباء وراء العواميد المهدمة.
بدأت بالفرق الرياضية، القسم المخصوص، وهي مجرد ألعاب سويدية لتحريك وتسخين عضلات الجسد، ثم «العقلة والمتوازيين» لتقوية المهارة الجسدية، حيث نتشعلق في العقلة ونلتف حولها، والوقوف على اليدين في المتوازيين، وتغيير الوضع لتقوية عضلات الذراعين، ولعبت كرة السلة قليلا، ولم تستهوني كرة القدم، ثم انضممت لفرقة الرسم بالأقلام السوداء والملونة. وذات مرة جمعنا مدرس الرسم وطلب منا رسم فكرة لغلاف كتيب عن الصحة المدرسية؛ فأسرعت بالاقتراح لرسم ممرضة، ترتدي الأبيض وتحمل إبرة محقن كبيرة، وهي تسير على ساق واحدة وترفع الأخرى. أعجب المدرس بالفكرة ونفذها مباشرة. وكانت الألوان بأبيض وأسود وأحمر.
ومع ذلك تركت فرقة الرسم إلى فرقة الموسيقى، ولم تكن هناك آلات موسيقية إلا البيانو والأكورديون والكمان والطبلة، وكلها ملك للمدرسة. أعجبني الكمان وتمرنت عليه بمساعدة مدرس الموسيقى. أعجبني الكمان إذ كان يصدر منه لحنا غنائيا متصلا، حادا وغليظا، وكان له رنين عاطفي رومانسي. أما البيانو فكان متقطع اللحن، وقد يتميز البيانو عن الكمان بأن أصواته مضبوطة في التون والنصف تون. في حين أن الكمان أصواته غير مضبوطة؛ لأنها تصدر عند تثبيت الأصابع فوق الوتر في مكان مخصص وإلا صدر الصوت نشازا. فرجعت إلى المنزل وأنا في حيرة بين الرسم والموسيقى، ولكني جمعت بينهما في رسم الشخصيات الموسيقية، فكنت آخذ صورة صغيرة لكبار الموسيقيين، وأقسمها مربعات صغيرة لا تتجاوز الملليمتر. ثم آتي بلوحة كبيرة وأقسمها بدورها إلى مربعات، فيكبر المربع الصغير الأول إلى سنتيمتر أو اثنين طبقا لحجم اللوحة البيضاء، وأرسم مربعا مربعا فتخرج الصورة مكبرة طبق الأصل، وهو ما تفعله أجهزة التصوير حاليا، وتلك كانت طريقتي في الرسم. وكنت أيضا أرسم باستخدام الفحم الأسود، وكنت أجلس ساعات طوال على المنضدة، والوالد ينظر إلى ما أفعل. رسمت شخصيات عالمية: بيتهوفن أشعث الشعر، وشوبرت بهندامه الأنيق، وشوبان بوجهه المتألم، ثم حافظ إبراهيم شاعر النيل، وأحمد شوقي أمير الشعراء. وعلقت هذه اللوحات على جدران غرفتي، حيث كنت أقطن فيها مع أخي. ولم أدر ماذا أفعل بها عند مغادرتي إلى فرنسا؟ خشيت عليها، وأنزلتها، ولففتها جيدا ووضعتها على سطح الجمالون فوق مخازن السحار. ولا أدري أين هي الآن؟ هل طارت في الهواء أم أتلفها المطر؟
أما عزف الموسيقى فيحتاج إلى شراء آلة الكمان التي كنت أحبها، وكانت أسرتي لا تملك الثمن، ومهما أضربت عن الطعام أو اعتصمت في المنزل في زاوية لا أتحرك بالساعات الطوال إلا أنني لم أستطع الحصول عليها. وكانوا يطلقون علي اسم «غاندي» لأنه كان معروفا بإضرابه عن الطعام حتى الموت لإجبار بريطانيا على الانسحاب من الهند. فنالت الهند استقلالها، ولم أنل أنا الكمان.
Página desconocida