نبهتها جدتي إلى ذلك، كما نبهتها أمي، ولكن يبدو أن خالتي كانت امرأة ضعيفة أمام الرجل، فضلت أن يبقى بجوارها ويأخذ مصاغها على أن تعيش وحيدة والمصاغ في ذراعيها.
أخذت أفكر في ذلك، وفي المثل الشعبي عندنا «الرجال ولا المال».
وكان أمامنا منزل به حاج وعلى واجهة المنزل وحوائطه طبعت كفوف بأصابعها الخمس الواضحة، طبعت بدم الذبيحة والتي كانت تذبح احتفالا بعودته من الحج، كانوا يغمرون يدهم بالدم ويطبعون بكفوفهم على الجدار، ويكتبون «حج مبرور وذنب مغفور» بجوار الكف ذي الأصابع الحمراء، وكان الاعتقاد الشعبي أن هذه الكفوف الحمراء تقي من الحسد وتبعد شروره، وكان هذا الحاج من طبقة اجتماعية أعلى منا، فكنا نلجأ إليه إذا ما ساءت العلاقة بيننا وبين رجال الحي؛ فمثلا كان بيت جدتي نصفه مع نظام الشارع، والنصف الآخر بارزا يحتل نصفه، فكان عقبة أمام مرور عربات الكارو أمام الشارع الذي أصبح أضيق من تلك المنطقة البارزة والتي كانت أشبه بعنق الزجاجة، يصطدم به من يمر به، ذهبنا إلى الحاج نطلب منه التدخل لدى رجال الحي بعدم هدم هذا المنزل، لكنه لم يستطع فعل شيء. وهدم نصف المنزل البارز في الشارع.
وبعد نزوح والدي إلى القاهرة بسبب الجهادية أي التجنيد العسكري، سكن أولا في حي السيدة زينب، وبعد ذلك انتقل إلى حي باب الشعرية دون أن أعلم السبب، وسكنا في شارع البنهاوي المتفرع من شارع الجيش بالعباسية. وهو الشارع الذي ينتهي بميدان باب الفتوح من ناحية سور صلاح الدين، وقبل آخره بقليل كانت هناك حارة درب الشرفا التي تخرج فيها عطفة العيساوي. وأول منزل على اليسار فيها رقمه «4» وهو المنزل الذي ولدت فيه وفي الطابق الأول منه، وكان على يساره مخازن السحار تاجر الجملة للمواد الغذائية.
وكان سطحنا هو نفسه سطح المخازن، وكنا نلعب فيه بلعبة مشهورة «العوامة»، التي كنا نصنعها بأيدينا بعد أن نشتري عجل الرولمان بلي الصغير؛ اثنان على القاعدة يمينا ويسارا، وواحدا في المقدمة، تحت المفصلة التي تربط العمود بالقاعدة فتتحرك العوامة بفضله يمينا ويسارا. وكنت آخذ الخشب من «الجملون» الذي يدخل الضوء على مخازن السحار، وكانت عليه ثلاثة قوائم خشبية، وكنت أنزع القائمة الوسطى، وكان لونها أسود فكنت أحك الطلاء بالسكين حتى يظهر الخشب بلونه الطبيعي، وكنا نلعب «بالعوامة» في الصباح الباكر قبل الفجر والشوارع ما زالت فارغة، ولكن المقاهي كانت مفتوحة، ويجلس عليها المدخنون للشيشة. وفي صباح باكر كنت ألعب ب «العوامة» في الشارع، وأمام جامع البنهاوي على اليمين ودرب البزازرة على اليسار، قام شيخ من على مقعده رفع العوامة وهوى بها على الأرض لتنزل محطمة وهو يقول «بلاش دوشة على الصبح»؛ فحزنت، وكرهت هذا الشيخ الذي لم يقدر لعب الأطفال، لملمت عوامتي المكسورة إلى البيت ثم إلى السطح حتى أستطيع إصلاحها وألملم خشبها المتكسر.
وكنا نلعب أيضا بالكرة الشراب في الحارة مع باقي الأطفال، وكان غيرنا يلعبون «السيكا» بعدما يخططون على الأرض مربعات بالطباشير. ويضعون حجرا ويقفزون عليه، ويدفعونه إلى المربع التالي، وكانت البنات تشارك في هذه اللعبة.
وكان يأتينا «جمال إسماعيل» قريبنا والطالب بمدرسة الخديوي إسماعيل في حي باب الخلق. وكان يلعب معنا فوق السطح، يركب فوق ظهري؛ إذ تستطيع «العوامة» أن تحمل شخصين.
وكنا نذهب إلى المركز الثقافي الأمريكي بميدان قصر الدوبارة الذي يقع في أول منطقة جاردن سيتي، كنا نأخذ المجلات التي تبدو كدعاية لأمريكا في مجالات العمارة، والصناعة، والتجارة. وكانت المجلات ذات ورق فخم وملون ولامع، وكان الهدف منها دعاية لأمريكا عند الشباب، أما نحن فكنا نأخذ هذه المجلات والتي توزع مجانا؛ لنعطيها لبائع الكبدة والكرشة يستخدمها في لف المأكولات التي يبيعها، وكان يفضلها على ورق الجرائد التي ينشع منها الزيت، يزنها ليقدر ثمنها، ويعطينا ما نريد من مأكولات مقابل ثمن ورق المجلات، نأكل قبل الصعود إلى المنزل ؛ لأن الوالدة ترفض أن نأكل خارج المنزل وخاصة هؤلاء الباعة الذين كانت تظن أنهم يخلطون أحشاء القطط والكلاب بمأكولاتهم، وكنا لا نهتم ولا نسأل عن المصدر.
ولم نكن جوعى، وكانت ماهية الوالد تكفي لإطعام الأسرة الكبيرة على الرغم من قلتها، كنا نشتري الدقيق من السحار؛ أي البقال على ناصية الحارة «شكك»؛ أي نأخذ الدقيق وندفع آجلا، ويكتب السحار في كراسة عدد المرات وحساب كل مرة، ثم يعطيه الوالد حسابه في أول كل شهر. ثم لاحظت الوالدة يوما زيادة مرة لم تأخذها، فقد كانت نسبة المرات هي مرة كل أسبوع أي أربع مرات كل شهر، ورأينا هذا الشهر أن الكراسة بها ست مرات، فذهب والدي إلى السحار ليحيطه علما بالأمر، فاقتنع الرجل وقال: «علشان خاطرك يا عم حنفي.»
وكانت الوالدة تقوم بالعجين في الصباح الباكر في الماجور، تأخذ العجين وترفعه وتخفضه عدة مرات حتى يصبح كالمطاط بعد أن تضع فيه الخميرة، وتترك العجين داخل الماجور حتى يصعد وينتفخ ويصير كالقبة. فتعرف حينها أن العجين قد اختمر؛ فتطلب «الطوالي» من الفرن أي الطاولات الخشبية، فترش الوالدة بعض الدقيق على سطحها، ثم تقرص العجين إلى قطع متساوية، وتضغطه لكي تكون القطع رقيقة، ثم تضعه على سطح الطوالي، وترص عليها الأرغفة بنظام، ويأتي صبي فران ليحملها على رأسه إلى الفرن لخبزها. حيث يدخله الفرن ويخرجه، حيث يرصه على أقفاص من الجريد لتوصيله إلينا، حيث نتناوله، وكان من حق صاحب الفرن أن يأخذ رغيفا من كل خبزة وهذا غير الأجرة. وكنت أقوم بعد الأرغفة التي يحصل عليها الفران كل يوم آخر النهار، فكنت أجد أنه يتناول الخبز هو وأسرته مجانا.
Página desconocida