Doctorat d’etat
عن الأخلاق عند مسكويه، كما تعرفت على ناصف نصار في المطعم الجامعي، وكان قد أوشك على الانتهاء من رسالته لدكتوراه الدولة ويعدها للطباعة في المطابع الجامعية الفرنسية
. وتعرفت على كمال يوسف الحاج اللبناني الذي قتل أثناء الحرب الأهلية، وكان مفكرا بالإضافة إلى كونه باحثا، وانتقل إلى بيروت. وقد تكونت الآن جماعة في بيروت للاحتفال بعيد ميلاده المئوي وللحفاظ على تراثه. وتعرفت على حميد الله، العالم الهندي الذي كان مطلوبا في حيدر آباد بعد رفضها التنازل عن استقلالها لصالح الهند، وكان يسكن مع امرأة فرنسية عجوز، وكان يعد مخطوط «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري. ولما علم برنشفيج ذلك الذي كان يعد نفس المخطوط للطباعة مع طالبين له، أنا ومحمد بكير من تونس، تنازل لحميد الله عن العمل. واحترمت أخلاق المستشرق الذي تنازل عن عمل يقوم به زميل له في نفس الوقت. وكانت البحوث العلمية غير مسيسة. وطبع في جزأين في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في دمشق عام 1964م، ثم صورته دار التراث في بيروت في طبعة جديدة دون أن تأخذ إذنا من أحد. وقد توفي حميد الله الذي كان يعمل باحثا في المركز الوطني للبحث العلمي
Centre National de Recherche Scientifiques (CNRS) . وبكير أستاذ الأدب العربي في جامعة تونس، وتوفي ولم يبق إلا أنا.
وكان نظام حياتي اليومي هو الاستيقاظ مبكرا، وبعد كوب الشاي مع اللبن المسكر في الأنبوبة أبدأ في القراءة والتعليق على ما أقرأ على هامش الكتاب؛ لذلك كنت لا أقرأ إلا الكتب التي اشتريتها. وظهرا متأخرا أذهب للغداء لسببين: الأول أني أستلقي بعد الغداء قليلا. والثاني أن مطعم الجامعة في آخر الوقت، حوالي الواحدة والنصف، يترك الصواني لمن يريد أن يستزيد، وأنا منهم طبعا لأني كنت لا أتناول العشاء مع أنه موجود في مطاعم الجامعة. وأعمل حتى التاسعة مساء برغم محبتي للنوم. وعجبت كيف يروى عني في القاهرة أنني في باريس كنت أقضي النهار في اللعب من الصباح إلى المساء إلا بدافع الغيرة بعد أن عمت الجميع. وقد كان يضرب بي المثل في العمل من الصباح إلى المساء، وكنت لا أرى في المقاهي أو الشوارع ، وأنا المجتهد الذي لا يسمح بضياع وقته على المقاهي، مع أن المقهى في باريس جزء من الحياة الثقافية؛ ففيه يتم التعرف على المثقفين، ولقاء من يريد غير الثقافة. أما بعد التاسعة مساء فأفعل أي شيء. وما زال هذا النظام اليومي سائدا حتى الآن.
وفي عام 1959م عندما كانت العلاقات بيننا وبين فرنسا ما زالت مقطوعة منذ العدوان الثلاثي على مصر في 1956م. كان أخي وزوجه في طريقه إلى كولومبيا بأمريكا اللاتينية بحرا متوقفا في مارسيليا، فذهبت مع صديقتي الألمانية كي أراهما؛ فليس من المعقول أن يكون كلانا على الأراضي الفرنسية ولا يرى بعضنا بعضا. وكان في عرف قبطان السفينة أن يهبط إلى أرض فرنسا من يريد، ولكن لا يجوز لمصري على أرض فرنسا أن يغادرها ويصعد السفينة، فقلت له هذا حق، لكن من حق أي راكب أن يغادر السفينة لمدة ساعة ثم يستكمل الرحلة فيما بعد ، وأريته بطاقتي السفر إلى كولومبيا فاقتنع، فغادرنا إلى باريس، وزرنا سويا أشهر معالم باريس؛ برج إيفل، كنيسة نوتردام، قوس النصر، مسلة الكونكورد، متحف اللوفر، قصر فرساي، حي منمارتر، مقبرة نابليون، السربون، البانثيون. وأخذ أخي معه تسجيل أم كلثوم «أنت عمري»، وكانت أول أغنية يلحنها لها عبد الوهاب، وكانت فيها كلمة «اللي شوفته»، وكانت صديقتي الألمانية عندما أسألها ماذا تحبين أن تسمعي من الموسيقى العربية تقول «اللي شوفته»، ثم أوصلناهما إلى السفينة بمارسيليا ليكملا الرحلة إلى أمريكا اللاتينية. وجاء إلى زيارتي بعض الأصدقاء مثل الطاهر مكي من مدريد وإبراهيم راشد من القاهرة. وزارني علي إسماعيل، فأخذت تصريحا من المستشفى بالخروج ولو لست ساعات، فأخذته لشراء بعض الهدايا المشهورة من باريس مثل رابطة العنق «أرجانس» بجوار الأوبرا. وكنت في المستشفى في الصيف آكل وأشرب وأستريح بعد اشتباه في مرض السل في الرئتين في مراحله الأولى، وهو التهاب الرئتين. ورفض مدير المستشفى إخراجي، ولو لمدة ثمان وأربعين ساعة. ولما شرحت له السبب، وصول أخي وزوجه إلى مرسيليا وافق، وعدت إلى المستشفى كما وعدت.
وفي صيف 1959مكنت قد شعرت بإرهاق شديد وأنا أصعد أي سلم. فلما ذهبت إلى عيادة المدينة الجامعية وكشفوا علي بالأشعة وجدوا التهابا في الرئتين، وهو مقدمة لمرض السل، فحجزوني في العيادة لمدة أربعة أشهر بعد مقاومة طويلة. شرحت للطبيب كيف أعيش: آكل مرة واحدة في اليوم ظهرا، وأجهد نفسي في العلم والفن؛ فأنا طالب في السربون أدرس الفلسفة، وطالب في الكونسرفتوار أدرس الموسيقى، في الصباح في الجامعة، وبعد الظهر في معهد الموسيقى، وفي المساء أقرأ في أوله، وأعزف مع كاتم الصوت على الكمان في آخره، فاستعجب أنني أحيا حتى الآن، وطلب مني أن أبقى في العيادة أربعة أشهر، آكل أربع مرات في اليوم، وأشرب العصائر، وآكل الفاكهة بين الوجبات، وأغذى بالمحاليل في الشرايين لأنه عندي مرض
BBC ، وهي المرحلة السابقة على السل، فسألت: وماذا عن حجرتي في بيت ألمانيا؟ فقيل: تخليها وتستعيدها عندما تخرج. قلت: وماذا عن كتبي التي أشتريها كل شهر ، النصوص الفلسفية؟ قال: نشتريها لك وتقرؤها في العيادة. ولما حان وقت الخروج وزاد وزني، قال: عليك أن تكتب تعهدا بالاستقالة، إما من الجامعة وتتخصص في الموسيقى أو باستقالتك من معهد الموسيقى وتتخصص في الجامعة؛ أي الفلسفة. وإن لم تفعل فسنرسلك إلى جبال الألب حيث تعيش في قمتها حيث الهواء النقي. وإن لم تفعل هذا ولا ذاك فستنتحر وتقضي على حياتك بنفسك. وكانت لحظة اختيار قاسية. وكيف أترك إحدى معشوقاتي؟ الموسيقى بلا فكر لحن خالص، والفكر بلا موسيقى تجريد خالص. وأخيرا اخترت الجامعة؛ فللفلسفة أتيت، وكتبت التنازل عن المعهد المطلوب وقلبي ينفطر حزنا. وأنا حتى الآن عندما أسمع موسيقى شرقية أو غربية أحن إليها، وأتساءل: هل أحسنت الاختيار؟ وبعد انقضاء العمر وجدت نفسي قد وقعت في الفلسفة الرومانسية، هيجل، فشته، شلنج، برجسون. وقد تكون الظاهريات؛ أي الفينومينولوجيا، التي يقال إنني وقعت فيها هو جمع بين الفلسفة والفن، بين العقل والذوق كما يفعل الصوفية المتأخرون حتى محمد إقبال. وما زالت آثار هذا المرض موجودة على الرئتين كلما قمت بكشف إشاعة على الصدر.
وكانت هناك مشكلة كارت الإقامة الذي يجعل وجودي في فرنسا شرعيا في حال قام شرطي بطلب أوراقي. وأخبرني المخضرمون في باريس بأن هذا أمر سهل، علي أن أفتح حسابا في أحد البنوك، وأضع فيه أي مبلغ، وآخذ دفتر شيكات، فإذا سئلت في المحافظة عن مصادر المعيشة قلت لهم عندي دفتر شيكات، ولا يسألون كم رصيده. وبالفعل فتحت حسابا في
Société Générale
Página desconocida