ذم الخمر
1 / 271
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال زين الدين ابن رجب ﵀:
خرّج الدّارقطني (١) بإسناد ضعيف من حديث ابن عباس مرفوعًا: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ».
قال عثمان: وروي مرفوعًا والصحيح وقفه قال: "اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ، فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، كَانَ يَتَعَبَّدَ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَاوِيَةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ خَادِمَتَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهَا تَدْعُوكَ لِشَهَادَةٍ، فَدَخَلَ؛ فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ، وَعِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا دَعَوْتُكَ لِتَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، أَوْ تَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَشْرَبَ كَأْسًا، فَإِنْ أَبَيْتَ صِحْتُ وَفَضَحْتُكَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَبدّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ لَهَا: اسْقِينِي كَأْسًا، فَسَقَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: زِيدِينِي، فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ الْغُلَامَ. فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهُ لًا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ فِي صَدْرِ رَجُلٍ أَبَدًا، يُوشِكُ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبَهُ" (٢).
وفي الدارقطني (٣) أيضًا عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ».
وروي عنه أيضًا أنه قال: "وَجَدُّتُهُ فِي التَّوْرَاةِ".
وفي "مسند ابن وهب" عنه مرفوعًا: «هِيَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأُمُّ الْفَوَاحِشِ، فَلاَ تَشْرَبُواْ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مُفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ، وَمَنْ شَرِبَهَا تَرَكَ الصَّلَاةَ، وَوَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ».
_________
(١) "سنن الدارقطني" (٤/ ٢٤٧).
(٢) أخرجه النسائي (٥٦٦٦).
ورجح وقفه أبو زرعة كما في "العلل" لابن أبي حاتم (٢/ ٣٥) والدارقطني في "العلل" (٣/ ٤١).
(٣) "سنن الدارقطني" (٤/ ٢٤٧).
1 / 273
وفي حديث معاذ في "المسند" (١): "لا تشربنّ خمرًا فإنها رأس كل فاحشة".
وعن عُثْمَان قال: "الْخَمْرُ مَجْمَعُ الْخَبَائِثِ، ثم أنشأ يحدث أن رجلًا خُيِّر بين أن يقتل صبيًّا أو يمحو كتابًا أو يشرب خمرًا، فاختار أن يشرب الخمر، فما هو إلا أن شربها حتى صنعهنّ جميعًا".
وعن عُثمان قال: "إياك والخمر فإنها مفتاح كلّ شرّ".
"أُتَى رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَحْرِقَ هَذَا الْكِتَابَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الصَّبِيَّ، وَإِمَّا أَنْ تَسْجُدَ لِهَذَا الصَّلِيبِ، وَإِمَّا أَنْ تَفْجُرَ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَشْرَبَ هَذَا الْكَأسَ، فَلَمْ يَرَ فِيهَا شَيْئًا أَهْوَنَ مِنْ شُرْبِ الْكَأسِ، فَشَرِبَ الْكَأسَ، وَفَجَرَ بِالمَرْأَةِ، وَقَتَلَ الصَّبِيَّ وَحَرَّقَ الْكِتَابَ، وَسَجَدَ لِلصَّلِيبِ، فَهِيَ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ".
وعن مجاهد: "قال إبليس: إذا سكر ابن آدم، أخذنا (بخزامته) (٢) فَقُدْنَاهُ حيث شئنا، وعمل لنا بما أحببنا".
وعن وهب بن منبّه قال: "قال الشيطان: إذا سكر ابن آدم، قدناه إِلَى كلّ شهوة كما تقاد العير بأذنها".
ويذكر منام الَّذِي رأى بعرفة أنه قد غفر للناس إلاَّ لفلان من أمره كذا وكذا، وأنه لمَّا دلّ عليه سأله، فأخبره أنه سكر ثم جاء إِلَى أمّه فنهته، فأخذها فألقاها في التنّور وهو مسجور. ذكره ابن أبي الدُّنْيَا، ورويت بسياق طويل غريب ذكره ابن الجوزي في كتاب "البّر والصلة".
وفي تفسير ابن مردويه بإسناده عن عبد الله بن عمرو: "أَنَّهُمْ تَحَدَّثُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ: "أَنَّ مَلِكًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذَ رَجُلًا فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ يَقْتُلَ نَفْسًا، أَوْ يَزْنِيَ، أَوْ يَأْكُلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، أَوْ يَقْتُلُوهُ، فَاخْتَارَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرِ؛ فَأِنَّهُ لَمَّا شَرِبَهَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَرَادُوهُ مِنْهُ" (٣).
_________
(١) (٥/ ٢٣٨).
(٢) الخزامة: حلقة تجعل في أحد منخري البعير يشد بها الزِّمام. "اللسان" مادة: (خزم).
(٣) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (٤/ ١٤٧).
1 / 274
وقصة "هاروت وماروت" في هذا المعنى، خرّجها أحمد (١) من رواية ابن عمر مرفوعة، وقد تُكلّم فيها، وقيل: إنها مأخوذة عن كعب.
واعلم أن شرب الخمر فيه مفاسد في الدين وعقوبات في الآخرة.
أمَّا مفاسدها في الدين فمتعددة:
منها: نزع الإيمان: كما في "الصحيحين" (٢): «لًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وتقدم قول عثمان: "لاَ يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ فِي صَدْرِ رَجلٍ، يُوشِكُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ".
وقد جاء إطلاق الكفر والشرك عَلَى شرب الخمر، وتشبيه شاربه بعابد الوثن، ففي "النسائي" (٣) عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَعَلَهَا فِي بَطْنِهِ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ سَبْعًا، إِنْ مَاتَ فِيهَا مَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ (أَذْهَبَ) (*) عَقْلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْفَرَائِضِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَإِنْ مَاتَ فِيهَا مَاتَ كَافِرًا».
وروي موقوفًا ومرفوعًا عن عبد الله من وجوه شتَّى، والموقوف لعلّه أشبه.
وروى خيثمة عن عبد الله موقوفًا: «هِيَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا نَهَارًا ظَلَّ مُشْرِكًا، وَمَنْ شَرِبَهَا لَيْلًا بَاتَ مُشْرِكًا» وروي مرفوعًا ولا يصح.
وفي "المسند" (٤) عن ابن عباس مرفوعًا: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ» خرَّجه ابن حبّان في "صحيحه" (٥).
وفي حديث خرجه ابن الجوزي في "الواهيات" (٦): "شارب الخمر كالذي
_________
(١) في "المسند" (٢/ ١٣٤).
(٢) أخرجه البخاري (٦٧٧٢)، ومسلم (٥٧).
(٣) برقم (٥٦٦٩).
(*) أذهب: "نسخة".
(٤) أخرجه أحمد (١/ ٢٧٢).
(٥) برقم (٥٣٤٧/ إحسان).
(٦) برقم (١١١٥) وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله ﷺ. وانظر " الكامل" لابن عدي (٢/ ٧٠٣).
1 / 275
يعبد اللات والعزّى" وهذا لأنّ مدمنها يعكف عليها ولا يكاد يفيق منها فيصير كالعاكف عَلَى الأوثان، كما قال علي ﵁ في الشطرنج.
وقد رُوي عنه: "أن أصل دين المجوسيّة أنه كان لهم دين، وكان عليهم ملك يشرب الخمر؛ فسكر، فوقع بأخته ثم ادّعى أن الله أباحه، ثم خدّ لمن خالفه (أخاديد) (*)، وأضرم فيها النار فيقتحم الناس، يتقاذفون فيها حتى إِن كانت المرأة لتجيء بالصبي ترضعه، فيقول: يا أمّه، اقتحمي فإن عذاب الدّنْيا أهون من عذاب الآخرة" خرَّجه يعقوب بن شيبة.
وكلما أدمن الخمر وعكف عليها نقص إيمانه وضعف ونزع منه، فيخشى أنه يسلبه بالكليّة عند الموت، وقد وقع ذلك في حكاية ذكرها عبد العزيز بن أبي روَّاد، وكان عبد العزيز يقول: "اتقوا الذنوب فإنها أوقعته".
وعن عبد الله بن عمرو قال: "لأنّ أزني وأسرق أَحَبّ إليَّ من أن أشرب الخمر؛ لأنّ السكران تأتي عليه ساعة لا يعرف فيها ربه".
وروي في ذلك أثر إسرائيلي عن الله ﷿.
وفي "صحيح مسلم" (١): "أنهى عن كلّ ما أسكر عن الصلاة".
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ (٢) فلا سعادة للعبد ولا فلاح بدون ذكر الله والصلاة؛ فلذلك حرَّم عليه الاشتغال بكل ما صدّ عن ذلك.
ومنها: سخط الله ﷿. وفى "المسند" (٣) عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَرْضَ اللهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً؛ فَإِنْ مَاتَ مَاتَ كَافِرًا، وَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ".
_________
(*) أخدودًا: "نسخة".
(١) برقم (٢٠٠١).
(٢) المائدة: ٩١.
(٣) (٦/ ٤٦٠).
1 / 276
ومنها: منع قبول الصلاة والتوبة: وخرّج النسائي وابن ماجه وابن حبّان في "صحيحه" (١) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا؛ فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وعند النسائي: "لَمْ يَقْبَلُ اللهُ لَهُ تَوْبَةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا".
وفي مسند ابن وهب: "سخطه الله عليه أربعين يومًا، وإن سكر الرابعة لم يرض الله عنه حتى يلقاه".
وفي الترمذي (٢) عنه مرفوعًا، بعد الرابعة: "وإن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من طينة الخبال" وإن صحَّ به حُمل عَلَى أنه لا تهيّأ له توبة نصوح بعد ذلك، ويكون ذلك من أحاديث الوعيد.
وفي رواية: "من شرب خمرًا بخس وبخست صلاته أربعين يومًا" خرجه أبو داود (٣) من حديث ابن عباس، فمنع قبول الصلاة أربعين يومًا بالسّكر، ومتى عدمه "لم تقبل له صلاة جمعة" كذا روي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا وموقوفًا.
لو لم يكن للسكران إلا طرده عن مناجاة الرحمن؛ لكفاه بعدًا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ (٤).
وأما العقوبات فمنها:
دنيوية: وهي نوعان: شرعية كالقتل بعد الرابعة، وفيه كلام معروف. ومنها: قدرية: وهو المسخ قردة وخنازير والخسف، ففي "سنن ابن ماجه" و"صحيح ابن حبان" وغيره (٥): «لَيَشْرَبَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَيُضْرَبُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ ْقِرَدَةَ وَخَنَازِيرَ».
_________
(١) أخرجه النسائي (٥٦٦٥. ٥٦٧٠)، وابن ماجه (٣٣٧٧)، وابن حبان (٥٣٥٧).
(٢) برقم (١٨٦٢) وقال: حديث حسن.
(٣) برقم (٣٦٨٠).
(٤) النساء: ٤٣.
(٥) أخرجه ابن ماجه (٤٠٢٠)، وابن حبان (٦٧٥٨)، وأبو داود (٣٦٨٨)، وأحمد (٥/ ٣٤٢).
1 / 277
ومنها: في البرزخ، وسيأتي، وقال مسروق: "ما من ميت يموت وهو يزني أو يسرق أو يشرب؛ إلا جعل معه في قبره شجاعان (١) ينهشانه إِلَى يوم القيامة".
وقال سهل الأنباري: "أتيت رجلًا قد احتضر: فبينا أنا عنده إذ صاح صيحة أخذ منها، ثم وثب فأخذ بركبتي فأفزعني، فقلت له: ما قضيتك؟ قال: هو ذا حبشي أزرق عيناه مثل السكرّجتين (٢) غمزني غمزة أخذت منها، فَقَالَ لي: موعدك السعير الظهر، فسألت عنه أي شيء كان يعمل؟ قيل: كان يشرب النبيذ".
ومنها في الآخرة، وهي أنواع:
فمنها: العطش يوم القيامة: ففي "المسند" (٣) عن قيس بن سعد بن عبادة، عن النبي ﷺ قال: "من شرب الخمر أتى عطشانًا يوم القيامة".
وعن عبد الله بن عمرو قال: "في التوراة: الخمر مرّ طعمها، أقسم الله بعزته: لمن شربها بعدما حرّمتها لأعطشنّه يوم القيامة".
ومنها: تشويه الحلق وقبح الهيئة يوم القيامة:
روى الآجرّى بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: "لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرِبَةِ الْخَمْرِ، وَلَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَلَا تشهدوا جنائزهم، إن شارب الخمر يأتي يوم القيامة مائل شقّه، مُزرقة عيناه، يندلع (٤) لسانه على صدره، يسيل لعابه على بطنه، يتقذّره كل من رآه".
وعن أحمد رواية: أنه لا يصلّي الإمام عَلَى من مات مدمن خمر.
_________
(١) الشّجاع، بالضم والكسر: الحية الذكر، وقيل: الحية مطلقًا. "النهاية" (٢/ ٤٤٧).
(٢) السُّكُرُّجة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم. "النهاية" (٢/ ٣٨٤).
(٣) (٣/ ٤٢٢).
(٤) اندلع: خرج من الفم واسترخى، وسقط عَلَى العنفقة كلسان الكلب. "اللسان" مادة: (دلع).
1 / 278
ومنها: الشرّب من صديد أهل النار.
ففي "صحيح مسلم" (١) عن جَابَر، عن النبي ﷺ قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عَهْدًا مَنْ شَرِبَ الخَمْرِ أَنْ أَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ».
وفي "المسند" (٢) عن أبي أمامة مرفوعًا: "أقسم ربي بعزته: لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر، إلاَّ سقيته مكانها من حميم جهنم معذَّبًا أو مغفورًا له".
وفي "المسند" و"صحيح ابن حبان" (٣) عن أبي موسى مرفوعًا: "من مات مدمن خمر سقاه الله من نهر الغوطة. قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهن".
وخرج بعض المتقدمين وهو نشوان، فمرّ بقرية فيها خمر كثير فتمثل بهذا البيت:
تطيرنا بادِ كرم ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء
فهتف به هاتف من تحت شجرة:
وفي جهنّم ماء ما تجرّعه ... عاص فأبقى له في الجوف أمعاء
ومنها: أن شربها في الدُّنيا يمنع شرب خمر الآخرة.
وفي "الصحيحين" (٤) عن ابن عمر، عن النبي ﷺ: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ».
_________
(١) برقم (٢٠٠٢).
(٢) (٥/ ٢٥٧).
(٣) أخرجه أحمد (٤/ ٣٩٩)، وابن حبان (٥٣٤٦/ إحسان).
(٤) أخرجه البخاري (٥٥٧٥)، ومسلم (٢٠٠٣).
1 / 279
وفي رواية: "فمات وهو مدمنها" وفي رواية: "ثم لم يتب منها" (١).
زاد النسائي وابن ماجه (٢) في رواية لهما عن أبي هريرة: ثم قال رسول الله ﷺ: شَرَابَ أَهْلِ الجَنَّةِ، ومن تَركَ شربها شَرِبَهَا في الآخِرَةِ".
وفي المسند (٣) عن أبي أمامة مرفوعًا: "أقسم ربّي بعزته: لا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيته من حظيرة القدس" وخرَّجه الإسماعيلي من حديث عليَّ وزاد فيه: "يأتيه أهل الجنة يشربونها فيكرمهم الله بذلك" أي: أنهم يجتمعون في حظيرة القدس يشربون الخمر.
وعن عبد الله بن عمرو قال: "في التوراة: لمن تركها بعدما حرمتها إلا سقيته إياها في حظيرة القدس".
أفليس من الغبن كلّ الغبن، تعجّل شرب هذه الخبيثة المفسدة للعقل والدين، مع زمرة الفساق الأرذال والشياطين، وترك شرب الخمر المطهرة التي هي لذة للشاربين في حظيرة القدس، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين!!
ورأى النبي ﷺ -في المنام- ليلة منامًا، طويلًا، وفي آخره: "رَأيتُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَشْرَبُونَ خَمْرَةٍ وَيَتَغَنَّوْنَ، فَقُلْتُ عَنْهُم: فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرُ وَعَبدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ. فَمَالَ إِلَيْهِمْ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ اسْتَشْهَدُوا بِمُؤْتَة ﵃".
ومنها: إقامة الحدّ عليها في البرزخ:
استشهد رجل في زمن السلف، وكان يشرب بعض الأنبذة المختلف في حلّها، فرئي في المنام وهو متّشح بحلة خضراء، فقِيلَ لَهُ: ما فعل الله بك؟
_________
(١) أخرجه مسلم (٢٠٠٣).
(٢) أخرجه النسائي في "الكبرى" (٦٨٦٩) بنحوه، وابن ماجه (٣٣٧٤) مختصرًا.
(٣) (٥/ ٢٥٧).
1 / 280
قال: ما تراه صانعًا بالشهداء؟ غفر لي وأدخلني الجنّة، قال: فلما ولّى نظرت إِلَى آثار السّياط بظهره، فقلت له: مكانك! قال: أو رأيت؟ قلت: نعم.
قال: قل لأبي -وكان أبوه يومئذ حيًّا- يا شقي، ذاك الدّاذي (١) الَّذِي كنا نشرب أنا وأنت!! لا تشرب فإني أنا الَّذِي قُتلت في سبيل الله لم أترك أن جلدت عليه حدًّا.
واعلم أن شرب الخمر لو لم يرد الشرع بتحريمه لكان العقل يقتضي تقبيحه، بما فيه من إزالة العقل -الَّذِي به شرف الآدمي عَلَى الحيوانات- فيصير مشاركًا لبقية البهائم، أو أسوأ حالًا منها، فمنهم من يتلطخ بالنجاسات والأقذار والقيء، ومنهنم من يتشبه بالخنزير، أو يقتل أو يجرح فيشبه السّباع الجوارح، كالكلب العقور ونحوه.
أيها الشارب للخمر تنبّه ... لجناياتها فأنت لبيب
إنها للستور هتك، وبالألبا ... ب فتك وفي المعاد ذنوب
ولهذا حرّمها كثير من أهل الجاهلية قبل الإسلام.
قال بعضهم: جاء السكر إِلَى أَحَبّ خلق الله إِلَيْهِ فأفسده. يعني: العقل.
وربما يصير المجنون الَّذِي يصرع أحسن حالًا من السكران، قال أبو إسحاق الفزاري: رأيت مجنونًا يصرع يسوِّي رأس سكران.
ورُئي سعدون المعتوه جالسًا عند رأس شيخ سكران يذبّ عنه، فسئل عنه، فَقَالَ: هذا مجنون، فقِيلَ لَهُ: أنت مجنون أو هو؟ قال: بل هو، قال: ثم قال: لأني صليت الظهر والعصر جماعة ولم يصلّ هو جماعة ولا فرادى، قيل له: هل قلت في ذلك شيئًا؟ قال: نعم.
تركت النّبيذ لأهل النّبيذ ... وأصبحت أشرب ماء قراحًا
_________
(١) في "الأصل": الرأي. والمثبت من كتاب "ذم الهوى" لابن أبي الدُّنْيَا؛ فقد أخرجها ابن أبي الدُّنْيَا (ص ٧٥)، والداذي: حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر. راجع "النهاية" (٢/ ١٤٧).
1 / 281
لأنّ النّبيذ يذلّ العزيز ... ويكسو الوجوه النضارى القباحا
فالواجب المبادرة إِلَى التوبة من جميع المعاصي، فربما فاجأت المنية بغتة عَلَى غير توبة، فيصبح المرء في زمرة الموتى نادمًا مع الخاسرين، وقد تقدم أن الوعيد مشروط بعدم التوبة، وفي حديث أبي هريرة: «لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ شُرْبِهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، والتوبة معروضة بعد ذلك» (١).
كان رجل بنصيبين (٢) يكنّى: أبا عمرو وكان مدمن خمر، فشرب ليلة ثم نام، فاستيقظ مرعوبًا نصف الليل، فَقَالَ: أتاني آت في منامي فَقَالَ لي:
جدّ بك الأمر أبا عمرو ... وأنت معكوف عَلَى الخمر
تشرب صهباء صراحية (٣) ... سال بك السيل ولا تدري
ثم نام فلما كان وقت لفجر مات فجأة.
وسكر آخر فنام عن عشاء الآخرة، وكانت امرأته ابنة عمه، وكانت ديّنة، فجعلت توقظه للصلاة، فلما ألحت عليه حلف بطلاقها البتّة أن لا يصلي ثلاثًا، فلما أصبح كَبُرَ عليه فراق ابنة عمّه، فبقي يرمين لم يصلّ لأجل يمينه، فعرضت له علّة فمات. وفي هذا أنشد بعضهم:
أتأمن أيها السكران جهلًا ... بأن تفجأك في السكر المنيّة
فتضحى عبرة للناس طرًّا ... وتلقى الله من شرّ البريّة
قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (٤).
_________
(١) تقدم تخريجه.
(٢) هي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة عَلَى جادة القوافل من الموصل إِلَى الشام "معجم البلدان" (٥/ ٢٣٣).
(٣) الصهباء: الخمر، سميت بذلك للونها. وصراحية: أي خالصة. "لسان العرب" (١/ ٥٣٢، ٢/ ٥١٠).
(٤) الحجرات: ١١.
1 / 282
وفي الحديث: "النَّدم توبة" (١) فلابدّ من ندم وإقلاع وعزم عَلَى ترك المعاودة بالكلية، أما من عزم عَلَى المعاودة ولو بعد حين فليس بتائب.
قيل لابن المبارك: من مدمن الخمر؟ قال: الَّذِي يشربه اليوم ثم لا يشربه إِلَى ثلاثين سنة، ومن رَأْيُه إذا وجده أن يشربه.
وكثير من العصاة يترك الشرب في الأيام الفاضلة كرمضان فقط، ومن نيته المعاودة بعد انقضائه، وهذا مدمن ليس بتائب، لا سيما إِنَّ عدَّ الأيام، وطال عليه الشهر حتى يعود، ولهذا إذا قرب الشهر جدّ في الشرب ليتودَّع منه، ثم يعاود الشرب عند انقضائه، وأنشد بعضهم:
إذا العشرون من شعبان ولّت ... فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق عن الصّغار
وأقبح من ذلك أخذ بعض الجهلة هذا الكلام من باب الإشارات، ودعواهم أن له شرًّا لا يفهمه إلا الخواص، وأن فيه إشارة إِلَى مبادرة العمر بالطاعة عند اقتراب الأجل.
وأخذ هذا من الكلام قبيح جدًّا، وهو كأخذ الآخر السرّ من قول قائلهم:
رقّ الزجاج ورقت الحمر ... وتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
فإن هذا ظاهره إِنَّمَا يؤخذ منه الفسق، ولكن يدَّعي بعض الجهلة أن فيه سرًّا أراده القائل، وهذا السرّ أقبح من ظاهره، حيث كان ظاهره الفسق، وهذا الباطن المشار إِلَيْهِ وهو أن الخالق والمخلوق اتحدا حتى صارا شيئًا واحدًا، لا يميّز العارف بينهما وهو السرّ المشار إِلَيْهِ عندهم.
_________
(١) أخرجه أحمد (١/ ٤٢٣، ٤٣٣)، وابن ماجه (٤٢٥٢) من حديث ابن مسعود.
1 / 283
فهذا الشعر ونحوه إما أن يؤخذ منه الفسق أو الكفر، وإنما تؤخذ الأسرار الرّبانية من كلام الله وكلام رسوله، أو كلام السلف الصالح أو الأشعار الحِكمية التي فيها الحكمة، والمقصود هنا ذكر التوبة:
يا نداميّ صَحَا القلب صِحَا ... فاطردا عني الصبا والمرحا
هزم العقل جنودًا للهوى ... سادتي لا تعجبوا أن صلحا
زجر الوعظ فؤادي فارعوى ... وأفاق القلب مني وصحا
بادروا التوبة من قبل الردى ... فمناديه ينادينا الوحا (١)
يا هذا، اعرف قدر لطفنا بك، وحفظنا لك، إِنَّمَا نهينا عن المعاصي صيانة لك، وغيرة عليك، لا لحاجتنا إِلَى امتناعك ولا بخلًا بها عليك.
لما عرفتنا بالعقل حرّمنا عليك الخمر لا تستره، شيء به عرفتنا يحسن بك أن تزيله أو تغطيه.
لا كان كلما يقطع المعرفة بيننا وبينك، لا كان كلما يحجب بيننا وبينك.
يا شارب الخمر لا تغفل، يكفيك سكر جهلك! لا تجمع بين خطيئتين.
يا من باشر بعض القاذورات، اغتسل منها بالإنابة وقد زال الدّرن.
طهّروا درن القلوب بدمع العيون فما ينفعها غيرها.
يا من قد درن قلبه بوسخ الذنوب، لو اغتسلت بماء الإنابة لطهرت!
لو شربت من شراب التوبة لوجدته شرابًا طهورًا.
يا أوساخ الذنوب، يا أدران العيون ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ (٢).
مجالس الذكر للمذنبين، شراب المواعظ: شراب المحبّين درياق (٣) المذنبين، ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ (٤).
_________
(١) الوحا: الإسراع. "لسان العرب" (١٥/ ٣٨٢).
(٢) سورة ص: ٤٢.
(٣) الدرياق: الترياق، معرب. وهو دواء السموم. "اللسان" مادة: (دوق)، و(ترق).
(٤) البقرة: ٦٠.
1 / 284
قد أدرنا عليكم اليوم شراب التشويق ممزوجًا بماء التخويف، فبالله لا يقم أحد منكم معكم من هذا المجلس إلا وقد أناب إِلَى الكريم الوهاب.
أليس من أهل الشراب من يبكي، ومنهم من يضحك، ومنهم من يطرب، ومنهم من يتملّق النّاس ويتعلق بهم، ومنهم من تثور نفسه فلا يرضى إلا بأن يطلق أو يضرب بالسيف، ومنهم من ينام.
فهكذا شراب المواعظ يعمل في السامعين: فمنهم من يبكي عَلَى ذنوبه، ومنهم من يضحك لنيل مطلوبه، ومنهم من يضحك فرحًا لمحبوبه، ومنهم من يتشبث بأذيال الواصلين لعله يعلّق خطام راحلته عَلَى قطارهم، ومنهم من لا يرضى حتى يبت طلاق الدُّنْيَا ثلاثًا، أو يقتل هوى نفسه بسيف العزم كالمعربد، ومنهم من لا يدري كالنائم.
أَيَقْظَانُ أَنْتَ اليَوْمَ أَمْ أَنْتَ نَائِمُ ... وكيف يطيق النَّوْمَ حَيْرَانُ هَائِمُ!
فَلَوْ كُنْتَ يَقْظَانَ الفُؤَادِ لَحَرَّقَتْ ... مَحَاجِرَ عَيْنَيْكَ الدُّمُوعُ السَّوَاجِمُ (١)
بَلَ أَصْبَحْتَ فِي النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَقَدْ دَنَتْ ... إلَيْكَ أُمُورٌ مُفْظِعَاتٌ عَظَائمُ
تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتُشْغَلُ بِالمُنَى ... كَمَا سُرَّ بِاللَّذَاتِ فِي النَّوْم حَالِمُ
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... ولَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لك لاَزِمُ
وَتَدْأَبُ فِيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ البَهَائِمُ
وصلى الله عَلَى سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إِلَى يوم الدين، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (٢).
...
_________
(١) السواجم: قَطَران الدمع وسيلانه قليلًا كان أو كثيرًا. "لسان العرب" مادة: (سجم).
(٢) الصافات: ١٨٠ - ١٨٢.
1 / 285