بعض النبلاء كان يُجري على رجل شيئًا، ثم غضب عليه، وحدث أن كتب ابنُه إطلاقاتٍ، ورفعت إليه الإطلاقاتُ، وترك اسم المغضوب عليه، فقال له أبوه: فأين ذكرُ رزقِ فلان؟ فقال: إنك قد كنت غضبْتَ عليه، فقال: يا بنيَّ، غضبي لا يُسقط هبتي. . . إن أباك لا يغضب في النّوال. . .
وحتّى المحتاجين المغضوب عليهم كانت أنفسُهم كريمةً أبيّة، فقد رُوي أن بعضَهم كان يُجري على رجل شيئًا، فغضب عليه، فقطعه، ثم رضيَ عنه فردَّه، فأبى الرجلُ أن يقبلَه وقال: إني كنت أظنُّ أنّ عطاءه مَكْرُمةً، فأما وقد صار غضبُه يقطعه، فلا حاجةَ لي فيه. . وكذلك بلغت بهم مكارمُ الأخلاق أن يعطوا المُعتفين، أكانوا فقراءَ أم أغنياء، فلا يخصّون، وقد رُوي في الخبر: أعطوا السائلَ ولو جاء على فرسٍ، ورُوي أيضًا: كلُّ معروفٍ صدقةٌ، لغنيٍّ أو فقير، ويشبّهون من هذا حاله بالغيث، قال ابن المعتز:
ويُصيب بالجودِ الفقيرَ وذا الغِنَى ... كالغيثِ يَسْقي مُجْدِبا ومَريعا
وقال المتنبي:
ويَدٌ لَها كرَمُ الغَمامِ لأنَّه ... يَسْقِي العِمارَةَ والمكانَ البَلْقَعا
وكذلك تساموا وبلغوا من عبقريّة الروحِ أنْ صاروا يعدّون الانخداع عن المالِ والتَّبالُهَ في ابتذالِه كرمًا، وقالوا: إن الكريم إذا ما خادَعْته انْخدعا. . . وفي ذلك يقول البحتري:
وإذا خادَعْتَه عن مالِه ... عَرَفَ المَسْلَكَ فيه فانْخَدَعْ
ويقول: