دفع إيهام تعارض أحاديث الأحكام في كتاب الطهارة
دفع إيهام تعارض أحاديث الأحكام في كتاب الطهارة
Géneros
دفعُ إيهامِ تعارضِ أحاديث الأحكامِ في كتابِ الطَّهارةِ
أصل هذا الكتاب
رسالة مقدمة إلى قسم الدراسات الإسلامية ضمن متطلبات الحصول على درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية تخصص "حديث وعلومه".
إعداد: رقية بنت محمد بن محارب.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبًا، وصلى الله على النبي الأمين رسول رب العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فإن من فضل الله على عباده هدايتهم لسبيل الحق وإرشادهم للعلم النافع الذي به تأنس النفوس وتزكو الأرواح. وإن من أفضل وأشرف العلوم العلم بالكتاب والسنة وفهمها على وجهها الصحيح بعيدا عن الأهواء والشبه التي يدفع لها مصلحة دنيوية أو يمازجها جهالة أو تعصب مع صد عن اتباع ما عليه سلف الأمة خاصة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
1 / 1
وقد كان يهمني جدا الاختلاف بين العلماء في المسائل الفقهية وما يسببه ذلك من تفرق واختلاف بين الأمة، فنظرت فإذا الاختلاف بينهم ناشيء من اختلافهم في فهم النصوص أو من واختلاف الأحاديث في معانيها ودلالاتها فأردت أن أجمع هذه الأحاديث وأألف بينها ما استطعت لذلك سبيلا. وكان هذا الاهتمام ناشئ معي بداية في مرحلة الماجستير ولذا جعلت بحث متطلب الحصول على الماجستير في هذا الموضوع قدمت عام ١٤١٠ هـ -١٩٨٩م، وقد كان له أثر في الوقوف على مقاصد الشريعة وأسرارها وطرائق العلماء في التفقه والاستدلال وانتفعت كثيرا في الوقوف على علل الأحاديث عند تخريجها والحكم عليها، ولما رغب بعض الأخوات الاطلاع على البحث ونشره وجدت أنه لا يتناسب مع النشر بطوله وطريقته كبحث رسالة علمية لما سيكون فيه من إثقال القارئ بما لا يهمه كثيرا خاصة في الكلام على رجال الإسناد والطرق والمتابعات وأقوال العلماء في الحكم على الحديث فلخصت ذلك ببيان من أخرج الحديث وأقوال بعض أهل العلم في الحكم عليه اختصارا مع إعطاء الحكم الأخير الذي خلصت إليه كباحثة. ومن أراد التوسع فلابد أن يرجع للرسالة العلمية الأصل. ورأيت أن أذكر مقدمة البحث لتعم به الفائدة اسأل الله أن ينفع به من قرأه.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبته
رقية بنت محمد المحارب
الاثنين الخامس عشر من شهر شعبان ١٤٣١هـ
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
1 / 2
فإن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، لذا فقد لاقت من عناية المسلمين ما حفظها، ولا غرو؛ فهي قرينة القرآن، أوتيها رسول الله –ﷺ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليبين للناس ما نُزِّلَ إليهم لعلهم يعلمون فيتقون، جاءت شاملة كاملة، لكن أهل الزيغ والضلال زعموا اختلافها وتعارضها، لمَّا لم يفهموا مرادها، فتشككوا وشككوا من غير تدقيق ولا نظر، فقام من أئمة الحديث مَن بيَّنَ خطأهم وردَّ شبهتهم، فجمع بعض الأحاديث المتعارضة وردَّ تعارضها، وذلك ببيان نسخ بعضها لبعض تارة، أو ترجيح بعضها على بعض، أو التوفيق تارة أخرى.
وممن صنف في ذلك الإمام الشافعي وابن قتيبة وغيرهما، وقد طالعت هذه المصنفات رغبة مني لأن أجد درء تعارض كل حديثين متعارضين فلم أجد.
كما أن أصحاب هذه المصنفات اقتصروا على جزء يسير من الأحاديث التي حفلت بها السنة الشريفة المطهرة، فبقي كثير من الأحاديث ظاهرها التعارض، ولم يجمعوا بينها أو يفندوا تعارضها.
فعزمتُ مستعينة بالله على جمع هذه الأحاديث مستقصية لها ومحققة إياها، ولأجل ترتيب كثير من كتب السنة بحسب الكتب والأبواب الفقهية، كان كتاب الطهارة هو أول كتاب بحثت فيه عن الأحاديث المتعارضة، فوجدته كافيًا لمثل هذه الرسالة حيث وقفت فيه على تسع عشرة مسألة، يتعارض فيها خمسة عشر ومائة حديث.
وقد دفعني إلى البحث في هذا الموضوع أسباب متعددة، أذكر منها:
١- أهمية البحث البالغة لخاصة المسلمين وعامتهم، حيث يزيل اللبس عن أكثر الأمور أهمية في حياة المسلم.
٢- وجود مادة هذا البحث مفرقة بين كتب الفقه والحديث.
٣- وجوب إزالة التعارض عن أحاديث رسول الله –ﷺ الذي يتراءى للقارئ حين يقف على كتب السنة.
٤- أهميته للمكتبة الحديثية والفقهية، فخلوها منه خلل لا يسده غير هذا البحث.
1 / 3
٥- الوقوف على المسائل المختلف فيها في كتاب الطهارة، مما سببه تعارض الأحاديث واختلافها، والخروج برأي راجح في كل مسألة.
٦- معرفة القواعد التي يعتمد عليها في التأليف بين الأحاديث جمعًا أو نسخًا أو ترجيحًا.
٧- معرفة صحيح الأحاديث المتعارضة من سقيمها.
٨- الرد على المشككين في سنة رسول الله ﷺ والطاعنين فيها، ودحض شبههم بما يثلج صدر كل مسلم غيور.
منهجي في هذا البحث:
اتبعت في بحثي الخطوات التالية:
١- جمع الأحاديث المتعارضة ظاهرًا في كتاب الطهارة بعد أن استقرأت أحاديث هذا الكتاب مستعينة بكتب مختلف الحديث أولًا، وبكتب السنة ثانيًا، كما أنني استعنت بكتب أحاديث الأحكام وشروحها ثالثًا، وبكتب الفقه رابعًا.
٢- اختيار الرواية الأنسب معنى لتكون الحديث المخرج سندًا ومتنًا.
٣- ذكر الرواية المختارة بسندها ثم ذكر الكتاب والباب والجزء والصحيفة.
٤- تخريج الرواية المختارة عن نفس الصحابي، فإن كانت الرواية في الصحيحين أو أحدهما لم أبين طرق الحديث، وذلك لأن الطرق إنما تبين للإفادة منها في المتابعات وتقوية الحديث، وما كان في الصحيحين أو أحدهما فلا نحتاج فيه على بيان الطرق لصحة الحديث وثبوته. وإن كان في غير الصحيحين بينت طرق هذا الحديث بالمتابعة على سند الرواية المختارة والمصدر بها.
٥- دراسة رجال الرواية المصدر بها، ببيان عدالتهم واتصال روايتهم.
٦- ذكر أقوال العلماء في الحكم على الحديث سندًا ومتنًا، وليس ذلك على سبيل الاستقصاء، وإنما على سبيل التغليب.
٧- الحكم على الحديث سندًا ومتنًا بعد تتبع الطرق وأقوال العلماء، مع بيان الشواهد التي يمكن أن ترتقي بالحديث أو تغير درجته.
٨- ذكر الأحاديث المعارضة لهذا الحديث بنفس الطريقة التي قدمتها في دراسة الحديث الأول مرورًا بجميع المراحل.
٩- ذكر وجه التعارض بين هذه الأحاديث.
1 / 4
١٠- ذكر أقوال العلماء في درء التعارض بين الأحاديث متوخية الأهمية وزمان العالم، فتارة أذكر قول العالم برمته، وآونة ألَُخِّصه في نقاط، ومرة أخرى أختصره اختصارًا غير مخلٍ برأيه مع الإشارة إلى التصرف فيه.
١١- أذكر ما توصلت إليه في نهاية كل مبحث.
ويشتمل هذا البحث على تمهيد وسبعة أبواب وخاتمة:
أما التمهيد فيشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: معنى التعارض وأسبابُه.
المبحث الثاني: معنى الترجيح وأسبابُه.
المبحث الثالث: المؤلفات السابقة في هذا الموضوع.
وأما الأبواب فهي:
١- باب المياه والنجاسات وفيه تسعة مباحث:
المبحث الأول: أينجس الماء بورود النجاسة عليه؟.
المبحث الثاني: أيغتسل الرجل أو يتوضأ بفضل المرأة؟.
المبحث الثالث: سؤر الكلب.
المبحث الرابع: سؤر الهر.
المبحث الخامس: ما جاء في المني.
المبحث السادس: جلود الميتة.
المبحث السابع: هل تستقبل القبلة أو تستدبر بالبول أو الغائط؟.
المبحث الثامن: كيف تطهر الأرض من البول؟.
المبحث التاسع: البول قائمًا.
٢- باب الآنية وفيه مبحث:
آنية الكفار.
٣- باب الوضوء وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: هل أكل ما مست النار من نواقض الوضوء؟.
المبحث الثاني: هل يتوضأ من مسَّ ذكره أم لا؟.
المبحث الثالث: هل النوم من نواقض الوضوء؟.
المبحث الرابع: التسمية قبل الوضوء.
المبحث الخامس: هل تجب المضمضة والاستنشاق والاستنثار في الوضوء؟.
المبحث السادس: حكم تخليل اللحية الكثة في الوضوء.
المبحث السابع: الاطِّلاء بالنورة.
المبحث الثامن: التمندل (استعمال المنديل بعد الوضوء) .
٤- باب الغسل وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: ماذا يجب على الجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو المعاودة؟.
المبحث الثاني: هل يجب الغسل بالتقاء الختانين دون إنزال؟.
المبحث الثالث: غسل الجمعة.
المبحث الرابع: هل يجب الغسل من تغسيل الميت؟.
المبحث الخامس: هل يجب دلك الرأس في غسل الجنابة؟.
1 / 5
المبحث السادس: التستر عند الغسل الخلوة.
٥- باب السواك وفيه مبحث:
حكم السواك للصائم.
٦- باب الحيض والاستحاضة، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ما يجوز الاستمتاع به من الحائض.
المبحث الثاني: المستحاضة ترد إلى العادة أو إلى التمييز.
المبحث الثالث: كيف تتطهر المستحاضة للصلاة؟.
٧- باب التيمم، وفيه مبحث:
صفة التيمم.
وأما الخاتمة فذكرت فيها ما توصلت إليه من نتائج البحث.
دفع إيهام تعارض أحاديث الأحكام
في كتاب الطهارة
د. رقية بنت محمد المحارب.
بسم الله الرحمن الرحيم
التمهيد
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ويشتمل على معنى التعارض وأسبابه.
المبحث الثاني: ويشتمل على معنى الترجيح وأسبابه.
المبحث الثالث: ويشتمل على المؤلفات السابقة في هذا العلم.
المبحث الأول:
معنى التعارض وأسبابه
معنى التعارض في اللغة:
التعارض مصدر من باب " تفاعل" الذي يقتضي فاعلين فأكثر للاشتراك في أصله المشتق منه، وأصله المشتق منه (ع ر ض) .
قال ابن فارس: " وتقول عارضت فلانًا في السير إذا سرت حياله، وعارضته مثل ما صنع إذا أتيت إليه مثل ما أتى إليك.." (١) .
وقال ابن منظور: "واعترض: انتصب ومنع وصار عارضًا كالخشبة المنتصبة في النهر والطريق ونحوها تمنع السالكين سلوكها.
ويقال: اعترض الشيء دون الشيء أي حال دونه ...
وفي التنزيل " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا" (٢) أي نصبًا لأيمانكم.
قال الفراء: لا تجعلوا الحلف بالله معترضًا مانعًا لكم أن تبروا، فجعل العرضة بمعنى المعترض، ونحو ذلك ... " (٣) .
وقال الفيومي: "وعرض له أمر إذا ظهر ... وعارضت الشيء بالشيء قابلته به" (٤) .
وحاصل هذا أن للتعارض عدة معان:
_________
(١) معجم مقاييس اللغة ٤/٢٦٩-٢٨٠ مادة (ع ر ض) .
(٢) تمام الآية"..بين الناس والله سميع عليم" سورة البقرة آية: ٢٢٤.
(٣) لسان العرب ٧/١٦٥-١٨٧ مادة (ع ر ض) .
(٤) المصباح المنير ٢/٤٠٢-٤٠٤ مادة (ع ر ض) .
1 / 6
١- المقابلة.
٢- المساواة.
٣- الظهور.
والمعنى المراد بالتعارض هنا هو المقابلة على سبيل الممانعة لأنه أنسب بالمعنى الاصطلاحي.
التعريف الاصطلاحي:
إن التعارض عند علماء الحديث يعرف بمختلف الحديث وقد عرفه الخطيب البغدادي فقال:
" معنى التعارض بين الخبرين، والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك، أن يكون موجب أحدهما منافيًا لموجب الآخر" (١) .
وقال بعد هذا التعريف:
" وذلك يبطل التكليف إن كانا خبرين أمرًا ونهيًا وإباحة وحظرًا، أو يوجب كون أحدهما صدقًا والآخر كذبًا إن كانا خبرين، والنبي ﷺ منزه عن ذلك أجمع، ومعصوم منه باتفاق الأمة وكل مثبتٍ للنبوة، وإذا ثبتت هذه الجملة وجب متى علم أن قولين ظاهرهما التعارض، ونفي أحدهما لموجب الآخر، أن يحمل النفي والإثبات على أنهما في زمانين أو فريقين أو على شخصين أو على صفتين مختلفتين، هذا ما لا بد منه مع العلم بإحالة مناقضته ﷺ في شيء من تقرير الشرع والبلاغ" (٢) .
كما عرفه النووي فقال:
" هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرًا فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما " (٣) .
شرح تعريف النووي:
قوله: "حديثان" أخرج القرآن والقياس.
قوله: "متضادان" أي يدل أحدهما على ما يخالف دلالة الآخر، كأن يدل أحدهما على التحريم أو الكراهة، ويدل الآخر على الإيجاب أو الندب أو الإباحة.
قوله: "ظاهرًا" أي أن التعارض لا يكون في حقيقة الأمر.
قوله: "يوفق بينهما" أي يجمع بين دلالتيهما كأن يقال فيما تعارض فيه نهي وإباحة: النهي في حال كذا؛ والإباحة في حال كذا، وذلك بالنظر في الحال التي قيل فيها الحديث.
قوله: "أو يرجح أحدهما" بإعمال أحدهما وإبطال الآخر لأمور في الأول تقوي الأخذ به.
ولما كان علماء الأصول قد تناولوا هذا المبحث بشيء من التفصيل؛ أحال المحدثون على كتب الأصوليين في هذا المبحث كثيرًا.
_________
(١) الكفاية في علوم الرواية ص ٤٣٣.
(٣) التقريب ص ٣٣.
1 / 7
قال النووي مشيرًا إلى ذلك:
" وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون الغواصون على المعاني" (١) .
وقال صاحب توجيه النظر:
" ومبحث التعارض والترجيح من أهم مباحث أصول الفقه وأصعبها، وقد أطلق العلماء في ميدانه الفسيح الأرجاء أعنة أقلامهم، فمن أراد الاستيفاء فعليه بالكتب المبسوطة فيه، غير أنه ينبغي له أن يختار منها الكتب التي لأربابها براعة في نحو الأصول" (٢) .
لذا رأيتُ أن أذكر من تعاريف الأصوليين ما يتضح به معنى التعارض، وسأكتفي بإيراد أشملها، وأقلها من حيث الاعتراض عليها، وهو تعريف الإسنوي، حيث قال:
" التعارض بين الأمرين هو تقابلهما على وجه يمنع كل منهما مقتضى صاحبه" (٣) .
شرح التعريف:
قوله: "تقابل" جنس في التعريف يشمل كل تقابل، سواء أكان بين دليلين أم غيرهما، كتقابل شخص مع شخص.
والمراد بالتقابل هنا: هو أن يدل كل من الدليلين على منافي ما يدل عليه الآخر، وذلك كأن يدل أحدهما على الإيجاب والآخر على التحريم مثلًا.
قوله: "على وجه يمنع.....إلخ" قيد خرج به تقابل الدليلين على وجه لا يمنع ذلك، كأن يتقابل دليل مع دليل يفيد كل منهما ما يفيده الآخر ولا تتوافر فيهما شروط التعارض، وعليه فيكون كل منهما مؤكدًا للآخر" (٤) .
أسباب التعارض:
ذكر الإمام الشافعي ﵀ بعض الأسباب التي من أجلها يتوهم التعارض بين الأحاديث، كما ذكر غيرُه أسبابًا أخرى أضافها إلى ما ذكره الشافعي، منها:
_________
(١) التقريب ص ٣٣.
(٢) توجيه النظر- لطاهر بن صالح الجزائري الدمشقي ص ٢٢٦.
(٣) شرح المنهاج ٢/١١٧.
(٤) التعارض والترجيح- محمد الحفناوي ص ٤٠-٤٢ بتصرف.
1 / 8
١- قد يقول النبي ﷺ القول العام يريد به العام، والعام يريد به الخاص
مثاله:
تعارض نهيه ﷺ فيما يرويه أبو هريرة ﵁ مرفوعًا: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَعَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) (١) .
وكذا قوله: (لَا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا) (٢) .
وكذا قوله: (إنَّ الشّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَها قَرْن الشيطان فإذا ارْتَفَعَتْ فَارَقَها فإذا اسْتوت قَارَنها فإذا زَالَت فارقها فإِذا دنت للغُروب قَارَنها فإِذا غربت فارقها) (٣)، قال عبد الله الصنابحي -راوي الحديث-: " ونهى رسول الله ﷺ عن الصلاة تلك الساعة".
هذه الأحاديث في جملتها تعارض جملة من الأحاديث، كحديث ابن المسيب: (أن رسول الله ﷺ نام عن الصبح فصلاها بعد أن طلعت الشمس، ثم قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله ﷿ يقول: "أقم الصلاة لذكري" (٤) (٥) .
وكحديث جبير بن مطعم: (أن رسول الله ﷺ قال: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَلا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ) (٦) .
وغيرها من الأحاديث التي في معناها (٧) .
قال الشافعي:
_________
(١) أخرجه البخاري (٢/٦١) ومسلم (٦/١١٠) وأحمد (٢/١٩) .
(٢) أخرجه البخاري (٢/٦٠) ومسلم (٦/١١٢) .
(٣) أخرجه النسائي (١/٢٧٥) .
(٤) سورة طه الآية ١٤.
(٥) أخرجه مسلم (٥/١٨١) عن أبي هريرة مطولًا.
(٦) أخرجه البيهقي (٢/٤٥٦) .
(٧) هذه الأحاديث ذكرها الشافعي بأسانيدها، وذكر غيرها، اختصرتُها منعًا من الإطالة، اختلاف الحديث ص ١١٥-١١٧.
1 / 9
" وليس يعدُّ هذا اختلافًا في الحديث، بل بعض هذه الأحاديث يدل على بعض، فجماع نهي النبي ﷺ والله أعلم- عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعدما تبدو وتبزغ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد مغيب بعضها حتى يغيب كلها، وعن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة (١)، وليس على كل صلاة لزمت المصلي بوجه من الوجوه، أو تكون الصلاة مؤكدة فأمر بها، وإن لم تكن فرضًا أو صلاة كان رجل يصليها فأغفلها، فإذا كانت الواحدة من هذه الصلوات صليت في هذه الأوقات بالدلالة عن رسول الله ثم إجماع الناس في الصلاة على الجنائز بعد الصبح والعصر" (٢) .
٢- أن يؤدي المخبر عنه الخبر متقصى، والخبر مختصرًا:
مثاله:
تعارض حديث النهي عن الصيام في السفر وكراهية ذلك مع أحاديث إباحته:
أما أحاديث النهي فقوله ﷺ من حديث كعب بن عاصم: (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ) (٣) .
وحديث جابر ﵁ مرفوعًا: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ وَصَامَ بَعْضُهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ) (٤) .
_________
(١) لحديث أبي قتادة عن النبي ﷺ أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة وقال: (إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة) أخرجه أبو داود (١/٢٨٤) وضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير (١/١٩٩) .
(٢) اختلاف الحديث ص ١١٦.
(٣) أخرجه النسائي (٤/١٧٤، ١٧٥) .
(٤) أخرجه مسلم (٧/٢٢٢) .
1 / 10
وقد عارض الحديثين السابقين وما في معناهما من الأحاديث حديثا أنس وعائشة ﵄.
فعن أنس ﵁:
(سَافَرْنَا مع رسولِ اللَّه ﷺ فَمِنَّا الصائمُ ومنا المُفْطِرُ فلم يَعِبِ الصائمُ عَلَى المُفْطر وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ) (١) .
وعن عائشة ﵂ (إِنَّ حَمْزَةَ قَالَ لِرَسُول اللَّهِ ﷺ يَا رَسُول اللَّهِ ﷺ أَصُومُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ) (٢) .
فهذه الأحاديث تتعارض في ظاهرها مع الأحاديث السابقة، ووجه الجمع بينهما أن يقال: إن الفطر في السفر رخصة وهي لمن يمرض أو يجهد، وإنما وقع التعارض لما لم يسق كعب بن عاصم جميع الحديث وإنما ساق حرفًا منه، وقد ساقه جابر ﵁ مفسرًا فقال:
(كنا مع رسول الله ﷺ زمان غزوة تبوك، ورسول الله ﷺ يسير بعد أن أضحى، إذا هو بجماعة في ظل شجرة، فقال: من هذه الجماعة؟ قالوا: رجل صائم أجهده الصوم، أو كلمة نحو هذه، فقال رسول الله ﷺ: (ليس من البر أن تصوموا في السفر) (٣) .
فاحتمل: ليس من البر أن يبلغ هذا رجل بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة وقد أرخص الله له وهو صحيح أن يفطر.
ويحتمل ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم.
فكعب بن عاصم ساق حرفًا من الحديث، وجابر ساق الحديث بتمامه، فتبين سبب الحديث وبقي القادر على الصيام الذي لا يجهد بذلك على الرخصة إن شاء صام وإن شاء أفطر (٤) .
٣- عدم إدراك الراوي لاختلاف الحال:
مثاله:
_________
(١) أخرجه البخاري (٤/١٨٦) ومسلم (٧/٢٣٤) .
(٢) أخرجه البخاري (٤/١٧٩) .
(٣) أخرجه البخاري (٤/ ١٨٣) .
(٤) اختلاف الحديث ص ٨١-٨٧ بتصرف.
1 / 11
ما وقع من تعارض في أحاديث استقبال القبلة بالبول والغائط فقد روي فيها حديثان ظاهرهما التعارض، وهما حديثا أبي أيوب وابن عمر ﵄.
فعن أبي أيوب الأنصاري ﵁ قال:
(قال رسول الله ﷺ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا " (١) قال أبو أيوب: فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تعالى) (٢) .
وعن ابن عمر ﵁: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ) (٣) .
فأبو أيوب ﵁-سمع من رسول الله ﷺ النهي وجهل الحال التي ورد النهي فيها، وابن عمر ﵁ رأى فعل النبي ﷺ المخالف لقوله، فعلم أن هذه الحال- وهي حال قضاء الحاجة في البناء- غير داخلة في النهي الذي رواه أبو أيوب ﵁ ولم يعلم أبو أيوب ما علم ابن عمر ﵁ فكان ينحرف عن استقبال القبلة في المراحيض، ويستغفر الله ظانًا أن استقبال القبلة مما نهي عنه في كل مكان (٤) .
٤- بعض الرواة يدرك جوابًا لسؤال، ولا يدرك السؤال فيرويه فتخالف روايتُه روايةَ من أدرك السؤال ورواهما جميعًا:
مثاله:
_________
(١) رواه البخاري (١/٢٤٥) وسيأتي تخريجه.
(٢) رواه مسلم (٣/١٥٣) .
(٣) رواه البخاري (١/٢٤٦) .
(٤) تراجع هذه المسألة في الباب الأول من هذا البحث ص:
1 / 12
تعارض حديث أسامة بن زيد ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ) (١)، مع حديث عبادة بن الصامت ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلاَ الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ وَلاَ الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلاَ الشَّعِيرَ بِالشِّعِيرِ وَلاَ التَّمْرَ بِالتَّمْرِ وَلاَ الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلاَّ سْوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشِّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ " (٢) .
فحديث أسامة يفيد أن الربا بالتأخير من غير تقابض هو الربا، وإن كان بغير زيادة، وأما حديث عبادة وما في معناه فيفيد خلاف ذلك، وقد بين الشافعي ﵀ سبب هذا التعارض فقال:
" قد يحتمل أن يكون أسامة ﵁ سمع رسول الله ﷺ يُسئل عن الربا في صنفين مختلفين؛ ذهب بفضة، وتمر بحنطة، فقال: (إنما الربا في النسيئة) فحفظه، فأدى قول النبي ﷺ ولم يؤدِّ مسألة السائل، فكان ما أدى منه عند سمعه أن لا ربا إلا في النسيئة" (٣) .
٥- عدم التمكن من معرفة صحيح الحديث من سقيمه، فيعارض الصحيح بالسقيم، والسقيم لا يخلو أن يكون وهمًا أو غلطًا أو كذبًا أو وضعًا:
مثاله:
ما ورد في سؤر الهر، فقد روي من حديث أبي قتادة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ " (٤) .
ويعارضه ما روي من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: " لِطهورِ
_________
(١) رواه مسلم (٥/٥٠) .
(٢) أخرجه الترمذي (٣/٥٣١) .
(٣) اختلاف الحديث ص ٢٠٤ بتصرف.
(٤) سيأتي تخريجه ص:
1 / 13
إِنَاءِ أَحدِكُم إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ الأُولَى بِالتُّرَابِ، وَالْهِرَّةُ مِثْلُ ذَلِكَ " (١) .
فهذه الأحاديث يظن من لم يعرف صحتَها من سقمِها تعارضَها، فإذا درس هذه الأحاديث علم ضعف الحديث الثاني وبه يتبين أنه لا تعارض بين الحديثين.
٦- عدم فهم النص، وحمله على غير ما عني به:
مثاله:
ما روي عن رسول الله ﷺ من قوله: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَم عَلَى صُورَة الرَّحْمَن ".
فإن هذا الحديث رواه أحد الرواة بهذا اللفظ؛ وذلك لأنه فهم فهمًا خاطئًا للنص الذي سمعه وهو قوله: "
إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " (٢) .
فإن الراوي باللفظ الأول فهم أن هاء الكناية تعود إلى لفظ الجلالة، فغير اللفظ على ما فهم، وليس ما فهمه صحيحًا؛ فإن هاء الكناية تعود إلى العبد الذي دل عليه الحديث الآخر، وذلك أن النبي -صلى الله عله وسلم- مرّ برجل يضرب ابنه أو عبده في وجهه لطمًا ويقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال ﷺ: " إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ عَبْدَه فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " (٣) .
وهذا يوقع في اللبس والإشكال المتحصل من رواية من لم يفهم النص.
المبحث الثاني:
معنى الترجيح وأسبابه
أولًا: معنى الترجيح:
الترجيح في اللغة:
أصل الترجيح الراء، والجيم، والحاء، أصل يدل على الرزانة والزيادة، والميل والثقل والتذبذب.
_________
(١) سيأتي تخريجه ص:
(٢) أخرجه مسلم (١٦/١٦٥) .
(٣) مشكل الحديث لابن فورك ص ٦، ٧.
1 / 14
يقال: رَجَحَ الشيءَ بيده، رَزَنَه ونظر ما ثقله، ورَجَحَ الميزانُ إذا ثقلت كفَّتُه بالموزون، ورَجَحَ في مجلسه يرجُحُ: ثقل فلم يخِفّ، وترَجَّحَتْ به الأرجوحة مالت، وترَجَّح: تذبذب، والترجُّحُ: التذبذب، وراجحته فرجحته أي كنت أرزنَ منه (١) .
الترجيح في الاصطلاح:
لم يعرف المحدثون الترجيح بل أحالوا في ذلك على كتب الأصول التي ذكرت له تعاريف كثيرة لعدد من العلماء اخترت أجمعها وأمنعها وهو تعريف الآمدي، عرَّفه بقوله:
" أما الترجيح فعبارة عن: اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر.
فقولنا: "اقتران أحد الصالحين" احتراز عما ليسا بصالحين للدلالة، أو أحدهما صالح والآخر ليس بصالح، فإن الترجيح إنما يكون مع تحقق التعارض ولا تعارض مع عدم الصلاحية للأمرين أو أحدهما.
قولنا: "مع تعارضهما" احتراز عن الصالحين اللذين لا تعارض بينهما، فإن الترجيح إنما يطلب عند التعارض لا مع عدمه، وهو عام بالمتعارضين مع التنافي في الاقتضاء، كالأدلة المتعارضة في الصور المختلف فيها نفيًا وإثباتًا.
وقولنا: "بما يوجب العمل بأحدهما وإهمال الآخر" احتراز عما اختص به أحد الدليلين عن الآخر من الصفات الذاتية أو العرضية، ولا مدخل له في التقوية والترجيح" (٢) .
كما عرَّفه الإمام الرازي بأنه:
" تقوية أحد الطريقين على الآخر ليعلم الأقوى، فيعمل به، ويطرح الآخر ".
وقال شارحًا للتعريف:
" وإنما قلنا "طريقين" لأنه لا يصح الترجيح بين أمرين إلا بعد تكامل كونهما طريقين، لو انفرد كل واحد منهما، فإنه لا يصح ترجيح الطريق على ما ليس بطريق" (٣) .
_________
(١) لسان العرب (٢/٤٤٥، ٤٤٦) مادة (ر ج ح)، المصباح المنير (١/٢١٩) مادة (ر ج ح)، القاموس المحيط (١/٢٢٩)
مادة (رج ح) .
(٢) الإحكام في أصول الأحكام (٤/٢٣٩) .
(٣) المحصول ٢/القسم الثاني ص ٥٢٩.
1 / 15
ثانيًا: أسباب الترجيح ووجوهه:
إن التعارض إذا وقع بين حديثين نظر؛ فإن كان بينهما نسخ-وذلك بمعرفة التاريخ- أبطل العمل بالأول وعمل بالآخر، فإن لم يعرف التاريخ نظر؛ فإن أمكن الجمع بينهما عمل به، فإن لم يمكن الجمع ولم يعرف التاريخ تعين المصير إلى ترجيح أحدهما على الآخر.
والترجيح له أسباب ووجوه كثيرة، منها ما يكون باعتبار السند، ومنها ما يكون باعتبار المتن.
وسأبدأ بذكر الأسباب التي تكون باعتبار السند، وهي إما تعود إلى الراوي وإما إلى الرواية، وإما إلى المروي، وإما إلى المروي عنه.
أما ما يعود إلى الراوي فأسباب منها:
١- أن تكون رواة أحدهما أكثر من رواة الآخر، فما كان رواته أكثر يكون مرجحًَا، لأنه أغلب على الظن من جهة أن احتمال وقوع الغلط والكذب على العدد الأكثر أبعد من احتمال وقوعه في العدد الأقل، ولأن خبر كل واحد من الجماعة يفيد الظن.
ولا يخفى أن الظنون المجتمعة كلما كانت أكثر كانت أغلب على الظن حيث ينتهي إلى القطع، ولهذا فإنه لما كان الحد الواجب في الزنا من أكبر الحدود وآكدها؛ جعلت الشهادة عليه أكثر عددا من غيره، وأن النبي ﷺ لم يعمل بقول ذي اليدين (أَقُصِرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ) (١)، حتى أخبره بذلك أبو بكر وعمر ﵄.
٢- أن يكون راوي أحد الحديثين مشهورًا بالعدالة والثقة بخلاف الآخر، أو أنه أشهر بذلك، فروايته مرجحة لأن سكون النفس إليه أشد والظن بقوله أقوى.
نحو: ما إذا اتفق مالك بن أنس وشعيب بن أبي حمزة في الزهري؛ فإن شعيبًا وإن كان حافظًا ثقة غير أنه لا يوازي مالكًا في إتقانه وحفظه، ومن اعتبر حديثهما وجد بينهما بونًا بعيدًا.
٣- أن يكون أحد الراويين متفقًا على عدالته والآخر مختلفًا فيه، فالمصير إلى المتفق عليه أولى.
_________
(١) أخرجه البخاري (١/٥٦٥) .
1 / 16
مثاله: حديث بسرة بنت صفوان في مس الذكر مع ما يعارضه من حديث طلق، فحديث بسرة رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة بن الزبير وليس فيهم إلا من هو عدل صدوق متفق على عدالته، وأما رواة حديث طلق فقد اختلف في عدالتهم، فالمصير إلى حديث بسرة أولى (١) .
٤- أن يكون أحد الراويين قد عمل بما روى والآخر خالف ما روى، فمن لم يخالف روايته أولى لكونه أبعد عن الكذب بل هو أولى من رواية من لم يظهر منه العمل بروايته.
٥- أن يكون أحد الراويين أعلم وأضبط من الآخر أو أورع وأتقى، فروايته أرجح لأنها أغلب على الظن.
٦- أن يكون أحد الراويين حال روايته ذاكرًا للرواية عن شيخه غير معتمد في ذلك على نسخة سماعه أو خط نفسه بخلاف الآخر، فهو أرجح لأنه يكون أبعد عن السهو والغلط.
٧- أن يكون راوي أحد الحديثين حين سمع الحديث كان بالغًا، والثاني كان صغيرًا حال الأخذ، فالمصير إلى حديث الأول أولى؛ لأن البالغ أفهم للمعاني وأتقن للألفاظ، وأبعد من غوائل الاختلاط وأحرص على الضبط وأشد اعتناءً بمراعاة أصوله من الصبي، ولأن الكبير سمعه في حال لو أخبر به لقبل منه بخلاف الصبي، ولهذا فإن بعض أهل المعرفة بالحديث لما ذُوكِر في أصحاب الزهري رجح مالكًا على سفيان بن عيينة لأن مالكًا أخذ عن الزهري وهو كبير، وابن عيينة إنما صحب الزهري وهو صغير دون الاحتلام.
٨- أن يكونا مرسلين وقد عرف من حال أحد الراويين أنه لا يروي عن غير العدل كابن المسيب ونحوه، بخلاف الآخر، فرواية الأول تكون أولى (٢) .
_________
(١) سيأتي الحديث في مسألة مس الذكر بالتفصيل في باب الوضوء ص
(٢) وذلك لمن يحتج بالمرسل.
1 / 17
٩- أن يكون سماع أحد الراويين تحديثًا وسماع الثاني عرضًا، فالأول أولى بالترجيح، إذ لا طريق أبلغ من النطق بالثبوت، ولهذا قدم بعضهم عبيد الله بن عمر في الزهري على ابن أبي ذئب لأن سماع عبيد الله تحديث وسماع ابن أبي ذئب عرض (١) .
١٠-أن يكون أحد الراويين مباشرًا لما رواه والثاني حاكيًا، فالمباشر أعرف بالحال، مثاله: حديث ميمونة (أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَكَحَهَا وَهُوَ حَلاَلٌ) (٢)، وبعضهم رواه (وهو حرام) (٣)، فممن رواه (نكحها وهو حلال) أبو رافع، وممن رواه (نكحها وهو حرام) ابن عباس، وحديث أبي رافع أولى بالتقديم لأن أبا رافع كان السفير بينهما فكان مباشرًا للحال، وابن عباس كان حاكيًا (٤)، ولهذا أحالت عائشة على علي لما سألوها عن المسح على الخفين وقالت: " سلوا عليًا فإنه كان يسافر مع النبي ﷺ" (٥) .
١١- أن يكون أحد الراويين صاحب القصة فيرجح حديثه لأن صاحب القصة أعرف بحاله من غيره وأكثر اهتمامًا، ولذلك رجع نفر من الصحابة ممن يرى الماء من الماء إلى حديث عائشة ﵂ من التقاء الختانين (٦) .
١٢- أن يكون أحد الراويين أحسن سياقًا لحديثه من الآخر وأبلغ استقصاءً فيه، لأنه قد يحتمل أن يكون الراوي الآخر سمع بعض القصة فاعتقد أن ما سمعه مستقل بالإفادة، ويكون الحديث مرتبطًا بحديث آخر لا يكون هذا الراوي قد تنبه له، ولهذا من ذهب إلى الإفراد في الحج قدم حديث جابر (٧) لأنه وصف خروج النبي ﷺ من المدينة مرحلة مرحلة ودخوله مكة وحكى مناسكه على ترتيبه وانصرافه من المدينة، وغيره لم يضبطه ضبطه.
_________
(١) هذا عند من يقدم السماع على العرض.
(٢) أخرجه مسلم (٩/١٩٦، ١٩٧) .
(٣) أخرجه مسلم (٩/١٩٦) .
(٤) المراد بالنكاح وهو حلال أي عقد عليها وليس معناه دخل بها.
(٥) أخرجه مسلم (٣/١٥٧) .
(٦) سيأتي الكلام عن هذه المسألة مفصلًا من باب الغسل ص
(٧) أخرجه البخاري (٣/٤٢٣) .
1 / 18
١٣- أن يكون أحد الراويين أكثر ملازمة لشيخه، فإن المحدث قد ينشط تارة فيسوق الحديث على وجهه ويتكاسل في بعض الأوقات فيقتصر على البعض أو يرويه مرسلًا، وهذا الضرب يوجد كثيرًا في حديث مالك بن أنس، ولهذا قدم يونس بن يزيد الأيلي في الزهري على النعمان بن راشد وغيره من الشاميين أصحاب الزهري، لأن يونس كان كثير الملازمة للزهري حتى كان يلازمه في أسفاره، وطول الصحبة له زيادة تأثير فيرجح به.
١٤- أن يكون أحد الراويين فقيهًا والآخر غير فقيه، أو أفقه وأعلم بالعربية، فخبره يكون مرجحًا لكونه أعرف بما يرويه لتمييزه بين ما يجوز ومالا يجوز.
١٥- أن يكون رواة أحد الحديثين ممن لا يجوزون نقل الحديث بالمعنى ورواة الآخر يرون ذلك، فحديث من يحافظ على اللفظ أولى لأن العلماء اختلفوا في جواز نقل الحديث بالمعنى مع اتفاقهم على أولوية نقله لفظًا، والحيطة الأخذ بالمتفق عليه دون غيره.
١٦- أن يكون أحد الراويين لم يضطرب لفظه والآخر قد اضطرب لفظه، فيرجح خبر من لم يضطرب لفظه لأنه يدل على حفظه وضبطه وسوء حفظ صاحبه (١) .
هذا ما يعود إلى الراوي، أما ما يعود إلى الرواية فأسباب الترجيح فيها كثيرة، منها:
١- أن يكون أحد الخبرين متواترًا والآخر آحادًا، فالمتواتر لتيقنه أرجح من الآحاد لكونه مظنونًا.
٢- أن يكون أحد الخبرين مسندًا والآخر مرسلًا، فالمسند أولى لتحقق المعرفة براويه والجهالة بالراوي الآخر، ولهذا تقبل شهادة الفرع إذا عرف شاهد الأصل، ولا تقبل إذا شهد مرسلًا.
_________
(١) الإحكام في أصول الأحكام ٤/٢٤٢-٢٤٥ بتصرف، وثمة أسباب لم أذكرها بغية الاختصار وليست في الأهمية بمثل ما سبق. وللاستزادة ينظر " التقييد والإيضاح" ص٢٤٦، ٢٤٧.
1 / 19
٣- إن يكون ثابتًا بطريق الشهرة والآخر بالإسناد إلى كتاب من كتب المحدثين، فالمسند إلى كتب المحدثين أولى من جهة أن احتمال تطرق الكذب إلى ما دخل في صنعة المحدثين وإن لم يكن في كتبهم المشهورة بهم والمنسوبة إليهم أبعد من احتمال تطرقه إلى ما اشتهر وهو غير منسوب إليهم، ولهذا فإن كثيرًا ما اشتهر الخبر مع كذبه ورد المحدثين له.
٤- أن تكون رواية أحدهما لقراءة الشيخ عليه والآخر بقراءته هو على الشيخ أو بإجازته، أو مناولته له، أو بخط رآه في كتاب، فالرواية فيه بقراءة الشيخ أرجح، لأنه أبعد عن غفلة الشيخ عما يرويه.
٥- أن يكون أحد الخبرين أعلى إسنادًا من الآخر فيكون أولى، لأنه كلما قلَّت الرواة كان أبعد عن احتمال الغلط والكذب.
٦- أن يكون أحد الخبرين قد اختلف في كونه موقوفًا على الراوي، والآخر متفق على رفعه إلى النبي –ﷺ، فالمتفق على رفعه أولى لأنه أغلب على الظن.
٧- أن تكون إحدى الروايتين بلفظ النبي ﷺ والأخرى بمعناه، فرواية اللفظ أولى لكونها أضبط وأغلب على الظن بقول النبي ﷺ.
٨- أن تكون الراويتين بسماع من غير حجاب والأخرى مع الحجاب، كراوية القاسم بن محمد عن عائشة ﵂ من غير حجاب لكونها عمة له (أن بريرة عتقت وكان زوجها عبدًا) (١) فإنها تقدم على رواية أسود عنها (أن زوجها كان حرًا) (٢) لسماعه عنها مع الحجاب لأن الرواية من غير حجاب شاركت الرواية مع الحجاب في السماع وزادت تيقن عين المسموع منه.
٩- إذا كانت إحدى الروايتين قد اختلفت دون الأخرى فالتي لا اختلاف فيها أولى لبعدها عن الاضطراب.
_________
(١) أخرجه البخاري (٩/٤٠٦) .
(٢) أخرجه الترمذي (٣/٤٥٢) .
1 / 20