El Estado Otomano antes y después de la Constitución
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Géneros
ذلك نزر من بحر من مساوئ حكم مضى، وإني أختم هذا الباب بكلمة لرجل من جهابذة رجال العلم وفحول الشعراء في سوريا. إذ قلت له يوما: ما لكم معشر الكتاب ها هنا قد أقعدكم الخمول، ونحن فئة صغيرة منكم رحلنا عنكم إلى مصر، وكلنا من تلامذتكم؛ فكان منها الكاتب المجيد والمؤلف والشاعر المفيد الضارب في رياض الحقيقة ومسارح الخيال. وأما أنتم فلا تنفحوننا إلا بكل تافه قليل الجدوى. فقال: ابعث لنا بنفحة واحدة من نسمات حريتكم، وناقشنا بعد ذلك الحساب. فأفحمني، وقلت: حسبنا الله، رب عجل بفرج من عندك.
والآن قل لأمثال هذا الجهبذ النحرير في كل أطراف البلاد قد استجيب دعاؤكم، وفكت القيود، فأرونا نفثات يراعكم وأبرزوا لنا مكنونات صدوركم ووافونا بكل جديد مفيد، وسطروا لنا علوم العصر، وسروا عن أنفسكم وأفيدوا أبناء جنسكم وأطلقوا عنان الأقلام، ولكن الأمل وطيد أن نشوة السرور لا تأخذكم، فتتخطوا جادة اليقظة والاعتدال؛ لئلا يختلط النفع بالضر والخير بالشر.
حرية الكتابة
أو البوستة والتلغراف
إن الخلاف الذي قام هذه الأيام بين الحكومة العثمانية وإيطاليا، قد كشف عن حقيقة في غاية الغرابة؛ طلبت الحكومة الإيطالية أن يؤذن لها بفتح مكتب بريد في القدس أسوة لها بسائر الدول الأوروبية الكبرى. ولما لم يجب طلبها أرعدت وأبرقت وحشدت الأساطيل فلم تجد الدولة، وإن شئت فقل رجال «المابين»، سبيلا إلى الرفض؛ فسلموا بمطالب إيطاليا خصوصا بعد أن اتضح لهم انحياز جميع الدول إلى جانب الإيطاليان حتى صديقتنا دولة الألمان. وليس هنا موضع البحث في مبلغ العدل من هذا الطلب، ولكن المرام بيان مبلغ الظلم ووقوعه في نفوس العثمانيين بصرف النظر عن حق مكتسب لأجنبي، أو مطمع يسعى إلى بلوغ غايته منه.
كانت إيطاليا تلح في الطلب، والدولة تعتذر عن الإجابة، ولم يكن أحد من ذوي المصالح في البلاد العثمانية، حتى المخلصين المتفانين في حبها القاطرة قلوبهم دما على كل ذرة حق تسلب منها، لم يكن منهم حتى ولا واحد يدعو لدولته بالفوز خوفا من أن تتذرع بذلك إلى إلغاء مكاتب البريد الأجنبية. أفليس ذلك من غرائب الوطنية، وإن عد في غير زمن الاستبداد خيانة فادحة؟
كان العثمانيون جميعا يعلمون أن مكاتب البرد الأجنبية منتشرة في ثغور البلاد من الأستانة على البوسفور إلى الدردنيل في مرمرا، إلى ثغور البحر المتوسط كأزمير وسلانيك، حتى بيروت ويافا إلى البحر الأحمر، فخليج فارس حتى البصرة. وبعضها في قلب البلاد البعيدة عن الثغور كبغداد والقدس، وأن بعض هذه البرد يخترق الصحراء من بغداد إلى الشام. يعلمون كل ذلك وينظرون مرارا إلى ثائر الخلاف بين دولتهم والدول الأخرى بشأن رقابة تلك المكاتب، وهم يدعون للدول الأجنبية بالفوز من صميم أفئدتهم مع علمهم أنها حقوق يسلبونها. ولم ذلك؟ لأنهم كانوا يعلمون أنه بزوال تلك المكاتب من بلادهم تزول آخر بقية من حرية المكاتبة؛ فيتعطل ما لم يتعطل بعد من مصالحهم.
ولا يسعنا هنا إلا الإقرار أن لتلك المكاتب فضلا عظيما يحفظ علاقة الأحرار بعضهم مع بعض وترويج كثير من الأعمال التجارية والسياسية.
ولقد عرفنا كثيرين من رجال الحكومة الذين كانوا يعملون في الظاهر على إلغاء تلك المكاتب، وهم في الباطن يؤيدون مطالب الأجانب خوفا على مراسلاتهم وتفاديا مما ربما ينال علاقاتهم السرية من الضرر.
وهكذا فقد كان لهذه البرد مؤيد من المخلص والخائن على حد سوى؛ أما المخلص فلما تقدم من الأسباب، وأما الخائن؛ فلأنها كانت الوسيلة الوحيدة لإيداع مصارف أوروبا وأميركا الملايين الصفر المقطرة من دماء الأهالي.
Página desconocida