42

وننتقل بعد ذلك إلى موضوعنا الرئيسي، وهو الذاتية الشخصية التي ننسبها إلى الفرد الواحد من الإنسان، وسنرى أن الأمر لا يختلف هنا عنه في النبات والحيوان والأشياء الجوامد من طبيعي ومصنوع؛ فالذاتية التي نصف بها عقل الإنسان، بأن نقول عن ذلك العقل إنه كائن واحد ذو وجود متصل، هي الأخرى وهم كالذاتية التي ننسبها وهما لسفينة أو منزل أو شجرة أو نهر.

انظر إلى نفسك من باطن، وستلحظ حالات فرادى من حالات الإدراك، وسترى في وضوح كل حالة من هذه الحالات وهي مفردة قائمة بذاتها، متميزة من سواها، مختلفة عن سابقتها ولاحقتها، ولو كانت «الذاتية» رباطا يربط كل هذه الحالات الإدراكية في «عقل» واحد لما كانت الفوارق والمميزات بينها بكل هذا الوضوح؛ إن ما نسميه ب «الذاتية» ليس دمجا لهذه الإدراكات المختلفة المتتابعة، بل هو لا يعدو أن يكون نوعا من الترابط بين أفكارنا، بحيث تجتمع أو تفترق، دون أن تضيع فردية كل فكرة على حدة؛ فمهما اشتدت الرابطة بين فكرتين، كرابطة السببية مثلا بين الفكرة التي نقول عنها إنها سبب والفكرة التي نقول عنها إنها مسبب لها ، فإن هذه الرابطة الشديدة لا تجعل من الفكرتين فكرة واحدة، بل تظل كل فكرة كائنا قائما بذاته، يمكن أن نراه وحده مستقلا معزولا عن غيره؛ إن أفكارنا لترتبط بعضها ببعض، ويدعو بعضها بعضا على أسس ثلاثة: فإما أن يكون بين الفكرتين تشابه، أو أن يكون بينهما تجاور، أو أن ترتبط إحداهما بالأخرى بالرباط السببي (على أن نفهم «السببية» بالمعنى الذي يقصد إليه هيوم)؛ وليست «الذاتية» رباطا آخر يضاف إلى هذه الروابط الثلاثة، بل هي كلمة كل معناها في الواقع هو أننا حين ننتقل بخيالنا من فكرة إلى فكرة، يكون الانتقال ميسرا سهلا، لشدة ما بين هذه الأفكار من صلة سلست بالتكرار والتعود؛ والذي أسلس هذه الصلة بين الأفكار ومهد الفواصل بينها بحيث أصبحت كأنها ليست قائمة هناك تعوق الانتقال من فكرة إلى فكرة، هو - كما قلنا - تشابه الأفكار حينا، وتجاورها حينا آخر، ورابطة السببية بينها حينا ثالثا.

92 (8) العاطفة وتحليلها (8-1) تقسيم العواطف

لعل البحث في العواطف أن يكون أضعف جانب في فلسفة هيوم، وربما أحس بهذا الضعف هيوم نفسه؛ فقد كان اختص موضوع العواطف بكتاب من الكتب الثلاثة التي كان يتألف منها مؤلفه الأول «رسالة في الطبيعة البشرية»، وكانت هذه الكتب الثلاثة على التوالي هي: الكتاب الأول في العقل البشري، والكتاب الثاني في العواطف، والكتاب الثالث في الأخلاق؛ ولكن «الرسالة» لم تصب نجاحا عند القراء أو عند النقاد، فصمم هيوم على أن يعرض آراءه نفسها التي في «الرسالة» عرضا آخر، لعله يسترعي به الأنظار هذه المرة، فأخرج الجزء الخاص بالعقل البشري بادئ ذي بدء، أخرجه في كتاب مستقل جعل عنوانه «بحث في العقل البشري»، وذلك بعد أن لخص آراءه وركزها وزادها توضيحا؛ ثم عقب على ذلك بعد حين بالجزء الخاص بالأخلاق؛ إذ أخرجه كذلك في كتاب مستقل جعل عنوانه «بحث في مبادئ الأخلاق»، وترك الجزء الخاص بالعواطف، لم يفكر أول الأمر في إعادة نشره، حتى أصبح مسموع الصوت واسع الشهرة، فأخذ عندئذ يراجع الجزء الخاص بالعواطف من «رسالته» لعله مستطيع أن يخرجه هو الآخر في «بحث» مستقل كما فعل في «العقل» وفي «الأخلاق»، لكنه آخر الأمر اكتفى بأن يلخص آراءه عن «العواطف» - لا في كتاب مستقل - بل في مقال يضيف إليه مقالات أخرى في موضوعات مختلفة، وهاك خلاصة موجزة لوجهة نظره في موضوع «العواطف».

يستخدم هيوم لفظ «العواطف» بمعنى كان سائدا في أيامه، وهو يختلف عن المعنى المعروف للكلمة بين علماء النفس في يومنا هذا؛ إذ يستعمل اللفظ ليشمل كل صنوف الغرائز والدوافع النفسية والميول والرغبات والانفعالات بالإضافة إلى ما يسمى اليوم ب «العواطف»؛ لا بل إن هيوم ليستعمل هذا اللفظ ليشمل هذه الجوانب كلها في الإنسان والحيوان على السواء؛ ومع ذلك فهو لا يريد للفظ «العواطف» أن يشمل في معناه الشعور باللذة والشعور بالألم؛

93

إذ يجعل هذين الشعورين ضربين من ضروب «الانطباعات الحسية» يختلفان عن سائر الانطباعات وإن يكونا مصاحبين لها؛ ذلك أن «هنالك ثلاثة أنواع من الانطباعات الحسية تحملها لنا الحواس؛ أولها تلك الانطباعات التي تطبعنا بها الأجسام من حيث شكلها وحجمها وحركتها وصلابتها؛ وثانيها الانطباعات التي تحدثها الألوان والطعوم والروائح والأصوات والحرارة والبرودة؛ وثالثها مشاعر الألم واللذة التي تنشأ من التقاء الأشياء بأجسامنا، كالألم الذي يحدث - مثلا - إذا ما جرح الجسم قاطع من الصلب وما شابه ذلك»،

94

لكنه يعود في موضع آخر من «الرسالة» فيضيف إلى هذا النوع الجسدي من اللذة والألم نوعا آخر ينشأ عن تأملنا لفكرة في أذهاننا وما إلى ذلك من حالات نفسية تشيع في الإنسان شعور الطمأنينة والرضى، أو شعور القلق والنفور؛ على أن شعور اللذة والألم - جسديا كان أو نفسيا - ليس دائما من طراز واحد، بل هو صنوف كثيرة مختلفة، إن كان بينها من التشابه ما يبرر لنا أن نطلق عليها جميعا اسما واحدا، هو «اللذة» أو «الألم»، فإن بينها بعد ذلك اختلافات بعيدة، «فالقطعة الجيدة من الموسيقى، والزجاجة من الخمر الجيد، كلاهما يحدث فينا شعورا باللذة، بل إن جودتهما نفسها إنما تتقرر بهذه اللذة التي يحدثها كل منهما، لكن هل يجوز لنا بناء على ذلك أن نصف الواحدة منهما بما نصف به الأخرى، فنصف الخمر بأنه منسجم النغم، ونصف الموسيقى بالنكهة الطيبة؟»

95

Página desconocida