El golpe de Alejandría
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
Géneros
Stephenson
ابن صاحب المخترعات البخارية المشهور، ولكنها لم تتقدم خطوة وراء البحث في إمكان التنفيذ وتقدير التكاليف. وظل الاعتقاد الغالب على غير المختصين أن المشروع «مخرقة» أو حيلة لابتزاز المال كما قال بالمرستون في مجلس النواب الإنجليزي حين أخرجه بعض الأعضاء لتقاعده عن تشجيع الشركة التي تأسست لفتح القناة، ويغلب على الظن أن مصلحة ستيفنسن الخبير بالسكك الحديد هي التي زينت له تفضيل الاتصال بالخطوط الحديدية، وعليه اعتمد بالمرستون.
واهتم التجار والمهندسون الإنجليز بإحياء الطريق المصري لنقل البضائع والمسافرين من الهند إلى إنجلترا، وساورهم في الوقت نفسه أمل الاتفاق على حفر القناة. وكان سفيرهم في مصر «جورج بلدوين» من أصحاب الخيال الشعري فسير سفينة من إنجلترا إلى الإسكندرية وأخرى من الهند إلى السويس وصعد ذات يوم إلى قمة الهرم الأكبر ومعه ثلاث قوارير، إحداها مملوءة بماء النيل والثانية بماء التامز والثالثة بماء الكنج، وشرب مع أصحابه نخب الصداقة بين الأنهر الثلاثة. ولكن مشروعه حبط في ذلك الحين لامتناع الآستانة عن منح الرخصة الضرورية لإباحة الملاحة في البحر الحمر. ثم عاود رجال شركة الهند الشرقية مسعاهم عند «محمد علي الكبير» لاستئناف السير في الطريق البرية بين السويس والإسكندرية، فلم تثبت لهم فائدة الطريق البرية في اختصار الوقت والكلفة إلا في أواخر سنة 1845. واستقر الرأي أخيرا على اتخاذ مرسيليا محطا لبواخر الشركة بعد أن كانت ترسي بواخرها في تريسته وتنقل البضائع منها إلى الشواطئ البلجيكية، ويشاهد إلى اليوم في ميناء السويس تمثال «توماس وجهورن» صاحب المساعي التي عاد بفضلها طريق التجارة البرية إلى الأرض المصرية، وكان الرجل يعزو ذلك الفضل إلى تشجيع «محمد علي» وموالاته برعايته، ويستحث قومه على العرفان بجميله، فاجتمعت نخبة من جلة القوم وأعربت عن شكر الأمة الإنجليزية لتلك الرعاية المتوالية، وأهدت إليه نوطا نقشت صورته على أحد وجهيه وكتبت على الوجه الآخر صيغة الإهداء: «إلى نصير العلم والتجارة والنظام، حامي رعايا الدول المتنافرة وأموالها وفاتح طريق البر إلى الديار الهندية.»
وكان تقديم هذا الاعتراف «ذي الوجهين» في سنة 1840 نفس السنة التي وقفت فيها إنجلترا مع الدول «المتنافرة» لكي تنسى تنافرها وتتفق على صد «محمد علي» عن أبواب الآستانة.
لقد كان «محمد علي الكبير» يعلم بثاقب نظره أن هذه الدول «المتنافرة» تتفق عليه إذا سنحت لها الغرة منه أو من خلفائه، وقد سمع منها جميعا طلبا بعد طلب في مسألة القناة بعينها، فلم تكن إنجلترا ولا فرنسا وحدهما صاحبتي الغرض الأكبر في هذه الطريق، بل حدث أن «مترنيخ» قطب السياسة الأوروبية في عصر نابليون أرسل إليه من يقنعه بفتح القناة؛ لأن النمسا في ذلك العصر كانت تشرف على الشواطئ الإيطالية، وقد تلقى «مترنيخ» مذكرة بهذا الطلب من وزير دفاعه «الكونت فيكلمونت» (1843) وجاء رسول النمسا إلى القاهرة ومحمد علي في الفيوم فلم ينتظر عودته بل ذهب إليه ليعرض مطلبه في ساعة صفو وخلو من التكاليف، فكان جواب محمد علي، كما كان جوابه لمن فاتحوه في الأمر من قبل ومن بعد «أن القناة تفتح - إن فتحت - بمال مصر وعملها ولا يكون ذلك قبل اتفاق الدول على حيدة مصر والقناة.»
ومن نقائض مصر الخالدة أن مشروع القناة جذب إليه غلاة الاشتراكيين وأقطاب رءوس الأموال والصناعات في وقت واحد، فكان الفضل في تصحيح الأخطاء الهندسية التي صرفت الأنظار عن المشروع راجعا إلى أتباع «سان سيمون» كما تقدم، وكان خليفته «آنفانتين» داعية القناة الأكبر في الدوائر العلمية والمالية، وكانت دوائره العلمية تجمع المهندسين والمؤرخين من فرنسيين وإيطاليين ونمسويين وإنجليز، رمزا إلى الإخاء و«تضامن» الأسرة الإنسانية، ووجهتها ربط الشرق والغرب في وشائج هذه الأسرة العامة، فاشترك «تالبوت» الفرنسي و«نيجريللي» الإيطالي النمسوي و«ستيفنسن» الإنجليزي في تقسيم العمل وقيام كل طائفة على دراسة قسم منه. ولكن صداقة «آنفانتين» للمهندس الفرنسي «دلسبس» هي التي خرجت بالمشروع من دور الأحلام إلى دور «الشغل» المثمر كما يقولون. وأصغى «دلسبس» إلى المبشر الإنساني يوم شهد بعينيه حركة الميناء في مرسيليا فشحذت همته وأنعشت آماله وابتعثته ابتعاثا إلى إعادة الكرة عند «محمد علي»؛ لأنه كان يجهل جوابه لمندوب النمسا وغيره من رسل أوربة الوسطى. ولكن محمد علي كان كما قدمنا يتخوف من تسلط الأجانب على الطرق المصرية بحرا وبرا فأعرض عن حفر القناة، كما أعرض عن مد السكة الحديد بين الإسكندرية والسويس، وظلت البضائع في أيامه تنقل على ظهور الجمال أو على السفن الصغيرة في ترعة المحمودية. ولبثت أدوات السكة الحديد معطلة إلى أيام «عباس الأول» الذي أذن بمدها فكان ذلك حافزا جديدا لمعاودة البحث في حفر القناة.
وما من شيء يدل على أثر العلاقات الشخصية أحيانا في تمهيد الوسائل إلى الأعمال الجسام، ما يدل عليه نجاح «فردينان دي لسبس» صاحب مشروع القناة في إقناع «محمد سعيد باشا» - بعد وفاة عباس الأول - بإمكان حفر القناة وعظم الفوائد التي تعود على مصر من فتح هذه الطريق العالمية في أرضها.
فقد كان «محمد سعيد باشا» في صباه يميل إلى البدانة وكان أبوه «محمد علي» حريصا على تربية أبنائه على الحياة العسكرية والنشأة الرياضية، فكان يحتم على الصبي محمد سعيد أن يسبح ويعدو كل يوم مسافات طويلة، ويأمر له بالقليل من الطعام الذي لا يسمن ولا يشبع. وكان «ماتيو دلسبس» والد «فردينان» صديقا لمحمد علي يحبه من عهد وساطته عند الباب العالي في اختياره للأريكة المصرية، وكان يأذن لأبنائه في زيارة القنصل لتوثيق عرى المودة وإتقان اللغة الفرنسية. فكان «محمد سعيد» يجد في دار القنصل شبعه من المكرونة التي كان مشغوفا بأكلها، وكانت صحبته لفردينان الصغير خير شفيع للمهندس الفرنسي فيما بعد، لاستجابة رجائه بعد طول التردد فيه على أيام أبيه.
فردينان دي لسبس.
واتفق أيضا أن فردينان هذا كانت تربطه بالإمبراطورة «أوجيني» صلة قرابة ومودة، فلولا صحفة المكرونة وهذه المصادفة التي ربطت بين دلسبس وبلاط فرنسا لما استطاع الرجل أن ينجح حيث أخفق غيره، ولحبط العمل كله بعد الشروع فيه لولا اليد القوية التي كانت تنقذه من ورطة بعد ورطة في بلاط باريس.
Página desconocida