101

Darajat Sitt

الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك

Géneros

لكن أحيانا ما تظهر هذه الأعداد الهائلة في حياتنا دون سابق إنذار؛ ففي عام 1997 أسفر فصل البات التايلاندي عن الدولار الأمريكي عن أزمة حقيقية في مجال العقارات في تايلاند، الأمر الذي أدى إلى انهيار نظامها المصرفي، وفي غضون أشهر كان الركود المالي قد انتشر للنمور الآسيوية الأخرى (إندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية)، مسببا انكماشا لنظمها الاقتصادية، التي شهدت ازدهارا سابقا، ومحدثا ركودا عالميا في أسعار السلع، خاصة البترول. في الوقت نفسه كان اعتماد روسيا، التي شهدت آنذاك تحولا مؤلما إلى النظام الرأسمالي، على صادراتها من البترول قويا، وفجأة فقد ذلك الذهب الأسود قيمته. تلا ذلك أزمة في الميزانية الروسية، وتخلفت الحكومة اضطرارا عن الوفاء بدينها السيادي، وهو الأمر الذي ليس من المفترض أن تفعله أي دولة، حتى ولو كانت قوة عظمى سابقة، وأدت الصدمة التي أصابت أسواق الديون العالمية إلى تجنب المستثمرين للسندات من أي نوع باستثناء سندات الحكومة الأمريكية.

قبل ذلك مباشرة - وهو الأمر الذي لا يعرفه الجزء الأكبر من العالم - ضخ أحد الصناديق الوقائية في جرينتش بولاية كونيتيكت، واسمه صندوق إدارة رءوس الأموال طويلة المدى، مبالغ ضخمة لشراء سندات اعتبرها سيئة التسعير، لكن أصيب الصندوق بالفزع حين رأى أن الأسعار التي كان من المفترض أن تتقارب بدأت في التباعد، الأمر الذي أسفر عن فقد سندات تقدر بمليارات الدولارات لقيمتها في غضون أشهر قليلة. نسق رئيس مجلس إدارة بنك الاحتياط الفيدرالي لمدينة نيويورك عملية إنقاذ من خلال اتحاد أكبر المصارف الاستثمارية في البلاد؛ خوفا من أنه في حال اضطرار الصندوق لتسييل أصوله ستنهار الأسواق التي يعمل فيها، وبهذا تفادى كارثة محتملة، وهكذا انتهت الأزمة التي اجتاحت آسيا في العام المنصرم دون أن تؤثر على الولايات المتحدة إلا قليلا.

لم تتضرر الولايات المتحدة كثيرا من الأزمة الآسيوية عام 1997، لكن ما من أحد علم ما يجب توقعه آنذاك. وهذا ينطبق على الحال الآن أيضا؛ فما من أحد بإمكانه توقع أي شيء في ظل انعكاس الاضطرابات السياسية والدينية في الشرق الأوسط على صورة عمليات إرهابية في سماء نيويورك وواشنطن العاصمة؛ ففي عالم لا يفصل بين أفراده سوى ست درجات فحسب، صار تأثير أي شيء سريعا، ومن ثم ليس معنى أن شيئا ما يبدو بعيدا، وأنه يحدث بلغة لا تفهمها، أنه لا صلة له بك؛ فعندما يتعلق الأمر بالأوبئة والأزمات المالية والثورات السياسية والحركات الاجتماعية والأفكار الخطيرة، ثمة اتصال بيننا جميعا من خلال سلاسل قصيرة من التأثير، وستؤثر عليك بأي حال من الأحوال، بصرف النظر عما إذا كنت تعرفها أو تهتم بها أم لا، وإساءة فهم ذلك يعني إساءة فهم الدرس المهم الأول بشأن عصرنا المتشابك: قد يكون لدينا جميعا أعباء، وسواء أحببنا ذلك أم لا، فلا بد أن يتحمل بعضنا أعباء بعض أيضا.

الفكرة المهمة الثانية، التي يمكننا الحصول عليها من علم الشبكات، هي أنه في النظم المتصلة ثمة صلة معقدة، ومضللة أحيانا، بين السبب والنتيجة؛ ففي بعض الأحيان يمكن أن يكون للصدمات البسيطة آثار كبيرة (انظر الفصل

الثامن )، وفي أحيان أخرى يكون من الممكن امتصاص الصدمات، حتى العظيمة منها، دون إعاقة تذكر (انظر الفصل

التاسع ). هذه النقطة في غاية الأهمية؛ لأننا في أغلب الأحيان نعجز عن الحكم على أهمية الأمور إلا بأثر رجعي، ومن اليسير على المرء أن يكون حكيما عند الحكم على شيء ما بأثر رجعي. بعد أن صار كتاب «هاري بوتر» ظاهرة عالمية، سارع الجميع بإغداق الثناء على جودته كرواية للأطفال، وتصدر كل جزء تال منه على الفور قائمة أفضل المبيعات. ربما تكون هذه السلسلة جديرة بالفعل بكل النجاح الذي حصدته، لكن ما نغفله هو أن العديد من الناشرين رفضوا النص الأصلي للكاتبة جيه كيه رولينج قبل أن تقبله بلوومزبري (التي كانت آنذاك مؤسسة نشر مستقلة صغيرة). إذا كانت جودة عملها على هذا القدر من الوضوح، فلماذا لم يرها العديد من الخبراء في مجال نشر كتب الأطفال؟ وما الذي يقوله ذلك بشأن جميع النصوص الأخرى المرفوضة المهملة في أدراج الناشرين العديدين بجميع أنحاء العالم؟ في عام 1957 صارت رواية «على الطريق» لجاك كرواك في مصاف كلاسيكيات الأدب الأمريكي بين عشية وضحاها، لكن ما يغيب عن أغلب قرائها الملهمين أنها كادت لا ترى النور؛ إذ انتهى كرواك من النص الأصلي قبل موافقة دار نشر فايكينج على نشره بست سنوات. ما الذي كان سيحدث إذا أصاب اليأس كرواك؟ كثير من المؤلفين يصيبهم اليأس. كم من الأعمال الكلاسيكية خسرها العالم نتيجة لذلك؟

على الجانب الآخر، ماذا إذا لم تتوصل مجموعة تويوتا إلى وسيلة للتغلب على كارثة آيسين؟ يمكن تصور السيناريو بوضوح تام؛ تغلق الشركات الكبرى أبوابها - إنرون وكيه مارت مثالان حديثان على ذلك - وقد يتسبب التعطل المحتمل لأعمال شركة تويوتا في الدفع بها إلى الإفلاس. ما الذي كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ إذا حرم العالم بغتة من سيارات تويوتا العزيزة عليه، لكانت كارثة آيسين قد احتلت العناوين الرئيسية للصحف لشهور عدة. وبقضاء تلك الأزمة ليس فقط على تويوتا، بل ربما أيضا على الكثير من مورديها البالغ عددهم مائتين تقريبا ، ربما كان الأمر سيتسبب في انهيار حاد للاقتصاد الياباني الذي كان يعاني آنذاك الركود بالفعل، وربما صار هذا أحد أهم أحداث ذلك العقد من الزمان. لكن لم يعلم أحد بأزمة آيسين قط سوى القليل من المتخصصين في مجال المؤسسات الصناعية، فنظرا لعواقبها المحدودة للغاية على الاقتصاد العالمي، صارت هذه الأزمة حادثا عرضيا فحسب في سجل التاريخ، لكن كان من الممكن أن يكون لها نتائج مختلفة بسهولة. ينطبق الأمر نفسه إلى حد بعيد (وإن كان لأسباب مختلفة تماما) على تفشي فيروس إيبولا بين القردة في مدينة ريستون بولاية فيرجينيا، الذي تناولناه في الفصل

السادس . ماذا إذا كان الفيروس من نوع إيبولا زائير؟ كانت الولايات المتحدة ستتعرض لكارثة صحية عامة خطيرة على مقربة من عاصمتها، بيد أن السبب الوحيد لمعرفتنا بالأمر هو أن ريتشارد بريستون ألف كتابه المثير (وعثر على ناشر جيد!)

لذلك لا يمكن للتاريخ أن يرشدنا ونحن بصدد مستقبل لا يمكن التنبؤ به، لكننا نركن إليه على أي حال؛ لأنه ما من خيار آخر أمامنا على ما يبدو، لكن ربما يكون أمامنا خيار آخر بالفعل، لا للتنبؤ بنتائج معينة، بل لفهم الآليات التي تحدث وفقها هذه النتائج، ويمكن أن يكون الفهم كافيا في بعض الأحيان؛ فعلى سبيل المثال، لا تتنبأ نظرية الانتخاب الطبيعي لداروين فعليا بأي شيء على الإطلاق، ومع ذلك، فإنها تمنحنا قوة هائلة لفهم العالم الذي نلاحظه، ومن ثم اتخاذ قرارات صائبة بشأن موقعنا فيه (إذا أردنا). يمكننا أن نأمل، على النحو نفسه، في أن يعيننا علم الشبكات الحديث على فهم كل من بنية النظم المتصلة والطريقة التي تنتشر من خلالها أنواع التأثير المختلفة عبر هذه النظم.

نحن نعي بالفعل أن النظم المتصلة الموزعة، بدءا من شبكات الطاقة وصولا إلى الشركات التجارية، بل النظم الاقتصادية الكاملة أيضا، أضعف، وأقوى في الوقت نفسه، من الكيانات المنعزلة، وإذا اتصل فردان عبر سلسلة قصيرة من التأثيرات، فما يحدث لأحدهما قد يؤثر على الآخر، حتى لو كان أحدهما غافلا عن وجود الآخر تماما، وإذا كان هذا التأثير مدمرا، يكون كل منهما أضعف مما إذا كان وحده. على الجانب الآخر، إذا أمكن لكل منهما العثور على الآخر عبر السلسلة نفسها، أو إذا كانا كلاهما جزءا من شبكة علاقات ذات تعزيز متبادل مع أفراد آخرين، فقد يتمتع كل منهما بالقدرة على إحداث تأثير أعظم مما يمكنه تخيله. تتشارك الشبكات في الموارد وتوزع الأعباء، لكنها تنشر أيضا الأمراض وتنقل الفشل؛ فهي تحمل الخير والشر في آن واحد. من خلال تحديد كيفية اتصال النظم بدقة، ورسم علاقات واضحة بين بنية الشبكات الحقيقية والسلوك (مثل الأوبئة، والصيحات الحديثة، والقوة المؤسسية) الذي تتسم به النظم التي تربط بينها هذه الشبكات، يمكن أن يعيننا علم الشبكات على فهم العالم من حولنا.

Página desconocida