إشادة بكتاب «الدرجات الست» لدانكن واتس
1 - عصرنا المتشابك
2 - أصول علم «جديد»
3 - عوالم صغيرة
4 - ما وراء العالم الصغير
5 - البحث في الشبكات
6 - الأوبئة والأعطال
7 - القرارات والأوهام وجنون الجماهير
8 - الحدود والسلاسل وقابلية التنبؤ
9 - الابتكار والتكيف والتعافي
10 - نهاية البداية
11 - العالم يتضاءل: عام آخر في العصر المتشابك
قراءات إضافية
المراجع
إشادة بكتاب «الدرجات الست» لدانكن واتس
1 - عصرنا المتشابك
2 - أصول علم «جديد»
3 - عوالم صغيرة
4 - ما وراء العالم الصغير
5 - البحث في الشبكات
6 - الأوبئة والأعطال
7 - القرارات والأوهام وجنون الجماهير
8 - الحدود والسلاسل وقابلية التنبؤ
9 - الابتكار والتكيف والتعافي
10 - نهاية البداية
11 - العالم يتضاءل: عام آخر في العصر المتشابك
قراءات إضافية
المراجع
الدرجات الست وأسرار الشبكات
الدرجات الست وأسرار الشبكات
علم لعصر متشابك
تأليف
دانكن جيه واتس
ترجمة
أميرة علي عبد الصادق
مراجعة
محمد فتحي خضر
إشادة بكتاب «الدرجات الست» لدانكن واتس
«يجمع واتس في سلاسة بين دراسة تاريخية للمجال ونماذج واقعية مستمدة في كثير من الأحيان من خبرته الشخصية. إنه عمل متقن وشامل.»
كيركس ريفيوز، مراجعة نقدية
مزودة بنجوم للتقييم «مقدمة رائعة يسهل فهمها تماما لعلم الشبكات ... هذا الكتاب له أهمية كبيرة لعدد من الأسباب؛ أولا: لأن واتس يعرض فيه مقدمة لمجال شديد التعقيد، وتتميز هذه المقدمة برؤيتها العميقة ومتعة قراءتها. ثانيا: ... يقدم واتس من التفاصيل الكافية والفروق الطفيفة ما يمنح العمل تأثيرا عميقا. يصور هذا الكتاب العوالم المادية والاجتماعية على نحو مدهش يستثير التفكير.»
فيرجينيا كوارترلي ريفيو «كتاب مثير بقلم أحد العلماء الشباب الرواد. إن رؤى واتس المتعمقة للعلاقات المتداخلة التي تجمع بيننا - بدءا من الروابط على الشبكة العنكبوتية العالمية، مرورا بالمراكز العالمية الرئيسية للمال والمواصلات، وصولا إلى الشبكات الجنسية التي تنشر وباء الإيدز حول العالم - تقدم إطارا جديدا مهما لفهم مجتمعنا العالمي وما يشهده من تغير نشط. يوضح واتس كيفية ارتباطنا جميعا ارتباطا وثيقا في «عوالمنا الصغيرة». سيتواصل القارئ من خلال هذا الكتاب مع رواد الفكر في العالم في مجال نظرية الشبكات الحديث والمثير.»
جيفري دي ساكس،
مدير «معهد الأرض» بجامعة كولومبيا «قصة شخصية ومتميزة؛ نظرا لقدرتها على عرض عجائب علم معقد. إنها محاولة مذهلة!»
بيل ميلر، الرئيسي التنفيذي
لشركة ليج ماسون فندز «نظرة مشوقة على الشبكات المتعددة التي يزخر بها «عصرنا المتشابك»، والمؤثرات والتعقيدات التي تحيط بعملية تحديد هذه الشبكات وقياس حجمها.»
آر إف كونكلين، تشويس «نظرا لشرح واتس هذه الظاهرة ... بلغة يسهل فهمها، سيقبل الكثير من القراء دعوته لاستكشاف آفاق مشروع فكري جديد.»
بوكليست «يمنح أسلوب واتس المشوق أفكاره المنظمة انطباعا مثيرا بعيدا عن الملل.»
ذا أنيون «مجهود مبهر.»
بابلشرز ويكلي «نظرة مذهلة - ومن واقع خبرة شخصية غالبا - على علم الشبكات الناشئ. من خلال كتاب «الدرجات الست»، سيعرف القراء بالتأكيد الكثير عن الشبكات؛ فواتس معلم موهوب. غير أن هذا الكتاب أكثر نفعا باعتباره نافذة على نشأة فرع جديد من المعرفة العلمية.»
ريسيرش نيوز آند أوبرتيونيتيز
إن ساينس آند تكنولوجي
إلى
أبي وأمي
«قرأت ذات مرة أن كل فرد على هذا الكوكب يفصل بينه وبين أي شخص آخر ستة أشخاص فقط. ست درجات تفصل بيننا وبين أي شخص آخر على سطح هذا الكوكب.»
أويزا، في مسرحية «ست درجات من الانفصال»
بقلم جون جوار
تمهيد
بقلم دانكن واتس «نادرا ما ينتهي بي المآل إلى حيث كنت أنوي، لكنني غالبا ما أصل إلى حيث كان يجب أن أكون.»
دوجلاس آدامز،
رواية «استراحة النفس الطويلة المظلمة»
من الغريب حقا الطريقة التي تسير بها الأمور؛ فقد مضى أقل من عقد من الزمان على تحديقي في ذلك الرواق الطويل بجامعة كورنيل، متسائلا عن سبب عبوري نصف الكرة الأرضية لأدرس مادة غامضة في مكان بدا فجأة في عيوني كالسجن. لكن في تلك الفترة الوجيزة تغير العالم، مرات عدة، وتغير معه عالمي، فمن خلال الصعود شديد السرعة لشبكة الإنترنت، والمعاناة من سلسلة من الأزمات المالية امتدت من آسيا إلى أمريكا اللاتينية، والاصطدام بالإرهاب والعنف العرقي من أفريقيا إلى نيويورك، أدرك العالم بطريقة قاسية أنه متشابك على نحو لم يتوقعه الكثير من الناس، ولم يفهمه أحد.
في غضون ذلك، وبين الأروقة الهادئة للأوساط الأكاديمية، أخذ علم جديد في النشوء؛ علم يتناول مباشرة الأحداث الجسام التي تقع من حوله، ونظرا لعدم وجود مصطلح أفضل، فإننا نطلق على هذا العلم الجديد اسم «علم الشبكات». وبخلاف فيزياء الجسيمات دون الذرية والبنية واسعة النطاق للكون، فإن علم الشبكات هو علم العالم الواقعي؛ عالم البشر والصداقات والإشاعات والأمراض وصيحات الموضة والشركات والأزمات المالية. فإذا كانت هناك سمة بسيطة لوصف هذه الفترة على وجه التحديد من تاريخ العالم، فقد تكون هذه السمة هي أن العالم صار متشابكا على نحو أكبر وأكثر شمولية وفجائية من أي وقت مضى. وإذا أردنا فهم هذا العصر؛ «العصر المتشابك»، فعلينا أن نفهم أولا كيف نصفه وصفا علميا؛ معنى ذلك أننا بحاجة إلى علم للشبكات.
يتناول هذا الكتاب قصة ذلك العلم، إنها ليست القصة الكاملة؛ فالنسخة غير المختصرة أكبر من أن يتسع لها كتاب واحد صغير، وستفوق قريبا قدرة أي شخص على استيعابها خلال فترة حياته بأكملها. لكن الكتاب يغطي جزءا منها؛ فهو رواية يسردها مسافر عن رحلاته في أراض غريبة وجميلة. وعلى أي حال، كل قصة يجب أن تروى من منظور معين (سواء عبر عن ذلك على نحو صريح أم لا)، وهذه القصة أرويها من منظوري. يرجع ذلك جزئيا إلى أنني لعبت دورا في الأحداث نفسها، وهي أحداث مثلت جزءا محوريا من مسار حياتي المهنية. لكن هناك سببا آخر أعمق يتعلق بسرد العلم. من السمات النموذجية للعلم في الكتب الدراسية أنه مضجر ومفزع. إن علم الكتب الدراسية، الذي يظهر في صورة سلسلة منطقية متواصلة من أسئلة تبدو مستحيلة إلى نتائج تبدو غير قابلة للجدل، من الصعب فهمه، ناهيك عن محاكاته. حتى عندما يقدم العلم كفعل استكشافي، أي إنجاز بشري، تظل العملية التي توصل من خلالها البشر فعليا لهذا العلم يكتنفها الغموض. ومن أكثر الأمور التي لا تزال عالقة في ذاكرتي منذ سنوات دراسة الفيزياء والرياضيات ذلك الشعور المحزن بأنه ليس باستطاعة أي شخص عادي فعل هذه الأمور.
لكن ليس هذا حال العلم الواقعي. وفقا لما أدركته حديثا ، يظهر العلم الواقعي في العالم الفوضوي الغامض نفسه الذي يجاهد العلماء لإيضاحه، وعلى أيدي أشخاص واقعيين يعانون النوع ذاته من القيود والبلبلة التي يعانيها أي شخص آخر. وجميع شخصيات هذه القصة أفراد موهوبون عملوا جاهدين طوال حياتهم ليحققوا النجاح كعلماء؛ لكنهم في الوقت نفسه بشر بكل ما تحمله الكلمة من معان. أعلم ذلك لأنني أعرفهم، وأعرف أننا كافحنا، وكثيرا ما فشلنا معا، لنجمع شتات أنفسنا بعد ذلك ونحاول مرة أخرى. قوبلت أبحاثنا بالرفض، ولم تكلل أفكارنا بالنجاح، وأسأنا فهم أمور بدت جلية في وقت لاحق، وشعرنا أغلب الوقت بالإحباط أو الغباء التام، لكننا واصلنا الكفاح، لتصير الرحلة مع كل لحظة هدفا في حد ذاتها. إن تأسيس علم يشبه في الواقع تأسيس أي شيء آخر، لكن بحلول الوقت الذي يخرج فيه هذا العلم للنور ويقرأ الجميع عنه في الكتب، يكون قد شهد قدرا هائلا من التعديل والصقل بما يضفي عليه صبغة من الحتمية لم يحظ بها أثناء وضعه قط. وتتناول هذه القصة عملية تأسيس علم جديد.
ما من قصة بالطبع تدور أحداثها في الفراغ، وأحد الأمور التي أود إيضاحها في هذا الكتاب هو المصدر الذي نشأ منه علم الشبكات، وكيف ينسجم مع المخطط الأكبر للتقدم العلمي، وما يمكن أن يخبرنا به هذا العلم عن العالم نفسه. يتسع الحديث في هذه الأمور لما هو أكثر مما يمكنني تضمينه هنا؛ ذلك لأن الشبكات شغلت تفكير الكثير من الناس وقتا طويلا. لكن بالرغم مما أغفلته هذه القصة (وقد أغفلت الكثير)، فالأمل يحدوني أن توضح فكرة أنه لا يمكن فهم العصر المتشابك بواسطة محاولة فرض نموذج محدد للعالم عليه - مهما بدا ذلك مطمئنا - ولا من خلال دراسة فرع واحد منفرد من فروع المعرفة. إن الأسئلة، ببساطة، شديدة الثراء وشديدة التعقيد، وبصراحة، شديدة الصعوبة أيضا.
وبصراحة مماثلة أيضا أقول إن علم الشبكات لا يمتلك كل الإجابات بعد؛ فعلى الرغم من إغراء المبالغة في أهمية ما توصلنا إليه من نتائج، فالحقيقة هي أن الجزء الأكبر من العلم الفعلي هنا يتضمن تصويرا شديد البساطة لظواهر شديدة التعقيد. يعد البدء ببساطة مرحلة ضرورية لفهم أي شيء معقد، والنتائج المستمدة من النماذج البسيطة لا تكون مؤثرة فحسب، لكن مبهرة للغاية أيضا. فمن خلال إبعاد التفاصيل المحيرة لعالم معقد والبحث عن أصل مشكلة ما، يمكننا في كثير من الأحيان معرفة أمور عن الأنظمة المتشابكة ما كنا لندركها أبدا عن طريق دراستها مباشرة. لكن ذلك له ثمن، وثمن ذلك هو أن الأساليب التي نستخدمها تكون نظرية غالبا، والنتائج يصعب تطبيقها مباشرة على مواقف واقعية. وهو ثمن ضروري، ولا مفر منه في الواقع، إذا كنا نرغب حقا في تحقيق التقدم. فقبل تصميم المهندسين للطائرات، كان على الفيزيائيين أولا فهم المبادئ الأساسية للطيران، وذلك هو الحال أيضا مع الأنظمة المتصلة بشبكات. سنتأمل في الصفحات التالية التطبيقات الواعدة لنماذج الشبكات البسيطة؛ أي إننا سنحاول تخيل ما ستبدو عليه الطائرات المذهلة في النهاية. لكن في نهاية المطاف، يجب أن نتحرى الأمانة ونفرق بين التأملات وبين العلم ذاته، ومن ثم، إذا كنت تبحث عن إجابات فعليك بقراءة الكتب التي تدعي زيفا أنها تقدم تلك الإجابات. إن العلم لا يمكن أن يصبح فعالا ومؤثرا إلا بتحديد ما يمكن لهذا العلم تفسيره، وما لا يمكنه، والنظريات التي تخلط بين الأمرين تضرنا ولا تنفعنا.
ما يمكن لعلم الشبكات فعله - حتى في وقتنا الحالي - هو منحنا أسلوبا مختلفا للتفكير في هذا العالم، ومن ثم مساعدتنا في إلقاء ضوء جديد على مشكلات قديمة، ولتحقيق هذه الغاية، يضم هذا الكتاب قصتين في قصة واحدة؛ فهو أولا يتناول علم الشبكات نفسه: من أين أتى، وما الذي اكتشف، وكيف. وثانيا: يعرض الكتاب ظواهر العالم الحقيقي التي يحاول علم الشبكات فهمها؛ كالأوبئة والصيحات الثقافية الجديدة والأزمات المالية والابتكار المؤسسي. وتسير هاتان القصتان بالتوازي على مدار الكتاب، لكن هناك بعض الفصول التي تؤكد على نقاط بعينها؛ فالفصول من الثاني إلى الخامس، في الغالب، تتناول الأساليب المختلفة لفهم شبكات العالم الحقيقي، وكيفية مساهمة فروع المعرفة الأكاديمية المتعددة في عملية الاكتشاف، وكيف بدأت علاقتي بهذا الأمر من خلال عملي مع ستيف ستروجاتس على شبكات العالم الصغير، وكيف تطور هذا العمل ونما على مدار أعوام منذ ذلك الحين. أما الفصول من السادس إلى التاسع، فتركز أكثر على التفكير في العالم من منظور متشابك، وتطبيقه على مشكلات مثل انتشار الأمراض والصيحات الثقافية الجديدة والابتكار في العمل، بدلا من التعامل مع الشبكات نفسها باعتبارها موضوعات الدراسة.
مع أن كل فصل يعتمد على الفصول السابقة له، فليس من الضروري قراءة الكتاب كله من البداية إلى النهاية؛ فالفصل
الأول
يعرض السياق الذي تدور فيه القصة، في حين يفصل الفصل
الثاني
خلفيتها، وإذا أردت تخطي هذين القسمين والانتقال مباشرة إلى العلم الجديد، فيمكنك ذلك (لكن ثمة أمورا ستغفل عنها)، ويرتبط كل من الفصل
الثالث
و
الرابع
و
الخامس
معا، فتعرض هذه الفصول إنشاء النماذج المتعددة للنظم الشبكية وتأثيراتها، خاصة ما يعرف باسم نماذج شبكات العالم الصغير والشبكات عديمة المعيار التي تناولتها الكثير من الدراسات الحديثة. أما الفصل
السادس
فيناقش تفشي الأمراض وفيروسات الكمبيوتر، ويمكن قراءته دون الرجوع كثيرا إلى الفصول السابقة. ويتناول الفصلان
السابع
و
الثامن
موضوعا ذا صلة، لكنه مختلف في الوقت نفسه، ألا وهو العدوى الاجتماعية وما تخبرنا به بشأن الصيحات الثقافية الحديثة والاضطرابات السياسية والفقاعات المالية. ويناقش الفصل
التاسع
القوة المؤسسية، والدروس المستفادة منها للشركات الحديثة، ويلخص الفصل
العاشر
القصة بأكملها، مع تقديم نظرة عامة مختصرة عن الوضع الحالي.
يحمل هذا الكتاب تاريخا، شأنه شأن القصص التي يرويها، وهو تاريخ يتضمن عددا كبيرا من الأشخاص، فعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، مثل المعاونون لي وزملائي مصدرا دائما للأفكار والتشجيع والحماس والترفيه؛ أخص بالذكر هنا دانكن كالاواي، وبيتر دودز، ودوين فارمر، وجون جيناكوبلوس، وآلان كيرمان، وجون كلاينبيرج، وآندرو لو، ومارك نيومان، وتشاك سابيل، وجيل سترانج. كان من الصعب كتابة هذا الكتاب دونهم، لأنني ما كنت لأجد ما أكتب عنه؛ فحتى أفضل الموضوعات لا تكفي وحدها. ودون تشجيع جاك ريبتشيك من دار نشر نورتون، وآماندا كوك من شركة بيرسيوس، ما كنت لأبدأ أبدا، ودون التوجيه الرقيق من أنجيلا فون دير ليب، محررتي بدار نشر نورتون، ما كنت لأنتهي من الكتاب أبدا. وأتوجه بالشكر أيضا إلى الكرام: كارين باركي، وبيتر بيرمان، وكريس كالهون، وبريندا كوفلين، وبريسيلا فيرجسون، وهيرب جانس، وديفيد جيبسون، وميمي مانسون، ومارك نيومان، وبافيا روساتي، وتشاك سابيل، وديفيد ستارك، وتشاك تيلي، ودوج وايت، وبخاصة توم ماكارثي، الذين تطوعوا لقراءة المسودات المختلفة والتعليق عليها. هذا وقد قدم لي جورجي كوسينتس مساعدة لا تقدر بثمن في إعداد الأشكال العديدة، كما نفذت ماري بابكوك عملا شديد الدقة في تنقيح النصوص.
وعلى مستوى أكثر شمولا، فإنني شديد الامتنان لعدد من الأشخاص بجامعة كولومبيا: بيتر بيرمان، ومايك كرو، وكريس شولز، وديفيد ستارك، بالإضافة إلى موراي جيلمان، وإلين جولدبيرج، وإريكا جين من معهد سانتا في، وآندرو لو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ لمنحهم إياي الحرية والدعم للسعي وراء اهتماماتي الأنانية التي أتت في بعض الأحيان على حساب مصلحتهم. هذا وقد قدمت كل من المؤسسة الوطنية للعلوم (بموجب المنحة رقم 0094162)، وشركة إنتل، ومعهد سانتا في، ومعهد الأرض بجامعة كولومبيا، دعما ماليا لعملي في التدريس والأبحاث، بالإضافة إلى سلسلة من ورش العمل المتخصصة في سانتا في ونيويورك، التي انبثق منها العديد من المشروعات وصور التعاون. لكن من بين العدد الكبير من الأشخاص المؤثرين، سواء في حياتي المؤسسية أو الشخصية، الذين عادوا علي بالنفع، يبرز شخصان على وجه التحديد: الأول هو ستيف ستروجاتس، الذي كان ناصحا ملهما، وخير معين، وصديقا مخلصا على مدار أعوام، أما الآخر فهو هاريسون وايت، الذي جاء بي لأول مرة إلى كولومبيا، وقدمني لأول مرة أيضا إلى معهد سانتا في، وأدخلني أخيرا في مجال علم الاجتماع؛ فدون هذين الرجلين، ما كان أي شيء من هذا ليصبح ممكنا.
وأخيرا، والدي. قد يكون من الحماقة تخمين مقدار تأثير نشأة المرء على مسار حياته، لكن في حالتي، تبدو بعض الأمور واضحة؛ كان والدي أول عالم عرفته في حياتي، وهو أيضا أول من أرشدني إلى متع البحث الإبداعي وآلامه، فضلا عن تحفيزه، بطريقته الخاصة، لعملية التفكير الكاملة التي تمخض عنها هذا الكتاب. في تلك الأثناء، لم تعلمني أمي كيف أقرأ وحسب، بل طبعت في ذهني أيضا، في سن مبكرة، أن الأفكار لا تكتسب قوتها إلا عندما يفهمها الناس. وقد منحاني معا، من خلال نموذج حياتهما شديد التميز، الشجاعة لتجربة أشياء ما كنت لأفكر أبدا أنها من الممكن أن تنجح. ولهما أهدي هذا الكتاب.
نيويورك سيتي
مايو 2002
الفصل الأول
عصرنا المتشابك
كان صيف عام 1996 قائظا، ارتفعت مؤشرات موازين الحرارة بجميع أنحاء البلاد لتسجل أعلى معدلاتها، وظلت على هذه الحال، ليمثل هذا دليلا بينا على التقلبات المناخية غير المتوقعة. في تلك الأثناء، أخذ الأمريكيون، الذين عزلوا أنفسهم في حصونهم المنزلية، يكدسون الطعام بالثلاجات، ويشغلون أجهزة التكييف، ويشاهدون - بالطبع - قدرا هائلا من البرامج التليفزيونية التي تخدر العقول. في الواقع، مهما يكن الموسم أو الطقس، فقد صار الأمريكيون يعتمدون على نحو متزايد على مجموعة مدهشة ومتنامية باستمرار من الأجهزة والمرافق والخدمات التي حولت بيئة اتسمت فيما مضى بعدائيتها، إلى نمط حياة يشبه النسيم البارد. لا يعد أي قدر من الابتكارية أو الطاقة مفرطا إذا أسفر عن فراغ أو مزيد من الحرية الشخصية أو توفير الراحة البدنية؛ فبدءا من المركبات مكيفة الهواء المماثلة في الحجم لغرف المعيشة، ووصولا إلى المراكز التجارية مكيفة الهواء المماثلة في الحجم للبلدات الصغيرة، بذلت أقصى الجهود والتكاليف في الحملة الأمريكية الحديثة اللانهائية لفرض نظام صارم على كوكب اتسم فيما مضى بالجموح، ولا يزال شامخا متغطرسا في بعض الأحيان.
يدير محرك الحضارة هذا الذي لا يعرف الهوادة كيان عادي ومألوف كالطبيعة ذاتها، لكنه عامل تغيير قوي للحياة، شأنه شأن أي من الاختراعات البشرية الأخرى، هذا الكيان هو نظام الطاقة الكهربائية. تمتد كخيوط العنكبوت بجميع أرجاء أمريكا الشمالية شبكة ضخمة من محطات الطاقة والمحطات الفرعية، إلى جانب كابلات النقل عالية الجهد التي تربط بينها. وشبكة نقل الطاقة الكهربائية، التي تتدلى كابلاتها قرب الأشجار على طول الطرق وتربط بين قمم جبال الأبلاش الشاهقة وتمتد أعمدتها كما لو كانت جنودا عمالقة عبر سهول الغرب الشاسعة، تعد سر حياة الاقتصاد، والجانب الواهن الحساس للحياة المتحضرة في الوقت نفسه.
يعد نظام الطاقة الكهربائية، الذي تأسس بقدر هائل من النفقات على مدار الجزء الأكبر من القرن الماضي، أهم الملامح التكنولوجية للعالم المعاصر، وتمثل الطاقة الكهربائية - الأكثر تغلغلا في الحياة من الطرق السريعة والسكك الحديدية، والأكثر أهمية من السيارات والطائرات وأجهزة الكمبيوتر - الأساس الذي تقوم عليه جميع صور التكنولوجيا الأخرى، وأساس الصرح المهيب لعصري الصناعة والمعلومات، ودون هذه الطاقة يصبح كل ما نفعله ونستخدمه ونستهلكه معدوما، أو يتعذر الوصول إليه، أو شديد الغلاء، أو غير ملائم؛ فالكهرباء إحدى حقائق الحياة التي تصل في جوهريتها إلى الحد الذي يتعذر معه تخيل الحياة بدونها. وإذا أجبرنا على ذلك، يمكن أن يكون الأمر مدمرا تدميرا هائلا، وهو ما اكتشفته مدينة نيويورك على مدار خمس وعشرين ساعة رهيبة في عام 1977، حينذاك، وفي مجتمع كان قد اكتشف لتوه الكمبيوتر، وكانت السيارات والمصانع والأدوات المنزلية أقل اعتمادا على الإلكترونيات مقارنة بالحال الآن، أدى انقطاع في الكهرباء، ناتج عن مجموعة غير متوقعة من الأخطاء الصغيرة ونقاط الضعف الشاملة، إلى إغراق نيويورك في الظلام، وإغراق سكانها البالغ عددهم تسعة ملايين نسمة في بحر من الشغب والنهب والسلب، ونشر الذعر على نطاق واسع، وعندما عادت الأضواء وأزيلت الأنقاض، بلغت الخسائر نحو 350 مليون دولار. أرهبت الكارثة الساسة والمنظمين على حد سواء، وهو ما جعلهم يتعهدون بألا يسمحوا بحدوث ذلك ثانية، ويطبقون عددا من الإجراءات الصارمة لضمان تنفيذ تعهدهم. وحسبما اكتشفنا منذ ذلك الحين، فحتى أفضل الخطط - في عالم متشابك معقد - لا يمكن أن تكون إلا عبثا لا طائل من ورائه.
إن شبكة الطاقة - شأنها شأن أي بنية تحتية أخرى، بدءا من أنظمة الطرق السريعة وصولا إلى شبكة الإنترنت - ليست في الواقع كيانا منفردا، بل عدة شبكات إقليمية متصلة بعضها ببعض في إطار أكبر يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة. أكبر هذه الوحدات الإدارية مجموعة من المحطات يصل عددها تقريبا إلى خمسة آلاف محطة وخمسة عشر ألف خط، تشكل شبكة النقل الخاصة ب «مجلس تنسيق النظم الغربي»، وهو تكتل لمولدي الطاقة وموزعيها مسئول عن توفير الكهرباء لكل شخص وكل شيء غرب جبال روكي، بدءا من الحدود مع المكسيك وصولا إلى المنطقة القطبية الشمالية. وفي قيظ أغسطس عام 1996، أدار كل من لديه مكيف هواء ذلك المكيف بأقصى قدرة له، ونالت كل زجاجة بيرة مثلجة في حفلات الشواء بالأفنية الخلفية نصيبها من الكهرباء التي تولدها هذه الشبكة، أما جموع السياح المصطافين الذين عزفوا عن العودة إلى الشرق، فأخذوا يتسكعون في المدن الساحلية، الأمر الذي أدى إلى زيادة مؤقتة في تعداد السكان، المتضخم بالفعل، في كل من لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو وسياتل، ووصول الشبكة المتقادمة والمنهكة بالفعل إلى أقصى حدودها.
إذن قد لا يكون من المستغرب أن مستهل الأزمة التي وقعت في العاشر من أغسطس كان حدثا ثانويا نسبيا، كالشرارة التي تتسبب في اشتعال نار هائلة؛ فقد تدلى أحد خطوط نقل الكهرباء غرب أوريجون، شمال بورتلاند، قليلا، وأصاب إحدى الأشجار التي لم تكن قد قلمت منذ فترة طويلة، مما أدى إلى اشتعالها. لم يكن ذلك بالحدث غير المألوف حقيقة، ولم ينزعج به كثيرا المشغلون في إدارة بونفيل للطاقة، الذين أبلغوا على الفور بهذا العطل المزعج، لكن غير المدمر. غير أن ما حدث بعد ذلك كان سريعا على نحو مخيف، وغير متوقع على الإطلاق.
كان الخط الذي تعطل - خط كيلر-أولستون - واحدا من مجموعة من الكابلات المتوازية التي تنقل الطاقة من سياتل إلى بورتلاند، وكانت الآلية التلقائية للتغلب على مثل هذا العطل هي نقل الحمل إلى الخطوط الأخرى بالمجموعة، لكن للأسف، كانت هذه الخطوط مثقلة بأحمال تقارب الحد الأقصى لها، وكان العبء الإضافي زائدا عن الحد. أخذت الخطوط تتداعى خطا بعد خط، وكان الأول هو خط بيرل-كيلر المجاور الذي تعطل قهرا؛ نظرا لانقطاع التيار الكهربي عن المحول، وبعد خمس دقائق تقريبا تعطل خط سانت جونز-ميروين عن العمل بسبب خلل في عمل المرحل، وأدت الأعطال المتعاقبة إلى الدفع بكميات ضخمة من الطاقة شرقا ثم غربا عبر جبال كاسكيد، والوصول بالنظام إلى شفا تذبذبات خطيرة عالية الجهد الكهربي.
عندما يزيد الحمل على خطوط الطاقة ترتفع درجة حرارتها وتتمدد. وبحلول شهر أغسطس كانت الأشجار قد نمت طوال شهور الصيف، وبحلول الساعة الرابعة عصرا تقريبا، ومع وصول الضغط إلى أقصى درجاته، كانت حتى أقل الخطوط حملا ترتخي في الشمس الحارقة. تمدد خط روس-ليكسينجتون ذو الحمل الزائد بقدر كبير، وصدم إحدى الأشجار المنتشرة في أرجاء المكان، كما حدث منذ ساعتين مع خط كيلر-أولستون. لم تتحمل مولدات ماكناري المجاورة ذلك الاضطراب الأخير، وتعطلت جميع مرحلاتها الوقائية الثلاثة عشر تدريجيا، ليصير النظام غير قادر على مواجهة أي من حالات الطوارئ التي صمم للتغلب عليها. بدأت التذبذبات الأولية في الجهد الكهربي، وبعد سبعين ثانية توقفت الخطوط الثلاثة كلها بشبكة كاليفورنيا-أوريجون لتوزيع الكهرباء عن العمل؛ وهو عنق الزجاجة الذي تمر منه الطاقة الكهربائية بين شمال الساحل الغربي وجنوبه.
إحدى السمات الأساسية للطاقة الكهربائية هي صعوبة تخزينها البالغة، فيمكنك تزويد الهاتف أو الكمبيوتر المحمول بالطاقة لبضع ساعات باستخدام بطارية، لكن لم يطور أحد بعد تقنية لصناعة بطاريات تزود مدنا كاملة بالطاقة، وبناء عليه، يجب توليد الطاقة عند احتياجها، ونقلها في الحال إلى حيث الحاجة إليها. والجانب الآخر لهذه القاعدة هو أن الطاقة الكهربية ما إن تولد حتى يجب أن تنتقل إلى مكان ما، وهذا بالضبط ما كان من المفترض أن يحدث للطاقة المتدفقة إلى شمال كاليفورنيا؛ أن تنتقل إلى مكان ما، وعند انقطاعها عن كاليفورنيا، نظرا لانفصال شبكة التوزيع، اندفعت شرقا من ولاية واشنطن، ثم جنوبا، كموجة مد، عبر إيداهو ويوتا وكولورادو وأريزونا ونيومكسيكو ونيفادا وجنوب كاليفورنيا، فتعطلت مئات الخطوط والمولدات، وانقسم النظام الغربي إلى أربع جزر منعزلة، وانقطعت الخدمة عن 7,5 ملايين شخص. خيم الظلام تلك الليلة على سان فرانسيسكو، ومن رحمة الأقدار أنه لم تكن هناك أحداث شغب؛ الأمر الذي يمكن أن يشير إلى سمات معينة لأهالي سان فرانسيسكو مقارنة بأهالي نيويورك. لكن في خضم هذا الانهيار انقطعت 175 وحدة توليد عن الخدمة، وتطلب بعضها - المفاعلات النووية - أياما عدة لإعادة تشغيلها، الأمر الذي قدرت تكلفته الإجمالية بنحو ملياري دولار.
كيف حدث ذلك؟ حسنا، من ناحية ما، نحن نعلم بالضبط كيف حدث. وعلى الفور شرع المهندسون العاملون في إدارة بونفيل للطاقة ومجلس التنسيق، في العمل، وأصدروا تقريرا مفصلا عما حدث من اضطراب في موعد لم يتجاوز منتصف أكتوبر. تمثلت المشكلة الرئيسية في ازدياد الطلب ومحدودية الموارد. وبخلاف ذلك، حمل التقرير مسئولية ما حدث لعدد من العوامل، التي شملت إهمال الصيانة، وعدم الانتباه كما ينبغي للعلامات التحذيرية. لعب كذلك الحظ السيئ دورا في الأمر؛ فبعض وحدات النظام التي كان من الممكن أن تخفف من الصدمة كانت خارج الخدمة، إما للصيانة أو لإغلاقها بسبب اللوائح البيئية التي تفرض قيودا على التخلص من المخلفات الكهرومائية في الأنهار التي تعيش بها أسماك السلمون. وأخيرا، أشار التقرير إلى الفهم القاصر لاعتماد أجزاء النظام المتبادل بعضها على بعض.
هذا التعليق الأخير، الذي صدر كزلة بريئة وسط الأخطاء سهلة الفهم والمحددة بوضوح، هو ما يجب أن نركز عليه، لأنه يطرح التساؤل الآتي: ما خلل «النظام» الذي أدى إلى حدوث هذا العطل؟ وهذا الجانب من المشكلة لا علم لنا به على الإطلاق. تتمثل مشكلة الأنظمة المماثلة لشبكة الطاقة الكهربائية في أنها مؤلفة من الكثير من المكونات التي يسهل فهم سلوك كل مكون فردي منها على نحو معقول (ترجع فيزياء توليد الطاقة الكهربائية إلى القرن التاسع عشر)، لكن سلوكها الجماعي، مثل جماهير كرة القدم ومستثمري سوق الأسهم المالية، يمكن أن يكون في بعض الأحيان نظاميا، وفي أحيان أخرى فوضويا ومحيرا، بل مدمرا أيضا. لم يكن الانهيار المتتالي الذي ضرب الغرب يوم 10 أغسطس عام 1996 تسلسلا من الأحداث الفردية العشوائية التي تراكمت ببساطة لتصل إلى حد الأزمة، لكن الأرجح أن العطل المبدئي زاد احتمالات وقوع أعطال تالية، وفور أن حدثت تلك الأعطال، زادت احتمالات وقوع المزيد من الأعطال، وهلم جرا.
لكن التحدث عن ذلك أمر، والفهم الدقيق للكيفية التي تجعل بعض الأعطال التي تقع في ظروف معينة غير ضارة، وتجعل أعطالا أخرى أو ظروفا مختلفة تؤدي إلى كوارث، أمر مختلف تماما. يحتاج المرء إلى التفكير ليس في عواقب الأعطال الفردية فقط، بل أيضا في الأعطال المجمعة، الأمر الذي يصعب المشكلة حقا. لكن الأمر يزداد سوءا. ربما يكون أكثر الجوانب المحيرة للأعطال المتتالية، الذي تجلى في انقطاع الكهرباء في العاشر من أغسطس، هو أن المصممين جعلوا النظام «ككل»، دون قصد، أكثر عرضة لانهيار عام، كالذي حدث بالضبط، وذلك من خلال تركيب مرحلات وقائية بمولدات الكهرباء، والحد فعليا من إمكانية تعرض العناصر الفردية للنظام لضرر خطير. (1) النشوء
كيف يتسنى لنا فهم مثل هذه المشكلات؟ أو بالأحرى، ما الذي تتسم به الأنظمة المتشابكة المعقدة ويجعل من الصعوبة بمكان فهمها في المقام الأول؟ كيف يؤدي الجمع بين مجموعة كبيرة من المكونات في صورة نظام إلى شيء مختلف تماما عن مجموعة غير مرتبطة من المكونات؟ كيف تتمكن مجموعات سراج الليل الوامضة، أو صراصير الليل المصرصرة، أو الخلايا الناظمة القلبية النابضة، من مزامنة إيقاعها دون مساعدة موصل مركزي؟ كيف يصبح التفشي البسيط لأحد الأمراض وباء، أو انتشار إحدى الأفكار الجديدة هوسا؟ كيف تظهر فقاعات المضاربة نتيجة لاستراتيجيات استثمارية لأفراد يتسمون بالتعقل فيما دون ذلك؟ وعندما تنفجر هذه الفقاعات، كيف ينتشر ضررها في جميع أنحاء النظام المالي؟ ما مدى ضعف شبكات البنية التحتية الضخمة، مثل شبكة الطاقة الكهربائية أو الإنترنت، أمام الأعطال العشوائية أو حتى الهجوم المتعمد عليها؟ كيف تتطور الأعراف والتقاليد وتحتفظ بكيانها في المجتمعات البشرية؟ وكيف تتعرض للاضطراب، بل الاستبدال أيضا؟ كيف يمكننا تعيين مواقع الأفراد أو الموارد أو الإجابات في عالم شديد التعقيد، دون التمتع بحق الوصول إلى مستودعات المعلومات المركزية؟ وكيف تتمكن الشركات التجارية ككيان كامل من الابتكار والتكيف بنجاح في حين لا يمتلك أي فرد واحد ما يكفي من المعلومات لحل المشكلات التي تواجهها الشركة أو حتى فهمها على نحو كامل؟
على الرغم من الاختلاف الذي قد تبدو عليه هذه الأسئلة، فإنها جميعا صيغ مختلفة لسؤال واحد، وهو: «كيف يتجمع السلوك الفردي ليشكل سلوكا جمعيا؟» مع ما يبدو عليه هذا السؤال من بساطة، فإنه أحد أكثر الأسئلة محورية وانتشارا في جميع العلوم؛ فالمخ البشري - من منظور ما - هو تريليون خلية عصبية مرتبطة بعضها ببعض في صورة كتلة كهروكيميائية كبيرة، لكن في نظرنا جميعا، المخ أكثر من ذلك بكثير، فهو يتسم بخواص كالوعي والذاكرة والشخصية، ولا يمكن وصفه على نحو بسيط كتجميعة من الخلايا العصبية.
أوضح فيليب أندرسون، الفائز بجائزة نوبل، في بحثه الشهير الصادر عام 1971 بعنوان «الكثرة مختلفة»، أن الفيزياء حققت نجاحا معقولا في تصنيف الجسيمات الأساسية، ووصف سلوكها الفردي وتفاعلاتها، حتى مستوى الذرات الفردية، لكن إذا وضعنا عدة ذرات معا، فسيصير الأمر فجأة مختلفا تمام الاختلاف. ولهذا السبب، تعد الكيمياء علما مستقلا بذاته، وليست فرعا من الفيزياء فحسب. وبالارتقاء أكثر في سلسلة التنظيم، لا يمكن اختزال علم الأحياء الجزيئية في كونه كيمياء عضوية فحسب، وبالمثل علم الطب أكثر بكثير من التطبيق المباشر لعلم الأحياء الجزيئية. وعلى مستوى أرقى - مستوى الكائنات الحية المتفاعلة بعضها مع بعض - نواجه الآن العديد من فروع المعرفة، بدءا من علم البيئة والأوبئة، وصولا إلى علم الاجتماع والاقتصاد، وهي فروع لكل منها قواعده ومبادئه الخاصة التي لا يمكن اختزالها في المعارف المتعلقة بعلم النفس وعلم الأحياء فحسب.
بعد مئات الأعوام من الإنكار، تبنى العلم الحديث أخيرا هذه النظرة إلى العالم. لقد ظل حلم عالم الرياضيات الفرنسي العظيم، بيير لابلاس، الذي عاش في القرن التاسع عشر - بأنه يمكن فهم الكون في إجماله من خلال اختزاله إلى طبيعة الجسيمات الأساسية ودراستها بواسطة حاسب قوي بما فيه الكفاية - يتردد طوال الجزء الأكبر من القرن الماضي على الساحة العلمية، كما لو كان ممثلا بإحدى مسرحيات شكسبير مصابا إصابة مميتة يناجي نفسه المناجاة الأخيرة قبل الوفاة. لكن ليس واضحا تماما ما الذي حل محله؛ فمن ناحية، تبدو الفكرة القائلة: إن تكتيل مجموعة من الأشياء معا سينتج عنه في النهاية شيء مختلف عن الأشياء المتفرقة، فكرة واضحة وبديهية، ومن ناحية أخرى، فإن إدراكنا أننا لم نحقق إلا تقدما بسيطا في هذا الشأن يعطينا فكرة عن مدى صعوبته.
إن ما يجعل المشكلة صعبة والأنظمة المعقدة معقدة هو أن الأجزاء المكونة للكل لا تتجمع في أي نمط بسيط، بل تتفاعل بعضها مع بعض، وفي ظل هذا التفاعل، حتى أبسط المكونات، يمكن أن يصدر عنها سلوك محير. وقد أوضح التخطيط الحديث للجينوم البشري أن الشفرة الأساسية للحياة البشرية بأكملها تتكون من نحو ثلاثين ألف جين فحسب، وهذا أقل بكثير مما توقعه أي شخص. من أين جاء كل هذا التعقيد الذي يتسم به علم الأحياء البشرية إذن؟ من الجلي أنه لم ينتج من تعقيد العناصر الفردية للجينوم، التي ما كان لها أن تكون أبسط من ذلك، ولا من عددها الذي لا يزيد بالكاد عن عددها في أبسط الكائنات الحية، بل ينشأ هذا التعقيد عن الحقيقة البسيطة القائلة: إن الخصائص الجينية نادرا ما تعبر عنها الجينات الفردية. فمع أن الجينات - شأنها شأن البشر - توجد في صورة وحدات فردية متطابقة، فإنها «تؤدي وظائفها» عن طريق التفاعل، ويمكن لأنماط التفاعلات أن تعكس تعقيدا غير محدود تقريبا.
إذن ماذا عن النظم البشرية؟ إذا كانت تفاعلات الجينات فقط من شأنها إرباك أفضل العقليات في مجال الأحياء، فما أملنا في فهم تجمعات من مكونات أكثر تعقيدا بكثير كأفراد أحد المجتمعات أو الشركات في أحد النظم الاقتصادية؟ إن التفاعلات بين كيانات تتسم في ذاتها بالتعقيد تؤدي بالتأكيد إلى تعقيد شديد للغاية، لكن لحسن الحظ، بقدر ما يتسم الأفراد عادة بالتقلب والإرباك وعدم القدرة على توقع تصرفاتهم، فعندما يجتمع الكثيرون منهم، يمكننا في كثير من الأحيان فهم المبادئ التنظيمية الأساسية لهم مع تجاهل الكثير من التفاصيل المعقدة. هذا هو الجانب الآخر للأنظمة المعقدة؛ ففي حين أن معرفة القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد لا تساعد بالضرورة في التنبؤ بسلوك حشد منهم، فقد يمكننا التنبؤ بسلوك هذا الحشد نفسه دون معرفة الكثير عن الخصائص والشخصيات المتفردة للأفراد الذين يتكون منهم الحشد.
هذه قصة مختلقة توضح تلك النقطة الأخيرة: منذ بضعة أعوام في المملكة المتحدة، احتار المهندسون بأحد مرافق الطاقة من حالات تصاعد متزامنة غريبة في استهلاك الطاقة، انتشرت في الكثير من أجزاء الشبكة المحلية في آن واحد، مما تسبب في إنهاك قدرتها الإنتاجية على نحو خطير، وإن كان ذلك لبضع دقائق فقط في المرة الواحدة. وأخيرا، توصل أولئك المهندسون إلى السبب وراء ذلك عندما أدركوا أن أسوأ حالات هذا التصاعد حدثت أثناء بطولة كرة القدم السنوية، التي يتسمر خلالها الجميع أمام أجهزة التليفزيون. وفي فترة الاستراحة بين الشوطين، كانت هذه الجموع من مشجعي كرة القدم ينهضون من فوق أرائكهم، في آن واحد تقريبا، ويضعون الغلاية على النار لإعداد كوب من الشاي. ومع أن البريطانيين - كأفراد - على القدر نفسه من التعقيد الذي يتسم به غيرهم، فليست هناك حاجة لمعرفة الكثير عن كل منهم للتوصل إلى سبب حالات التصاعد في الطلب على الطاقة، سوى أنهم يحبون كرة القدم والشاي، وفي هذه الحالة، يعد التمثيل البسيط للأفراد كافيا.
لذا، في بعض الأحيان، يمكن أن تؤدي التفاعلات بين الأفراد داخل نظام كبير إلى قدر أكبر من التعقيد مقارنة بما يعكسه الأفراد أنفسهم، وأحيانا أقل. وفي كلتا الحالتين، يمكن أن يكون للأسلوب المحدد الذي يتفاعلون به نتائج شديدة التأثير على الظواهر الجديدة - بدءا من علم الوراثة السكانية، مرورا بتزامن وقوع الأحداث في العالم، وصولا إلى الثورات السياسية - التي يمكن أن «تظهر» على مستوى المجموعات أو الأنظمة أو السكان. لكن كما هو الحال في الانهيار التتابعي لشبكة الطاقة الكهربائية، فإن التعبير عن ذلك بالكلام أمر، وفهمه بدقة أمر مختلف تماما. فعلى وجه التحديد، ما الذي يجب أن ننتبه إليه في نماذج التفاعل بين الأفراد داخل النظم الكبيرة؟ لا يملك أحد الإجابة عن هذا السؤال بعد، لكن عددا متزايدا من الباحثين في السنوات الأخيرة تتبع خيطا جديدا مبشرا في هذا الشأن . وينبثق عن هذا العمل - الذي يقوم في حد ذاته على عشرات السنين من النظريات والتجارب في كل المجالات، بدءا من الفيزياء ووصولا إلى علم الاجتماع - علم جديد، ألا وهو علم الشبكات. (2) الشبكات
بطريقة ما، ليس هناك ما هو أبسط من الشبكات؛ فعلى المستوى المجرد تماما، ليست الشبكة سوى مجموعة من الأشياء المرتبطة بعضها ببعض على نحو ما، ومن ناحية أخرى، فإن التعميم المطلق لمصطلح «الشبكة» يجعل من الصعب تحديدها بدقة، وهذا أحد الأسباب وراء كون علم الشبكات مجالا بحثيا مهما. يمكن أن نتحدث عن أفراد في شبكة من الأصدقاء أو مؤسسة كبيرة، أو موجهات البيانات على امتداد البنية الأساسية للإنترنت، أو الخلايا العصبية في المخ؛ كل هذه الأنظمة شبكات، لكنها جميعا متباينة تماما من ناحية أو أخرى. ومن خلال تطوير لغة للتحدث عن الشبكات تتسم بالدقة الكافية، ليس فقط لوصف ماهية الشبكة، بل أيضا لوصف الأنواع المختلفة للشبكات الموجودة في العالم، يضفي علم الشبكات على المفهوم قوة تحليلية حقيقية.
لكن لماذا يعد هذا الأمر جديدا؟ يمكن لأي عالم رياضيات أن يخبرك بأن الشبكات درست كموضوعات رياضية تحت اسم «الرسوم البيانية» منذ عام 1736، وذلك عندما توصل ليونهارت أويلر، أحد أعظم العلماء في تاريخ الرياضيات، إلى أن معضلة اجتياز الجسور السبعة لمدينة كونيسبيرج البروسية دون عبور الجسر نفسه مرتين، يمكن صياغتها في صورة رسم بياني (وقد أثبت، بالصدفة، أنه يستحيل فعل ذلك، وكانت تلك أول مبرهنة في نظرية الرسم البياني). خطت نظرية الرسوم البيانية منذ عهد أويلر خطوات ثابتة نحو التطور لتصبح فرعا رئيسيا من فروع علم الرياضيات، وامتد أثرها إلى علم الاجتماع وعلم الإنسان وعلم الهندسة والكمبيوتر والفيزياء والأحياء والاقتصاد، فصار لكل مجال صيغته الخاصة من نظرية الشبكات، مثلما لديه وسيلته الخاصة لتجميع السلوك الفردي في صورة سلوك جمعي. إذن لماذا لا يزال هناك من الأمور الجوهرية ما يحتاج إلى الكشف عنه؟
النقطة المحورية هنا هي أنه في الماضي، كان ينظر إلى الشبكات على أنها «بناء خالص»، سماته «ثابتة مع الوقت »، وهذان الافتراضان بعيدان تماما عن الصحة؛ فأولا: تمثل الشبكات الحقيقية مجموعات من المكونات الفردية التي «تفعل شيئا ما» في الواقع؛ تولد طاقة أو ترسل بيانات أو تتخذ قرارات. ومع أن بنية العلاقات القائمة بين مكونات إحدى الشبكات مثيرة للاهتمام، فإن أهميتها ترجع في المقام الأول إلى أنها تؤثر إما على سلوك أفرادها أو سلوك النظام ككل. ثانيا: الشبكات كيانات ديناميكية، ليس فقط لأن ثمة أمورا تحدث في النظم المتصلة بشبكات، بل أيضا لأن الشبكات نفسها تتطور وتتغير مع الوقت، مدفوعة بالأنشطة أو القرارات الصادرة عن هذه المكونات ذاتها، ومن ثم، في العصر المتشابك، «يعتمد ما يحدث وكيفية حدوثه على الشبكة»، والشبكة بدورها تعتمد على ما حدث من قبل. وهذه النظرة للشبكة - باعتبارها جزءا لا يتجزأ من نظام مشكل لذاته دائم التطور - هي الجديد حقا بشأن علم الشبكات.
لكن فهم الشبكات على هذا النحو الأشمل يعد مهمة فائقة الصعوبة، وهي ليست معقدة بطبيعتها فحسب، بل تتطلب أيضا أنواعا مختلفة من المعرفة المتخصصة التي تنتمي إلى تخصصات أكاديمية منفصلة، بل وفروع معرفية منفصلة أيضا. يملك علماء الفيزياء والرياضيات مهارات حسابية وتحليلية مذهلة، لكنهم لا يقضون قدرا كبيرا من الوقت في التفكير في السلوك الفردي أو الحوافز المؤسسية أو الأعراف الثقافية، في حين يفعل ذلك متخصصو علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الإنسان. وعلى مدار نصف القرن الماضي أو أكثر، أخذ هؤلاء يفكرون في العلاقة بين الشبكات والمجتمع على نحو أكثر عمقا ودقة، مقارنة بأي شخص آخر، وهو التفكير الذي صار ينطبق الآن على مجموعة مذهلة من المشكلات، بدءا من علم الأحياء ووصولا إلى الهندسة، لكن في ظل الافتقار إلى الأدوات البراقة الخاصة بعلماء الرياضيات، تعثر المشروع الضخم لمتخصصي العلوم الاجتماعية عقودا من الزمان.
لذا، إذا قدر لعلم الشبكات الحديث النجاح، فيجب أن يجمع من كل فروع المعرفة الأفكار الملائمة والأفراد الذين يفهمونها. باختصار، يجب أن يصبح علم الشبكات انعكاسا لموضوعه، بمعنى أن يكون شبكة من العلماء يتوصلون معا إلى حلول لمشكلات لا يمكن لفرد واحد - أو حتى فرع واحد من فروع المعرفة - حلها. إنها مهمة مخيفة يزيد من صعوبتها تلك الحدود الراسخة التي تفصل العلماء بعضهم عن بعض. إن لغات فروع المعرفة المتعددة مختلفة تماما، وكثيرا ما نجد نحن العلماء صعوبة كبيرة في فهم بعضنا البعض، وتتسم اتجاهاتنا أيضا بالاختلاف؛ لذلك يجب على كل منا أن يتعلم ليس فقط كيف يتحدث الآخرون، بل أيضا كيف يفكرون. لكن هذا ما يحدث بالفعل، فقد شهدت السنوات القليلة الماضية زيادة مهولة في الأبحاث، والاهتمام بجميع أنحاء العالم؛ سعيا للعثور على نموذج جديد لوصف عصرنا المتشابك وتفسيره، ومن ثم فهمه، لكننا لم نصل إلى تلك المرحلة بعد، ولا حتى اقتربنا منها، وإن كنا نحقق تقدما مثيرا إلى حد ما، كما هو موضح في الصفحات التالية. (3) المزامنة
بدأ دوري في هذه القصة - بالصدفة كما هو الحال في الكثير من القصص - في بلدة صغيرة شمال مدينة نيويورك اسمها إيثاكا. أعتقد أن مكانا مسمى تيمنا بالموطن الأسطوري لأوديسيوس يعد مكانا جيدا لبدء أي قصة، لكن في تلك الأثناء كان أوديسيوس الوحيد الذي أعرفه هو صرصور ليل صغير أجري عليه تجربة مع أخويه بروميثيوس وهرقل عندما كنت طالبا بالدراسات العليا بجامعة كورنيل مع مرشدي، ستيفن ستروجاتس. كان ستيف عالم رياضيات، لكن في مرحلة مبكرة من مسيرته المهنية صار مهتما بتطبيقات الرياضيات على مشكلات علمي الأحياء والفيزياء، بل على علم الاجتماع أيضا، أكثر من اهتمامه بتطبيقها في الحسابات الرياضية نفسها، حتى أثناء دراسته في جامعة برنستون في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، لم يمنع نفسه من إقحام الرياضيات في دراساته الأخرى. ولأن ستيف كان مطالبا بدراسة علم الاجتماع، فقد أقنع معلمه أنه يجب السماح له بإقامة مشروع في الرياضيات بدلا من كتابة بحث للنجاح في الفصل الدراسي، ووافق المعلم، لكنه ظل حائرا قليلا، فما نوع الرياضيات التي يمكن استخدامها في مادة علم الاجتماع التمهيدي؟ اختار ستيف دراسة العلاقات الرومانسية، وصاغ مجموعة بسيطة من المعادلات التي تصف التفاعل بين عاشقين، هما روميو وجولييت، وحل هذه المعادلات. وعلى الرغم من غرابة الأمر، بعد خمسة عشر عاما في أحد المؤتمرات في ميلان، بادرني بالتحية عالم إيطالي كانت الحماسة تملؤه بشأن عمل ستيف، وكان يحاول تطبيقه على حبكات درامية لأفلام رومانسية إيطالية.
واصل ستيف مسيرته ليفوز بمنحة دراسية في جامعة مارشال، وخضع لامتحان تريبوس المهيب في الرياضيات بجامعة كامبريدج، الذي خلده جي إتش هاردي العظيم في مذكرته «اعتذار عالم رياضيات». لم يرق له الأمر كثيرا، وسرعان ما وجد نفسه يتوق إلى موطنه، وإلى مشكلة بحثية يغرق فيها حتى أذنيه، ولحسن الحظ، التقى بعالم الأحياء الرياضي آرثر وينفري الذي كانت له الريادة في دراسة «المذبذبات» البيولوجية، وهي كيانات ذات إيقاع منظوم كالخلايا العصبية التي تومض في المخ، والخلايا الناظمة القلبية التي تنبض في القلب، وحشرات سراج الليل التي تومض بين الأشجار. ساعد وينفري (الذي كان بالصدفة طالبا بجامعة كورنيل) ستيف على استهلال حياته المهنية من خلال التعاون معه في مشروع لتحليل بنية الموجات الحلزونية في القلب البشري. والموجات الحلزونية هي موجات الكهرباء التي تبدأ في الخلايا الناظمة القلبية وتنتشر بعد ذلك بجميع أنحاء عضلة القلب لتستحث نبضه وتنظمه، ومن المهم فهمها، لأنها في بعض الأحيان تتوقف أو تفقد ترابطها، وهو الحدث الذي قد يكون قاتلا، ويعرف باسم اضطراب النظم. لم يفعل أحد أكثر مما فعله آرثر وينفري لفهم ديناميكيات القلب، وعلى الرغم من ابتعاد ستيف سريعا عن ذلك المشروع تحديدا، فقد ظل مفتونا بالمذبذبات والدورات، خاصة في النظم البيولوجية.
أجرى ستروجاتس في رسالة الدكتوراه بجامعة هارفارد تحليلا مفصلا (ومضنيا!) للبيانات المتعلقة بدورة النوم والاستيقاظ لدى البشر، محاولا فك شفرة الإيقاعات اليومية التي تؤدي إلى الشعور بالإعياء الناجم عن الفرق الزمني عند السفر عبر المناطق الزمنية، إلى جانب أمور أخرى. لم يحالفه النجاح قط، ودفعته التجربة إلى التفكير في دوائر بيولوجية أبسط وأكثر اتصالا بالرياضيات، وهنا بدأ العمل مع رينيه ميرولو، وهو عالم رياضيات بجامعة بوسطن. كتب ستروجاتس وميرولو، اللذان ألهمتهما أبحاث الفيزيائي الياباني يوشيكو كوراموتو (الذي صار آرثر وينفري نفسه هو ملهمه الأساسي)، عددا من الأبحاث المؤثرة عن الخصائص الرياضية لفئة بسيطة للغاية من المذبذبات تعرف باسم يناسبها تماما، هو «مذبذبات كوراموتو». تتمثل المعضلة الأساسية التي كانا يهتمان بها، وغيرهما كثيرون، في المزامنة: ما الظروف التي تبدأ في ظلها المذبذبات في الحركة على نحو متزامن؟ يتعلق هذا السؤال بالأساس - شأن كثير من أسئلة هذه القصة - بظهور سلوك عام من التفاعلات بين الكثير من الأفراد. تعد مزامنة المذبذبات صورة شديدة البساطة والوضوح لظهور السلوك الجمعي من سلوك الأفراد، ومن ثم فهي جزء من موضوع غامض بوجه عام فهم جيدا إلى حد ما.
تخيل مجموعة من العدائين يطوفون حول مضمار دائري (الشكل
1-1 ). بصرف النظر عن الظروف؛ أي سواء أكانوا مجموعة من العدائين يركضون حول مضمار محلي ظهيرة أحد أيام الآحاد، أم لاعبين رياضيين يتنافسون في نهائيات الألعاب الأوليمبية، فمن المرجح أن يختلف أفراد هذه المجموعة في مقدرتهم الطبيعية. معنى ذلك أنهم إذا كانوا يركضون كل بمفرده، فسوف يقطع بعضهم الدورة حول المضمار أسرع بكثير من المتوسط، في حين يقطعها آخرون أبطأ من المتوسط. ومن ثم، يمكنك أن تتوقع أن الفروق الطبيعية بينهم ستجعلهم ينتشرون بانتظام حول المضمار، مع تجاوز السريعين للغاية من يتسمون بالبطء الشديد بين الحين والآخر. لكننا نعلم من واقع الخبرة أن الحال ليست كذلك دائما، فيكون الأمر كذلك عندما لا ينتبه العداءون بعضهم لبعض، ومن ثم من المحتمل أن يظل العداءون، الذين يركضون حول مضمار محلي ظهيرة أحد أيام الآحاد، منتشرين حول المضمار إلى حد بعيد، كما هو الحال في الشكل الأيسر. لكن في إطار الألعاب الأوليمبية، حين يكون لدى كل عداء حافز كبير للبقاء على مسافة قصيرة من العداء الأول (ولدى العداء الأول حافز مماثل ألا تنهك قواه مبكرا)، ينتبه العداءون كثيرا بعضهم لبعض، وتكون النتيجة تكتلهم في مجموعة (كما هو موضح في الشكل الأيمن).
شكل 1-1: يمكن النظر إلى المذبذبات المتصلة على أنها عداءون يركضون حول مضمار دائري. عندما تكون المذبذبات مرتبطة بقوة فسوف تتزامن (على اليمين)، وعندما لا تكون كذلك تكون في حالة عدم تزامن (على اليسار).
بلغة المذبذبات، يمثل التكتل «وضعا متزامنا»، ويعتمد تزامن النظام أو عدم تزامنه على توزيع «الترددات الفعلية» (زمن الدورات الفردية) و«قوة الارتباط» (قدر الانتباه الذي يوليه كل فرد للآخر). إذا كانت جميع المذبذبات تتمتع بالقدرة ذاتها، وبدأت معا، فسوف تظل متزامنة بصرف النظر عن ارتباطها. وإذا كان توزيع قدراتها كبيرا، كما هو الحال في نهائي سباق العدو السريع لمسافة عشرة آلاف متر، فمهما تكن رغبتها في البقاء معا، فسيتفكك التكتل وتختفي المزامنة. على الرغم من بساطة هذا النموذج، فهو تمثيل جيد للعديد من النظم المثيرة للاهتمام في الأحياء، بدءا من الخلايا الناظمة القلبية وصولا إلى وميض حشرات سراج الليل وصرير صراصير الليل. درس ستروجاتس أيضا رياضيات النظم الفيزيائية، مثل مجموعات موصلات جوزفسون فائقة التوصيل، وهي مفاتيح فائقة السرعة قد تشكل في أحد الأيام الأساس لجيل جديد من أجهزة الكمبيوتر.
عند وصول ستيف إلى كورنيل عام 1994، كان قد حقق مكانة رائدة في مجال ديناميكيات المذبذبات المتصلة، وألف كتابه الذي يعرض فيه مقدمة واضحة للديناميكيات اللاخطية والفوضى، وحقق حلمه كمراهق بأن يشغل منصبا في إحدى جامعات الأبحاث الرائدة. كان قد حصل على جوائز في مجالي التدريس والأبحاث، ودرس في بعض أفضل الجامعات في العالم وعمل فيها، مثل برنستون وكامبريدج وهارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وببلوغه منتصف الثلاثينيات من العمر، كان يتمتع بسيرة ذاتية شديدة التميز، ومع ذلك كان يشعر بالملل؛ فلقد ظل يقوم بالعمل نفسه تقريبا على مدار عشر سنوات، وإن كان ذلك أسعده. شعر ستيف أنه وصل إلى أقصى درجات الإتقان الممكنة في ذلك الجانب من الدراسات الأكاديمية، وكان مستعدا لبدء الاستكشاف من جديد؛ لكن أين؟
كان أول تفاعل لي مع ستيف عندما كان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكنت طالبا بالسنة الأولى من الدراسات العليا في جامعة كورنيل. وشأني شأن الكثير من طلاب الدراسات العليا، انتهت تماما رؤاي الحالمة عن الحياة في إحدى جامعات الأبحاث، وحررني الواقع الصعب، والممل في كثير من الأحيان، من الأوهام تماما، قررت أن أي مكان سيكون أفضل من كورنيل. كان ستروجاتس قد ألقى مؤخرا خطابا في قسمي - وهو الخطاب الأول الذي شعرت أنني قد فهمته فعلا - فاتصلت به لأرى هل هو بحاجة لتعيين مساعد أبحاث جديد. أجابني بأنه في حقيقة الأمر سينتقل إلى جامعة كورنيل، وإلى قسمي تحديدا (وتبين أن خطابه كان جزءا من مقابلة العمل الخاصة به)؛ فبقيت في الجامعة.
كان الإجراء المتبع مع طلاب الدراسات العليا في قسمي هو أن يخضعوا في نهاية العام الأول لامتحان قبول يعرف باسم «امتحان كيو»، وضع هذا الامتحان لاختبار معرفتهم العملية بشأن كل شيء من المفترض أن يكونوا قد تعلموه أثناء دراستهم الجامعية وعامهم الأول في الدراسات العليا، وهو امتحان شفهي، يدخل فيه كل طالب غرفة مليئة بالأساتذة الذين يمطرونه بأسئلة يكون عليه حلها على السبورة، وفي حال نجاح الطالب يسمح له بمواصلة الدراسة للحصول على شهادة الدكتوراه. لكن ماذا إن رسب؟ حسنا، ليس من المفترض أن يرسب أحد. من الطبيعي إذن أن يكون هذا الامتحان تجربة مخيفة إلى حد ما (مع أن أغلب الرعب يكمن في الترقب). وبالمصادفة، لم أكن راجعت السؤال الوحيد الذي سألني إياه ستروجاتس على الإطلاق، وبعد التردد بضع دقائق على السبورة صار عدم استعدادي للسؤال واضحا تماما، فجنبوني المزيد من الإذلال رحمة بي، وانتقلنا إلى السؤال التالي، ولحسن الحظ، سار باقي الامتحان على ما يرام، وبالفعل نجحت (نجحنا جميعا). وبعد أسبوع أو اثنين، بعد ندوة أخرى يصعب فهمها في القسم، اقترب ستيف مني، وأدهشني باقتراحه أن نتحدث بشأن العمل معا.
أستاذ شاعر بالضجر إلى حد ما، وطالب شبه يائس، لا يبدوان ثنائيا مثاليا، لكنهما كانا كذلك. وعلى مدار العامين التاليين أخذنا نتردد بين مجموعة متنوعة من المشروعات، وقضينا وقتا طويلا نتناقش في الفلسفة قدر مناقشتنا للرياضيات؛ ليس الفلسفة الوجودية، بل العملية. أي القضايا كانت مثيرة؟ وأيها كانت صعبة؟ من الذي نال عمله إعجابنا؟ ولماذا؟ ما مدى أهمية الإتقان الفني مقارنة بالإبداع والجرأة ؟ ما مقدار الوقت الذي من المفترض أن يقضيه المرء في الاطلاع على أعمال الآخرين قبل خوضه مجالا غير مألوف له؟ بمعنى آخر، ما الذي يعنيه العمل في مجال علمي مثير؟ وكما أظن الحال في أغلب جوانب الفلسفة، كانت الإجابات - باعتبار أننا توصلنا إلى أي منها - أقل أهمية من عملية التفكير في الأسئلة ذاتها. كان لتلك العملية تأثير عميق على عملنا التالي، وقد اتضح أن ذلك التردد لم يسمح لنا فقط بأن نصبح أصدقاء ومنحني الفرصة لإنهاء دراستي، بل حررنا أيضا من التركيز على مشروع واحد محدد لفترة كافية تمكننا خلالها من التفكير فيما كنا «نريده» حقا، بدلا مما كنا نظن أن «باستطاعتنا» فعله، وكان لذلك كل الفارق. (4) الطريق الأقل ارتيادا
حين توصلنا مصادفة إلى مشروعنا النهائي، كنا ندرس الصراصير دون أي شيء آخر. يبدو الأمر سخيفا، لكن نظرا لأن هذا النوع من الصراصير تحديدا - وهو صرصور الأشجار الثلجية - يصدر صريرا منتظما، ولأنه (على عكس الخلايا الناظمة القلبية أو الخلايا العصبية) مادة جيدة للتجربة، فإنه نوع مثالي فعليا للمذبذبات البيولوجية. كنا نحاول التحقق من فرضية رياضية متعمقة كان وينفري أول من طرحها، وتنص على أن أنواعا معينة فقط من المذبذبات يمكن أن تتزامن. ونظرا لأن هذه الصراصير بارعة للغاية في المزامنة، فقد بدت الخطوة الطبيعية أن نحدد «تجريبيا» أي نوع من المذبذبات هذه الصراصير، ومن ثم هل التنبؤات النظرية صحيحة أم لا.
إن الصراصير محل اهتمام علماء الأحياء أيضا، وهو ما لا يدعو للدهشة؛ فنظرا لأن الصرير يرتبط على نحو وثيق بنجاح عمليتي التزاوج والتناسل، فإن الآليات المؤدية إلى المزامنة العامة تعد قضايا بيولوجية مهمة، ومن ثم عملت أنا وستيف مع عالم حشرات يدعى تيم فورست، وقضيت معه ليالي صيفية عديدة نتجول بين الأشجار في حرم جامعة كورنيل الضخم بحثا عن العينات، التي تضمنت أوديسيوس الذي ذكرته آنفا. وبعد أن جمعنا مجموعتنا الصغيرة، عزلنا كلا منها في حجيرة عازلة للصوت، وبعثنا إليها بصوت صرير باستخدام جهاز كمبيوتر كان تيم قد زوده بنظام سماعات ومكبر صوت. ومن خلال تسجيل استجابات الصراصير لمنبهات الكمبيوتر المحدد توقيتها بدقة، تمكنا من وصف مدى تقدم أحد الصراصير أو تأخره في الصرير التالي اعتمادا على مرحلة دورته الطبيعية التي يسمع فيها «الصرصور» الآخر، الذي هو في هذه الحالة جهاز الكمبيوتر (من الواضح أنه من السهل خداع الصراصير).
لكن ذلك كان الجزء السهل؛ فالموقف الذي خططنا له كان اصطناعيا على نحو مذهل؛ صرصور واحد في حجيرة عازلة للصوت يصدر صريرا في عزلة، مع حث عرضي من جهاز كمبيوتر لم يكن حتى يستمع للصرصور في المقابل. ما كان ذلك ليحدث في العالم الحقيقي أبدا؛ فالصراصير لا تستمع وتستجيب بعضها لبعض فحسب، بل من الطبيعي أيضا أن يوجد الكثير من الصراصير في أي شجيرة أو شجرة، وجميعها تفعل الأمر نفسه. السؤال الذي أفكر فيه هو: من كان يستمع لمن؟ بالتأكيد، ليس هناك صرصور رئيسي يلقن الآخرين جميعا. لكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف إذن تمكنت الصراصير من تحقيق المزامنة على هذا النحو البارع؟ هل يستمع كل صرصور للصراصير الأخرى جميعها، أم لصرصور واحد فقط، أم ربما لعدد قليل فحسب؟ ما البنية التي تتسم بها جميع الصراصير، إن كانت هناك بنية أساسا؟ وهل لها أهمية بالفعل؟
لم أكن معتادا آنذاك على رؤية الشبكات في كل مكان أنظر إليه، لكن مع ذلك طرأت على ذهني فكرة أن نموذج التفاعلات - «طوبولوجيا الارتباط» بلغة نظرية المذبذبات - يمكن النظر إليه كنوع من الشبكات. فكرت أيضا أن بنية الشبكة يمكن أن تؤثر على قدرة مجموعة من الأفراد على المزامنة، ومن ثم قد يكون من المهم فهمها ككيان مستقل بذاته. ومن خلال التفكير كأي طالب بالدارسات العليا، افترضت أن مسألة طوبولوجيا الارتباط واضحة، ومن ثم فالإجابة معروفة منذ فترة طويلة، وكل ما يجب علي فعله هو البحث عنها، لكن بدلا من التوصل إلى إجابة، كان كل ما توصلت إليه هو المزيد من الأسئلة. لم يقتصر الأمر على عدم البحث مطلقا في العلاقة بين بنية الشبكة وتزامن المذبذبات فحسب، لكن من الواضح أنه لم يبذل أي شخص جهدا كبيرا في التفكير في العلاقة بين الشبكات وأي نوع من الديناميكيات، بل يبدو أنه لم ينتبه أحد قط للسؤال الأكثر أهمية المتعلق بنوع الشبكات الموجودة بالفعل في العالم الحقيقي، على الأقل بين علماء الرياضيات، وبدأ يتضح لي أنني توصلت إلى ما يأمل أي طالب بالدراسات العليا في العثور عليه؛ ألا وهو ثغرة حقيقية في العلم، أو باب غير معروف مفتوح بقدر يسير، أو فرصة لاستكشاف العالم بأسلوب جديد.
تذكرت آنذاك أمرا كان قد أخبرني به والدي منذ عام في مكالمة هاتفية مساء أحد أيام الجمعة، سألني والدي - لسبب ما لا يتذكره أي منا: هل سمعت عن فكرة أن أحدا لا يبتعد «عن الرئيس أكثر من ست درجات»؟ بمعنى أنك تعرف شخصا ما، وهذا الشخص يعرف شخصا آخر، وهلم جرا إلى أن تصل إلى شخص يعرف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. لم أكن قد سمعت عن هذه الفكرة، وأذكر أنني أخذت أحاول تخيل كيف يمكن أن يكون ذلك ممكنا أثناء استقلالي الحافلة ما بين إيثاكا وروشستر. لم أحقق أي تقدم ذلك اليوم أو منذ ذلك الحين، لكنني أتذكر أنني فكرت في المسألة كشبكة علاقات بين أفراد، كل فرد له دائرة من المعارف - شبكة من الجيران - الذين لهم معارف بدورهم، وهكذا، بما يشكل نموذجا متشابكا عاما من روابط الصداقة والعمل والعائلة والمجتمع، يمكن من خلاله تتبع المسارات التي تربط بين أي شخص عشوائي وأي شخص آخر. وأرى الآن أن طول هذه المسارات قد يكون له علاقة بالكيفية التي تنتشر من خلالها التأثيرات - سواء أكانت أمراضا أم شائعات أم أفكارا أم اضطرابات اجتماعية - بين مجموعة من البشر، وإذا كانت سمة «الدرجات الست» تنطبق أيضا على الشبكات غير البشرية، مثل المذبذبات البيولوجية مثلا، فقد يكون من المهم فهم ظواهر معينة مثل المزامنة.
بدت فجأة الخرافة الحضرية الغريبة التي أخبرني بها أبي شديدة الأهمية، وقررت أن أسبر أغوارها، وبعد عدة أعوام، كنا لا نزال عند النقطة نفسها، كانت الثغرة، حسبما اتضح، عميقة للغاية ولن تستكشف وتستبين بوضوح إلا بعد مرور العديد من الأعوام، لكننا حققنا بالفعل بعض التقدم المرضي، وعرفنا أيضا الكثير عن مسألة الدرجات الست، التي لا تمثل خرافة حضرية على الإطلاق، وإنما مشروعا بحثيا اجتماعيا منطقيا ذا تاريخ زاخر. (5) مسألة العالم الصغير
في عام 1967 أجرى عالم النفس الاجتماعي ستانلي ميلجرام تجربة استثنائية، كان ميلجرام مهتما بفرضية لم يكن قد بت فيها بعد، وكانت تنتشر آنذاك في الأوساط الاجتماعية، تمثلت هذه الفرضية في أن العالم، عند النظر إليه كشبكة ضخمة من المعارف الاجتماعية، يعد «صغيرا» نوعا ما؛ بمعنى أن أي شخص في العالم يمكن الوصول إليه من خلال شبكة من الأصدقاء في بضع خطوات فقط. عرفت هذه المسألة باسم «مسألة العالم الصغير» نسبة إلى المزحة المتداولة في الحفلات عندما يكتشف شخصان غريبان أن أحد معارفهما مشترك ويذكر أحدهما الآخر كم أن «العالم صغير» (يحدث لي هذا كثيرا).
في الواقع، ليست هذه الملاحظة التي تذكر في الحفلات مساوية تماما لمسألة العالم الصغير التي كان يبحث فيها ميلجرام، فنسبة صغيرة فقط من الناس في العالم يمكن أن يكون لهم معارف مشتركون، وحقيقة أننا قد نقابلهم مصادفة بانتظام مدهش تتعلق بنزعتنا للانتباه إلى أمور تفاجئنا (ومن ثم المبالغة في تقدير مدى تكرار هذه الأمور) أكثر من تعلقها بالشبكات الاجتماعية. ما أراد ميلجرام توضيحه هو أنه حتى عندما لا أعرف شخصا يعرفك (أي في كل المرات التي نقابل فيها أفرادا ولا ينتهي لقاؤنا بعبارة «يا له من عالم صغير»)، فلا أزال أعرف شخصا يعرف بدوره شخصا آخر يعرف شخصا يعرفك. والسؤال الذي يطرحه ميلجرام هو: كم عدد الأشخاص الذين تتضمنهم هذه السلسلة؟
للإجابة عن هذا السؤال، ابتكر ميلجرام وسيلة مبتكرة لتوصيل الرسائل لا تزال تعرف حتى الآن باسم «طريقة العالم الصغير». أعطى ميلجرام خطابات لبضع مئات من الأفراد اختيروا عشوائيا من بوسطن وأوماها بولاية نبراسكا، كان من المفترض أن ترسل هذه الخطابات إلى فرد واحد مستهدف، وهو سمسار أوراق مالية من شارون بولاية ماساتشوستس، ويعمل في بوسطن. لكن كانت هناك قاعدة غريبة تتعلق بالخطابات، وهي أن مستلميها لا يمكنهم إرسالها إلا إلى شخص يعرفونه معرفة وثيقة، وبالطبع، إذا كان المستلم يعرف الشخص المستهدف، فيمكنه إرسال الخطاب إليه مباشرة، لكن في حال عدم معرفته به، وكانت تلك المعرفة أمرا غير محتمل إلى حد بعيد، كان عليه إرسال الخطاب إلى شخص يعرفه ويعتقد أنه أقرب نوعا ما من الشخص المستهدف.
كان ميلجرام يعمل بالتدريس آنذاك في جامعة هارفارد، ومن ثم كان من الطبيعي أن يرى منطقة بوسطن الكبرى مركزا للكون. وأي مكان يمكن أن يكون أبعد عنها من نبراسكا؟ ليس فقط جغرافيا، بل أيضا اجتماعيا؛ إذ بدا الغرب الأوسط بعيدا للغاية. وعندما سأل ميلجرام الناس عن عدد الخطوات التي يحتاجها وصول خطاب من مكان لآخر، كان التقدير المعتاد مئات الخطوات، لكن كانت النتيجة ست خطوات وحسب، الأمر الذي كان مفاجئا للغاية حينها، وأدى إلى ظهور عبارة «ست درجات من الانفصال» التي استمد منها جون جوار اسم مسرحيته التي عرضها عام 1990، ونتج عنها عدد من الألعاب المنزلية، ناهيك عن العدد اللانهائي من المحادثات في الحفلات.
شكل 1-2: شبكة متشعبة تامة تعرف الذات فيها 5 أفراد فقط، لكن على بعد درجتين من الانفصال، يمكن أن تعرف 25 فردا، وعلى بعد ثلاث درجات، يصبح العدد 105، وهكذا.
لكن لماذا تحديدا كانت النتيجة التي توصل إليها ميلجرام مفاجئة للغاية؟ إذا كنت ميالا للرياضيات، يمكنك إجراء التجربة الفكرية التالية، بل ربما أيضا رسم صورة مثل تلك الموضحة في الشكل
1-2 . تخيل أن لدي مائة صديق، وكل منهم لديه مائة صديق أيضا، من ثم، على بعد درجة واحدة من الانفصال، أكون على اتصال بمائة فرد، وعلى بعد درجتين يمكنني الوصول إلى ما يساوي حاصل ضرب مائة في مائة؛ أي عشرة آلاف شخص، وعلى بعد ثلاث درجات، أصل إلى نحو مليون شخص، وعلى بعد أربع درجات، يكون العدد حوالي مائة مليون، وتسعة مليارات على بعد خمس درجات. بعبارة أخرى، إذا كان لدى كل شخص في العالم مائة صديق فقط، فعلى بعد ست درجات من الانفصال، يمكنني بسهولة الاتصال بسكان كوكب الأرض جميعا. من الواضح إذن أن العالم صغير بالفعل.
لكن إذا كانت لديك أي ميول اجتماعية، فستتبين على الفور الخطأ الفادح في هذا الاستنتاج؛ فمائة شخص عدد كبير يتعذر التفكير فيه؛ لذا عليك بالتفكير في أقرب عشرة أصدقاء لك واسأل نفسك عن أقرب عشرة أصدقاء لهم، من المحتمل أنك ستجد الكثير من الأصدقاء المشتركين، وهذه الملاحظة تمثل سمة عامة تقريبا، فلا تقتصر على الشبكات الاجتماعية فحسب، بل على الشبكات عموما؛ فهي تعكس ما نعرفه باسم «التجمعات»، وهو ما يعني في الحقيقة أن معظم أصدقاء الأفراد أصدقاء بعضهم لبعض أيضا. في الواقع، الشبكات الاجتماعية تشبه إلى حد بعيد الشكل
1-3 . فنحن لا نميل إلى أن يكون لدينا أصدقاء قدر أن يكون لدينا مجموعات من الأصدقاء، كل منها تشبه تجمعا صغيرا قائما على خبرة أو موقع أو اهتمامات مشتركة، وترتبط بعضها ببعض من خلال التداخلات التي تحدث عندما ينتمي الأفراد الموجودون في إحدى المجموعات إلى مجموعات أخرى أيضا. هذه السمة الخاصة بالشبكات وثيقة الصلة تماما بمسألة العالم الصغير، لأن التجمعات تؤدي إلى التكرار. وبوجه خاص، كلما ازدادت معرفة أصدقائك بعضهم ببعض، قلت أهميتهم لك فيما يتعلق بتوصيل رسالة ما إلى شخص لا تعرفه.
شكل 1-3: تعكس الشبكات الاجتماعية الفعلية تجمعات؛ تمثل ميل شخصين لديهما صديق مشترك لأن يكونا صديقين. لدى الذات هنا ستة أصدقاء، كل منهم صديق لشخص آخر منهم على الأقل.
يتمثل التناقض الذي تتسم به الشبكات الاجتماعية وأوضحته تجربة ميلجرام في أنه، من ناحية، يعد العالم كثير التجمعات، بمعنى أن الكثير من الأصدقاء أصدقاء بعضهم لبعض أيضا. لكن من ناحية أخرى، لا يزال بإمكاننا الوصول إلى أي شخص من خلال بضع خطوات قليلة فحسب. ومع أن فرضية ميلجرام عن العالم الصغير لم تصادف اعتراضا لما يزيد عن ثلاثة عقود، فإنها لا تزال مثيرة للدهشة حتى يومنا هذا. تقول أويزا في مسرحية جون جوار: «كل فرد على هذا الكوكب يفصل بينه وبين أي شخص آخر ستة أشخاص فقط؛ ست درجات من الانفصال بيننا وبين أي شخص آخر على سطح هذا الكوكب؛ سواء أكان رئيس الولايات المتحدة، أم سائق جندول في البندقية ... لا يقتصر الأمر على الشخصيات الهامة فحسب، بل ينطبق على أي شخص ... أحد السكان المحليين لغابة مطيرة أو في منطقة الإسكيمو. إنني مرتبطة بكل شخص على هذا الكوكب بسلسلة مكونة من ستة أشخاص. إنها فكرة عميقة.»
إنها فكرة عميقة بالفعل، لكن إذا كنا لا نفكر إلا في مجموعة فرعية محددة من الناس بيننا وبينهم شيء واضح مشترك، فيمكن من ناحية أخرى أن نعتقد أن النتيجة ليست غريبة. على سبيل المثال، إنني أعمل بالتدريس في إحدى الجامعات، ونظرا لأن مجتمع الجامعة يتكون من عدد صغير نسبيا من الأشخاص، أكثرهم يشتركون في أمور كثيرة، فمن السهل نسبيا علي أن أتخيل كيف يمكنني نقل رسالة عبر سلسلة من الزملاء إلى أي أستاذ جامعي آخر بأي مكان في العالم، وبالحجة نفسها، يمكنك الاقتناع بأنه يمكنني توصيل رسالة إلى معظم المهنيين خريجي الجامعات في منطقة نيويورك، لكن هذه ليست في الحقيقة ظاهرة العالم الصغير، بل إنها أشبه بظاهرة المجموعة الصغيرة، فمسألة ظاهرة العالم الصغير أعمق بكثير من ذلك؛ فهي تنص على أن بإمكاني توصيل رسالة لأي شخص، حتى إن لم يكن بيننا أي شيء مشترك على الإطلاق. يبدو الأمر أقل وضوحا الآن؛ ربما لأن المجتمع البشري مبتلى بالكثير من التصدعات التي يسببها اختلاف العرق والطبقة الاجتماعية والدين والجنسية.
على مدى ثلاثين عاما أو أكثر، وبينما كانت ظاهرة العالم الصغير تتطور لتتحول من تخمين اجتماعي منطقي إلى جزء من الثقافة الشعبية، ظلت الطبيعة الفعلية للعالم قيد البحث، وظلت المفارقة الكامنة في جوهرها - المتمثلة في فكرة أن من يبدون بعيدين تماما يمكن أن يكونوا قريبين فعليا - كما هي بالضبط؛ مفارقة. لكن شهدت الأعوام القليلة الماضية ثورة في البحث النظري والتجريبي، أغلبه من خارج علم الاجتماع، الذي لم يساعد فقط في حل ظاهرة العالم الصغير، بل أشار أيضا إلى أن هذه الظاهرة أعم مما يمكن لأي أحد تخيله. وإعادة الاكتشاف هذه لظاهرة العالم الصغير، التي اقتصرت معرفتها فترة طويلة على علماء الاجتماع فحسب، أدت إلى مجموعة أكبر من الأسئلة عن الشبكات ترتبط بمجموعة كاملة من التطبيقات في العلوم والأعمال والحياة اليومية.
كما هو الحال غالبا في العلوم (بل في حل مشكلات الحياة اليومية أيضا)، أمكن التوصل إلى الفكرة التي أدت إلى الخروج من هذا المأزق عن طريق تناول موضوع قديم من زاوية جديدة، فبدلا من السؤال: «ما مدى صغر العالم الذي نعيش فيه؟» يمكن أن يكون السؤال هو: «ما الذي يلزم أي عالم؛ ليس فقط عالمنا، وإنما أي عالم على الإطلاق، ليصبح صغيرا؟» بعبارة أخرى، بدلا من الخروج إلى العالم ومحاولة قياس حجمه بتفصيل دقيق، نود إنشاء نموذج رياضي لشبكة اجتماعية لتحل محل العالم الحقيقي، بحيث نستفيد من قوة الرياضيات والكمبيوتر في هذا النموذج. يمكن التعبير عن الشبكات التي سنتعامل معها بالفعل ببساطة تكاد تكون كوميدية من خلال نقاط مرسومة على ورقة وتربط بينها خطوط، تعرف هذه الأشكال في الرياضيات بالرسوم البيانية، وكما أوضحنا من قبل، تعود دراسة الرسوم البيانية إلى قرون مضت، وقد عرفنا عنها الكثير. وتلك هي الفكرة المهمة حقا؛ فعلى الرغم من أننا بهذا التبسيط الشديد سنتغافل حتما عن سمات للعالم نهتم بها كثيرا، فبإمكاننا التوصل إلى ثروة من المعرفة والتقنيات التي من شأنها تمكيننا من تناول مجموعة من الأسئلة العامة المتعلقة بالشبكات لم نكن لنتمكن من الإجابة عنها أبدا إذا ظللنا عالقين في جميع التفاصيل الفوضوية المشوشة للذهن.
الفصل الثاني
أصول علم «جديد»
(1) نظرية الرسوم البيانية العشوائية
منذ نحو أربعين عاما اتبع عالم الرياضيات بول إيردوس أسلوبا بسيطا للغاية في دراسة شبكات الاتصالات. كان إيردوس شخصا غير عادي يبدو بجواره غريبو الأطوار أفرادا طبيعيين تماما. ولد في بودابست يوم 26 مارس عام 1913، وعاش مع والدته حتى سن الحادية والعشرين، ثم قضى ما بقي من حياته المتميزة مسافرا. لم يمكث في أي مكان فترة طويلة، ولم يشغل أي وظيفة دائمة، اعتمد إيردوس على حسن ضيافة زملائه المخلصين، الذين كان يسعدهم إكرامه سعادة غامرة في مقابل تمتعهم بصحبة عقله شديد الذكاء دائم البحث، وقد اشتهر بنظرته لنفسه كآلية لتحويل القهوة إلى نظريات، ولا يعني ذلك أنه تعلم قط إعداد القهوة أو أيا من المهام اليومية العديدة الأخرى، مثل الطهي والقيادة، التي ينظر إليها عامة البشر الأقل شأنا كأمور بسيطة تماما، لكن فيما يتعلق بالرياضيات، اتسم إيردوس بقوته الشديدة، فنشر نحو ألف وخمسمائة بحث على مدار حياته (بل نشر بعضها بعد وفاته أيضا)، وهو ما يتجاوز ما نشره أي عالم رياضيات في التاريخ، ربما باستثناء أويلر العظيم.
ابتكر إيردوس أيضا، بالاشتراك مع معاونه ألفريد ريني، النظرية الأساسية للرسوم البيانية العشوائية، و«الرسم البياني العشوائي»، كما يوحي اسمه، هو شبكة من نقاط التلاقي تصل بينها روابط على نحو عشوائي تماما. حسب تشبيه عالم الأحياء ستيوارت كوفمان، تخيل إلقاء ملء صندوق من الأزرار على الأرض، ثم اختيار أزواج منها عشوائيا وربطها معا بخيوط ذات أطوال مناسبة (الشكل
2-1 ). إذا كانت لدينا أرضية كبيرة للغاية، وصندوق أزرار ضخم، ووقت فراغ طويل، فما الشكل الذي ستئول إليه هذه الشبكات؟ وتحديدا، ما السمات التي يمكننا إثبات أن كل هذه الشبكات لا بد أن تتسم بها؟ إن كلمة «إثبات» هي ما يجعل نظرية الرسم البياني العشوائي صعبة، بل شديدة الصعوبة، فليس كافيا تجربة بضعة أمثلة فحسب، وملاحظة ما سيحدث، بل يحتاج المرء إلى التفكير فيما يمكن أن يحدث وما لا يمكن أن يحدث في كل ظرف محتمل الحدوث، وما الشروط التي يجب التمسك بها للتأكد. لحسن الحظ، كان إيردوس أستاذا في الإثبات، وفيما يلي إحدى النتائج العميقة التي توصل إلى إثباتها مع ريني.
شكل 2-1: رسم بياني عشوائي متخيل يصور مجموعة من الأزرار المربوطة معا بخيوط. تتصل أزواج من نقاط التلاقي (الأزرار) معا عشوائيا عن طريق روابط أو صلات.
بالعودة إلى تشبيه الأزرار، تخيل أننا ربطنا عددا من الخيوط بأزرار - أي عدد نشاء - ثم التقطنا زرا عشوائيا، على أن نعد جميع الأزرار الأخرى التي ترتفع معه من على الأرض. تعد كل هذه الأزرار الثانوية جزءا من «المكون المتصل» للزر المختار. وإذا كررنا هذا التمرين بالتقاط واحد من الأزرار المتبقية، فسنجد مكونا متصلا آخر، ويمكننا الاستمرار على هذا النحو حتى لا يتبقى أي زر على الأرض. ما الحجم الذي سيكون عليه أكبر هذه المكونات؟ سيعتمد ذلك على عدد الخيوط التي ربطتها، لكن كيف سيعتمد على ذلك «بالضبط»؟
إذا كان لديك ألف زر، وربطت خيطا واحدا فقط بين زرين، فسيحتوي أكبر مكون على زرين فحسب، وهو ما تقترب قيمته من الصفر نسبة إلى الشبكة الكاملة. على الجانب الآخر، إذا ربطت كل زر بكل زر آخر، فمن الواضح أيضا أن أكبر مكون سيتضمن الأزرار الألف جميعها، أو الشبكة بأكملها. لكن ماذا عن جميع الحالات الممكنة بين هاتين الحالتين؟ يعرض الشكل
2-2
مخططا لجزء من الشبكة، أو رسما بيانيا عشوائيا يشغله أكبر مكون متصل في مقابل عدد الروابط الموجودة. كما هو متوقع، عندما يكون عدد الروابط قليلا للغاية، لا يرتبط أي شيء بأي شيء آخر، ونظرا لأننا أضفنا الخيوط على نحو عشوائي تماما، فدائما ما سنربط كل زر منفصل بآخر، وإن كان أحد هذه الأزرار متصلا بخيط بالفعل، فمن المرجح ألا يؤدي هذا الخيط إلا إلى مجموعة صغيرة من الأزرار الأخرى.
شكل 2-2: اتصالية الرسم البياني العشوائي. يتغير عدد نقاط التلاقي المتصلة في مكون واحد فجأة عندما يتجاوز متوسط عدد الروابط لكل نقطة تلاقيا واحدا.
لكن شيئا غريبا يحدث بعد ذلك، عندما نضيف عددا كافيا من الخيوط بحيث يتصل بكل زر خيط واحد في المتوسط، تصعد نسبة الرسم البياني التي يشغلها المكون الأكبر مما يقترب من الصفر إلى حوالي واحد على نحو مفاجئ وسريع. وبلغة الفيزياء، يعرف هذا التغير السريع باسم «التحول الطوري»؛ نظرا لحدوث تحول من مرحلة مفككة إلى مرحلة متصلة، والنقطة التي يبدأ فيها حدوث ذلك (حيث يصعد الخط لأول مرة في الشكل
2-2 ) تسمى «النقطة الحرجة». وتحدث التحولات الطورية، مثلما سنرى بعد ذلك، في الكثير من الأنظمة المعقدة، وقد استخدمت لتفسير شتى الظواهر؛ مثل المغنطة، وتفشي الأوبئة، وانتشار الصيحات الثقافية الحديثة. في هذه الحالة بالتحديد، يحدث التحول الطوري عن طريق إضافة عدد صغير من الروابط بالقرب من النقطة الحرجة بما يعمل على الربط بين الكثير من التكتلات شديدة الصغر في مكون واحد ضخم يمتد بعد ذلك ليشمل جميع نقاط التلاقي الأخرى حتى يصير كل شيء متصلا. فسر إيردوس وريني وجود هذا التحول الطوري وطبيعته في عام 1959.
لم نهتم بذلك؟ ببساطة لأنه إذا لم تشكل نقطتا تلاق جزءا من المكون نفسه، فلن يمكنهما الاتصال أو التفاعل أو التأثير إحداهما على الأخرى، يمكن أيضا أن تكونا في نظامين مختلفين، بحيث لا يمكن لسلوك إحداهما التأثير بأي شكل على سلوك الأخرى، من ثم، فإن وجود مكون ضخم يعني أن أي شيء يحدث في موقع واحد من الشبكة لديه القدرة على التأثير على أي موقع آخر، وعلى النقيض، فإن غيابه يقتضي ضمنا أن الأحداث المحلية لا يمكن الشعور بها سوى محليا. استهل إيردوس وريني عملهما المبدئي عن طريق التفكير في شبكات الاتصالات، وتساءلا عن عدد الروابط التي يجب أن توجد بين مجموعة من الأجهزة قبل أن يتمكن واحد منها، اختير عشوائيا، من الاتصال بالجزء الأكبر من النظام، ومن ثم يعد الخط الفاصل بين الانعزال والاتصال حدا مهما لتدفق المعلومات والأمراض والأموال والابتكارات والصيحات الثقافية والأعراف الاجتماعية وكل شيء آخر نهتم به في المجتمع المعاصر. إن حدوث الاتصال العالمي، لا على نحو متزايد تدريجيا، بل بقفزة فجائية مثيرة، يعني وجود شيء عميق وغامض بشأن هذا العالم، على الأقل إذا صدقنا أن الرسوم البيانية العشوائية تمثل العالم تمثيلا جيدا.
هذه، بالطبع، هي المشكلة؛ فمع ما تتسم به نظرية الرسوم البيانية العشوائية من تعقيد (وهي معقدة على نحو محير)، فإن كل شيء نعرفه تقريبا عن الشبكات الحقيقية، بدءا من الشبكات الاجتماعية وصولا إلى شبكات الخلايا العصبية، يشير إلى أنها ليست عشوائية ، أو على الأقل ليست كالرسوم البيانية العشوائية التي وضعها إيردوس وريني. لماذا؟ حسنا، تخيل أنك اخترت أصدقاءك عشوائيا بالفعل من بين سكان العالم الذين يزيد عددهم عن الستة مليارات، إن احتمالية مصادقتك شخصا بقارة أخرى أكبر من احتمالية مصادقتك شخصا بمدينتك أو مكان عملك أو مدرستك. تبدو هذه فكرة سخيفة، حتى في عالم تطغى عليه الاتصالات الإلكترونية والرحلات الدولية، لكن بالتمادي في هذه الفكرة، فإنه إن كان لديك نحو ألف صديق، وكل منهم لديه ألف صديق بدوره، ففرصة معرفة أي من أصدقائك بالآخر لن تتجاوز نسبتها واحدا في الستة ملايين! ومع ذلك، فإننا نعرف من واقع خبرتنا اليومية أن أصدقاءنا يمكن أن يكونوا على معرفة ببعضهم البعض بالفعل، ومن ثم لا يمكن أن تكون الرسوم البيانية العشوائية تمثيلا جيدا للعالم الاجتماعي الحقيقي. ومع الأسف، كما سنرى لاحقا، ما إن نبتعد عن الافتراضات شديدة المثالية عن العشوائية التامة التي يعتمد عليها واضعو نظريات الرسوم البيانية، حتى يصير من الصعب للغاية إثبات أي شيء على الإطلاق، ومع ذلك، إذا أردنا فهم سمات شبكات العالم الواقعي وسلوكها، فسوف نواجه في النهاية قضية البنية غير العشوائية. (2) الشبكات الاجتماعية
من الظلم إلى حد ما وصف علم الاجتماع بأنه فرع المعرفة الذي يحاول تفسير السلوك البشري، وليس البشر؛ ففي حين يهتم علم النفس للغاية بفهم ما يفعله الناس وفقا لسماتهم وخبراتهم الشخصية، بل وفقا لفسيولوجيا أجسامهم أيضا، ينظر علم الاجتماع إلى السلوك - أو الفعل - البشري على أنه مدفوع، بل محدد، بالأدوار التي يلعبها الناس داخل المؤسسات الثقافية والاقتصادية والسياسية، التي تحدد بيئتهم الاجتماعية، أو كما قال ماركس: «يصنع البشر تاريخهم، لكنهم ... لا يصنعونه في ظل ظروف من اختيارهم.» ومن ثم فإن الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع هو البنية، وعليه، فقد لا يكون من المدهش أن نظرية تحليل الشبكات، التي انبثقت من علم الاجتماع (وفرع المعرفة المرتبط به، ألا وهو علم الإنسان)، كان لها دائما طابع بنيوي قوي.
إذا ما اختصرنا خمسة عقود من الفكر في بضع صفحات ، فسنجد أن محللي الشبكات الاجتماعية طوروا أسلوبين شاملين للتفكير في الشبكات؛ يتناول الأسلوب الأول العلاقة بين «بنية الشبكة» - مجموعة الروابط الواضحة التي تربط أعضاء مجموعة بشرية معينة، مثل شركة أو مدرسة أو منظمة سياسية - و«البنية الاجتماعية» المناظرة التي يمكن على أساسها التفريق بين الأفراد وفقا لانتمائهم إلى أدوار أو مجموعات مختلفة اجتماعيا. ظهرت مجموعة كبيرة من التعريفات والأساليب على مدار الأعوام تحمل أسماء من قبيل: نماذج الكتل، والتكتل الهرمي، والتدرج متعدد الأبعاد، لكن جميعها وضع أساسا لاستخلاص المعلومات عن المجموعات المختلفة اجتماعيا من بيانات شبكية ارتباطية تماما، سواء عن طريق قياس مباشر «للمسافة الاجتماعية» بين الفاعلين، أو تجميع الفاعلين في مجموعات حسب مدى تشابه علاقاتهم مع الفاعلين الآخرين في الشبكة، ووفقا لهذه الرؤية، تعد الشبكات العلامة المميزة للهوية الاجتماعية، فيمثل نموذج العلاقات بين الأفراد مخططا لسمات الأفراد أنفسهم وتفضيلاتهم.
أما الأسلوب الثاني، فيحمل طابعا أكثر آلية؛ إذ ينظر هنا إلى الشبكة كوسيلة لنشر المعلومات أو إحداث تأثير، وموقع الفرد في النموذج الكلي للعلاقات يحدد المعلومات التي يمكن لهذا الفرد الوصول إليها، أو الأشخاص الذين يمكنه التأثير عليهم. لا يعتمد، إذن، دور الشخص الاجتماعي على المجموعات التي ينتمي إليها فحسب، بل يتوقف أيضا على موقعه داخل هذه المجموعات، وكما هو الحال مع الأسلوب الأول، وضع عدد من المقاييس لتحديد المواقع التي يحتلها الأفراد داخل الشبكة، والربط بين قيمها الرقمية والاختلافات المرصودة في الأداء الفردي.
يستثنى من هاتين الفئتين العامتين المفهوم المعروف باسم «الرابط الضعيف»، الذي قدمه عالم الاجتماع مارك جرانوفتر، وهو يشكل تمهيدا لبعض النماذج التي سنتناولها في مشكلة العالم الصغير. بعد إتمام جرانوفتر لدراسة مكثفة لمجتمعين في بوسطن أثمرت محاولتهما لحشد الرأي ضد تهديد التنمية الحضرية إلى نتائج مختلفة تمام الاختلاف، توصل جرانوفتر إلى نتيجة مدهشة، وهي أن التنسيق الاجتماعي الفعال لا ينشأ من روابط «قوية» شديدة التشابك، بل من وجود روابط ضعيفة عرضية بين الأفراد الذين لا يمتون في أغلب الأحيان بصلة قوية بعضهم لبعض، أو ليس لديهم الكثير من الأمور المشتركة فيما بينهم، وقد أطلق جرانوفتر على هذا التأثير في بحثه الهام، الذي أصدره عام 1973، «قوة الروابط الضعيفة»، وهي عبارة جميلة ومنمقة دخلت منذ ذلك الحين في قاموس علم الاجتماع.
أوضح جرانوفتر فيما بعد أن ثمة علاقة ارتباط مماثلة بين الروابط الضعيفة من ناحية، وتوقعات الأفراد بالحصول على وظيفة من ناحية أخرى؛ فالبحث عن وظيفة، حسبما اتضح، لا يتعلق فحسب بوجود صديق يمهد لك الطريق، لكن طبيعة هذا الصديق لها أهمية كبيرة. لكن المفارقة هنا هي أن من ستجني من ورائهم أقصى فائدة لن يكونوا الأصدقاء المقربين! فنظرا لأن هؤلاء الأصدقاء يعرفون الكثير من معارفك، ويمكن أن يحصلوا على المعلومات نفسها، نادرا ما يكونون هم من يمكنهم مساعدتك في الانتقال إلى بيئة جديدة مهما كانت رغبتهم في ذلك، لكن غالبا ما يكون المعارف غير المقربين هم من يفيدونك؛ نظرا لقدرتهم على منحك معلومات ما كان بإمكانك أبدا الحصول عليها بطريقة أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار الروابط الضعيفة حلقة وصل بين التحليل على مستوى الأفراد وعلى مستوى المجموعات؛ إذ إن الأفراد هم من ينشئونها، لكن وجودها يؤثر على حالة وأداء ليس فقط الأفراد الذين «يملكونها»، بل أيضا المجموعة الكاملة التي ينتمون إليها، ومن ثم، زعم جرانوفتر أنه يمكن تحديد هل الروابط قوية أم ضعيفة عن طريق النظر إلى البنية على مستوى المجموعات فقط؛ أي ملاحظة البنية التي ينتمي إليها الأفراد. ومع أننا سنرى أن العلاقة بين ما هو خاص (الأفراد) وما هو عام (المجموعات والمجتمعات والتجمعات وما إلى ذلك) أكثر دقة إلى حد ما مما وصفه جرانوفتر منذ ثلاثين عاما، فإن عمله يمثل تنبؤا ملفتا للنظر بعلم الشبكات الحديث الآن. (3) للديناميكيات أهمية
إن فهم محللي الشبكات الاجتماعية العميق للبنية يفتح الباب أمام مجموعة كاملة من الأسئلة البعيدة تماما في جوهرها عن النظرية المجردة للرسوم البيانية، لكن لا تزال ثمة مشكلة رئيسية فيما يتعلق بتحليل الشبكات الاجتماعية، ألا وهي «غياب الديناميكيات»؛ فبدلا من التفكير في الشبكات ككيانات تتطور تحت تأثير القوى الاجتماعية، تعامل معها محللو الشبكات غالبا كتجسيد جامد لتلك القوى، وبدلا من النظر إلى الشبكات كقنوات ينتشر من خلالها التأثير حسب قواعدها الخاصة، نظر إلى الشبكات نفسها كتمثيل صريح للتأثير. ووفق أسلوب التفكير هذا، يعتقد أن بنية الشبكة، التي ينظر إليها كمجموعة ثابتة من المقاييس، تجسد جميع المعلومات المتعلقة بالبنية الاجتماعية؛ تلك المعلومات ذات الصلة بسلوك الأفراد وقدرتهم على التأثير على سلوك النظام. كل ما يتطلبه الأمر هو جمع البيانات الخاصة بالشبكة، ثم قياس السمات الصحيحة، وسيتضح كل شيء على نحو مذهل.
لكن ما الذي يجب قياسه؟ وما الذي سيتم استيضاحه بالضبط؟ يمكن أن تعتمد الإجابات هنا اعتمادا كبيرا على نوع التطبيق المحدد الذي يتعامل معه المرء؛ على سبيل المثال، لا يتشابه بالضرورة تفشي مرض ما مع انتشار أزمة مالية أو ابتكار تكنولوجي. إن السمات البنائية للشبكة التي تمكن أي مؤسسة من جمع المعلومات بفعالية يمكن أن تختلف عن تلك التي تمكنها من معالجة المعلومات التي تمتلكها بالفعل أو التغلب على كارثة غير متوقعة. إن الدرجات الست التي تفصل المرء عن رئيس الولايات المتحدة يمكن أن تمثل مسافة قصيرة أو طويلة، ويعتمد ذلك على ما يبتغي المرء فعله. أوضح جون كلاينبيرج (الذي سنتعرض لعمله الملهم في مسألة العالم الصغير في الفصل
الخامس ) ذلك ذات مرة لأحد الصحفيين، فقال له إنه اشترك مع أحد الباحثين بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، في كتابة بعض الأبحاث، وكان ذلك الباحث قد سبق له التعاون مع من أصبح بعد ذلك الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، وعلق كلاينبيرج على ذلك قائلا: «للأسف، لا يجعل لي ذلك تأثيرا كبيرا على بيل جيتس.»
نظرا لأن القياسات الثابتة والبنيوية الخالصة لبنية الشبكات لا تفسر أي نشاط يحدث في الشبكة، فإن تلك الأساليب لا توفر أي وسيلة منهجية لترجمة مردودها إلى عبارات ذات معنى حول النتائج. مثال على ذلك، تدبر ادعاء إحدى كليات الإدارة بأن القيادة مهارة عامة بكل ما تحمله الكلمة من معان وتنطبق قواعدها في أي سياق؛ فإن ما تدعو إليه هذه الكلية واضح، وهو: تعلم كيفية «الإدارة» وسيمكنك إدارة أي شيء، بدءا من شركة ناشئة، مرورا بمنظمة غير ربحية، وصولا إلى فصيلة عسكرية، لكن من الناحية العملية لا تسير الأمور بهذه البساطة؛ فالقيادة اللازمة في وحدة مشاة مقاتلة - على سبيل المثال - مختلفة تماما عن تلك اللازمة في مكتب حكومي، والقائد الذي يحسن البلاء في إحدى البيئات يمكن أن يكون أداؤه ضعيفا للغاية في غيرها. ولا يعني ذلك أنه لا توجد مبادئ مشتركة على الإطلاق، لكن لا بد من تفسير هذه المبادئ في ضوء ما تحاول المؤسسة على وجه التحديد تحقيقه، وفي ضوء أنماط البشر الذين يعملون فيها. يسري الأمر نفسه على التحليل البنيوي؛ فبدون نظرية مماثلة عن السلوك - الديناميكيات - لن يمكن تفسير نظرية بنية الشبكات على الإطلاق، ومن ثم لن تكون ذات فائدة عملية تذكر.
تعد «المركزية» أحد الأمثلة الهامة على ما يسفر عنه تناول الشبكات بمنهج بنيوي خالص من تبني كثير من المحللين لنظرة مطمئنة - لكنها مضللة تماما - عن العالم. يتمثل أحد أكبر الألغاز المتعلقة بالنظم الكبيرة الموزعة - بدءا من المجتمعات والمؤسسات وصولا إلى العقول والنظم البيئية - في الكيفية التي يمكن أن يظهر بها نشاط متسق على نحو كلي في غياب رقابة أو سلطة مركزية. عادة ما يتم تجنب مشكلة التنسيق اللامركزي عن طريق إدماج مركز تحكم واضح، وذلك في النظم التي صممت وأعدت خاصة لفرض التحكم؛ كالنظم الديكتاتورية وشبكات أجهزة الاستدعاء التي تعمل بالقمر الصناعي، لكن في كثير من الأنظمة - عادة تلك التي تطورت أو ظهرت طبيعيا - يكون مصدر التحكم غير واضح على الإطلاق. تحظى المركزية بقدر كبير من الجاذبية بطبيعتها، وهو ما دفع محللي الشبكات إلى التركيز بشدة على ابتكار تدابير لها، سواء للأفراد داخل الشبكة أو للشبكة بالكامل.
يقتضي هذا المنهج ضمنا أن الشبكات التي تبدو لامركزية هي في حقيقة الأمر ليست كذلك على الإطلاق، فإذا تأملنا بإمعان بيانات الشبكات، فسيتضح لنا أنه حتى الشبكات الكبيرة المعقدة تعتمد على مجموعة ثانوية صغيرة من الفاعلين المؤثرين، ووسطاء المعلومات، والموارد الهامة، وتمثل هذه العناصر مجتمعة المركز الفعال الذي يعتمد عليه أي شخص آخر. قد لا يكون هؤلاء الفاعلون الرئيسيون واضحين - وقد يبدون غير مهمين بالمقاييس التقليدية للمكانة أو السلطة - لكنهم موجودون دائما، وما إن يحددوا حتى تتضح الأمور، ويصير أمامنا نظام له مركز. شاعت مفاهيم المركزية شيوعا كبيرا في دراسات الشبكات، ومن السهل إدراك السبب وراء ذلك؛ فالنظرية قابلة للاختبار والتحليل، وتؤدي إلى نتائج قابلة للقياس، بل مدهشة في بعض الأحيان (مثل أن يكتشف أن أكثر مجموعات النفوذ تماسكا في أي شركة هم المدخنون الذين يتجمعون بالخارج عدة مرات في اليوم، أو أن مساعد المدير، وليس المدير نفسه، هو وسيط المعلومات الرئيسي)، لكنها في الوقت نفسه لا تجبرنا على استيعاب أي مفاهيم شديدة الصعوبة أو منافية للبديهة. للعالم دائما مركز، ويعالج هذا المركز المعلومات ويوزعها، ويحدث الفاعلون المركزيون أثرا أكبر من الفاعلين الهامشيين.
لكن ماذا إذا لم يكن هناك أي مركز؟ أو ماذا إذا كان هناك الكثير من «المراكز» التي ليس من الضروري أن تكون متسقة أو حتى متفقة؟ ماذا إذا لم تنشأ الابتكارات المهمة في قلب الشبكة، بل في أطرافها التي ينشغل وسطاء المعلومات عن الانتباه إليها؟ ماذا إذا انتشرت الأحداث البسيطة في أماكن غير واضحة عن طريق الظروف العرضية والمصادفات العشوائية، لتؤثر بذلك على عدد كبير من قرارات الأفراد، التي يتخذونها في غياب أي خطة كبرى، لكنها تتجمع على نحو ما في صورة حدث بالغ الأهمية لا يتوقعه أحد، بما في ذلك الفاعلون أنفسهم؟
في مثل هذه الحالات، فإن مركزية الأفراد في الشبكة، أو أي مركزية من أي نوع، لن تخبرنا بالكثير أو بأي شيء على الإطلاق بشأن النتيجة؛ وذلك لأن «المركز لا يظهر إلا كنتيجة للحدث نفسه». لهذه العبارة تبعات مهولة فيما يخص فهمنا للشبكات. في عدد وافر من النظم، من الاقتصاد إلى الأحياء، لا تنبع الأحداث من أي مركز موجود من قبل، بل من التفاعلات بين الأنداد، فلتتذكر آخر مرة كنت فيها وسط جمهور كبير بإحدى الحفلات الموسيقية، ووسط التهليل الفوضوي بدأ الجمهور بأكمله في التصفيق بإيقاع واحد معا، هل فكرت من قبل كيف يتمكن الجميع من الاتفاق على إيقاع واحد؟ ففي نهاية الأمر، يصفق الكثير من الناس طبيعيا بإيقاعات مختلفة، ولا يبدءون جميعا في اللحظة ذاتها بالضبط. فمن الذي يختار لحظة التصفيق؟ في بعض الأحيان يكون الأمر سهلا؛ تتوقف الموسيقى، ويصفق الجميع مع إيقاع الطبلة الجهير، أو يبدأ المغني الرئيسي تصفيقا بطيئا من فوق المسرح ليحث الجمهور على البدء في التصفيق، لكن عادة لا توجد مثل هذه الإشارة المركزية، وفي هذه الحالات لا يلتقط أحد أي إشارة على الإطلاق.
ما يحدث هو أنه عندما يقترب الجمهور من المزامنة، يمكن أن يبدأ بعض الناس، بالمصادفة العشوائية، في التصفيق معا، وهم لا يفعلون ذلك على نحو متعمد ومنعزل، ويمكن أن يستمر ذلك بضع لحظات فحسب، لكنها تكون كافية؛ فنظرا لأن هؤلاء الأفراد يتكتلون معا، يكون صوت تصفيقهم أعلى مؤقتا من أي شخص آخر على مرمى السمع، ومن ثم تزيد احتمالية جذبهم آخرين للمزامنة معهم مقارنة باحتمالية حيادهم بعيدا عن المزامنة، ومن ثم ينضم آخرون إليهم على الأرجح، ومن ثم يعززون إشارتهم ويجذبون آخرين إليهم أيضا، وفي غضون ثوان يصبحون المركز الذي ينتظم حوله الجمهور بأكمله. لكن إذا سأل مراقب من الخارج: من بدءوا تلك المزامنة كيف فعلوا ذلك؟ فالاحتمال الأقوى هو أن يندهشوا مثل أي شخص آخر لاكتشافهم وضعهم الخاص هذا. علاوة على ذلك، إذا كرر ذلك المراقب التجربة مع الأفراد أنفسهم في الاستاد، فسيكتشف أن الجمهور سيتآزر حول مركز اعتباطي مختلف آخر.
يمكن أن ينطبق ذلك إلى حد بعيد على العمليات الاجتماعية الأكثر تعقيدا؛ كالثورات، ففي النهاية، لم تأت الإطاحة بالرئيس الصربي الديكتاتور، سلوبودان ميلوسيفيتش، على يد قائد سياسي آخر، أو حتى جيشه، لكن تمثلت القوة الدافعة لسقوطه في حركة طلابية مجهولة ضعيفة التنظيم عرفت باسم أوتبور (وهي كلمة صربية تعني المقاومة)، ولم تحظ هذه الحركة بقيادة مركزية متماسكة إلا بعد نجاحها في حشد دعم شعبي. إن أي تحليل تقليدي للشبكات الاجتماعية لتلك الحركة الطلابية من شأنه ملاحظة أصحاب الأدوار الرئيسية في الحركة، وتتبع ارتباطهم بعضهم ببعض، وبتابعيهم، وبالمنظمات الخارجية أيضا، ومحاولة تحديد الآليات التي أصبحوا من خلالها العناصر التنظيمية المركزية، لكن كما سنرى في الفصل
الثامن ، عندما يتعلق الأمر بالعمل الاجتماعي المنسق واسع النطاق، لا يكون تدارس الحدث بعد وقوعه سليما تماما، بل يمكن أن يكون في الواقع مضللا للغاية، فبدلا من أن يرسم القادة الأحداث، يمكن أن يحدث العكس تماما؛ فيحدد تسلسل الأحداث وتفاصيل توقيتها من يظهرون كقادة. وفي ظل السخط الذي جاش بصربيا في صيف عام 2000، لم يتطلب الأمر سوى بضعة أحداث بسيطة وعشوائية تماما لتثور الحركة الطلابية والشعب. عمل الكثير من الأفراد على الإطاحة بميلوسيفيتش، لكن بعضهم وحسب هم من صاروا قادة، وليس بالضرورة أن يكون سبب ذلك أنهم كانوا أكثر تميزا من الآخرين، أو كانوا يتمتعون بوضع متميز للغاية، لكن تتابع أحداث الثورة نفسها هو الذي حدد مركزها، كما هو الحال بالضبط في حالة الجمهور المصفق أو المكون الكبير في الرسم البياني العشوائي لإيردوس وريني.
كيف ينشأ إذن النشاط العام المترابط من التفاعلات بين الأنداد، دون وجود أي رقابة أو سلطة مركزية؟ تعد بنية الشبكة - كما سنرى في الصفحات التالية - أمرا محوريا في هذا الشأن، وكذلك الديناميكيات. على الرغم من استخدامنا السابق لمصطلح الديناميكيات، فهو في الحقيقة يحمل معنيين يلزم التمييز بينهما، لأن كلا منهما تمخض عنه فرع كامل لعلم الشبكات الحديث؛ المعنى الأول، الذي سيطغى على مناقشتنا في الفصلين
الثالث
و
الرابع ، هو ما يمكن أن نطلق عليه «ديناميكيات الشبكة»، ووفقا لهذا المعنى، تشير الديناميكيات إلى البنية المتطورة للشبكة نفسها؛ أي عملية تكون روابط الشبكة وتفككها. على سبيل المثال، نقابل على مدار الزمان أصدقاء جددا ونفقد اتصالنا بأصدقاء قدامى، ومن ثم تتغير شبكاتنا الشخصية، وأيضا البنية العامة للشبكة الاجتماعية التي ننتمي إليها. يمكن النظر إلى البنى الثابتة لتحليل الشبكات التقليدي كلقطات فوتوغرافية التقطت أثناء عملية التطور المتواصلة هذه، لكن عند النظر إلى الشبكات من الناحية الديناميكية، يمكن القول إن البنية القائمة لا يمكن فهمها جيدا إلا من واقع طبيعة العمليات التي أدت إلى ظهورها.
أما المعنى الثاني، الذي سيشغلنا على مدار الفصول من الخامس إلى التاسع، فهو ما يمكن أن نطلق عليه «الديناميكيات القائمة على الشبكة». من هذا المنظور، يمكننا تخيل الشبكة كركيزة ثابتة تربط مجموعة من الأفراد، ويتشابه ذلك مع النظرة التقليدية للشبكات. لكن الأفراد يفعلون أمرا ما الآن - يبحثون عن معلومات، أو ينشرون شائعة، أو يتخذون قرارات - تتأثر نتيجته بما يفعله جيرانهم، ومن ثم ببنية الشبكة. هذه هي الديناميكيات بالضبط التي كنت أفكر فيها مع ستيف ستروجاتس عندما غيرنا مشروعنا عن صراصير الليل منذ عدة أعوام، والتي لا تزال تسيطر على تفكيرنا بشأن العمليات الاجتماعية بصفة دائمة.
يحدث كلا نوعي الديناميكيات طوال الوقت على أرض الواقع، وعلى الفاعلين الاجتماعيين - بدءا من الثوار وصولا إلى المديرين التنفيذيين - الاختيار مرارا وتكرارا، ليس فقط فيما يتعلق بكيفية استجابتهم للأحداث حسب إدراكهم لها، بل أيضا فيما يتعلق بمن يرتبطون به. إذا كان سلوك أحد أصدقائك لا يروق لك، يمكنك أن تحاول تغيير سلوكه أو تقضي وقتك مع شخص آخر. يمكن أن تتغير «بنية الشبكة» استجابة لسيناريو واحد، لكن يمكن أيضا أن تتغير التفاعلات التي تجري «على الشبكة». بالإضافة إلى ذلك، يساعد كل قرار - أي كل صورة من صور الديناميكيات - في إرساء السياق الذي يجب صنع القرارات التالية في إطاره. تؤثر سعادتك على شبكتك، وتؤثر شبكتك على سعادتك. إنه أمر معقد، ومن ثم، لتحقيق بعض التقدم، نحتاج أولا إلى فهم كل نوع من الديناميكيات على حدة، ولحسن الحظ، لدينا ركائز قوية نستند إليها في معالجة هذه المهام. (4) الابتعاد عن العشوائية
أناتول رابوبورت عالم رياضيات، لكن ليس بالمعنى التقليدي؛ فعلى مدار مسيرته المهنية المتميزة التي امتدت لأكثر من نصف قرن، قدم إسهامات عظيمة في علم النفس ونظرية الألعاب وتطور التعاون، بالإضافة إلى علم الأوبئة ودراسة الشبكات الاجتماعية. كان رابوبورت يدرس في الخمسينيات من القرن العشرين انتشار الأمراض في التجمعات البشرية باعتباره عضوا في مجموعة بحثية بجامعة شيكاغو عرفت باسم «لجنة الفيزياء الحيوية الرياضية». وفي الوقت الذي كان معظم علماء الأوبئة يركزون على نماذج الأمراض التي تجاهلت الجوانب الاجتماعية للتفاعلات البشرية، أدركت مجموعة شيكاغو البحثية أنه في حالة بعض الأمراض تمثل الشبكة الفعلية عاملا محوريا، وفي أغلب الظروف، يمكن تحديد مدى خطورة انتشار مرض ما من خلال توضيح من يتفاعل مع من.
سنعود لهذا الموضوع في فصول لاحقة نظرا لارتباطه ليس فقط بانتشار الأمراض، بل أيضا بانتشار المعلومات كالشائعات وفيروسات الكمبيوتر. ما يجب ذكره الآن بشأن عمل رابوبورت المبكر أنه مع تناوله مشكلة بنية الشبكات من منظور عالم الرياضيات، فقد تأثر تأثرا شديدا بالأفكار المستمدة من علم الاجتماع وعلم النفس والأحياء، وربما يرجع السبب في ذلك إلى أنه كان كبير السن نسبيا - في الثلاثينيات من عمره - حين بدأ دراساته العليا، وذلك نظرا لخدمته السابقة في الجيش ومشاركته في الحرب العالمية الثانية، ومن ثم عندما عزم على أن يصبح عالم رياضيات، كان قد شهد بالفعل الكثير من تقلبات الحياة، وربما قرر تضمينها في عمله.
فيما يتعلق بانتشار مرض ما في شبكة اجتماعية محددة، أراد رابوبورت معرفة مدى السوء الذي يمكن أن يبلغه الموقف. بعبارة أخرى، تخيل أن المرض شديد العدوى لدرجة أن كل من يتصل بشخص مريض تنتقل إليه العدوى فعليا. كم سيبلغ عدد المصابين في النهاية؟ حسنا، يعتمد ذلك جوهريا على مدى قوة ارتباط المجموعة البشرية. فإذا كنا نتحدث عن إحدى المناطق الريفية في وسط أفريقيا على أطراف غابة مطيرة، حيث يعيش الناس في قرى صغيرة منعزلة نسبيا، فقد نتصور أن انتشار المرض في قرية واحدة، مع تأثيره المدمر على هذه القرية، سيظل متمركزا في مكان واحد، لكن إذا كنا نتحدث عن قارة أمريكا الشمالية التي تحتوي على تجمعات سكانية ضخمة كثيفة ترتبط معا بشبكة متعددة المستويات من وسائل المواصلات الجوية والبرية والسكك الحديدية، فمن الجلي أن أي شيء خبيث بهذه الدرجة يبدأ في أي مكان سيتفشى تفشيا بالغا. ويتساءل رابوبورت: هل هناك مستوى حرج من الاتصالية بين هذين الحدين يتحول عنده البشر من مجموعة من التجمعات المنعزلة الصغيرة إلى كتلة واحدة متصلة؟ ينبغي أن يبدو هذا السؤال مألوفا؛ فهو السؤال نفسه الذي طرحه إيردوس وريني عن شبكات الاتصالات وأدى إلى نشأة نظرية الرسوم البيانية العشوائية.
وبالفعل، بدأ رابوبورت ومعاونوه عملهم من خلال فحص الشبكات المتصلة عشوائيا للأسباب نفسها تقريبا التي استند إليها عالما الرياضيات المجريان، ومع استخدامهم لأساليب أقل دقة، فقد توصلوا إلى نتائج مشابهة إلى حد ما (قبل إيردوس وريني بعشر سنوات تقريبا!) لكن نظرا لنزعة رابوبورت التطبيقية، فقد أدرك سريعا الحقيقة الكامنة وراء الجمال التحليلي لنموذج الرسم البياني العشوائي، وحاول معالجة ما رآه عيوبا فيه. لكن ماذا هناك غير الشبكات العشوائية؟ في الجملة الافتتاحية لرواية «آنا كارنينا»، كتب تولستوي متفجعا: «الأسر السعيدة كلها متشابهة؛ أما الأسر التعيسة، فلكل منها قصتها.» من هذا المنطلق نفسه، فإن الرسوم البيانية العشوائية جميعها متشابهة في جوهرها، لكن غير العشوائية أصعب بكثير في تحديدها. على سبيل المثال، هل أثارت اهتمامك من قبل فكرة أن بعض الصداقات غير متكافئة، بل غير متبادلة أيضا؟ هل يجب اعتبار بعض العلاقات أهم من غيرها؟ كيف يمكن تفسير تفضيل الناس الواضح للارتباط بمن يشبهونهم؟ هل يمتلك معظم الناس العدد نفسه تقريبا من الأصدقاء؟ أم هل يمتلك بعضهم عددا من الأصدقاء أكبر من المتوسط؟ وكيف يمكن تفسير ظهور مجموعات تكون روابط الصداقة داخلها كثيفة، في حين أن العلاقات بين المجموعات نفسها قليلة نسبيا؟
أجرت مجموعة رابوبورت عدة محاولات جادة لمعالجة هذه القضية، مع التوسع في دراسة الرسوم البيانية العشوائية لتشمل خصائص بشرية مثل «الانجذاب إلى المثيل»، وهو ما يعبر عنه القول المأثور: «الطيور على أشكالها تقع»، الذي لا يصف مجموعات الأخوية في الجامعات فحسب، بل أيضا هياكل الموظفين في الشركات، وقواعد الزبائن في المحلات والمطاعم، والطبيعة العرقية للأحياء السكنية. تساعد خاصية «الانجذاب إلى المثيل» في تفسير سبب معرفتك لمعارفك - نظرا لاشتراككم جميعا في أمر ما - لكن يمكن أن يتساءل المرء أيضا كيف يمكن للأشخاص الذين يعرفهم الآن أن يحددوا من سيعرفهم في المستقبل، فكر رابوبورت في ذلك أيضا، وقدم مفهوم «الإقفال الثلاثي». في الشبكات الاجتماعية، تكون وحدة التحليل الأساسية هي «الزوج»؛ أي العلاقة بين شخصين. لكن أكثر مستويات التحليل التالية بساطة، والأساس لكل بنية المجموعات، هو مثلث، أو ثالوث، يظهر كلما كان للفرد صديقان بينهما علاقة صداقة أيضا. لم يكن رابوبورت أول من فكر في الثالوث كوحدة أساسية لبنية المجموعة؛ فقد قدم عالم الاجتماع الألماني جيورج سيميل الفكرة منذ ما يزيد عن نصف قرن، لكن الجديد في عمل رابوبورت هو تضمين الديناميكيات. من المرجح أن يتعرف غريبان، لديهما صديق مشترك، أحدهما على الآخر بمرور الوقت؛ بمعنى أن الشبكات الاجتماعية (على عكس الشبكات العشوائية) تتطور على نحو تميل فيه البنى الثلاثية إلى الانغلاق على نفسها.
نظر رابوبورت بوجه عام إلى الخصائص التي كان يعرفها كنزعات؛ لأن كلا منها أبعد نماذجه خطوة عن افتراض العشوائية الخالصة دون إغفالها تماما. إن العشوائية سمة قوية وراقية تمثل في كثير من الأحيان بديلا مناسبا تماما للأمور المعقدة والفوضوية وغير المتوقعة التي تحدث في الحياة الواقعية، لكنها تفشل على نحو جلي في إيضاح بعض المبادئ التنظيمية الأكثر قوة التي تتحكم أيضا في القرارات التي يتخذها الناس. لذا، فكر رابوبورت لماذا لا تكون هناك موازنة بين هاتين القوتين في نموذج ما؟ عليك أن تقرر أي المبادئ التنظيمية هي الأهم من وجهة نظرك، ثم تخيل بناء شبكات تستجيب لهذه الخصائص، لكنها دون ذلك تكون عشوائية. وقد أطلق رابوبورت على الفئة الجديدة التي وضعها من النماذج اسم «الشبكات المائلة للعشوائية».
تتمثل قوة هذا المنهج في أنه من خلال تعامله مع الشبكات باعتبارها نظما متطورة ديناميكيا، تجنب العيب الرئيسي في التحليل القياسي الثابت للشبكات، لكن للأسف، أثناء فعل ذلك، واجه هذا المنهج عقبتين لم يمكن تخطيهما؛ إحداهما نظرية والأخرى تجريبية. تتمثل العقبة الأولى في البيانات، ففي عصرنا الحالي ، وفي أعقاب ثورة الإنترنت، اعتدنا رؤية بيانات عن الشبكات الضخمة وصور لها، ويشمل ذلك شبكة الإنترنت ذاتها. بل الأكثر أهمية أن التكنولوجيا القادرة على تسجيل التفاعلات الاجتماعية إلكترونيا، بدءا من المكالمات الهاتفية وصولا إلى الرسائل الفورية وغرف الدردشة على الإنترنت، زادت من حجم بيانات الشبكة أضعافا مضاعفة في السنوات القليلة الماضية وحدها.
لكن لم يكن هذا هو الحال دائما في جمع البيانات، فحتى وقت قريب كمنتصف التسعينيات، وبالتأكيد في الخمسينيات، كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على بيانات الشبكات الاجتماعية هي الخروج إلى الشارع وجمعها يدويا؛ يعني ذلك توزيع نماذج استقصاء يطلب فيها من الخاضعين للدراسة تذكر معارفهم، وذكر طبيعة علاقتهم بهم. ليس هذا بالمنهج الذي يعول عليه تعويلا كاملا في الحصول على بيانات عالية الجودة، ولا يرجع ذلك فحسب إلى أن الناس يواجهون صعوبة في تذكر معارفهم دون حثهم على ذلك على نحو مناسب، لكن أيضا لأن وجهة نظر أي اثنين يعرف أحدهما الآخر تجاه علاقتهما يمكن أن تختلف تماما من أحدهما للآخر، ومن ثم يمكن أن يكون من الصعب التعبير عن الأمر بالفعل. يتطلب هذا المنهج أيضا الكثير من الجهد من جانب الخاضعين للدراسة، والباحث بوجه خاص. هناك أسلوب أفضل بكثير، ألا وهو تسجيل ما يفعله هؤلاء الناس بالفعل، ومع من يتفاعلون، وكيفية تفاعلهم معهم. لكن في غياب وسيلة جمع إلكترونية للبيانات، يعد هذا الأسلوب أصعب في تنفيذه عمليا من الاستقصاء، ومن ثم فإن بيانات الشبكات الاجتماعية، أينما وجدت، تتناول مجموعات صغيرة من الناس، وغالبا ما تكون قاصرة على عدد معين من الأسئلة التي يفكر الباحث في طرحها مسبقا، ومن ثم، لم يكن لدى رابوبورت هدف لنماذجه، وإذا لم يكن المرء يعلم كيف يبدو العالم، فمن الصعوبة بمكان معرفة هل نجح في الوصول إلى أي شيء ذي مغزى بشأنه.
لكن رابوبورت واجه أيضا مشكلة أكثر صعوبة من ذلك، فمع فهمه للمشكلة التي كان «يحاول» حلها، فإنه لم يستطع الهروب من حقيقة أنه في خمسينيات القرن العشرين لم يكن لديه بالفعل سوى قلم رصاص وورقة لأداء عمله، وحتى في عصرنا الحالي أيضا، مع وجود أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة، يعد تحليل الشبكات المائلة للعشوائية مسألة صعبة، أما حينذاك، فكان الأمر مستحيلا فعليا. تتمثل الصعوبة الأساسية هنا في أنه عند دحض افتراض إيردوس وريني الذي ينص على أن كل اتصال بالشبكة ينشأ مستقلا عن أي اتصال آخر، يصبح من غير الواضح ما الذي يعتمد على ماذا. على سبيل المثال، من المفترض أن يؤثر الإقفال الثلاثي على الشبكة على نحو خاص للغاية، عن طريق جعل الدورات الثلاثية (الثلاثيات) أكثر ترجيحا. يعني ذلك أنه إذا كان (أ) يعرف (ب)، و(ب) يعرف (ج)، فمن المرجح أن (ج) يعرف (أ) أكثر من أي شخص آخر يختار عشوائيا.
لكن ما إن نبدأ في استكمال الثلاثيات حتى نفاجأ بشيء آخر لم نتوقعه، ألا وهو ظهور دورات بأطوال أخرى أيضا. يوضح الشكل
2-3
هذا الاعتماد غير المتوقع؛ فنرى في الإطار الأول منه أربع نقاط تلاق تتصل معا في سلسلة نفترض أنها جزء من شبكة أكبر. تخيل الآن أن نقطة التلاقي (أ) بحاجة لإقامة ارتباط جديد، لكن لديها ميلا (نزعة) للارتباط بصديق صديق ما. فمن المرجح أكثر أن ترتبط هذه النقطة بنقطة التلاقي (ج) أكثر من أي نقطة أخرى، لذا لنفترض أن هذا ما سيحدث بالفعل. نصل الآن إلى الإطار الثاني من الشكل، حيث يمكن أن نتخيل أن نقطة التلاقي (د) بحاجة لاختيار صديق جديد. مرة أخرى، تميل النقطة (د) إلى الارتباط بصديق صديق ما، وليس هناك سوى نقطتي تلاق متوفرتين، ألا وهما (أ) و(ب)، فتجري (د) قرعة وتختار (أ)، الأمر الذي ينقلنا إلى الإطار الثالث. ما الذي حدث هنا؟ كل ما حددناه هو تفضيل الارتباط بصديق صديق ما، أو بعبارة أخرى استكمال الثلاثيات - الدورات الثلاثية - لكن أثناء فعل ذلك، أنشأنا أيضا دورة رباعية (أ ب ج د).
لا تتضمن قاعدتنا أي معلومات عن الدورات الرباعية - إذ تقتصر النزعات على الثلاثيات فقط - لكنها ستظهر حتما، بالإضافة إلى دورات بأطوال أخرى تنشأ بالأسلوب المتراكم نفسه. يرجع السبب على وجه التحديد في ذلك إلى أن بناء الشبكة عملية ديناميكية، وإنشاء كل رابط متعاقب يضع في الاعتبار الحالة الحالية للشبكة التي تتضمن كل الروابط التي أنشئت من قبل. فما كان الاتصال من (د) إلى (أ) ليحدث على الأرجح إذا لم يكن الاتصال من (أ) إلى (ج) قد حدث أولا. لذا، فإن النزعات المحددة تحديدا واضحا للغاية لا تؤدي إلى نتائج غير متعمدة فحسب، بل احتمالية أن يقع أي حدث في أي لحظة أثناء تطور الشبكة يعتمد أيضا بوجه عام على كل ما حدث وصولا إلى هذه اللحظة.
شكل 2-3: تطور شبكة مائلة للعشوائية. يؤدي النزوع لإنشاء دورات ثلاثية (نزعة الإقفال الثلاثي) إلى ظهور دورات أطول أيضا (هنا يندمج كل من (أ ب ج) و(أ ج د) لإنشاء (أ ب ج د)).
في زمن رابوبورت، كان هذا الإدراك كافيا لإنهاء البحث، ويمكن ملاحظة إدراك رابوبورت لذلك عند قراءة أبحاثه الأصلية. ربما لو كانت المجموعة البحثية في جامعة شيكاغو تمتلك أجهزة الكمبيوتر التي نمتلكها الآن، لسبروا أغوار المسألة على نحو أكبر، ولكانت نظرية الشبكات قد اتخذت مسلكا مختلفا تماما. لكنهم لم يملكوها. نظرا لعدم وضوح الرؤية بسبب نقص البيانات، والتقيد الناتج عن الافتقار للقدرة الحسابية، شقت نظرية الشبكات المائلة للعشوائية طريقها بصعوبة إلى حيث تمكن أنصارها القليلون من الوصول بها بحدسهم الرياضي، ثم اختفت فعليا. لقد كانت عن حق فكرة سابقة لأوانها، ومثل كثير من الأفكار المشابهة، كان عليها أن تمر بفترة مخاض عسير. (5) دور الفيزيائيين
إن الفيزيائيين، حسبما اتضح، قادرون تماما على اقتحام فروع المعرفة الأخرى، ليس فقط بسبب مهارتهم الفائقة، بل أيضا لعدم إثارتهم لكثير من الجلبة عن المسائل التي يختارون دراستها مقارنة بأغلب العلماء الآخرين. يرى الفيزيائيون أنفسهم سادة الأوساط الأكاديمية، وينظرون إلى أساليبهم على أنها فوق إدراك أي شخص آخر، ويحمون مجال معرفتهم بكل غيرة، لكن الجانب الآخر لشخصياتهم يعكس طبيعة استغلالية؛ فيسعدهم استعارة الأفكار والتقنيات من أي مكان إذا لاحت إمكانية للاستفادة منها، ويسرهم التدخل في مشكلة أي شخص آخر. ومع الإزعاج الذي يمكن أن يسببه هذا السلوك للآخرين، فإن وصول الفيزيائيين إلى منطقة بحثية لم تصل إليها الفيزياء من قبل يبشر غالبا بمرحلة من الإثارة والاكتشافات العظيمة. يفعل علماء الرياضيات الأمر نفسه من حين لآخر، لكن لا أحد ينقض على البحث بالقدر نفسه من الضراوة وبالعدد الكبير مثل مجموعة تواقة من الفيزيائيين المدفوعين بالإثارة التي تنطوي عليها أي مسألة جديدة.
على مدار عقود منذ عهد إيردوس ورابوبورت، وفي الوقت الذي كان علماء الاجتماع يركزون فيه على التفسيرات البنيوية الثابتة للنظم المتصلة بشبكات، تجمع الفيزيائيون حول مجموعة مشابهة من الأسئلة، وإن كان على نحو غير متعمد ومن اتجاه معاكس. فبدلا من قياس الخصائص البنيوية للشبكات لفهم الأدوار الاجتماعية للأفراد والمجموعات، حصل الفيزيائيون معرفة كاملة بخصائص الأفراد، وحاولوا الوصول إلى خصائص المجموعات من خلال وضع بعض الافتراضات البسيطة للغاية بشأن البنية. وكما كان الحال مع علم الاجتماع، كان المنهج الذي اتبعه الفيزيائيون مدفوعا برغبة لفهم مشكلات محددة (وإن كانت مشكلات فيزيائية، وليست اجتماعية)، والمغناطيسية خير مثال على ذلك.
تعلم معظمنا في حصص العلوم بالمدرسة الثانوية أن كل قطعة مغناطيس تتكون من عدد كبير من قطع المغناطيس الأصغر حجما، وأن المجال المغناطيسي المقاس هو في الواقع مجموع جميع المجالات المغناطيسية الأصغر، لكن كل قطعة من قطع المغناطيس الأصغر حجما تتكون بدورها من قطع أصغر، وهكذا. أين ينتهي الأمر؟ ومن أين يأتي المجال المغناطيسي أساسا؟ الإجابة هي أنه يأتي، حسبما اتضح، من تكافؤ عميق بين المجالات المغناطيسية والكهربائية، وذلك ما أوضحه لأول مرة جيمس كلارك ماكسويل في نهاية القرن التاسع عشر. إحدى نتائج توحيد ماكسويل للكهرومغناطيسية هي أن أي جسيم مشحون يدور حول ذاته، كالإلكترون، يخلق مجاله المغناطيسي الخاص، وعلى عكس المجال الكهربائي، يكون لهذا المجال المغناطيسي توجه فطري يحدده اتجاه الدوران، ومن ثم فإن أي مغناطيس يكون له دائما قطب شمالي وقطب جنوبي، في حين يكون للإلكترون، مثلا، شحنة سالبة واحدة فحسب . إحدى النتائج الهامة المترتبة على هذه الحقيقة الفيزيائية الجوهرية هي أن المغناطيس يمكن التعبير عنه الآن رمزيا في صورة شبيكة منتظمة مكونة من عدد كبير من الأسهم بالغة الصغر، يتوافق كل منها مع جسيم مشحون يدور حول ذاته، ويشار إلى هذا بمصطلح «اللف المغزلي». يمكن النظر الآن إلى المغناطيسية كحالة من النظام يشير فيه كل لف مغزلي (أي الأسهم) إلى الاتجاه ذاته.
تميل اللفات المغزلية المغناطيسية، في ظل تساوي كل شيء آخر، إلى المحاذاة معا؛ لذلك فإن جعلها تشير جميعا إلى الاتجاه نفسه قد لا يبدو أمرا صعبا، لكن قد يصعب ذلك، ويرجع سبب ذلك إلى أن التفاعلات بين اللفات المغزلية تكون ضعيفة للغاية بحيث يتأثر اتجاه كل لف مغزلي باتجاهات اللفات المغزلية المجاورة له مباشرة فحسب في الشبيكة. على النقيض من ذلك، تتطلب المحاذاة العامة أن «يعرف» كل لف مغزلي بطريقة أو بأخرى اتجاه اللفات الأخرى، بما في ذلك اللفات البعيدة عنه، ومن ثم قد تتحاذى مجموعات من اللفات المغزلية محليا، بينما تشير المجموعات المجاورة إلى اتجاهات متناقضة، ولا تمتلك أي مجموعة القوة الكافية لتغير المجموعات الأخرى. ومع أن الحالة المفضلة هي المحاذاة العامة، فإن النظام يمكن أن يعلق في أي من هذه الحالات «العاجزة» التي لا يمكن الفرار منها إلا بتطبيق مجال مغناطيسي خارجي أو تزويدها بطاقة إضافية. لذا فإن مغنطة قطعة من المعدن تتطلب عادة وضعها في مجال مغناطيس قوي موجود بالفعل، ثم تسخينها أو النقر عليها، لكن إذا كان هناك قدر كبير من الطاقة، فستنقلب اللفات عشوائيا مهما يكن اتجاه اللفات المجاورة لها أو حتى المجال الخارجي، ومن ثم، ومن أجل تحقيق محاذاة عامة، من الضروري بدء النظام عند درجة حرارة عالية، ثم تبريده ببطء، ويكون ذلك عادة في وجود المجال الخارجي.
تتمثل إحدى الانتصارات العظيمة للفيزياء الرياضية في تفهم كيفية عمل التحول إلى المغناطيسية بالضبط. ومن المثير للدهشة أنه عند نقطة التحول الحرجة، تتصرف جميع أجزاء النظام وكأنها تتواصل بعضها مع بعض، مع أن تفاعلاتها محلية تماما. والمسافة التي يمكن أن يبدو فيها أن اللفات الفردية تتواصل تعرف عادة باسم «طول ارتباط» النظام، ويمكن النظر إلى النقطة الحرجة على أنها الحالة التي يمتد فيها طول الارتباط ليشمل النظام بالكامل. وفي هذه الحالة، التي تعرف باسم الحالة الحرجة، يمكن للاضطرابات البسيطة - التي من المفترض الشعور بها محليا فقط في أي حالة أخرى - أن تنتشر دون حد عبر النظام بأسره، حتى وإن كان نظاما كبيرا لا حدود له. ومن ثم يبدو النظام وكأنه يعكس إحدى صور التنسيق العام، لكنه يفعل ذلك في غياب أي سلطة مركزية. فلا حاجة لأي مركز عندما يكون النظام في حالة حرجة؛ لأن كل موقع، وليس فقط المركز، يكون قادرا على التأثير على كل موقع آخر. في الواقع، نظرا لأن المواقع جميعها متطابقة، ومتصلة جميعها على نحو متطابق، فما من سبب يجعل أي موقع مسئولا عن غيره، ومن ثم لا يكون هناك سبب لوجود أي مركز. نتيجة لذلك، لن يفيد أي قياس للمركزية في التوصل إلى السبب الجذري للسلوك الملاحظ، لكن، كما كان الحال مع المثالين اللذين استعرضناهما سابقا عن الرسوم البيانية العشوائية وتصفيق الجماهير، يمكن لسلسلة من الأحداث العشوائية البسيطة - أي الأحداث التي يمكن عدم ملاحظتها في الظروف العادية - عند النقطة الحرجة أن تدفع النظام إلى حالة منظمة بوجه عام، ليبدو بذلك أنه قد وجه إلى هذه الحالة على نحو مقصود.
يبدو كل ذلك غامضا إلى حد ما، لكنه يمثل أفضل فهم نملكه عن الكيفية التي يمكن للأحداث الواقعة على أحد المستويات أن تؤثر بها على السمات النظامية على مستوى آخر، حتى عندما لا يهتم كل عنصر بالنظام إلا بالعناصر المجاورة له مباشرة فحسب. أدت الإثارة الناتجة عن هذا الاكتشاف إلى أن أصبحت دراسة «نظم اللفات» نشاطا رائجا نتج عنه آلاف الأبحاث. يهتم الفيزيائيون كثيرا بنماذج اللفات، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنها بسيطة، ومن ثم يمكن توضيحها بسهولة، لكن السبب الأكبر هو أنها وثيقة الصلة بالكثير من الظواهر، مثل النظم المغناطيسية وتجميد السوائل، وغيرها من التغيرات الدقيقة التي تطرأ على الحالة، مثل بدء الموصلية الفائقة. ولا تكون التغيرات التي تطرأ على الحالة ثابتة أو تدريجية، وهذا ما ستلاحظه إذا نظرت إلى كوب من الماء يتجمد أو مشيت عبر خط الثلج في الجبال، ففي لحظة ما تمطر السماء، وفي اللحظة التالية تمطر ثلجا، والمغناطيس إما ينجذب أو لا ينجذب.
إن التحول عبر النقطة الحرجة هو في الواقع التحول الطوري من وجهة نظر الفيزيائيين، وهو الانتقال الذي يشبه إلى حد بعيد التحول بين المراحل المتصلة وغير المتصلة بأحد الرسوم البيانية العشوائية. إن قدرتنا على المساواة بين اثنين من النظم غير المرتبطة - فيزيائية قطعة المغناطيس وتواصلية شكل رياضي كالرسم البياني - ينبغي أن تعكس شيئا عن مدى عمق نظرية التحولات الطورية، والظواهر الحرجة بوجه عام. وبصرف النظر عما إذا كنا نناقش المغناطيسية أو تجمد الماء ليصبح ثلجا - وهي الإجراءات التي تنطوي على عمليات فيزيائية مختلفة تماما، بل مواد مغايرة كلية أيضا - فقد ثبت أن طبيعة التحولات الطورية المناظرة متماثلة!
يشار بوجه عام إلى قدرة النظم المختلفة تمام الاختلاف على إظهار نقاط تشابه جوهرية ب «العمومية»، وتمثل الصحة الواضحة لهذا المفهوم أحد أعقد وأقوى ألغاز الفيزياء الحديثة. ويرجع هذا إلى عدم وجود سبب واضح يفسر وجود أي شيء مشترك على الإطلاق بين النظم المختلفة؛ مثل الموصلات الفائقة وقطع المغناطيس الحديدية والسوائل المتجمدة ومستودعات البترول تحت الأرض، أما القوة، فترجع بالتحديد إلى وجود شيء مشترك بينها بالفعل، الأمر الذي يوضح لنا أنه يمكن على الأقل فهم بعض سمات النظم شديدة التعقيد دون معرفة أي شيء عن قواعدها الحاكمة أو بنيتها التفصيلية. تعرف فئات النظم التي يمكن تجاهل الكثير من تفاصيلها ب «فئات العمومية»، ومن خلال معرفة جميع فئات العمومية لنوع معين من النماذج، يمكن للفيزيائيين الخروج ببيانات قوية للغاية بشأن ما يمكن وما لا يمكن أن يحدث في الأنواع المختلفة من النظم الفيزيائية، وذلك من خلال معرفة حقائقها الجوهرية وحسب. هذه رسالة واعدة للغاية لأي شخص مهتم بفهم السلوك الناتج عن النظم الاجتماعية والاقتصادية المعقدة؛ كشبكات الصداقات والشركات والأسواق المالية، وحتى المجتمعات.
إحدى العقبات الرئيسية التي تقف في طريق بناء نماذج بسيطة لوصف هذه الأنظمة هي عدم فهم الكثير عن القواعد الأساسية التي تدفعها. قال أينشتاين ذات مرة إن الفيزياء تتعامل مع المشكلات السهلة. لا يعني ذلك أن الفيزياء سهلة، لكن الفيزيائيين يبدءون عادة وهم يملكون فكرة منطقية عن المعادلات الحاكمة للموضوع المدروس، حتى وإن كان ذلك مع أكثر المشكلات صعوبة وعدم قابلية للحل؛ مثل اضطرابات السوائل والجاذبية الكمية، وقد لا يتمكنون من حلها، أو حتى فهم جميع تبعات الحلول التي يمكن أن يتوصلوا إليها، لكنهم على الأقل يمكن أن يتفقوا على ما سيتم حله في المقام الأول. يواجه علماء الاقتصاد والاجتماع مستقبلا أكثر ظلمة؛ فبعد قرنين من الجهود الشاقة، تظل القواعد الحاكمة للسلوك الاقتصادي والاجتماعي الفردي غير محسومة.
قد تكون أنجح المحاولات الهادفة للوصول لنظرية عامة لصناعة القرار في العلوم الاجتماعية هي ما يعرف ب «نظرية التوقعات العقلانية»، أو «العقلانية» فحسب، وبعد أن تطور مفهوم العقلانية على يد علماء الاقتصاد والرياضيات، بهدف إضفاء بعض الصلابة العلمية على المناقشات الدائرة عن السلوك البشري، أصبح مفهوم العقلانية هو المعيار الفعلي الذي يجب مقارنة جميع التفسيرات الأخرى به، ومع الأسف - وكما سنرى في فصول لاحقة من هذا الكتاب - تضع العقلانية عددا من الافتراضات المخزية للغاية بشأن القدرات المعرفية والميول البشرية، ويتطلب الأمر سنوات عديدة من التدريب على النظرية الاقتصادية لأخذ هذه الافتراضات على محمل الجد. وما يزيد الأمر سوءا هو أنه لا يبدو أن أحدا قد توصل إلى أي شيء أفضل من ذلك.
في خمسينيات القرن العشرين، اقترح هيربرت سايمون وآخرون صيغة تبدو أكثر منطقية لمفهوم العقلانية، تعرف باسم «العقلانية المحدودة»، تخفف من وطأة بعض الافتراضات بعيدة الاحتمال للنظرية السابقة دون التخلي عن أساسها الأكثر منطقية. ومع اتفاق معظم علماء الاقتصاد على أن إحدى صور العقلانية المحدودة لا بد أن تكون صحيحة في الواقع، ومع حصول سايمون على جائزة نوبل تكريما له على أفكاره، فالمشكلة تكمن في أنه ما إن يبدأ المرء في انتهاك افتراض السلوك المنطقي تماما، فلا سبيل لمعرفة متى يجب التوقف. ومثلما لا توجد وسيلة وحيدة لجعل الرسوم البيانية العشوائية غير عشوائية، يوجد الكثير من الوسائل لتحديد العقلانية، الأمر الذي لن يجعلنا واثقين أبدا من أننا نستخدم الوسيلة الصحيحة.
على هذا تكون فكرة العمومية مغرية للغاية؛ لأنها تزعم أننا لسنا في الواقع بحاجة إلى معرفة القواعد المفصلة للتفاعل والسلوك على المستوى الدقيق؛ فعلى الأقل هناك بعض الأسئلة التي يمكننا الإجابة عنها دون هذه القواعد. وهذه فكرة واعدة حقا، فما المشكلة إذن؟ إننا نتفهم العمومية منذ عقود، إلى جانب أن نظرية الظواهر المهمة التي نشأت حول تطبيقات مثل المغناطيسية والموصلية الفائقة تعد أحد مجالات الفيزياء الناضجة. لماذا إذن لا نفهم الأوبئة وأعطال الطاقة وانهيارات أسواق الأوراق المالية؟
تتمثل المشكلة الرئيسية في أن الفيزيائيين طوروا أدواتهم للتعامل مع مسائل الفيزياء، وليس المسائل الاقتصادية أو الاجتماعية، وأحيانا يمثل هذا الأمر عائقا. على سبيل المثال، اعتاد الفيزيائيون التفكير في التفاعلات بين الذرات في إطار شبكي واضح؛ لذا، عندما يحاولون تطبيق أساليبهم على التفاعلات البشرية، يفترضون عادة أن الناس يتفاعلون مثلما تفعل الذرات بالضبط، وتكون النتيجة أن المنهج يبدو مثيرا للإعجاب، ويؤدي إلى الكثير من النتائج الرائعة، لكنه لا يحل المشكلة الفعلية؛ وذلك لأنه غير مرتبط بالمشكلة الفعلية. ومهما تكن جميع الجوانب الرائعة للعمومية، فإن بعض التفاصيل لها أهمية بالفعل، وهنا يأتي دور أشخاص مثل علماء الاجتماع؛ فنظرا لقضائهم حياتهم في دراسة العالم الاجتماعي، فهم يعرفون بالفعل بعض الأشياء عن كيفية عمله، وتمثل رؤاهم عنصرا لا غنى عنه في أي نموذج مفيد.
مع ما تبدو عليه هذه النقطة الأخيرة من بديهية، فإنها تثير دائما دهشة معظم الفيزيائيين الذين نادرا ما يشعرون بحاجة لاستشارة أي شخص آخر قبل الاستئثار بالمسألة التي يدرسونها، ومن الضروري أن يتغير ذلك لتحقيق أي تقدم حقيقي. يتسم الأكاديميون بعنادهم؛ فنادرا ما ينزعون إلى تخطي حدود فروع المعرفة التي يتخصصون فيها، لكن في عالم الشبكات، يكون لدى علماء الاجتماع والاقتصاد والرياضيات والكمبيوتر والأحياء والمهندسين والفيزيائيين شيء ما يقدمونه بعضهم لبعض والكثير ليتعلموه، فليس هناك فرع واحد من المعرفة، أو توجه واحد يحكم قبضته على علم الشبكات الشامل، وليس من المحتمل حدوث ذلك. وأي فهم عميق لبنية الشبكات الحقيقية لا يمكن أن يحدث إلا من خلال تزاوج فعلي للأفكار والبيانات المتناثرة بجميع أنحاء المجال الفكري، التي يمثل كل منها جزءا من الأحجية بما تحمله من تاريخ وتصورات، لكن دون أن يكون أي منها مفتاحا لحل الأحجية نفسها، وكما هو الحال في أحجية الصورة المقطعة، يتمثل مفتاح الحل في الطريقة التي تتداخل بها جميع الأجزاء لتكون صورة واحدة متحدة، وهذه الصورة - كما سنرى في الفصول التالية - بعيدة كل البعد عن الكمال، لكن نظرا لجهود الكثير من الباحثين في العديد من المجالات، والمحاولات الفكرية العديدة التي يمكن البناء عليها، بدأت ملامح الصورة أخيرا في الظهور.
الفصل الثالث
عوالم صغيرة
عندما بدأ التعاون بيني وبين ستيف ستروجاتس، لم نكن على علم بأي من هذه الأمور. ولم يكن لدى أي منا فكرة عن رابوبورت أو جرانوفتر، أو أي معرفة في الواقع بالشبكات الاجتماعية على الإطلاق، كان لدى كل منا بعض المعلومات عن الفيزياء فحسب؛ نظرا لتخصصي فيها في الكلية، لكنها كانت أكاديمية عسكرية، وما حصلته من معرفة - ما بين التدريب العسكري والمغامرات الخارجية والمشاغل الدنيوية العامة لأي شاب في البحرية - كان بعيدا وليس ذا صلة مباشرة قوية بأي من هذه الموضوعات. شكلت نظرية الرسوم البيانية لغزا أيضا، ونظرا لكون نظرية الرسوم البيانية فرعا من الرياضيات الخالصة، يمكن تقسيمها إلى مكونين؛ الأقرب إلى الوضوح والمبهم تماما، أما الجانب الواضح، فقد تعلمته من أحد الكتب الدراسية، وبعد بضع محاولات غير مجدية مع الجانب الآخر، أقنعت نفسي أن الأمر لم يكن مشوقا على أي حال.
وصل بنا كل هذا القدر من الجهل الشديد إلى وضع حرج، فكان لدينا يقين مقنع بأنه لا بد أن أحدا ما فكر في هذه المشكلة من قبل، وساورنا القلق بشأن إهدار وقت طويل في دراسة ما جرى دراسته من قبل بالفعل، بل إننا فكرنا أيضا أننا إذا شرعنا في البحث في الأمر، يمكن أن يثبط من عزيمتنا القدر الذي حققه آخرون بالفعل، أو نقع في شرك التفكير في المسألة من وجهة النظر نفسها، والتعلق بالأفكار نفسها التي امتلكها آخرون، وبعد أن قضيت شهرا بالمنزل في أستراليا لأفكر في الأمر، قابلت ستيف في مكتبه في يناير من عام 1996، واتخذنا القرار بأن نخوض التجربة وحدنا. لم نخبر أحدا، ولم نقرأ أي شيء تقريبا، وتخلينا عن مشروع صراصير الليل، وحاولنا إقامة بعض النماذج البسيطة للغاية من الشبكات الاجتماعية للبحث عن سمات مثل ظاهرة العالم الصغير. لا شك أن ستيف شعر بضرورة حمايتي من نفسي، فأصر على أن نمنح الأمر أربعة أشهر فحسب - أي فصلا دراسيا واحدا - وبعد ذلك إذا لم نحقق بعض التقدم الملحوظ، فسنقر بهزيمتنا ونعود إلى صراصير الليل، في أسوأ الأحوال، سيتأجل تخرجي فصلا دراسيا واحدا، وما دام سيسعدني ذلك، فلم لا؟ (1) مساعدة بسيطة من الأصدقاء
في تلك المرحلة كان قد مر على إقامتي في إيثاكا ما يزيد عن عامين، وبدأت أشعر بأنه أصبح لي وطن جديد وأصدقاء جدد، لكن ظل لدي شعور بالاتصال الوثيق بأصدقائي القدامى، لكن طرأ على ذهني أنه إذا سئل أي طالب عادي بجامعة كورنيل بشأن مدى الارتباط الذي يشعر به تجاه أي شخص عشوائي في أستراليا، فستكون الإجابة على الأرجح: «لا أعرفه جيدا.» في النهاية، لم يقابل معظم أصدقائي الموجودين في أمريكا أستراليا من قبل، وعدد قليل فقط من أصدقائي الأستراليين على معرفة بأمريكيين. تقع الدولتان بطرفين متقابلين من كوكب الأرض، وعلى الرغم من بعض التشابه الثقافي، والقدر الكبير من الانجذاب المتبادل، ينظر أغلب سكان كل منهما للدولة الأخرى على أنها بعيدة تماما، بل غريبة أيضا، ومع ذلك، كانت هناك على الأقل مجموعة صغيرة من الأمريكيين ومجموعة صغيرة من الأستراليين على معرفة وثيقة بعضهم ببعض بالفعل، مع أنهم قد لا يكونون على علم بذلك، وذلك بفضل صديق واحد مشترك؛ أنا.
ينطبق الأمر نفسه على نطاق أصغر بين المجموعات المختلفة لأصدقائي في جامعة كورنيل. كنت أدرس بقسم الميكانيكا النظرية والتطبيقية، وهو قسم صغير للدراسات العليا فاق فيه عدد الطلاب الأجانب الأمريكيين، قضيت قدرا هائلا من الوقت في ذلك القسم، وتعرفت على طلاب الدراسات العليا الآخرين جيدا، لكنني كنت معلما أيضا لتسلق الصخور والتزلج على الجليد في برنامج كورنيل التعليمي الخارجي، ومعظم من لا يزالون أصدقائي من جامعة كورنيل حتى الآن كانوا طلابا أو معلمين في ذلك البرنامج الخارجي. وأخيرا، فقد أقمت في مسكن كبير للطلبة في عامي الأول، وكونت بعض الصداقات الجيدة هناك. كان زملائي في الصف يعرف بعضهم بعضا، وأصدقائي بمسكن الطلبة يعرف بعضهم بعضا، وأصدقائي بالبرنامج الخارجي يعرف بعضهم بعضا، ومع ذلك، فإن هذه المجموعات المختلفة كانت جميعها «متباينة» تماما، فخلا المجيء لزيارتي، لم يكن لدى أصدقائي، في برنامج التسلق مثلا، أي سبب لزيارة القسم الذي كنت أدرس فيه بقاعة كيمبل، وكانوا يعتبرون (ولهم بعض العذر في ذلك) طلاب الدراسات العليا في الهندسة نوعا مختلفا من البشر.
إن إمكانية امتلاك شخصين لصديق مشترك يعتبره كلاهما «مقربا»، ونظرة كل منهما للآخر مع ذلك على أنهما «غريبان»، تمثل أحد مظاهر الحياة الاجتماعية التي تبدو شائعة، لكنها شديدة الغموض في الوقت نفسه. يمثل هذا التناقض محور مسألة العالم الصغير، وهذا ما سنتعرف عليه في الفصل
الخامس ، ومن خلال حله لن نتمكن من فهم نتائج ميلجرام فقط، بل أيضا فهم عدد من مشكلات الشبكات الأخرى التي تبدو ظاهريا لا علاقة لها على الإطلاق بعلم الاجتماع، لكن ذلك سيتطلب مزيدا من العمل. يكفي الآن القول إننا لا نمتلك أصدقاء فحسب، بل مجموعات من الأصدقاء، يحدد كل منها مجموعة معينة من الظروف - أي سياق ما، مثل مسكن الطلبة بالجامعة أو مكان العمل الحالي - وتؤدي هذه الظروف إلى تعرف بعضنا على بعض. وداخل كل من هذه المجموعات يوجد العديد من الروابط بين الأفراد، مع ندرة الروابط عادة بين المجموعات المختلفة.
مع ذلك تتصل هذه المجموعات بعضها ببعض بالفعل، وذلك بفضل الأفراد الذين ينتمون إلى أكثر من مجموعة واحدة، وبمرور الوقت، يمكن أن تزداد قوة هذه التداخلات بين المجموعات، ويقل وضوح الحدود بينها، وذلك من خلال بدء أفراد ينتمون لإحدى المجموعات في التفاعل مع أفراد من مجموعة أخرى عن طريق صديق مشترك. فعلى مدار الأعوام التي قضيتها في جامعة كورنيل، التقت المجموعات المختلفة من أصدقائي أخيرا، وصاروا أصدقاء فيما بينهم، هذا وقد حضر أيضا بعض أصدقائي الأستراليين لزيارتي، وبالرغم من عدم البقاء مدة كافية تسمح لهم بإقامة أي علاقات دائمة، صارت الحدود بين الدولتين الآن، إلى حد ما، أقل بروزا من ذي قبل.
بعد التفكير في هذه الأمور عدة مرات، والتجول بأرجاء حرم جامعة كورنيل قارس البرودة، قررت أنا وستيف أن هناك أربعة عناصر نريد تضمينها في نموذجنا؛ العنصر الأول هو أن الشبكات الاجتماعية تتضمن الكثير من المجموعات الصغيرة المتداخلة المرتبطة بعضها ببعض داخليا بقوة، ويرجع تداخلها للأفراد المنتمين إلى العديد من المجموعات. والعنصر الثاني هو أن الشبكات الاجتماعية تفتقر إلى الثبات؛ فتقام علاقات جديدة طوال الوقت، وتقطع علاقات قديمة. وثالثا، لا تتساوى جميع العلاقات المحتملة في إمكانية حدوثها؛ فتعتمد هوية من سأعرفه غدا على من أعرفه اليوم، إلى حد ما على الأقل. أما السمة الأخيرة فتمثلت في أننا نقوم أحيانا بأفعال مستمدة بالكامل من سماتنا وتفضيلاتنا الجوهرية، ويمكن أن تؤدي بنا هذه الأفعال إلى الالتقاء بأناس جدد لا علاقة لهم بأصدقائنا السابقين على الإطلاق. على سبيل المثال، كان قراري بالانتقال إلى أمريكا مدفوعا برغبتي في الالتحاق بالدراسات العليا فحسب، ولم أكن أعرف أي شخص عند ذهابي إلى هناك، ولم يكن أحد يعرفني أيضا، كان قراري أيضا بتدريس تسلق الجبال غير متأثر باختياري للقسم، وكذلك مسكن الطلبة الذي أقمت فيه.
بعبارة أخرى، يرجع السبب فيما نفعله - في جزء منه - إلى الوضع الذي نشغله في البنية الاجتماعية المحيطة بنا، وفي جزء آخر إلى خصائصنا وتفضيلاتنا الفطرية ، وتعرف هاتان القوتان في علم الاجتماع ب «البنية» و«الفاعلية»، ويكون تطور الشبكة الاجتماعية مدفوعا بالتبادل بين الاثنتين. نظرا لأن الفاعلية جزء من عملية صنع القرار لدى الفرد، ولا تقتصر على وضعه في البنية، فإن الأفعال الناتجة عنها تبدو كأحداث عشوائية للآخرين، لكن بالطبع تعد قرارات من قبيل الانتقال إلى دولة أخرى أو الالتحاق بالدراسات العليا نتيجة لمزيج معقد من الجانب النفسي والتاريخ الشخصي للمرء، وليست عشوائية على الإطلاق، لكن الفكرة هي أنه ما دامت الشبكة الاجتماعية الحالية لم تحدد هذه القرارات بوضوح، فيمكن أن نتعامل معها «كما لو كانت» عشوائية.
لكن ما إن تحدث هذه الارتباطات، التي قد تبدو عشوائية، حتى تدخل البنية ثانية في الصورة، وتصبح التداخلات الناشئة حديثا جسورا يمكن للأفراد المرور عليها وإقامة المزيد من الارتباطات الخاصة بهم، ومن ثم يكون التطور الديناميكي للعلاقات في الشبكات الاجتماعية مدفوعا بالتوازن بين قوى متعارضة. من ناحية، يتخذ الأفراد ما يبدو قرارات عشوائية ليدخلوا في سياقات اجتماعية جديدة، ومن ناحية أخرى، تقيدهم الصداقات الحالية التي تمكنهم من تعزيز هياكل المجموعات القائمة بالفعل. السؤال المحوري هنا هو: ما مدى أهمية كل جانب للآخر؟
من الواضح أننا لم نعلم الإجابة عن هذا السؤال، بل كنا موقنين أيضا أن أحدا غيرنا لا يعلمها؛ فالعالم في النهاية مكان معقد، وهذا النوع من التوازن غير الواضح الذي يصعب قياسه بين القوى المتعارضة هو بالضبط ما يجعله معقدا. ولحسن الحظ، فإن هذا النوع من التشابكات التجريبية هو ما تنجح فيه النظريات، وبدلا من محاولة إقامة التوازن بين إرادة الأفراد والبنية الاجتماعية - أي بين العشوائية والنظام - الذي ينعكس بالفعل في العالم الحقيقي، يمكننا أن نطرح السؤال الآتي: ما الذي يمكننا تعلمه من خلال ملاحظة كل العوالم الممكنة؟ بعبارة أخرى، فكر في الأهمية النسبية لكل من النظام والعشوائية كعامل متغير يمكننا ضبطه للتنقل بين مجموعة من الاحتمالات، بالضبط كما يسمح لنا زر ضبط الإرسال في مذياع قديم بالبحث بين مجموعة من الترددات الإذاعية.
من ناحية، يقيم البعض صداقاتهم الجديدة «دوما» من خلال أصدقائهم الحاليين، في حين لا يفعل البعض الآخر ذلك «مطلقا». لا تتسم أي من هاتين الحالتين بالواقعية، لكن هذا هو الهدف الذي سعينا وراءه؛ فمن خلال اختيار حدود قصوى غير واقعية، طمحنا في أن نعثر بنقطة ما في الأرضية المشتركة الفوضوية بين هذه الحدود على صورة من الحقيقة يمكن تصديقها، وحتى إذا لم نتمكن من تحديد هذه النقطة بالضبط، كان أملنا هو أن يكون الكثير مما يوجد بين هذين الحدين متماثلا على نحو محدد. ما كنا نبحث عنه لم يكن نوعا واحدا من الشبكات يشكل نموذجا لشبكة اجتماعية، بل فئة من الشبكات يمكن أن يختلف كل منها عن الآخر في التفاصيل، لكن سماتها الجوهرية لا تعتمد على تلك التفاصيل.
استغرق البحث عن النموذج السليم بعض الوقت، فقد اتضح أن مفهوم بنية المجموعات، الذي بدأنا به، أصعب في فهمه فهما دقيقا مما كنا نتوقع، لكن في النهاية جاء الاكتشاف، وكالعادة، ركضت مسرعا عبر الرواق وصولا إلى مكتب ستيف، وطرقت الباب بقوة حتى توقف عما كان يحاول فعله، وسمح لي بالدخول. (2) من سكان الكهوف إلى أهالي سولاريا
قد لا يبدو الأمر مدهشا، لكنني كنت من أشد المعجبين بإسحاق آزيموف في صباي، وتحديدا، قرأت أكثر من مرة أشهر سلسلتين له، وهما: «ثلاثية التأسيس» وسلسلة «الإنسان الآلي». الغريب في الأمر أن التاريخ النفسي لهاري سيلدون، البطل الرئيسي في ثلاثية «التأسيس»، كان هو على الأرجح أول ما جعل فكرة النشوء في النظم الاجتماعية تطرأ على ذهني؛ يقول سيلدون إنه على الرغم من التعقيد والتقلب اللذين يتسم بهما سلوك الأفراد إلى حد بعيد، فسلوك الجماهير، بل الحضارات، يتميز بالقابلية للتحليل والتوقع. بقدر ما اتسمت به رؤية آزيموف من غرابة عند إدراكها في أوائل خمسينيات القرن العشرين، فقد كانت متميزة أيضا؛ نظرا لتوقعها الكثير مما تسعى دراسة النظم المعقدة إلى فعله الآن. لكن ما أردت التحدث مع ستيف بشأنه كان سلسلة «الإنسان الآلي».
في الجزء الأول من هذه السلسلة، «الكهوف الفولاذية»، يحلل المحقق إليجا بالي لغز جريمة قتل على كوكب مستقبلي بني بالكامل تحت الأرض، وأثناء فعل ذلك، يتأمل إليجا أيضا الجوانب الغامضة في حياته وعلاقاته مع غيره من البشر. من بين الجموع الغفيرة من البشر المتكدسين في الكهوف المصنوعة من الفولاذ، يعرف بالي جيدا مجموعة صغيرة شديدة الترابط من الناس، ولا أحد غيرهم تقريبا. لا يتبادل الغرباء أطراف الحديث، والتفاعلات بين الأصدقاء جسمانية وشخصية. أما في الجزء الأخير، «الشمس المجردة»، يرسل بالي في مهمة إلى كوكب سولاريا المستعمر، الذي يعكس تفاعلات اجتماعية مغايرة تماما لما اعتاد عليه، الأمر الذي يزعجه. على عكس أهالي الأرض، يعيش أهالي سولاريا على سطح كوكب قليل الكثافة السكانية، ويقطنون مقاطعات ضخمة في عزلة تامة، لا يصاحبهم فيها إلا أناس آليون، ويتفاعل بعضهم مع بعض (بل ومع أزواجهم) افتراضيا من خلال مرفق عالمي للتواصل عن بعد. على الأرض يعيش الأفراد الحياة في ظل ما توفره الروابط التعزيزية التبادلية المتداخلة من أمان، ويصعب تصور بدء علاقة مع شخص غريب عشوائي، أما على كوكب سولاريا، فيمكن إجراء جميع التفاعلات على حد سواء، والعلاقات السابقة غير مهمة نسبيا لإقامة علاقات جديدة.
تخيل إذن عالمين - عالما من الكهوف وآخر من العلاقات العشوائية المستقلة - واطرح هذا السؤال: كيف تتشكل العلاقات الجديدة في كل من هذين العالمين؟ وبخاصة، فكر في احتمال مقابلة شخص معين عشوائيا بناء على عدد الأصدقاء المشتركين الحاليين بينك وبين هذا الشخص. في عالم أهالي الكهوف، يشير غياب المعارف المشتركين إلى أنكما تعيشان في «كهفين» مختلفين، ومن ثم من المحتمل ألا تتقابلا أبدا، لكن إذا كان لديكما صديق واحد مشترك، فمعنى ذلك أنكما تعيشان في المجتمع ذاته، وتتحركان في الدوائر الاجتماعية نفسها، ومن ثم يكون من المرجح للغاية أن يتعرف أحدكما على الآخر. من الواضح أن ذلك سيكون مكانا غريبا للعيش فيه، لكن مرة أخرى الهدف هو البحث عن الحدود القصوى. وعلى النقيض تماما - كما هو الحال في سولاريا - سيكون تاريخك الاجتماعي غير مرتبط بمستقبلك، وإن كان لدى شخصين العديد من الأصدقاء المشتركين، فلا تزيد احتمالية تقابلهما عما إذا لم يكن لديهما أي أصدقاء مشتركين.
شكل 3-1: نوعان متناقضان تماما من قواعد التفاعل. في المنحنى العلوي (عالم الكهوف)، يشير ضمنا وجود صديق مشترك واحد فحسب إلى احتمال قوي لمقابلة (أ) و(ب)، أما في المنحنى السفلي (عالم سولاريا)، فتتساوى جميع التفاعلات في عدم احتماليتها، بصرف النظر عن عدد الأصدقاء المشتركين بين (أ) و(ب).
يمكن التعبير بدقة أكبر عن هذه المبادئ العامة لاختيار أصدقاء جدد من خلال ما يمكننا تسميته «قواعد التفاعل». في إطار نموذجنا، يمكننا بناء شبكة من نقاط التلاقي التي يتصل بعضها ببعض عن طريق الروابط الاجتماعية (ولنتخيل أنها صداقات، وإن لم يكن ذلك ضروريا)، ثم السماح لهذه الشبكة بالتطور مع الوقت مع تكوين الأفراد لصداقات جديدة وفقا لقاعدة تفاعل محددة، ويمكن فهم نوعي العالم المتباينين؛ عالم الكهوف وسولاريا، على سبيل المثال، من خلال القواعد الموضحة في الشكل
3-1 ، فيمكننا ملاحظة أن إمكانية إقامة علاقة صداقة بين شخصين يحددها عدد الأصدقاء المشتركين بينهما في الوقت الحالي، لكن الكيفية المحددة التي يتحدد بها ذلك تختلف اختلافا كبيرا ما بين قاعدة وأخرى. يعبر المنحنى العلوي عن عالم الكهوف؛ لأنه بمجرد أن يملك أي فردين صديقا واحدا مشتركا فقط، تكون هناك نزعة قوية لأن يصبحا أصدقاء، وعلى النقيض من ذلك، يعبر المنحنى السفلي عن عالم سولاريا الذي لا يكون فيه للعدد الكبير من الأصدقاء المشتركين سوى تأثير بسيط على نزعة الناس إلى التفاعل، ومن ثم - في جميع الظروف تقريبا - يتفاعل الناس عشوائيا.
شكل 3-2: تقع بين الحدين المتقابلين مجموعة كاملة من قواعد التفاعل، كل واحدة منها تحددها قيمة معينة من المتغير القابل للضبط ألفا . عندما يكون α = 0، فنحن في عالم الكهوف، وعندما تساوي قيمة α ما لانهاية، فنحن في سولاريا.
تكمن المزية العظيمة لصياغة قواعد تطور الشبكات على هذا النحو في أنه - كما هو واضح في الشكل
3-2 - يمكن التعبير عن تسلسل القواعد الوسيطة على صورة منحنيات تقع بين هذين الحدين، ويعبر كل من هذه القواعد عن نزعة فردين لأن يصبحا أصدقاء بناء على عدد الأصدقاء المشتركين بينهما في ذلك الوقت، لكنها تختلف من حيث مدى أهمية الأصدقاء المشتركين. من الناحية الرياضية، يمكن التعبير عن هذه المجموعة الكاملة من القواعد في صورة معادلة تتضمن «متغيرا واحدا قابلا للضبط»، ومن خلال تعديل، أو «ضبط»، هذا المتغير بين صفر وما لا نهاية، يمكننا اختيار إحدى قواعد التفاعل الموضحة في الشكل
3-2 ، ثم بناء شبكة تتطور وفقا لهذه القاعدة. وما أقمناه هو نموذج رياضي لشبكة اجتماعية؛ ونظرا لأن هذا كان هو نموذج الشبكة الأول الذي وضعته أنا وستيف، أطلقنا عليه - نظرا لعدم وجود اسم أفضل - «النموذج ألفا»، ومن ثم سمي المتغير الذي يدفع السلوك به بالاسم «ألفا».
كان النموذج ألفا قريبا للغاية في مضمونه من شبكات أناتول رابوبورت المائلة إلى العشوائية، على الرغم من عدم معرفتنا بهذا في ذلك الوقت. وشأننا شأن رابوبورت، اكتشفنا سريعا أنه من المستحيل حل أي شيء باستخدام قلم رصاص وورقة فحسب، لكن لحسن حظنا، كانت خمسة عقود من التطور التكنولوجي قد أثمرت عن أجهزة كمبيوتر سريعة بما يكفي لأداء المهمة بسرعة فائقة. إن المشكلات المتعلقة بديناميكيات الشبكات مناسبة على نحو مثالي للمحاكاة بالكمبيوتر، فيمكن لقواعد بسيطة للغاية، على مستوى الأفعال الفردية، التسبب في تعقد مربك عندما يتفاعل عدد كبير من الأفراد بعضهم مع بعض على مدار الوقت، فيتخذ كل منهم قرارات تعتمد بالضرورة على قرارات الماضي، وتكون النتائج في أحيان كثيرة مناقضة للتوقعات البديهية، ونادرا ما تنجح حسابات الورقة والقلم وحدها في تناول ذلك، لكن أجهزة الكمبيوتر تعشق مثل هذه الأمور؛ فهي مصممة خاصة للتعامل مع التكرار فائق السرعة اللامتناهي للقواعد البسيطة. وعلى النحو نفسه الذي يجري به الفيزيائيون التجارب في المعامل، مكنت أجهزة الكمبيوتر علماء الرياضيات من التجريب، فصاروا قادرين على اختبار نظرياتهم في عدد كبير من المعامل الخيالية، حيث يمكنهم تعديل قواعد الواقع حسبما يشاءون.
لكن ما طبيعة الأمور التي كان يفترض بنا اختبارها؟ تذكر أن المشكلة التي أردنا فهمها - أصل ظاهرة العالم الصغير - بدت أنها تعتمد على وجود سمتين متناقضتين ظاهريا للشبكات الاجتماعية؛ فمن ناحية، يجب أن تعكس الشبكة معامل تكتل كبيرا؛ بمعنى أنه في المتوسط تزيد احتمالية معرفة أصدقاء شخص ما بعضهم لبعض مقارنة بشخصين يقع عليهما الاختيار عشوائيا، ومن ناحية أخرى، يجب أن يكون من الممكن ربط شخصين اختيرا عشوائيا من خلال سلسلة مكونة من عدد قليل من الوسطاء فحسب، ومن ثم سيرتبط الأفراد المنفصلون بوجه عام من خلال سلاسل قصيرة أو «مسارات» في الشبكة. كل سمة من هاتين السمتين قليلة الأهمية وحدها، لكن لم يكن من الواضح على الإطلاق كيف يمكن الجمع بينهما. يتسم عالم الكهوف الذي عاش فيه إليجا بالي، على سبيل المثال، بالتكتل الشديد على نحو واضح، لكن حدسنا يشير إلى أنه إذا كان جميع الناس الذين نعرفهم يعرف بعضهم بعضا فقط، فسيكون من العسير للغاية ربط أنفسنا من خلالهم بباقي العالم في بضع خطوات فحسب. يمكن أن يكون كل هذا التكرار المحلي جيدا لالتحام المجموعات، لكن من الواضح أنه لا يجدي نفعا في تعزيز التواصل العام، على النقيض من ذلك، من المرجح على نحو أكبر أن يعكس مجتمع سولاريا مسارات شبكية أقصر. في الواقع، عندما يتفاعل الناس عشوائيا تماما، يكون الطول المعتاد - وفق نظرية الرسوم البيانية - لأي مسار بين أي فردين قصيرا، لكن من السهل أيضا توضيح أنه في أي رسم بياني عشوائي، يصبح احتمال معرفة أي من أصدقائنا بعضهم بعضا بلا أهمية في ظل وجود تعداد سكاني عالمي كبير للغاية، ومن ثم سيكون معامل التكتل صغيرا. لذا فإن حدسنا يشير إلى أن العالم يمكن أن يكون صغيرا أو متكتلا، لكنه لا يمكن أن يكون الاثنين معا، لكن أجهزة الكمبيوتر لا تعنى بالحدس. (3) عوالم صغيرة
باستخدام التكتل وطول المسار كوسيلتي استكشاف، شرعنا في بناء «شبكات ألفا» على الكمبيوتر. أنشأناها أولا ثم طبقنا بعض الخوارزميات المعيارية لتقدير الإحصائيات المتوافقة. كانت البرمجة المطلوبة بدائية بوجه عام، لكن وجب علي تعليم نفسي لغة البرمجة في تلك الأثناء، وكانت النتيجة كودا بشعا وبطيئا، وقضيت في كثير من الأحيان ساعات طويلة محاولا تتبع خطأ ما تسبب في القضاء على برنامجي بعد أن كان يعمل جيدا لمدة يوم أو أكثر. قد تكون المحاكاة بالكمبيوتر أقل فوضوية من العالم الواقعي، لكنها من الممكن أن تكون مضنية أيضا. مع ذلك، وبعد شهر مليء بالإحباط، توصلنا في النهاية إلى بعض النتائج التي يمكن التفكر فيها.
في البداية، بدا حدسنا صحيحا؛ عندما كانت قيمة ألفا منخفضة، بمعنى أن نقاط التلاقي تفضل بقوة الاتصال بأصدقاء الأصدقاء فقط، كانت الرسوم البيانية الناتجة أكثر ميلا إلى التكتل الشديد، لكنها، في الواقع، جزأت نفسها إلى الكثير من المكونات، أو الكهوف، الصغيرة للغاية. داخل كل كهف كان كل فرد على صلة جيدة بغيره، لكن بين الكهوف المختلفة لم توجد علاقات على الإطلاق. كانت هذه النتيجة غير مريحة في حقيقة الأمر؛ ذلك لأنه عند تقسيم الشبكات على هذا النحو، يكون من الصعب تحديد المسافة بين نقاط التلاقي في الأجزاء المختلفة، ولحسن الحظ، يمكن تخمين طول المسار الذي يؤدي إلى تفكك الشبكة. في هذه الصورة من أبسط التعديلات، يقاس أقصر طول للمسارات بين أزواج نقاط التلاقي كالسابق بالضبط، لكن يحسب فقط متوسط الأزواج التي تقع في المكون المتصل نفسه، وتكون النتيجة - كما هو موضح في الشكل
3-3 - أن الطول النموذجي للمسار يكون صغيرا عندما تكون قيمة ألفا منخفضة، وصغيرا أيضا عندما تكون قيمتها عالية، لكنه يزيد كثيرا عندما تكون قيمة ألفا في مكان ما بالمنتصف. وتفسير ذلك أنه عندما تكون قيمة ألفا منخفضة، يكون الرسم البياني مجزأ على نحو بالغ، لكن نظرا لأن المتوسط يحسب فقط لنقاط التلاقي الموجودة في المكونات المتصلة نفسها (الكهوف)، فإن صغر حجم المكونات يتسبب في قصر طول المسارات. هذا هو عالم «الكهوف الفولاذية»؛ الأشخاص الذين يمكن الوصول إليهم يمكن الوصول إليهم بسهولة، والأشخاص الذين لا يمكن الوصول إليهم بسهولة لا يمكن الوصول إليهم على الإطلاق. على عكس ذلك، عندما تكون قيمة ألفا عالية، يكون الرسم البياني عشوائيا إلى حد بعيد . نتيجة لذلك، يظهر الرسم على صورة مكون عام واحد متصل، والانفصال النموذجي بين أي زوج من نقاط التلاقي يكون صغيرا، وهو الأمر الذي نعرفه عن الرسوم البيانية العشوائية. هذا هو عالم سولاريا، الذي يمكن الوصول فيه إلى «كل شخص» بالقدر نفسه تقريبا من السهولة.
شكل 3-3: طول المسار وفقا لألفا . عند وصول قيمة ألفا للقيمة الحرجة، تدخل الكثير من نقاط التلاقي لتصل بين الشبكة بأكملها، التي ينكمش طولها سريعا.
تشير القمة الموجودة في منتصف الشكل
3-3
إلى مكان السلوك المثير للاهتمام؛ على يسار هذه القمة، ومع زيادة قيمة ألفا، ترتبط الأجزاء سريعا معا، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة كبيرة في طول المسار الظاهر. يكبر العالم حجما، لكنه يفعل ذلك لأن المكونات التي كانت منعزلة في السابق تبدأ في الاتصال بعضها ببعض. من الصعب الوصول إلى الناس في المتوسط، لكن يمكن الوصول إلى المزيد منهم مع الوقت. أما على يمين القمة، فتتصل جميع مكونات الشبكة في كيان واحد، وتبدأ أطوال المسارات المتوسطة في الانخفاض سريعا مع ازدياد عشوائية قاعدة التفاعل، أما القمة نفسها، فهي نقطة حرجة؛ أي تحول طوري يشبه كثيرا ذلك الذي تناولناه عند الحديث عن الرسوم البيانية العشوائية، والذي يصبح عنده كل فرد متصلا، لكن طول المسار النموذجي بين الأزواج من الأفراد يكون كبيرا للغاية. أعلى هذه القمة، في شبكة تتكون من مليون شخص مثلا يمتلك كل منهم مائة صديق، يكون طول المسار بالآلاف، ومن الواضح أن الشبكة التي يبتعد فيها المرء عن الرئيس بآلاف الدرجات تتناقض على نحو صريح مع مفهوم العالم الصغير، لكن - وهذا مهم - هذه الصورة من العالم غير مستقرة بطبيعتها. وما إن يبدأ التحول الطوري، وتصير الشبكة متصلة بوجه عام، حتى يبدأ متوسط طول المسار في الهبوط بحدة، ليقترب سريعا من أدنى حد له، ومع الغموض الذي اكتنف الأمر في ذلك الوقت، كان ذلك الانخفاض السريع على نحو مدهش في الطول حاسما كما اتضح.
أظهر معامل التكتل أيضا مسارا غير متوقع، وذلك من خلال الارتفاع، أولا، لأقصى حد له عند وصول ألفا إلى قيمة منخفضة، ثم الهبوط سريعا أيضا، شأنه شأن متوسط طول المسار، لكن الأمر الأكثر إثارة كان موقع هذا التحول بالنسبة إلى التحول المكافئ في طول المسار؛ فنظرا لتوقعنا، من ناحية، رسوما بيانية شديدة التكتل ذات أطوال مميزة كبيرة، ورسوما بيانية ضعيفة التكتل ذات أطوال مميزة قصيرة من ناحية أخرى، فقد توقعنا أن يتوافق تحول كلا النوعين من الإحصائيات أيضا أحدهما مع الآخر، لكن بدلا من ذلك - كما يوضح الشكل
3-4 - بدأ الطول في الانخفاض في الوقت الذي كان التكتل يصل فيه إلى قيمته القصوى.
افترضنا في بادئ الأمر أن ثمة خطأ ما في الكود، لكن بعد فحص متأن وتفكير عميق، أدركنا أن ما كان نصب أعيننا هو في الواقع ظاهرة العالم الصغير التي كنا نبحث عنها. اشتمل العالم الذي حدده نموذجنا على نظام تعكس فيه الشبكات تكتلا محليا قويا للكهوف غير المتصلة فيما بينها، لكنها متشابكة بحيث يمكن الوصول إلى أي نقطة تلاق من خلال أي نقطة أخرى في بضع خطوات فحسب في المتوسط، وقد أطلقنا على هذه الفئة من الشبكات اسم «شبكات العالم الصغير»، وهو الاسم الذي قد لا يكون أكثر التصنيفات العلمية دقة، لكنه يتمتع بمزية كونه جذابا. حظيت شبكات العالم الصغير منذ ذلك الحين بالكثير من الاهتمام، وفي حين غفل تماما عن نموذج ألفا الأصلي في مكان ما بين كل هذا الصخب، فلا يزال هذا النموذج قادرا على تعليمنا بعض الأمور عن العالم.
شكل 3-4: مقارنة بين طول المسار (ط) ومعامل التكتل (م). تمثل المنطقة بين المنحنيين، حيث يكون (ط) صغيرا، و(م) كبيرا (الجزء المظلل)، وجود شبكات العالم الصغير.
أول ما يخبرنا به النموذج ألفا هو إما أن العالم سيتجزأ إلى الكثير من التكتلات الصغيرة، كالكهوف المنعزلة، أو سيتصل في صورة مكون واحد ضخم يمكن لأي شخص الاتصال بالآخر فعليا في إطاره. ليس من الممكن، على سبيل المثال، وجود مكونين كبيرين أو حتى مجموعة صغيرة من المكونات الكبيرة يقسم فيما بينها العالم بالتساوي. قد تبدو هذه النتيجة مدهشة؛ لأن العالم يبدو عادة مقسما عبر الحدود الجغرافية أو الأيديولوجية أو الثقافية إلى عدد صغير من الطوائف المتباينة؛ الشرق والغرب، الأسود والأبيض، الغني والفقير، اليهودي والمسيحي والمسلم. ومع أن هذه الانقسامات قد توجه أفكارنا، ومن ثم تؤثر على أفعالنا بطرق هامة، فإن ما يخبرنا به النموذج ألفا هو أنها لا تنطبق على الشبكة نفسها، فنحن إما متصلون اتصالا وثيقا، أو غير متصلين على الإطلاق، ما من وسط بين هذا وذاك.
بالإضافة إلى ذلك، اتضح أن حالة الاتصال الوثيق يزيد احتمال حدوثها بكثير عن حالة الانقسام الشديد. ويجب أن نتذكر هنا أن المتغير ألفا يمثل توازنا بين قيود البنية الاجتماعية وحرية فاعلية الفرد. من الصعب حاليا تفسير طبيعة ألفا كمتغير؛ لذا من غير الواضح بالضبط ما يعنيه تحديد قيمة معينة له في العالم الواقعي، ومع ذلك، ما إن نتعرف أكثر على الشبكات حتى يتضح أن أي زيادة ولو طفيفة في الفاعلية سيكون لها أثر كبير، وتكون النتيجة أن العالم الذي نعيش فيه يقع بشكل شبه مؤكد على يمين القمة الموجودة في الشكل
3-4 ، مما يعني ضمنا أن كلا منا يمكن أن يتصل بأي شخص آخر. ويعبر النموذج، في الواقع، عما هو أكثر من ذلك؛ فنظرا لأن الانخفاض على الجانب الأيمن من القمة يكون سريعا للغاية، فليس من المرجح فقط أن يتصل العالم بشكل عام، لكن الأمر شبه المؤكد هو أن العالم صغير، بمعنى أن كل فردين تقريبا يمكن أن يتصل أحدهما بالآخر عن طريق سلسلة قصيرة من الوسطاء. قد تثير هذه النتيجة دهشة الكثيرين، فنحن نقضي القدر الأكبر من حياتنا نتفاعل مع مجموعة صغيرة نسبيا من الأفراد - الأصدقاء والعائلة وزملاء العمل - الذين يشبهوننا كثيرا في أغلب الأحيان، بل إن الأفراد الذين يتمتعون بالثقافة والتميز يمكن أن يشعروا بالانعزال داخل مجتمعاتهم الصغيرة، وقد لا يزعجهم هذا الأمر، لكن يظل يراودهم شعور يستحيل التغلب عليه بابتعادهم عن الغالبية العظمى من العالم، والمختلفة تماما عن النسبة الضئيلة نسبيا من الأشخاص الذين يعرفونهم بالفعل. كيف إذن نكون متصلين بالفعل، على الرغم من وجود هذا الإدراك (الواقعي تماما)؟
يكمن حل هذا التناقض في أن معامل التكتل لا ينخفض بالقدر نفسه تقريبا من السرعة مقارنة بطول المسار، فبصرف النظر عما تبدو عليه الشبكة على المستوى العام - أي سواء أكانت مجزأة أم متصلة، كبيرة أم صغيرة - فمن المؤكد تقريبا أن معامل التكتل سيكون كبيرا، ومن ثم، هناك قيود شديدة على ما يمكن للأفراد استنتاجه بشأن العالم بناء على ما يمكنهم ملاحظته. ثمة حكمة شهيرة تزعم أن كل السياسة محلية، لكن الحقيقة هي أن كل «الخبرة» محلية؛ فنحن لا نعرف سوى ما نعرفه، أما بقية العالم، بطبيعة الحال، فتقع خارج نطاق إدراكنا. وفي الشبكات الاجتماعية، تقتصر المعلومات التي يمكننا الوصول إليها، ومن ثم البيانات الوحيدة التي يمكننا استخدامها لإجراء التقييمات للعالم، على تلك التي تقع في إطارنا المحلي؛ أي أصدقائنا ومعارفنا. وإذا كان معظم أصدقائنا على معرفة بعضهم ببعض - أي إذا كان الإطار الذي نوجد داخله شديد التكتل - وإذا كان إطار كل شخص آخر متكتلا على النحو نفسه، فسنميل إلى الافتراض أنه لا يمكن الربط بين كل هذه التكتلات.
لكن هذا ممكن بالفعل، ولذلك تعد ظاهرة العالم الصغير مجافية تماما للمنطق؛ فهي ظاهرة عامة، لكن لا يستطيع الأفراد استشعارها إلا محليا فقط، فأنت تعرف من تعرفه فحسب، وربما في أغلب الأحيان يعرف أصدقاؤك الأفراد أنفسهم الذين تعرفهم، لكن إذا كان واحد من أصدقائك فقط صديقا لفرد واحد، يكون بدوره صديقا لشخص لا يشبهك على الإطلاق، فهناك إذن مسار متصل، قد لا يكون بإمكانك استخدام هذا المسار، وقد لا تكون على معرفة بوجوده، وقد يكون العثور عليه صعبا، لكنه موجود بالفعل. وعندما يتعلق الأمر بانتشار الأفكار أو التأثيرات، بل الأمراض أيضا، يمكن أن يكون لهذا المسار أهمية، سواء أكنت تعلم بوجوده أم لا، وكما هو الحال في هوليوود، فالمعارف مهمون كثيرا، لكن هناك جوانب أخرى للأمر: فمن يعرفهم أصدقاؤك، ومن يعرفهم هؤلاء الأفراد بدورهم لهم أهمية أيضا. (4) بسيط قدر المستطاع
كان النموذج ألفا محاولة لفهم كيفية تكون شبكات العالم الصغير من منظور القواعد التي يتبعها الناس عند إقامة صداقات جديدة، لكن ما إن عرفنا أن ظاهرة العالم الصغير ممكنة حتى أردنا التوصل إلى ما أدى إلى تكونها بالضبط. لم يكن من الملائم أن نركن ببساطة إلى التفسير القائل إن الأثر الذي كنا نراه هو نتيجة للمتغير ألفا، ذلك أننا لم نكن نعرف في الحقيقة ماهية المتغير ألفا، ومن ثم ما يمكن أن تشير إليه أي قيمة له، ومع بساطة النموذج ألفا، فقد ظل شديد التعقيد، لذلك قررنا أننا إذا أردنا حقا فهم ما كان يحدث، فإن علينا اتباع قول أينشتاين المأثور حول جعل الأمور «بسيطة قدر المستطاع، لكن ليس أبسط من ذلك». ومن ثم، ما هو أبسط نموذج يمكن أن يعكس ظاهرة العالم الصغير؟ وما الذي يمكن أن يخبرنا به - في ضوء ما يتمتع به من بساطة - ولم يخبرنا به النموذج ألفا؟ ما شرعنا في فعله بنموذجنا الثاني - بيتا - هو الابتعاد عن أبسط صور وضع نماذج للشبكات الاجتماعية، والتعامل مع البنية والعشوائية بأكبر قدر ممكن من التجريد.
وكما تناولنا من قبل، تحدث غالبا التفاعلات في الفيزياء بين عناصر النظام داخل شبيكة منتظمة. والشبيكات المنتظمة ملائمة تماما لدراستها؛ لأن كل موقع في الشبيكة متطابق مع كل موقع آخر بها؛ فعندما تعرف موقعك، تعرف مواقع الآخرين جميعا أيضا، وهذا هو السبب وراء شيوع استخدام الأنظمة الشبكية في تخطيط الطرق بالمدن أو الحجيرات بأماكن العمل الكبيرة، فمن اليسير للغاية التنقل داخلها. الحالات الوحيدة التي تنطوي على بعض التعقيد هي تلك الواقعة على الحدود، وذلك لأن هذه المواقع يقل عدد تفاعلاتها مقارنة بنظائرها الداخلية. يسهل التغلب على مثل هذا النوع من عدم التماثل (رياضيا، ولا ينطبق ذلك على المكاتب) من خلال «طي» المساحة على نفسها بحيث تتصل الأطراف المتقابلة، ومن ثم، يصبح الخط المستقيم حلقة، والشبيكة المربعة طارة (الشكل
3-5 ). ويطلق على الحلقات والطارات «الشبيكات الدورية»؛ لأنه لم يعد بها أي حد يمكن الخروج عبره من المكان، فمن المقدر لأي نقطة تتحرك من موقع لآخر بالشبيكة أن تستمر في الحركة حول المكان؛ أي دوريا، كما تفعل بالضبط سفن الأعداء في ألعاب غزاة الفضاء القديمة.
الشبيكات الدورية إذن تبدو كفئة طبيعية تماما من الشبكات التي تجسد مفهوم التفاعلات «المنظمة»، على الجانب الآخر، فإن الشبكة العشوائية تمثل تجسيدا للتفاعلات غير المنظمة، ومع أن الشبكات العشوائية ليست على القدر نفسه تقريبا من البساطة التي تتسم بها الشبيكات، فإنه يمكن فهمها جيدا. وعلى نحو أكثر تحديدا، في حين يمكن تعيين خصائص الشبيكات الدورية بدقة، يمكن تحديد خصائص الرسوم البيانية العشوائية إحصائيا. تخيل شجرتين من الفصيلة نفسها، والحجم ذاته تقريبا، تنموان متجاورتين في التربة نفسها، من الواضح أن إحداهما لن تصير مثل الأخرى بالضبط، لكن من الجلي في الوقت نفسه أنهما متشابهتان بشكل ما. يمكن التنبؤ بالرسوم البيانية على النحو نفسه تقريبا: فبالوضع في الاعتبار أي رسمين بيانيين عشوائيين كبيرين لهما المتغيرات نفسها، لن يمكن لأي اختبار «إحصائي» التفريق بينهما.
شكل 3-5: يمكن جعل الشبيكة دورية عن طريق توصيل طرفيها المتقابلين. في الرسمين العلويين تصبح الشبيكة ذات البعد الواحد (يسار الرسم) حلقة (يمين الرسم)، وبالرسمين السفليين تصبح الشبيكة ذات البعدين (يسار الرسم) طارة (يمين الرسم).
من ثم يمكن اعتبار الشبكة «منظمة» بقدر قربها من الشبيكة، وغير منظمة بقدر قربها من الرسم البياني العشوائي. كل ما احتجنا فعله هو البحث عن طريقة لضبط كل شبيكة بين النظام التام وعدم النظام التام على نحو تتبعه عبر المراحل الوسيطة المتعددة. مع أن هذه الشبكات، التي تحمل طابعا منظما في جزء منها، وعشوائيا في جزء آخر، لا يزال من الصعب فهمها من ناحية رياضية خالصة، فهي ملائمة تماما للكمبيوتر، وقد طورنا سريعا خوارزمية بسيطة لبنائها. تخيل شبيكة منتظمة، كالموضحة بالجانب الأيسر من الشكل
3-6 ، تكون فيها كل نقطة تلاق متصلة بعدد ثابت من أقرب نقاط التلاقي المجاورة لها في الحلقة، في هذا النظام، إذا كان لديك مثلا عشرة أصدقاء، فستعرف الخمسة المجاورين لك مباشرة عن يمينك والخمسة المجاورين لك مباشرة عن يسارك. وكما هو الحال مع الحدود القصوى بالنموذج ألفا، يعد هذا النوع من الشبكات الاجتماعية غريبا تماما، كما لو كان الجميع يقفون في حلقة ممسكين بعضهم بأيدي بعض، والوسيلة الوحيدة للتواصل بينهم هي النداء على من هم في مرمى السمع. لكن يجب التذكر هنا أننا لا نحاول بناء شبكات اجتماعية، بل التفريق بين الشبكات المنظمة وغير المنظمة بطريقة بسيطة.
شكل 3-6: بناء النموذج بيتا. تمد الروابط في الشبيكة الدورية أحادية البعد عشوائيا باستخدام معامل الاحتمالية بيتا . عندما تكون قيمة بيتا صفرا (يسار الشكل)، تظل الشبيكة بلا تغيير، وعندما تكون قيمته واحدا (يمين الشكل)، تمد جميع الروابط، الأمر الذي يؤدي إلى تكوين شبكة عشوائية، وفي المنتصف تجمع الشبكات بين النظام والعشوائية (على سبيل المثال، مد الرابط الأصلي بين (أ) و(ب) إلى «ب جديد»).
تخيل الآن إدخال هواتف محمولة في التجربة، فبدلا من التحدث مع أحد المجاورين لك، صار لديك الآن هاتف يصلك مباشرة بأي شخص آخر تختاره عشوائيا من الشبكة بأكملها. في الشكل
3-6 ، يعادل ذلك اختيار رابط على نحو عشوائي وإعادة مده، ويعني ذلك حذف رابط بين (أ) و(ب)، ثم اختيار صديق جديد، «ب جديد»، من الحلقة، مع الحفاظ على الطرف (أ) ثابتا. عمليا، ما نفعله هو اختيار قيمة لبيتا (المتغير الجديد القابل للضبط) بين صفر وواحد، ثم زيارة كل رابط في الشبيكة بشكل نظامي، ومده عشوائيا وفق القيمة الاحتمالية بيتا. من ثم، إذا كانت بيتا تساوي صفرا، فلن يكون هناك مد (لا يمتلك أحد هاتفا محمولا)، وينتهي بنا الأمر حيث بدأنا بالضبط؛ في شبيكة منظمة تماما. على الجانب الآخر، عندما تكون قيمة بيتا واحدا، يمد كل رابط، وتكون النتيجة شبكة غير منظمة على الإطلاق (الرسم الأيمن في الشكل
3-6 ) تشبه الرسم البياني العشوائي.
هذان الحدان القصويان للنموذج بيتا يسهل فهمهما تماما مقارنة بالحدين المناظرين لهما بالنموذج ألفا، اللذين يحددهما - كما نذكر - قواعد التفاعل المتحكمة في نقاط التلاقي الفردية. ويصعب بوجه عام تحليل الشبكات التي تنمو ديناميكيا، كالنموذج ألفا، لأنه لا يكون من الواضح بالضبط في كثير من الأحيان ما تنطوي عليه القواعد السلوكية الضمنية من أمور تؤدي إلى ظهور البنية المرصودة، وربما كان الأهم من ذلك هو أن الكثير من صور القواعد السلوكية الضمنية يمكن أن يؤدي على نحو مفهوم إلى الأنواع ذاتها من السمات البنيوية للشبكة النهائية، وكانت هذه هي المسألة التي شغلت تفكيرنا. عرفنا آنذاك كيفية تكون شبكات العالم الصغير ديناميكيا، فصرنا نتساءل عن المدى الذي يمكنها الوجود فيه بصرف النظر عن كيفية تكونها.
إلى جانب تناقضها التام مع الرسوم البيانية العشوائية من ناحية «النظام والعشوائية»، ما الأوجه الأخرى لاختلاف الشبيكات عن الرسوم البيانية العشوائية؟ بادئ ذي بدء، تتسم الشبيكة الحلقية بكبر حجمها؛ بمعنى أنها عندما تتكون من عدد كبير للغاية من الناس، يكون العدد النموذجي للخطوات - المسار - بين أي فردين كبيرا. تخيل - على سبيل المثال - أنك ترغب في توصيل رسالة إلى شخص ما بالجانب المقابل من الحلقة في الرسم الموجود على يسار الشكل
3-6 ، ولنفترض أن الحلقة تتكون من ملايين الأشخاص، وكل واحد منهم لديه مائة صديق، خمسون عن يمينه وخمسون عن يساره، ستكون أسرع وسيلة لنقل رسالتك هي أن تصيح بها للشخص رقم خمسين عن يسارك، وتطلب منه نقلها، حينئذ، يمكنه أن يصيح بها بدوره لصديقه رقم خمسين عن يساره، ويطلب منه الأمر نفسه، وبهذه الطريقة، تتجاوز رسالتك الحلقة في قفزات متخطية خمسين شخصا في المرة الواحدة، فتأخذ عشرة آلاف خطوة كاملة من هذه الخطوات لتصل إلى وجهتها. لا يكون الجميع بعيدا عنك مثل الشخص الموجود على الجانب المقابل لك، لكن متوسط المسافة لا يزال نحو خمسة آلاف درجة من الانفصال، وهو أكبر بكثير من الدرجات الست. تكون الشبيكة الحلقية شديدة التكتل لسبب بسيط، وهو أن الشخص المجاور لك، بفضل بنية الشبيكة، يعرف تقريبا جميع الأشخاص الذين تعرفهم، وحتى من هو بالجانب الآخر من دائرة أصدقائك يعرف نصف أصدقائك؛ لذا فإن معامل التكتل، في متوسطه على مستوى جميع أصدقائك، تبلغ قيمته تقريبا ما بين نصف وواحد، أو ثلاثة أرباع.
على النقيض من ذلك، يعكس الرسم البياني، الممتدة روابطه امتدادا عشوائيا خالصا، تكتلا طفيفا للغاية؛ ففي الشبكات الضخمة، تكون فرصة اتصالك عشوائيا بشخصين متصلين عشوائيا بدورهما، شبه منعدمة، ولهذا السبب ذاته، يكون الرسم البياني العشوائي «صغيرا» مثلما تكون الشبيكة كبيرة. هل تذكر تجربتنا الفكرية الأولى عن ظاهرة العالم الصغير؟ إذا كنت أعرف مائة شخص، وكل منهم يعرف مائة شخص، فعلى بعد درجتين من الانفصال يمكنني الوصول إلى عشرة آلاف شخص، وعلى بعد ثلاث درجات يمكنني الوصول إلى نحو مليون شخص، وهكذا. وغياب التكتل يعني عدم وجود روابط مهدرة أو متكررة - يصل كل ارتباط إضافي جديد إلى منطقة جديدة - ومن ثم يكون معدل نمو شبكة معارفي أسرع ما يمكن. نتيجة لذلك، يمكنني الوصول إلى أي فرد آخر في الشبكة في بضع خطوات فحسب، حتى وإن كان عدد الأفراد كبيرا للغاية.
إذن، ماذا يحدث في المنتصف؟ عندما تكون احتمالية مد الروابط ضعيفة، كما هو الحال في منتصف الشكل
3-6 ، سيشبه الشكل الناتج الشبيكة المنظمة للغاية، لكن سيكون به بعض الروابط العشوائية طويلة المدى. ما الفارق الذي تحدثه هذه الروابط؟ إذا لاحظت معامل التكتل، فستجد أن بعض الروابط العشوائية تسفر عن اختلاف ضئيل للغاية، فمع كل مد عشوائي، يقل عدد من تعرفهم من المجاورين لك واحدا، ويصبح لديك بدلا من ذلك صديق واحد إضافي لا يعرف جميع من تعرفهم، مع ذلك، يظل معظم أصدقائك على معرفة بعضهم ببعض، ومن ثم يظل التكتل كبيرا، لكن يطرأ على طول المسار تغير هائل؛ فنظرا لأن الروابط تمد من جديد على نحو عشوائي منتظم، ونظرا لأن الشبيكة الكبيرة تحوي عددا من المواقع البعيدة عنك أكثر من القريبة منك، فمن المرجح أن تتصل بشخص كان بعيدا عنك من قبل، ومن ثم فإن الروابط العشوائية تسفر عن «طرق مختصرة»، والطرق المختصرة، كما يشير اسمها، تعمل على التقليل من أطوال المسارات بين نقاط التلاقي التي كانت بعيدة من قبل .
بالعودة إلى تشبيه الهاتف المحمول، بدلا من الحاجة لنقل رسالة إلى الطرف المقابل في الحلقة من خلال قفزات تتجاوز خمسين فردا، صار الآن لديك ولدى المتلقي المقصود من الرسالة هاتفان، الأمر الذي يقلص المسافة بينكما إلى خطوة واحدة بدلا من عدة آلاف. ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، فإذا أردت نقل رسالة إلى أصدقاء صديقك الجديد، يمكنك الوصول إليهم في خطوتين فحسب، بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأصدقائهم التحدث مع أصدقائك، وأصدقاء أصدقائهم يمكنهم التحدث مع أصدقاء أصدقائك، في بضع قفزات قصيرة فقط، كل ذلك من خلالك ومن خلال اتصالك بالجانب الآخر من العالم. هذه هي بالضبط كيفية عمل ظاهرة العالم الصغير. في الشبكات الكبيرة، من المرجح أن يصل كل رابط عشوائي بين أفراد كان الانفصال بينهم كبيرا من قبل، ومن خلال ذلك فهم لا يتصلون بعضهم ببعض فحسب، لكن أجزاء كبيرة من باقي الشبكة تصبح أكثر قربا بكثير أيضا.
شكل 3-7: طول المسار ومعامل التكتل في النموذج بيتا. كما هو الحال مع النموذج ألفا (انظر الشكل
3-4 )، تظهر شبكات العالم الصغير عندما يكون طول المسار صغيرا ومعامل التكتل كبيرا (المنطقة المظللة).
الملاحظة الرئيسية هنا هي أن عددا قليلا من الروابط العشوائية القليلة فقط يمكن أن يكون له أثر كبير للغاية. وكما ترى في الشكل
3-7 ، عندما تزيد قيمة بيتا عن الصفر، يهبط طول المسار هبوطا شديدا وبسرعة تحول دون تمييزه عن المحور الرأسي. في الوقت نفسه، من خلال تقليص المسافة بين الكثير من أزواج نقاط التلاقي، يحد كل طريق مختصر من التأثير الثانوي لأي طرق مختصرة تالية، ومن ثم تقل سرعة هبوط الطول عندما يبدأ، ليقترب برفق من حد الرسم البياني العشوائي. وفيما يتعلق بهذا النموذج البسيط، تتمثل إحدى النتائج المفاجئة في أنه في المتوسط، تقلل أول خمس عمليات مد عشوائية من متوسط طول المسار للشبكة بمقدار النصف، بصرف النظر عن حجم الشبكة. وكلما كبر حجم الشبكة، عظم تأثير كل رابط عشوائي، ومن ثم يصبح تأثير إضافة روابط أخرى مستقلا بالفعل عن الحجم . يتسم قانون تخفيض النتائج بالقدر نفسه من إثارة الدهشة، يتطلب التخفيض بنسبة 50 بالمائة أخرى (ليكون متوسط طول المسار الآن ربع قيمته الأصلية) خمسين رابطا آخر تقريبا، أي ما يساوي تقريبا عشرة أضعاف ما هو مطلوب من أجل التخفيض الأول ونصف المقدار المطلوب من أجل التأثير الكلي. تتطلب التخفيضات التالية قدرا أكبر من الروابط العشوائية - أي المزيد من عدم النظام - لتحقيق تأثيرات أقل. في الوقت نفسه، يستمر معامل التكتل، كالسلحفاة التي تطارد أرنبا، في هبوطه البطيء والمنتظم، ليلحق في النهاية بالطول المميز لحالة انعدام النظام التام.
تكون النتيجة النهائية هي العثور ثانية على مساحة كبيرة في فضاء الشبكات بين النظام التام وانعدام النظام التام، يكون فيها التكتل المحلي كبيرا وأطوال المسارات العامة صغيرة. هذه هي شبكات العالم الصغير. وكما هو الحال في النموذج ألفا، لا يمكن للأفراد الموجودين في مكان ما بشبكة العالم الصغير تحديد نوع العالم الذي يعيشون فيه؛ فهم يرون أنفسهم يعيشون فحسب في تكتل محكم من الأصدقاء الذين يعرف بعضهم بعضا. إن عواقب هذه العبارة مهمة، وهذا ما سنراه في فصول لاحقة من هذا الكتاب عند تعرفنا على انتشار الأمراض وفيروسات الكمبيوتر، من ناحية، والبحث عن المعلومات في المؤسسات الكبيرة وشبكات الند للند، من ناحية أخرى.
لكن النموذج بيتا يعكس أيضا شيئا أكثر عمقا؛ لأنه يساعدنا في حل مشكلة المتغير ألفا الغامض الموجود في نموذجنا الأول. ويجب التذكر هنا أن مشكلة ألفا تمثلت في استحالة تفسيره من منظور الشبكة نفسها. عندما تكون قيمة ألفا صغيرة (عالم أهالي الكهوف)، نقيم شبكات يميل فيها الأفراد، الذين لا يملكون سوى صديق واحد مشترك، بقوة إلى إقامة علاقات صداقة فيما بينهم، وعندما تكون قيمة ألفا كبيرة للغاية (عالم سولاريا)، يتقابل الأفراد عشوائيا، سواء أكان لديهم صديق مشترك أم لا. لكن كما رأينا، من المستحيل بوجه عام التنبؤ على نحو دقيق بنوع الشبكة التي ستنتج من قيمة ألفا المحددة، خاصة القيم الموجودة في المنطقة المتوسطة التي يصدر عنها السلوك الأكثر إثارة للاهتمام.
يمكننا الآن فهم الأمر، تحدد ألفا احتمالية أن تظهر الشبكة المكتملة طرقا مختصرة عشوائية واسعة النطاق، وهذه الطرق هي التي تؤدي كل العمل. تتمثل مزية هذه النتيجة في أنه صار بإمكاننا الآن إنشاء الطرق المختصرة بأي وسيلة نريدها تقريبا - عن طريق محاكاة العملية الاجتماعية لإنشاء الشبكات، كما هو الحال في النموذج ألفا، أو إنشائها ببساطة من خلال الاحتمالية، كما هو الحال في النموذج بيتا - وسنحصل على النتيجة نفسها تقريبا. ينطبق الأمر نفسه إلى حد بعيد على التكتل. يمكننا ببساطة إضافته، كما فعلنا مع الشبيكة في النموذج بيتا، أو السماح له بالتزايد طبيعيا من خلال تكرار قاعدة لاكتساب أصدقاء جدد من خلال الأصدقاء الحاليين. وفي كلتا الحالتين، ما دامت لدينا وسيلة لإنشاء تكتل ووسيلة للسماح بظهور الطرق المختصرة، فسنحصل دائما على شبكة من شبكات العالم الصغير.
ومن ثم، مع أن النموذج بيتا كان سخيفا نوعا ما نظرا لأنه ما من نظام حقيقي يمكن أن يبدو مثله بالفعل، فإن الرسالة التي أوصلها لم تكن سخيفة على الإطلاق. ما أخبرنا به هو أن شبكات العالم الصغير تنتج عن توافق بسيط للغاية بين قوتين أساسيتين - النظام وانعدام النظام - وليس من الآليات المحددة التي يتم التوصل من خلالها إلى ذلك التوافق. أدركنا في هذه المرحلة أن شبكات العالم الصغير يجب أن تظهر ليس فقط في العالم الاجتماعي، الذي انبثقت منه الفكرة في الأساس، لكن أيضا في كل أنواع النظم المتصلة بشبكات. (5) العالم الواقعي
مع ما يبدو عليه الأمر من وضوح الآن، فإدراك حقيقة أن شبكات العالم الصغير يمكن أن تظهر في جميع صنوف النظم المتصلة بشبكات كان بمنزلة اكتشاف مهم للغاية في نظرنا؛ لأننا حتى ذلك الوقت كنا نفكر في المسألة من منظور الشبكات الاجتماعية فحسب. وعلى المستوى العملي، أفسح ذلك الطريق أيضا أمام إمكانية العثور على بعض البيانات التي تمكننا من التحقق من صحة تنبؤنا. ويجدر التذكر هنا أن إحدى المشكلات الكبيرة في فهم ظاهرة العالم الصغير، والسبب وراء انتهائنا إلى تبني منهج الضبط بين النظام والعشوائية، كان أن التحقق التجريبي من الظاهرة نفسها بدا غير ممكن على الإطلاق. فمن يمكنه الحصول على هذا النوع من بيانات الشبكات؟ لكن اتسع الآن نطاق بيانات الشبكة المقبولة لنا على نحو ضخم. هذا شأن أي شبكة كبيرة، ما دامت قد وثقت جيدا بما فيه الكفاية. من الناحية العملية، استلزم هذا الشرط الأخير ضرورة توفر البيانات إلكترونيا، وهو المطلب الذي يبدو تافها اليوم، لكن في عصور ظلام الإنترنت عام 1997، كان مجرد التفكير في نماذج جيدة مشكلة في حد ذاته.
حاولنا في البداية الحصول على قاعدة بيانات «استشهادات العلوم»؛ وهي شبكة ضخمة من الأبحاث العلمية المأخوذة من آلاف الدوريات الأكاديمية التي يتصل بعضها ببعض من خلال ما تحتويه من استشهادات بالمراجع الببليوجرافية، فإذا استشهدت ببحث لك، فأنا متصل بك، وإذا استشهدت ببحثي في بحثك، فأنت متصل بي. لم يكن ذلك ما نبحث عنه بالضبط (لأن الأبحاث تستشهد عادة بأبحاث سبق نشرها، فلا تشير الروابط بينها إلا لاتجاه واحد فقط)، لكنها كانت أفضل فكرة لدينا في ذلك الوقت. ومع الأسف، أراد المعهد العلمي الدولي، المالك لقاعدة البيانات، أن ندفع مقابل الحصول عليها، ولم يكن لدينا ما يكفي من المال.
في الواقع، أخبرنا المسئولون بالمعهد بلطف، لكن بحزم في الوقت نفسه، أنه في حال تحديدنا لبحث واحد لاستخدامه كأصل، فسيرسلون إلينا قائمة بكل الأبحاث التي استشهدت بهذا البحث مقابل 500 دولار. وفي مقابل 500 دولار أخرى، سيعطوننا قائمة بالأبحاث التي تستشهد بجميع تلك الأبحاث، وهكذا. رأينا الأمر عبثيا، فمن واقع معرفتنا بالشبكات كنا ندرك أنه عند بدء البحث من إحدى نقاط التلاقي الأولية (في هذه الحالة، البحث الأصلي)، يزيد عدد نقاط التلاقي التي يتم الوصول إليها زيادة أسية. ومن ثم، في مقابل ال 500 دولار الأولى، سيكون على المعهد تقديم عدد قليل من الأبحاث، في حين أنه في مقابل ال 500 دولار الرابعة، سيكون عليه البحث عن مئات أو آلاف أضعاف العدد الأول، في مقابل السعر نفسه! فكرنا لبعض الوقت في إنفاق ألفي دولار من أموال ستيف الثمينة المخصصة لأبحاثه لنثبت لهم الأمر فقط، لكننا عدنا إلى رشدنا في نهاية المطاف وعاودنا التفكير في شبكات أخرى.
كانت محاولتنا التالية أكثر نجاحا؛ في أوائل عام 1994، ظهرت لعبة جديدة باسم «لعبة كيفن باكون» في الثقافة الشعبية، وكانت ملائمة تماما لاهتماماتنا. اخترع هذه اللعبة مجموعة من أعضاء الأخوية بكلية أولبرايت، من الواضح أنهم كانوا مولعين بالأفلام السينمائية على نحو كبير، وتوصلوا (في حالة من غياب الوعي بلا شك) إلى استنتاج بأن كيفن باكون كان المركز الحقيقي لعالم الأفلام السينمائية. في حال ما إذا لم تسمع بذلك الأمر، فسأشرحه لك. تتكون شبكة الأفلام السينمائية من ممثلين يرتبط بعضهم ببعض بفضل اشتراكهم في فيلم واحد أو أكثر. لا يقتصر الحديث هنا على هوليوود فحسب، لكن أي فيلم يصنع في أي مكان وأي وقت على الإطلاق. ووفقا لموقع قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت، مثل نحو نصف مليون فرد في الفترة ما بين 1898 و2000 أكثر من مائتي ألف فيلم.
إذا مثل المرء فيلما مع كيفن باكون، فسيكون «رقم باكون» الخاص به في اللعبة هو واحد (باكون نفسه رقمه في اللعبة صفر)، ونظرا لمشاركة كيفن باكون في تمثيل عدد كبير من الأفلام (ما يزيد عن خمسين فيلما وقت كتابة هذا الكتاب) ومع 1550 شخصا، وفقا لآخر إحصاء، فمعنى ذلك أن 1550 شخصا يحملون رقم «واحد» في اللعبة. قد يبدو ذلك عددا كبيرا، وقد مثل باكون بالتأكيد مع عدد أكبر بكثير من المتوسط (الذي يبلغ نحو ستين فحسب)، لكن يظل هذا العدد أقل من واحد بالمائة من العدد الإجمالي لممثلي الأفلام السينمائية. بالابتعاد عن باكون الموجود في المركز، إذا لم يمثل المرء معه قط، لكنه مثل مع شخص آخر مثل معه، فسيكون رقم باكون الخاص به هو «اثنين». على سبيل المثال، شاركت مارلين مونرو في فيلم «نياجرا» (1953) مع جورج إييف، الذي شارك بدوره في فيلم «إثارة الأصداء» (1999) مع كيفن باكون، ومن ثم يكون رقم مارلين في اللعبة هو «اثنين». يتمثل هدف اللعبة، بوجه عام، في تحديد رقم باكون الخاص بالممثل عن طريق التوصل إلى أقصر مسار بينه وبين كيفن باكون العظيم.
في الجدول
3-1 ، يمكنك ملاحظة ما يسمى «توزيع درجات التباعد» في شبكة الممثلين، مع اعتبار باكون الأصل. يحمل نحو 90 بالمائة من جميع الممثلين في قاعدة البيانات رقم باكون محدود؛ أي إن بإمكانهم الاتصال بباكون من خلال سلسلة ما من الوسطاء في الشبكة. ومن ثم تتمثل إحدى النتائج التي يمكننا استنباطها على الفور في أن شبكة الممثلين بها مكون ضخم يشبه الرسم البياني العشوائي عند تجاوزه حد الاتصال الحرج. من الحقائق الأخرى التي تتضح على الفور أن السواد الأعظم من الممثلين يحملون أرقام باكون صغيرة للغاية؛ أي إنه يمكن الوصول لكل شخص تقريبا في المكون الضخم في أربع خطوات أو أقل.
جدول 3-1: توزيع الممثلين حسب رقم باكون.
رقم باكون
عدد الممثلين
العدد الإجمالي التراكمي للممثلين
0
1
1
1
1550
1551
2
121661
123212
3
310365
433577
4
71516
504733
5
5314
510047
6
652
510699
7
90
510789
8
38
510827
9
1
510828
10
1
510829
يمكن الاستنتاج أيضا، كما فعل أعضاء الأخوية، أن ثمة شيئا مميزا بشأن السيد باكون، وأنه نقطة الارتكاز التي يدور حولها عالم الممثلين. لكن عند التفكير بمزيد من التمعن في الأمر، يظهر تفسير مختلف تماما يبدو مقبولا على نحو أكبر. إذا صح أن باكون يمكنه الاتصال بأي شخص تقريبا في بضع خطوات فحسب، أليس صحيحا أيضا أن أي شخص يمكنه الاتصال بأي شخص آخر في العدد نفسه تقريبا من الخطوات؟ لذا بدلا من حساب رقم باكون الخاص بكل فرد، يمكن حساب أرقام كونري أو أرقام إيستوود، بل أرقام بولمان أيضا (إريك بولمان ممثل نمساوي مغمور عاش في الفترة ما بين 1913 و1979، ومثل في 103 أفلام، مثل «عودة الفهد الوردي» و«من روسيا مع حبي»). وبالتقدم خطوة واحدة، وقياس متوسط جميع نقاط البداية الممكنة (أي البدء على نحو مستقل بكل ممثل في المكون الضخم)، يمكن الحصول على متوسط طول المسار الذي سبق لنا قياسه في شبكاتنا النموذجية.
كل ما كنا بحاجة إليه هو بيانات الشبكة، ولم يمثل ذلك مشكلة؛ ففي ذلك الوقت تقريبا، كان بريت تشاودين وجلين واسون - وهما عالما كمبيوتر في جامعة فيرجينيا - قد أطلقا موقعا إلكترونيا جديدا يحمل اسم «أوراكل أوف كيفن باكون» الذي صار سريعا واحدا من أشهر مواقع الويب، يمكن للمعجبين بالأفلام كتابة اسم ممثلهم المفضل ليظهر الموقع على الفور مسار الممثل، كما فعلنا بالضبط مع مارلين مونرو. تصورنا أنه لإجراء مثل هذه الحسابات، لا بد أن تشاودين وواسون كانا يحتفظان بشبكة ما في مكان ملائم، فأرسلنا في طلب تلك الشبكة من تشاودين، ولدهشتنا وافق على الفور، بل دربني أيضا على التعامل مع السمات الخاصة للبيانات الخام، بعد ذلك بفترة ليست طويلة، حسبنا متوسط طول المسار ومعامل التكتل للمكون الضخم، الذي تكون في ذلك الوقت من نحو 225 ألف ممثل، كانت النتيجة واضحة، كما هو موضح في الجدول
3-2 . في عالم يحتوي على مئات الآلاف من الأفراد، يمكن لكل ممثل الاتصال بأي ممثل آخر في أقل من أربع خطوات في المتوسط، بالإضافة إلى ذلك، كان من المرجح أن يكون الممثلون المساعدون (80 بالمائة من المرات) قد سبق لهم التمثيل معا. لقد كانت شبكة عالم صغير بلا شك.
شجعتنا تلك النتيجة، فبدأت أنا وستيف على الفور في محاولة البحث عن أمثلة أخرى، ونظرا لأننا كنا نريد اختبار عمومية النماذج، أخذنا نبحث عمدا عن شبكات لا علاقة لها بالشبكات الاجتماعية قدر الإمكان، وسرعان ما بدأنا العمل بفضل كرم بعض زملائنا في قسم الهندسة الكهربائية - جيم ثورب وكويني باي - ممن كانت أبحاثهم تتعلق بديناميكيات أنظمة نقل الطاقة. جمعت بين ستيف وجيم علاقة صداقة، فحددنا موعدا للتحدث مع جيم وكويني بشأن بيانات الشبكات التي قد تكون لديهم، واتضح أن لديهم الكثير، كان لديهم، على وجه التحديد، خريطة إلكترونية كاملة لشبكة نقل الطاقة الكهربائية التي عرض الفصل
الأول
من هذا الكتاب انهيارها الكارثي في شهر أغسطس من عام 1996. شرعنا في العمل على الفور وأوليناها اهتمامنا، وسرعان ما بدأ كويني في مساعدتي في استيضاح نظام التدوين المعقد الذي يستخدمه مجلس تنسيق النظم الغربي لتوثيق شبكته، وبعد بضعة أيام من العمل على البيانات، صارت بالتنسيق الصحيح، وتمكنا من تطبيق الخوارزميات الخاصة بنا عليها، وما أسعدنا للغاية هو أننا عثرنا على الظاهرة نفسها كما سبق بالضبط. وكما هو موضح في الجدول
3-2 ، يكون طول المسار قريبا من طوله في أي شبكة عشوائية تحمل العدد نفسه من نقاط التلاقي والروابط، لكن معامل التكتل يكون أكبر بكثير، وهو ما أشارت إليه نماذج العالم الصغير التي وضعناها.
جدول 3-2: إحصائيات شبكات العالم الصغير (ط = طول المسار؛ م = معامل التكتل).
ط
فعلي
ط
عشوائي
م
فعلي
م
عشوائي
الممثلون السينمائيون
3,65
2,99
0,79
0,00027
شبكة الطاقة الكهربائية
18,7
12,4
0,080
0,005
الربداء الرشيقة
2,65
2,25
0,28
0,05
في محاولة للدفع بتنبؤاتنا إلى مستوى أبعد، كانت الشبكة النهائية التي تناولناها بالدراسة مختلفة تماما. أردنا في الحقيقة العثور على شبكة عصبية لنحسب عليها الإحصائيات التي توصلنا إليها، لكننا سرعان ما اكتشفنا أن بيانات الشبكات العصبية، شأنها شأن بيانات الشبكات الاجتماعية، نادرة للغاية. ولحسن الحظ، تعلم ستيف بالفعل بعض الأشياء عن الأحياء على مدار السنوات الطوال التي قضاها في التفكير في المذبذبات الحيوية، وبعد بضع محاولات خاطئة للبدء، اقترح ستيف أن نفحص نوعا من الديدان يعرف باسم الربداء الرشيقة، وقد أخبرني أنها من الكائنات الحية التي وقع عليها اختيار علماء الأحياء لإجراء دراسة مكثفة عليها، وربما تناول أحدهم شبكتها العصبية بالدراسة.
ربما! بعد بحث وجيز، وبمساعدة صديق لستيف يعمل عالم أحياء تصادف كونه خبيرا في الربداء الرشيقة، اكتشفت سريعا أن هذه الدودة حظيت باهتمام كبير في عالم البحث الطبي الأحيائي. وإلى جانب ذبابة الفاكهة (الدروسوفيلا)، وبكتيريا إي كولاي، وربما الخميرة، تعد دودة الربداء الرشيقة الخيطية التي تسكن الأرض الأكثر دراسة، والأكثر شهرة بين الكائنات الحية، على الأقل بين علماء الأحياء المتخصصين في دراسة الديدان. اقترح سيدني برينر، الذي عاصر العالمين واطسون وكريك، استخدام الربداء الرشيقة لأول مرة كنموذج حي في عام 1965، وصارت بعد ثلاثين عاما عنصرا جوهريا في مشروع الجينوم البشري، لتكون بذلك قد قضت ثلاثة عقود من الزمان تحت المجهر. سعى آلاف العلماء - بالمعنى الحرفي للكلمة - لا لتعلم شيء ما عن هذه الربداء، بل كل شيء. لم يحققوا ذلك بعد، لكن سجل إنجازاتهم مذهل، خاصة لشخص يتخبط في دراستها للمرة الأولى، فتتبعوا، على سبيل المثال، الجينوم الكامل للربداء، وهو إنجاز قد يبدو تافها بجوار مشروع الجينوم البشري، لكن حقيقة تنفيذه مبكرا وبقدر أقل بكثير من الموارد تبدو على القدر نفسه تقريبا من الإثارة، وقد رسم العلماء أيضا خريطة لكل خلية في جسمها بكل مرحلة من مراحل تطورها، بما في ذلك شبكتها العصبية.
من الأمور الطيبة بشأن الربداء الرشيقة أن الاختلافات بين العينات، حتى على مستوى أعضاء الكائن الحي، لا تذكر على الإطلاق، وذلك على عكس البشر؛ لذا يمكن التحدث عن شبكة عصبية قياسية للربداء الرشيقة، الأمر الذي يعد مستحيلا مع البشر. الأفضل من ذلك هو أن مجموعة من الباحثين لم يستكملوا فحسب المهمة العظيمة لتخطيط كيفية اتصال كل خلية عصبية في جسم هذا الكائن البالغ طوله ميلليمترا واحدا بالخلايا الأخرى، لكن مجموعة أخرى أيضا دونت فيما بعد بيانات الشبكة الناتجة بتنسيق يمكن قراءته على الكمبيوتر. وما يدعو للسخرية أنه بعد هذين الإنجازين العلميين المذهلين، قبعت النتيجة النهائية في قرصين مرنين بحجم 4,5 بوصة داخل الغلاف الخلفي لكتاب في مكتبة جامعة كورنيل، أو على الأصح الكتاب هو الموجود فقط في المكتبة؛ فقد أخبرتني أمينة المكتبة أن الأقراص المرنة قد فقدت. عدت، يائسا، إلى مكتبي للتفكير في نموذج آخر من الشبكات، لكن بعد يومين تلقيت مكالمة هاتفية من أمينة المكتبة التي نجحت في العثور على القرصين في النهاية. من الواضح أنهما لم يشغلا اهتمام أي شخص، فقد كنت أول شخص يفحصهما على الإطلاق، وبعد أن حصلت على القرصين وجهاز كمبيوتر قديم بما فيه الكفاية بحيث احتوى على محركي أقراص حجم 4,5 و3 بوصات، كان ما تبقى من العملية بسيطا نسبيا. وكما هو الحال مع شبكة الطاقة الكهربائية، تطلبت البيانات بعض المعالجة، لكن دون عناء كبير تمكنا من تحويلها إلى تنسيقنا القياسي. لم تحبطنا النتائج، التي ظهرت على الفور تلك المرة؛ فكما يوضح الجدول
3-2 ، كانت الشبكة العصبية للربداء الرشيقة شبكة عالم صغير هي الأخرى.
وهكذا صار لدينا ثلاثة أمثلة، وبعض التصديق التجريبي أخيرا على نماذجنا المصغرة. لم تستوف الشبكات الثلاث جميعها شرط العالم الصغير فحسب الذي كنا نبحث عنه، لكنها فعلت ذلك أيضا على الرغم من الاختلافات الكبيرة في الحجم والكثافة، بل على الرغم من تباين طبيعتها الأساسية، وهو الأهم. ما من تشابه على الإطلاق بين تفاصيل شبكات الطاقة الكهربائية والشبكات العصبية، وما من تشابه على الإطلاق بين كيفية اختيار الممثلين السينمائيين لمشروعاتهم وبناء المهندسين لخطوط انتقال الطاقة. لكن على مستوى ما، على نحو تجريدي إلى حد ما، ثمة شيء متشابه بين كل هذه الأنظمة؛ لأن جميعها شبكات عالم صغير. بدأ باحثون آخرون، منذ عام 1997، في البحث عن شبكات العالم الصغير أيضا، وقد ظهرت هذه الشبكات - كما هو متوقع - بجميع الأنحاء: في بنية الشبكة العنكبوتية العالمية، وشبكة التمثيل الغذائي لبكتيريا إي كولاي، وعلاقات الملكية التي تربط المؤسسات والبنوك الألمانية الكبيرة، وشبكة مجالس الإدارات المتداخلة لأهم 1000 شركة أمريكية وفقا لقائمة مجلة فورتشن، وشبكات التعاون بين العلماء. لا تعد أي من هذه الشبكات شبكات اجتماعية بالضبط، لكن بعضها، مثل شبكات التعاون، بدائل معقولة، وهناك شبكات أخرى، مثل الشبكة العنكبوتية العالمية وشبكة الملكيات، مع أنها ليست اجتماعية بأي صورة فعلية، فإنها على الأقل منظمة اجتماعيا، وبعض الشبكات الخاضعة للدراسة ليس لها أي محتوى اجتماعي على الإطلاق.
إذن، كانت النماذج صحيحة. لا تعتمد ظاهرة العالم الصغير بالضرورة على خصائص الشبكات الاجتماعية البشرية، بما في ذلك نسخة التفاعلات البشرية التي حاولنا بناءها في إطار النموذج ألفا. اتضح أن الأمر أكثر عمومية، يمكن لأي شبكة أن تكون شبكة عالم صغير ما دامت قادرة على تجسيد النظام، مع احتفاظها بقدر صغير من الفوضى، ويمكن أن يكون مصدر النظام اجتماعيا؛ كالأنماط المتداخلة من الصداقة في شبكة اجتماعية، أو ماديا؛ كالتقارب الجغرافي لمحطات الطاقة الكهربائية؛ لا يهم المصدر، كل ما يستلزمه الأمر هو آلية ما تزيد بها احتمالية اتصال نقطتي تلاق متصلتين بنقطة ثالثة مشتركة مقارنة بنقطتي تلاق يقع عليهما الاختيار عشوائيا. هذه طريقة جيدة للغاية لتجسيد النظام المحلي، لكن يمكن ملاحظتها وقياسها من خلال فحص بيانات الشبكة فحسب، ولا تتطلب معرفة أي تفاصيل بشأن عناصر الشبكات، أو العلاقات بينها أو السبب وراء ما تنتهجه من سلوك. ما دامت «معرفة» (أ) ب (ب) ومعرفة (أ) ب (ج) تشير ضمنا إلى أن (ب) و(ج) بدورهما أكثر احتمالا لأن يكونا على معرفة أحدهما بالآخر مقارنة بأي عنصرين آخرين يقع الاختيار عليهما عشوائيا، فإن لدينا نظاما محليا.
لكن الكثير من الشبكات الحقيقية، خاصة تلك التي تطورت في غياب تصميم مركزي، تنطوي على بعض الفوضى على الأقل. يتسم الأفراد في الشبكات الاجتماعية بالفعالية من خلال اتخاذ خيارات بشأن حياتهم وأصدقائهم، وهذه الخيارات لا يمكن اختزالها بسهولة في التاريخ والسياق الاجتماعي لهم فحسب. تنمو كذلك الخلايا العصبية في الجهاز العصبي بغير هدى، مع خضوعها للقوى الفيزيائية والكيميائية، لكن دون دافع أو مخطط، ولأسباب اقتصادية أو سياسية، تشيد شركات الطاقة خطوطا للنقل لم يخطط لها في أجيال سابقة من الشبكة، وتقطع عادة مسافات كبيرة وتجتاز أراضي وعرة، وحتى الشبكات المؤسسية أيضا، مثل مجالس إدارات الشركات الكبيرة، أو نماذج الملكية التي تربط العوالم التجارية والمالية - وهي الشبكات التي قد يتوقع المرء اتسامها بالتنظيم وفقا للمخططات الميكافيلية لمنشئيها - تعكس سمة العشوائية، وإن كان السبب في ذلك هو أن كثرة المصالح المتضاربة لا يمكن التوفيق بينها على نحو متناسق.
النظام والعشوائية ... البنية والفعالية ... الاستراتيجية واتباع الأهواء ... هذه نقاط التناقض الأساسية في النظم الشبكية الحقيقية، التي يتضافر بعضها مع بعض على نحو معقد، فتدفع النظام من خلال تصارعها اللانهائي إلى هدنة مضطربة، لكنها ضرورية في الوقت نفسه، فلو لم يكن لماضينا تأثير على حاضرنا، ولو كان حاضرنا غير مرتبط بمستقبلنا، لكنا قد ضللنا الطريق محرومين ليس فقط من الوجهة، بل أيضا من أي إدراك للذات، فنحن ننتظم وندرك العالم من خلال البنية المحيطة بنا، لكن الزيادة المفرطة للبنية والتأثير الزائد عن الحد للماضي على المستقبل، يمكن أن يكون أمرا سيئا أيضا؛ فيؤدي إلى الركود والعزلة. التنوع ، بلا شك، هو ما يعطي الحياة مذاقا، لأنه من خلال التنوع وحده يمكن للنظام أن ينتج شيئا ثريا ومثيرا.
هذا هو المغزى الحقيقي وراء ظاهرة العالم الصغير، ومع توصلنا إليه عن طريق التفكير في الصداقات، ومع استمرارنا في تفسير الكثير من سمات الشبكات الحقيقية وفقا للروابط الاجتماعية، فإن الظاهرة نفسها ليست قاصرة على العالم المعقد للعلاقات الاجتماعية، فهي تظهر، في الواقع، في مجموعة متنوعة ضخمة من النظم المتطورة طبيعيا، بدءا من الأحياء ووصولا إلى الاقتصاد، ويرجع جزء من السبب وراء كونها عامة للغاية إلى أنها شديدة البساطة، لكنها لا تصل في بساطتها إلى شبيكة مضاف إليها بضعة روابط عشوائية قليلة، بل هي النتيجة الحتمية لتسوية عقدتها الطبيعية مع ذاتها؛ ما بين صوت النظام العنيد ونظيره المدمر الجامح المتمثل في العشوائية.
من الناحية الفكرية، تعد شبكات العالم الصغير أيضا تسوية بين التوجهات المختلفة تماما لدراسة النظم الشبكية تطورت عبر عقود من الزمان في الرياضيات وعلم الاجتماع والفيزياء؛ فمن ناحية، دون وجود المنظور الفيزيائي والرياضي لنستهدي به في التفكير بشأن الظهور العام من تفاعلات محلية، ما كنا لنحاول قط تجريد العلاقات التي تجسدها الشبكة فيما وراء العلاقات الاجتماعية، وما كنا لنلحظ قط التشابه القوي بين الأنواع الكثيرة المختلفة من النظم، ومن ناحية أخرى، دون وجود علم الاجتماع كمحفز لنا، ودون إلحاح الحقيقة الاجتماعية القائلة إن الشبكات الحقيقية توجد في مكان ما بين نظام الشبيكات المجرد، والفوضى غير المحدودة للرسوم البيانية العشوائية، ما كنا لنفكر أبدا في طرح السؤال من الأساس.
الفصل الرابع
ما وراء العالم الصغير
بقدر ما ساعدنا تركيزنا على الشبكات الاجتماعية، فقد ضللنا أيضا إلى حد ما، وتمثلت إحدى أكثر السمات المثيرة للدهشة لكثير من الشبكات الحقيقية - بما في ذلك إحدى الشبكات التي كنت أعمل عليها مع ستيف - في شيء، ما كنا لنفكر في البحث عنه مطلقا؛ ففي إحدى عطلات نهاية الأسبوع بشهر أبريل عام 1999، كنت أجلس في مكتبي بمعهد سانتا في، حيث كنت أستكمل دراستي بمنحة جامعية لما بعد الدكتوراه، حين تلقيت رسالة ودية بالبريد الإلكتروني من لازلو باراباسي، وهو فيزيائي بجامعة نوتردام، يطلب فيها مني مجموعات البيانات التي تضمنها بحث عن شبكات العالم الصغير كنا قد نشرناه في العام السابق، حينذاك لم تكن لدي أي فكرة عما كان ينويه باراباسي وتلميذته، ريكا ألبرت، لكني سعدت بمنحه الشبكات التي كانت معي، ووجهته للاتصال ببريت تشاودين للحصول على بيانات بخصوص الممثلين السينمائيين. كان علي أن أولي الأمر مزيدا من الاهتمام؛ إذ إنه بعد بضعة أشهر قليلة نشر باراباسي وألبرت بحثهما الرائد في دورية «ساينس» ليطرحا مجموعة كاملة جديدة من الأسئلة عن الشبكات.
ما الذي غاب عنا؟ نظرا لأن دافعنا كان مستمدا من ظاهرة العالم الصغير، فقد كنت أنا وستيف غير مهتمين نسبيا بعدد الجيران الذين يحظى بهم الأفراد عادة في شبكاتهم، كنا نعرف أن علماء الاجتماع قضوا وقتا هائلا في حساب عدد الأصدقاء الذين يمتلكهم الأفراد، فضلا عن أن الأعداد التي توصلوا إليها تعتمد اعتمادا كبيرا على كيفية فهم الأشخاص موضع الدراسة بالضبط لمصطلح «الصداقة» في المقام الأول. فمن الجلي أنه إذا كان مصطلح «صديق» يشير إلى «من يعرفه المرء باسمه الأول»، فستكون النتيجة مختلفة تماما عما إذا كان ينظر إليه بمعنى «من يتناقش معه المرء في شئون شخصية» أو «من يقرضه المرء سيارته أسبوعا كاملا». ومن ثم وضعنا المشكلة في عداد ما يتعذر حله، وتوقفنا عن التفكير فيها بالكامل، لكن في خضم ذلك، وضعنا افتراضا بشأن توزيع الروابط في الشبكات. تخيل أنه بإمكاننا سؤال كل فرد في شبكة صداقات كبيرة عن عدد أصدقائه (مع افتراض تعريف محدد)، وأنهم جميعا سيمنحوننا الإجابة الصحيحة. كم عدد الأفراد الذين لديهم صديق واحد فقط؟ وكم عدد من لديهم مائة صديق؟ كم عدد من ليس لديهم أصدقاء على الإطلاق؟ بوجه عام، يمكننا استخدام البيانات لرسم يسمى ب «توزيع الدرجات» في الشبكة، كما هو موضح في الشكل
4-1 ، يعكس توزيع الدرجات، في صورة واحدة، احتمالية أن يكون لدى عضو مختار عشوائيا من مجموعة الأفراد عدد معين من الأصدقاء، أو «درجة» (ينبغي عدم الخلط هنا مع درجات الانفصال).
شكل 4-1: يحدد التوزيع الطبيعي احتمالية ح(د) أن يكون لدى نقطة تلاق واحدة مختارة عشوائيا عدد (د) من الجيران. وتقع الدرجة المتوسطة
د
بقمة التوزيع.
تمثل الافتراض الذي وضعته أنا وستيف بشأن الشبكات التي كنا ندرسها في أن كل هذه الشبكات سيكون توزيع الدرجات بها مشابها بالتقريب لما هو موضح في الشكل
4-1 . معنى ذلك أنها لن تظهر «درجة متوسطة» محددة جيدا فحسب، وهي الدرجة التي تشير إليها القمة الحادة، لكن معظم نقاط التلاقي أيضا سيكون لها درجات لا تختلف كثيرا عن المتوسط، بعبارة أخرى، سيتناقص التوزيع، أو يضمحل، بسرعة هائلة على جانبي المتوسط، بل إن سرعته ستصل إلى الحد الذي يصبح فيه احتمال أن يكون لدى أي فرد عدد من الأصدقاء أكبر بكثير من المتوسط أمرا غير ذي أهمية، حتى في شبكة ضخمة للغاية. بوجه عام، يعد ذلك افتراضا معقولا إلى حد بعيد. يتسم عدد كبير للغاية من التوزيعات في العالم الحقيقي بهذه السمة بالضبط، بل إنها منتشرة إلى حد أنه أصبح يشار إليها عادة بمصطلح «التوزيع الطبيعي». من منظورنا، بدت توزيعات الدرجات الطبيعية افتراضا معقولا لما ينبغي أن تبدو عليه توزيعات الدرجات في العالم الحقيقي، إضافة إلى ذلك، فإنها أوفت بمتطلب آخر لدينا، وهو ألا يكون أي فرد في الشبكة متصلا بأكثر من جزء صغير فقط من مجموعة الأفراد الكاملة.
يجدر هنا تذكر أن اهتمامنا كان منصبا على ظاهرة العالم الصغير، ومن الجلي أنه إذا كان بعض أعضاء مجموعة الأفراد متصلين بكل شخص آخر تقريبا، فستكون الشبكة صغيرة على نحو متواضع للغاية. فلتتأمل، مثلا، شبكة الخطوط الجوية؛ إذا كنت تسافر جوا إلى مكان ما، أيا كان، وإن كان ذلك من مطار صغير، فإن أول شيء ستفعله هو الطيران إلى مركز رئيسي، ومن هناك، إما أن تسافر مباشرة إلى وجهتك أو إلى مركز آخر (إلا إذا، بالطبع، كان المركز الأول هو نفسه وجهتك). وإن كنت تسافر من مدينة صغيرة إلى أخرى بالطرف الآخر من العالم، نادرا ما سيتجاوز العدد الإجمالي للمحطات التي ستحتاج إلى التوقف فيها محطتين أو ثلاث محطات، ويرجع ذلك إلى سبب بسيط، وهو أن كل مركز يكون متصلا بعدد كبير من المطارات الأخرى، بما في ذلك المراكز الأخرى، ونظرا لأننا لم نعتقد أن الشبكات الاجتماعية تعمل بهذا الأسلوب - لأنه لا يمكن لأحد أن يعرف أكثر من نسبة بالغة الصغر من إجمالي سكان العالم البالغ عددهم ستة مليارات نسمة - فقد قيدنا أنفسنا عن قصد بالشبكات ذات توزيعات الدرجات الطبيعية لمعرفة كيف يمكن للعالم أن يكون صغيرا، حتى في «غياب» المراكز الرئيسية.
كان كل ذلك معقولا ومقبولا ظاهريا تماما، لكننا ارتكبنا خطأ واحدا فادحا: لم نتحقق من صحة نتائجنا! كنا مقتنعين بعدم ملاءمة توزيعات الدرجات غير الطبيعية، حتى إننا لم نفكر مطلقا في التحقق من الشبكات التي تتضمن بالفعل توزيعات الدرجات الطبيعية وتلك التي لا تتضمنها. ظلت البيانات أمام أعيننا نحو عامين، وما كان الأمر ليستغرق أكثر من نصف ساعة للتحقق منها، لكننا لم نفعل ذلك قط. (1) الشبكات عديمة المعيار
في تلك الأثناء، كان باراباسي وألبرت يتطرقان إلى المسألة نفسها تقريبا التي كنت أنا وستيف بصددها، لكن من زاوية مختلفة تماما، فنظرا لأصول باراباسي المجرية، كان دارسا متعمقا لنظرية الرسوم البيانية التقليدية، التي تضمنت نموذج إيردوس للرسوم البيانية العشوائية، لكن كعالم فيزياء، كان باراباسي غير راض عن بعض أكثر المتطلبات صرامة لنماذج الرسوم البيانية العشوائية، وتساءل عن الأسرار التي من المحتمل ألا يكون قد كشف عنها بعد في الكميات الضخمة من بيانات الشبكات الحقيقية التي تتاح على نحو متزايد. تتمثل إحدى السمات الأساسية للرسم البياني العشوائي في أن توزيع الدرجات الخاص به يكون له دائما شكل رياضي محدد، وهو الشكل الذي يستمد اسمه من اسم سايمون ديني بواسون تكريما له، وهو عالم رياضيات فرنسي عاش في القرن التاسع عشر ودرس فئة العمليات العشوائية التي ينشأ هذا الشكل نتيجة لها. و«توزيع بواسون» ليس متطابقا مع التوزيع الطبيعي، لكنهما متشابهان بدرجة كافية تغنينا عن ذكر الاختلافات بينهما هنا. جوهريا، ما فعله باراباسي وألبرت هو إيضاح أن الكثير من شبكات العالم الحقيقي تتضمن توزيعات درجات لا تتشابه مطلقا مع توزيع بواسون، وهي تتبع، بدلا من ذلك، ما يعرف باسم «قانون القوة».
شكل 4-2: أحد توزيعات قانون القوة. مع أن هذا التوزيع ينخفض سريعا بمعدل (د)، فإنه يفعل ذلك على نحو أبطأ بكثير من التوزيع الطبيعي الموضح في الشكل
4-1 ، مما يشير إلى أن القيم الكبيرة ل (د) تكون أكثر احتمالا.
قوانين القوة هي نوع آخر من التوزيع شديد الانتشار في النظم الطبيعية، مع أن أصلها أكثر غموضا من أصول التوزيعات الطبيعية، مثل توزيع بواسون، وتتسم قوانين القوة بسمتين تجعلانها مختلفة تماما عن التوزيعات الطبيعية؛ أولا، وعلى عكس التوزيع الطبيعي: لا يتضمن قانون القوة قمة عند القيمة المتوسطة له، بل هو يبدأ - كما هو موضح في الشكل
4-2 - عند قيمته القصوى، ثم يقل بشدة عبر امتداده إلى ما لانهاية. ثانيا: يكون المعدل الذي يضمحل به قانون القوة أبطأ بكثير من معدل اضمحلال التوزيع الطبيعي، مما يشير إلى احتمال أكبر بكثير لوقوع أحداث متطرفة. فلتقارن، مثلا، توزيع أحجام الأفراد في مجموعة كبيرة من البشر بتوزيع أحجام المدن. يبلغ متوسط طول أي ذكر أمريكي بالغ نحو 175 سنتيمترا، ومع أن هناك الكثير من الرجال أقصر أو أطول من ذلك، فلا يقترب طول أي أحد من ضعف هذه القيمة (ثلاثة أمتار ونصف تقريبا!) أو نصفها (أقل من متر واحد). وعلى النقيض من ذلك، فإن عدد السكان بمدينة نيويورك، الذي يزيد عن ثمانية ملايين شخص، يبلغ 300 مرة تقريبا حجم مدينة مثل إيثاكا. مثل هذه الاختلافات المفرطة لا يمكن تصورها في توزيع طبيعي، لكنها معتادة للغاية في قوانين القوة.
على سبيل المثال، يتشابه توزيع الثروة في الولايات المتحدة مع قانون القوة، وقد كان المهندس الباريسي الذي عاش في القرن التاسع عشر، فيلفريدو باريتو، أول من لاحظ هذه الظاهرة، ومن ثم أطلق عليها «قانون باريتو»، وبرهن على أنها تنطبق على كل الدول الأوروبية التي تتوافر عنها الإحصائيات ذات الصلة. النتيجة الرئيسية لهذا القانون هي أن عددا كبيرا من الناس يملكون ثروات صغيرة نسبيا، في حين تتمتع أقلية صغيرة للغاية بالثراء الفاحش، ونظرا لأن الخصائص المتوسطة لتوزيعات قانون القوة شديدة الانحراف، فيمكن أن تكون مضللة للغاية. على سبيل المثال، ما من معنى على الإطلاق للتحدث عن متوسط ثروة سكان الولايات المتحدة، فالمتوسط الفعلي لهذه الثروة أعلى بكثير من ثروة أي مواطن أمريكي عادي، وذلك لأن هذا المتوسط تهيمن عليه ثروة عدد قليل من الأفراد فاحشي الثراء، الموجودين في طرف التوزيع، هيمنة شديدة. على النحو نفسه، يمكن لكمية قليلة من نقاط التلاقي فائقة الاتصال في إحدى الشبكات أن يكون لها تأثير لا يتناسب مع عددها.
تتمثل السمة الرئيسية لتوزيع قانون القوة في كمية تسمى «الأس»، وهي الكمية التي تصف في جوهرها كيفية تغير التوزيع كدالة للمتغير الرئيسي. على سبيل المثال، إذا انخفض عدد المدن ذات الحجم المحدد بتناسب عكسي مع هذا الحجم، فمعنى ذلك أن قيمة أس التوزيع تساوي واحدا. في هذه الحالة، من المتوقع أن نرى مدنا بحجم مدينة إيثاكا بمعدل يزيد ثلاث مرات عن احتمال رؤية مدن مثل ألباني (عاصمة ولاية نيويورك)، التي يبلغ حجمها نحو ثلاثة أضعاف، وبمعدل يزيد عشر مرات عن مدن مثل بافلو، التي يبلغ حجمها عشرة أضعاف، لكن إذا انخفض التوزيع عكسيا مع «مربع» الحجم، فمعنى ذلك أن قيمة الأس تصير اثنين، ويكون من المتوقع أن يزيد عدد المدن المماثلة في الحجم لمدينة إيثاكا عن المدن المماثلة لألباني بتسع مرات، وعن المدن المماثلة لبافلو بمائة مرة.
بدلا من تمثيل احتمال وقوع حدث ما على الرسم البياني كدالة لحجمه (كما في الشكل
4-2 )، فإن أيسر سبيل لتحديد أس قانون القوة هو تمثيل «لوغاريتم» الاحتمالية في مقابل «لوغاريتم» الحجم على الرسم البياني. ومن الملائم أنه في هذا الشكل (الذي يعرف باسم «رسم اللوغاريتم-اللوغاريتم»)، يكون التوزيع الصحيح لقانون القوة خطا مستقيما دائما، كما هو موضح بالضبط في الشكل
4-3 . ومن ثم ، يوضح الأس ببساطة كميل لهذا الخط المستقيم. لذا، عندما تتوفر البيانات الكافية، يكون كل ما علينا فعله هو وضعها على مقياس لوغاريتم-لوغاريتم، وقياس ميل الخط الناتج. أوضح باريتو، مثلا، أنه بصرف النظر عن الدولة التي تناولها بالدراسة، كان توزيع الثروات قانون قوة يميل في مكان ما بين اثنين وثلاثة، بحيث كلما انخفض الأس زاد الاختلاف. وعلى العكس من ذلك، في حالة التعبير عن توزيع بواسون أو توزيع طبيعي بيانيا على مقياس لوغاريتم-لوغاريتم، سنرى، كما هو موضح في الشكل
4-4 ، أنه في نقطة ما سيبدأ في الانحناء لأسفل سريعا، ليعكس ما يعرف باسم «القطع». وبوجه عام، يحدد القطع حدا علويا لأي كمية يمثلها التوزيع، وعندما يطبق القطع بوجه خاص على توزيع الدرجات بإحدى الشبكات، تتمثل أهميته في أنه يحدد مدى قوة اتصال أي عضو بالمجموعة، وإذا كان بإمكان شخص عادي الاتصال بجزء صغير فحسب من مجموعة الأفراد الكاملة، فسينطبق الأمر نفسه حتى على الشخص الأفضل اتصالا.
شكل 4-3: أحد توزيعات قانون القوة على رسم بياني لوغاريتم-لوغاريتم. الأس ألفا
هو ميل الخط (ينخفض الخط بمعدل α لكل وحدة على المحور الأفقي).
شكل 4-4: توزيع طبيعي على رسم بياني لوغاريتم-لوغاريتم. يحدث «القطع» عندما يختفي المنحنى داخل المحور الأفقي.
يمكن النظر إلى القطع أيضا على أنه يحدد معيارا أساسيا للتوزيع، ونظرا لأن قانون القوة يمتد إلى ما لانهاية دون مواجهة أي قطع على الإطلاق، فهو يسمى «عديم المعيار»، ومن ثم تتسم الشبكات عديمة المعيار بأن معظم نقاط التلاقي بها يكون اتصالها ضعيفا نسبيا، في حين أن أقلية مختارة من المراكز الرئيسية يكون اتصالها قويا للغاية، وهو ما يتناقض تماما مع الرسم البياني العشوائي الشائع. بعد فحص مجموعة متنوعة من بيانات الشبكات، توصل باراباسي وألبرت إلى نتيجة مذهلة، وهي أن كثيرا من الشبكات الحقيقية، بما في ذلك شبكة الممثلين السينمائيين التي درستها مع ستيف، والشبكة المادية للإنترنت، وبنية الروابط الافتراضية للشبكة العنكبوتية العالمية، وشبكات التمثيل الغذائي للعديد من الكائنات الحية، كانت عديمة المعيار. بعد العقود العديدة التي سادت فيها افتراضات معاكسة، قد تكون هذه الملاحظة مذهلة في حد ذاتها، لكن ما أثار اهتمام المعنيين بالشبكات حقا هو أن الباحثين أخذا خطوة إضافية للأمام؛ وذلك بأن اقترحا آلية بسيطة أنيقة يمكن بواسطتها لمثل هذه الشبكات أن تتطور مع مرور الوقت. (2) الأثرياء يزدادون ثراء
ثبت أن أصل توزيع درجات بواسون في الرسم البياني العشوائي، والقطع المتزامن معه، يكمن في فرضيته الأساسية، وهي أن الروابط بين نقاط التلاقي تظهر للوجود على نحو مستقل تماما بعضها عن بعض. في أي مرحلة من عملية البناء، من المحتمل لنقاط التلاقي ذات الاتصال الضعيف أن تقيم روابط جديدة أو تتلقاها تماما كما هو الحال مع نقاط التلاقي التي تتمتع بأفضل اتصال. وكما قد يتوقع المرء في هذا النظام المتساوي، تصل الأمور لمعدلها المتوسط بمرور الوقت. يمكن ألا يحالف الحظ إحدى نقاط التلاقي لفترة من الوقت، لكنها في نهاية المطاف ستكون بالطرف المتلقي لأحد الاتصالات الجديدة، أيضا، فإن الحظ السعيد لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، ومن ثم إذا اختيرت نقطة تلاق واحدة لعدد مرات أكثر من المتوسط لفترة من الوقت، فسوف تلحق بها نقاط التلاقي الأخرى في النهاية.
بيد أن الحياة الواقعية ليست على هذا القدر من العدالة؛ فخاصة فيما يتعلق بالثروة والنجاح، يبدو دائما أن الأثرياء يزدادون ثراء، ويكون ذلك على حساب الفقراء عادة. لقد استمرت هذه الظاهرة فترة طويلة، على الأقل منذ ظهورها في إنجيل متى: «لأن كل من له يعطي فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه.» وفي إطار الشبكات، فإن مصطلح «تأثير متى»، كما صاغه لأول مرة عالم الاجتماع العظيم روبرت ميرتون الذي عاش في القرن العشرين، يعني أن نقاط التلاقي جيدة الاتصال تزيد احتمالية جذبها لروابط جديدة، في حين أن النقاط ضعيفة الاتصال تظل ضعيفة للغاية.
وقد اقترح باراباسي وألبرت أن الحالة الخاصة لازدياد الأثرياء ثراء تدفع الشبكات الفعلية إلى التطور، وبوجه خاص، إذا كان لدى إحدى نقاط التلاقي ضعف الروابط التي تتمتع بها نقطة أخرى ، فإن احتمال تلقيها لرابط جديد يكون الضعف بالضبط، وقد اقترحا أيضا أنه على عكس نماذج الرسوم البيانية العشوائية النموذجية، التي يظل فيها عدد نقاط التلاقي ثابتا، مع إضافة الروابط فحسب، فإن نموذج الشبكة الواقعي ينبغي أن يسمح لمجموعة الأفراد نفسها أن تنمو مع الوقت، ومن ثم، بدأ باراباسي وألبرت بمجموعة صغيرة من نقاط التلاقي، ثم أضافا على نحو منتظم كلا من نقاط التلاقي والروابط، بحيث تضاف مع كل خطوة نقطة تلاق جديدة ويسمح لها بالاتصال بالشبكة الموجودة عن طريق مد عدد ثابت من الروابط، وتكون كل نقطة تلاق موجودة بالفعل في الشبكة مؤهلة لأن تكون بالطرف المتلقي لكل رابط، وفق احتمال يتناسب مباشرة مع درجتها الحالية، من ثم تتمتع نقاط التلاقي الأقدم في الشبكة بمزية لا تملكها تلك المضافة حديثا، ونظرا لوجود عدد قليل منها فحسب في البداية، فمن المرجح أن تجذب عددا قليلا من الاتصالات المبكرة، ثم تثبت قاعدة ازدياد الأثرياء ثراء هذه المزية مع مرور الوقت، وتكون النتيجة، كما أوضح باراباسي وألبرت، هي أنه على مدى زمني طويل بما فيه الكفاية، يتحول توزيع درجات الشبكة إلى أحد توزيعات قانون القوة، على نحو يذكرنا بالتوزيعات التي لاحظاها في البيانات التي فحصاها.
ما أهمية ذلك؟ أولا، يختلف توزيع درجات الشبكات عديمة المعيار عن توزيع بواسون اختلافا كبيرا، حتى إن أي شخص يحاول فهم بنية الشبكات الحقيقية لا يمكنه غض الطرف عن هذا الاختلاف. من الجلي أن النموذج القياسي للرسوم البيانية العشوائية، الذي طرحه إيردوس وريني، يعاني بعض المشكلات الخطيرة، ليس فقط لأنه فشل في التنبؤ بالتكتل الذي تحدثنا عنه سابقا، بل أيضا لأنه يعجز عن تفسير توصل باراباسي وألبرت إلى توزيعات الدرجات التي توصلا إليها. إن مجرد إدراك أن العالم مختلف تماما عن الصورة المفترضة عنه من قبل يمثل خطوة مهمة للأمام. أيضا يزيد شرح الارتباط التفضيلي من توضيح الأسلوب الذي يسير به العالم؛ فالاختلافات الصغيرة في القدرة - بل التقلبات العشوائية تماما أيضا - يمكن أن تثبت وتؤدي إلى تباينات كبيرة للغاية بمرور الوقت . وأخيرا - كما سنرى في فصول لاحقة من هذا الكتاب - تتمتع أيضا الشبكات عديمة المعيار بعدد من الخصائص الأخرى، مثل سهولة تعرضها للأعطال والاعتداءات، وهي الخصائص التي تميزها عن الشبكات العادية ولها أهمية كبيرة من الناحية العملية.
لم يكن باراباسي وألبرت أول من طرحا نموذج النمو التفضيلي لتفسير وجود توزيعات قانون القوة، وإن لم يكونا على علم بذلك آنذاك، فمنذ زمن طويل يعود إلى عام 1955، ابتكر هيربرت سايمون، الحاصل على جائزة نوبل ومتعدد المعارف (الشهير بطرحه لمفهوم العقلانية المحدودة)، نموذجا مطابقا تقريبا لتفسير توزيع أحجام الشركات التجارية، يعد هذا التوزيع بعينه مثالا لقانون زيف؛ الذي سمي بهذا الاسم نسبة لأستاذ اللغويات بجامعة هارفارد، جورج كينجسلي زيف، الذي استخدمه في عام 1949 لوصف توزيع مختلف إلى حد ما؛ وهو المعدل المدرج لتكرار الكلمات في نصوص اللغة الإنجليزية (وقد ثبت أن كلمة
the
هي أكثر الكلمات المستخدمة شيوعا، يليها كلمة
of ... إلخ). صنف زيف جميع الكلمات في عدد من النصوص الكبيرة حسب معدل تكرارها، وأوضح أنه عند وضع معدل تكرارها في مقابل درجتها في التصنيف على الرسم البياني، يكون التوزيع الناتج أحد توزيعات قانون القوة. تابع زيف بعد ذلك عمله لإيضاح أن قانونه ينطبق أيضا (إلى جانب أمور أخرى) على التوزيع المدرج لأحجام المدن (حيث ثبت أن الأس يقترب من الواحد) والشركات التجارية.
أرجع زيف نفسه هذه الظاهرة إلى ما أسماه «مبدأ الجهد الأقل»، وهو مفهوم مثير للاهتمام، لكنه ظل محيرا بشكل محبط بالرغم من الكتاب (الطويل إلى حد ما) الذي ألفه زيف وجعل هذا التعبير عنوانه. وبعد ست سنوات اقترح سايمون ومعاونه، يوجي آيجيري، نموذجا بسيطا افترض - مثل نموذج باراباسي وألبرت - أن المدن الفردية (أو في حالة سايمون وآيجيري، الشركات التجارية) تنمو عشوائيا إلى حد ما، لكن احتمال نموها بقدر معين يكون متناسبا مع حجمها الحالي، ومن ثم فإن مدنا كبيرة كنيويورك يزيد احتمال جذبها للوافدين الجدد مقارنة بالمدن الصغيرة مثل إيثاكا، الأمر الذي يضخم الاختلافات المبدئية في الحجم، ويؤدي إلى توزيع لقانون القوة يحوز وفقه عدد قليل من «الفائزين» نصيبا كبيرا لا يتناسب مع حجمه قياسا إلى العدد الإجمالي للسكان.
على أرض الواقع، ما من شيء عشوائي بشأن كبر حجم نيويورك مقارنة بإيثاكا؛ فنيويورك تقع عند مصب أحد الأنهار الرئيسية بالساحل الشرقي، في حين تقع إيثاكا في قلب مجتمع زراعي خامل، لكن لم يكن ذلك هو الهدف من نموذج سايمون، فما كان لينكر أهمية الجغرافيا والتاريخ في تحديد المدن التي صارت عواصم حضرية، مثلما لم ينكر باراباسي وألبرت أن خطط العمل الواعدة وإمكانية الوصول إلى رأس المال المخاطر كانا عنصرين أساسيين كي يكون أي موقع إلكتروني متصلا ومرئيا بدرجة كبيرة، لكن الفكرة هي أنه ما إن يصبح أحد المواقع الإلكترونية أو الشركات أو المدن كبيرا، فبصرف النظر عن كيفية تحقيقه ذلك، يكون احتمال استمرار زيادته في الحجم أكبر من نظرائه الأصغر حجما. يملك الأثرياء العديد من السبل ليصبحوا أكثر ثراء، وبعضهم يستحق ذلك في حين لا يستحقه آخرون، لكن فيما يتعلق بالتوزيع الإحصائي الناتج، الأمر الوحيد المهم هو أنهم يزدادون ثراء بالفعل.
بشر الشمول العام لنموذج باراباسي وألبرت بأسلوب جديد لفهم بنية الشبكات باعتبارها نظما متطورة ديناميكيا. لا يهم هل الشبكات مكونة من بشر أم محولات إنترنت، أم صفحات ويب، أم جينات، ما دام النظام يتبع المبدأين الأساسيين للنمو والاتصال التفضيلي، فستكون الشبكة الناتجة عديمة المعيار. لكن حسبما أشار سايمون نفسه، فإن النماذج الأنيقة والجذابة من فرط بديهيتها قد تكون مضللة، ففي بعض الأحيان، تحدث التفاصيل فارقا بالفعل. (3) تحقيق الثراء يمكن أن يكون عسيرا
أحد التفاصيل المزعجة للغاية بشأن الشبكات عديمة المعيار هي أن توزيعات قانون القوة لا تكون عديمة المعيار بالفعل إلا عندما تكون الشبكة كبيرة بشكل مطلق، في حين أنه من الناحية العملية تتسم كل الشبكات التي نصادفها بمحدوديتها. تؤدي تأثيرات الحجم المحدود إلى مشكلات لكل تقنية إحصائية تقريبا، لكنها مزعجة على نحو خاص لقوانين القوة؛ لأن الحجم المحدود للأنظمة يفرض قطعا على التوزيع طوال الوقت. بعبارة أكثر تحديدا ، لا يمكن لأي نقطة تلاق في أي شبكة حقيقية أن تتصل بأكثر من باقي مجموعة الأفراد الكاملة، ومن ثم حتى إن كان توزيع الاحتمالية عديم المعيار بطبيعته، فلا بد للتوزيع المرصود أن ينعكس قطعا في مكان ما، ويكون عادة أقل بكثير من حجم النظام. وبناء عليه، فإن توزيعات الدرجات الفعلية التي صمم نموذج الشبكات عديمة المعيار لتفسيرها أوضحت فعليا منطقتين، كما هو موضح في الشكل
4-5 ، وهما: منطقة عديمة المعيار تظهر كخط مستقيم على رسم اللوغاريتم-اللوغاريتم البياني، وقطع محدود.
شكل 4-5: عمليا، تتضمن توزيعات قانون القوة دائما قطعا مميزا بسبب الحجم المحدود للنظام؛ لذلك فإن التوزيع المرصود للدرجات يظهر دائما على صورة خط مستقيم على رسم اللوغاريتم-اللوغاريتم البياني، على نطاق معين.
ينشأ الارتباك لدى الملاحظ عند تحديده هل أحد القطوع المرصودة قد حدث نتيجة لحجم النظام المحدود أم أنه ناتج بالفعل عن خاصية أكثر جوهرية للنظام. على سبيل المثال، لا يتقيد عدد الأصدقاء بحجم السكان في العالم، فهو حجم كبير بما فيه الكفاية ليكون لدى معظم الناس عدد أصدقاء يزيد مئات، بل آلاف المرات، عما لديهم بالفعل؛ فالقيد الحقيقي يتعلق بالناس أنفسهم، الذين لا يملكون ما يكفي من الوقت والجهد والرغبة لإقامة صداقات مع هذا العدد الكبير من الآخرين قبل أن ينهكهم الجهد الشاق اللازم لفعل ذلك، فحتى إذا كان تأثير متى ينطبق على شبكات مثل الشبكة العنكبوتية العالمية، فليس من الواضح إذا كان ينبغي أن يعمل على النحو نفسه في كل الشبكات، أو معظمها، والأسوأ أن القطع يكون في بعض الأحيان حادا للغاية حتى إن التوزيع الموضح في الشكل
4-5
يصبح من الصعب تمييزه عن التوزيعات المشابهة الموجودة في الشكل
4-4 ، التي ليست بتوزيعات عديمة المعيار إطلاقا.
ظهرت بعض الأدلة فيما بعد على أن الشبكات عديمة المعيار قد لا تكون منتشرة كما بدت في البداية، وكان ذلك بعد بحث باراباسي وألبرت الأصلي بنحو عام. نشر عالم فيزياء شاب يدعى لويس أمارال مع عدد من زملائه، من بينهم هاري يوجين ستانلي - أحد العظماء في مجال الفيزياء الإحصائية (والمستشار السابق لباراباسي) - بحثا في دورية «بروسيدينجز أوف ذي ناشيونال أكاديمي أوف ساينس» (أو: «وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم»)، وتناولوا في هذا البحث دراسة توزيعات الدرجات لعدد من الشبكات الحقيقية، وأوضحوا أنه مع أن بعضها يشبه توزيعات قانون القوة (وإن كان ذلك مع قطوع محدودة)، فمن الواضح أن البعض الآخر لا يشبهها. كان الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو الشبكة الاجتماعية لمجتمع المورمون في ولاية يوتا، التي بدت كتوزيع طبيعي قديم عادي ولم تظهر أي ملامح غريبة. جاء أحد الأدلة الأخرى على الشبكات التي لا تنطبق عليها صفة عديمة المعيار مما يبدو الآن ماضيا بعيدا؛ إذ ظهر في أحد أبحاث أناتول رابوبورت، الذي يتناول فيه بالدراسة شبكة الصداقات في مدرسة ميشيجان الثانوية. لم يكن رابوبورت، شأنه في ذلك شأني أنا وستيف، مهتما على الإطلاق بتوزيع الدرجات، لكنه على الأقل خصص الوقت لإيضاح توزيعه على الرسم البياني، ومع أنه لم يشبه توزيع بواسون المألوف للرسم البياني العشوائي، فلم يكن أيضا عديم المعيار.
يجب ألا نندهش من فكرة أن العالم أكثر تعقيدا من النموذج البسيط الذي وضعه باراباسي وألبرت، ولا يجب أن ينتقص ذلك من قيمة إنجازهما. إن طرح فكرة الشبكات عديمة المعيار يعد إحدى الأفكار المحورية في علم الشبكات الحديث، وقد دفع إلى ظهور الكثير من الأبحاث الفعلية، خاصة في مجال الفيزياء، لقد منح دخول الفيزيائيين إلى علم الشبكات هذا المجال القوة الرياضية والحسابية التي افتقر إليها زمنا طويلا، الأمر الذي جعل الأعوام القليلة الماضية وقتا شديد الإثارة وزاخرا بالإبداعات لنا، لكن صار من الواضح على الفور تقريبا أن القوة وحدها لم تكن كافية، ومثلما غفلت نماذجنا الأصلية للعالم الصغير عن عدد من سمات العالم الحقيقي، حدث ذلك أيضا مع المبادئ البسيطة لنمو الشبكات والارتباط التفضيلي.
يتمثل وجه القصور الرئيسي بمفهوم الشبكات عديمة المعيار في افتراض حدوث كل شيء بلا مقابل، فينظر إلى الروابط الشبكية في نموذج باراباسي وألبرت على أنها بدون تكلفة، ومن ثم يمكن الحصول على أكبر قدر يمكن جمعه منها، دون الوضع في الاعتبار صعوبة تكوينها أو الحفاظ عليها. يمكن أن ينطبق هذا الافتراض بالتأكيد على نماذج مثل الشبكة العنكبوتية، لكنه لا يكون صحيحا عادة فيما يتعلق بالنظم البشرية أو البيولوجية، بل الهندسية أيضا، مثل شبكة الطاقة الكهربائية. يفترض أيضا أن المعلومات مجانية، ومن ثم يمكن لأي نقطة تلاق حديثة العثور على أي نقطة أخرى في العالم والاتصال بها، ويكون العامل الوحيد ذو الصلة هو عدد الاتصالات الذي تحتفظ به كل نقطة تلاق حاليا، لكن في الحقيقة، تبدأ نقاط الاتصال الوافدة حديثا في جزء معين من النظام الكبير، وينبغي عليها أن تتعرف عليه من خلال عملية مكلفة من البحث والاستكشاف. عند الانتقال إلى مدينة جديدة، لا يمكننا العثور ببساطة على الشخص الذي يمتلك العدد الأكبر من الأصدقاء. قد يكون من المرجح بصورة أكبر مقابلة شخص لديه عدد كبير من الأصدقاء مقارنة بشخص لديه عدد قليل للغاية منهم، لكن ثمة عوامل أخرى أيضا تلعب دورا في هذا الأمر، وما إن يجر المرء اتصالاته الأولية حتى تعكس البنية الاجتماعية التي تضمه في الوقت الحالي فكرة أن بعض الأفراد يمكن الوصول إليهم على نحو أيسر من آخرين، بصرف النظر عن مدى كثرة اتصالاتهم واتساع نطاقها.
كان ذلك بالضبط هو التأثير الذي حاولنا التعبير عنه في نماذج العالم الصغير التي وضعناها، وظللنا على اقتناع بأهميته، لكن النماذج عديمة المعيار لم يكن بها أي عنصر للبنية الاجتماعية على الإطلاق. على الجانب الآخر، فقد أقنعتنا النتائج الأنيقة التي توصل إليها كل من باراباسي وألبرت بأن الأدوات المتاحة لدراسة الشبكات العشوائية كانت قوية لدرجة لا تسمح بتجاهلها. أردنا بصورة ما استغلال رياضيات الفيزيائيين لحل مشكلة البنية الاجتماعية، وفي الوقت نفسه تجاوز الحواجز التي أحاطت بأناتول رابوبورت قبل ذلك بخمسة عقود. كنا بحاجة لفكرة جديدة أكثر من أي شيء آخر. (4) إعادة تقديم بنية المجموعات
في العشرين من فبراير من عام 2000، وهو التاريخ الذي لا أتذكره إلا لتوافقه مع يوم ميلادي، التقيت بستيف في الاجتماع السنوي للرابطة الأمريكية للنهوض بالعلم في واشنطن العاصمة لتنظيم محاضرة عن الشبكات وتاريخ مسألة العالم الصغير. حضر المحاضرة أيضا عالم الاجتماع هاريسون وايت، وهو رجل يتمتع بتاريخ مشوق. في الواقع، بدأ وايت مسيرته المهنية في السلك الجامعي كفيزيائي نظري، فعني بدراسة فيزياء الحالة الصلبة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وشأن الكثير من الفيزيائيين الشباب، آنذاك والآن، سرعان ما أدرك أن أهم المشكلات التي لم تحل بعد في الفيزياء التقليدية قد حددت جيدا بالفعل، والجميع على علم بماهيتها. كان الآلاف من أمثاله من طلاب الدراسات العليا والباحثين الحاصلين على الدكتوراه الطموحين والمجدين يبذلون جهودا مضنية في المعامل بجميع أنحاء العالم، آملين في التوصل إلى الاكتشاف المهم التالي، وإذا لم تكن أذكى منهم جميعا، وتبذل جهدا أكبر، وحالفك الحظ بطريقة ما فوردت على ذهنك الفكرة السليمة في الوقت المناسب، فإن فرصك في النجاح معدومة. يصل كل فيزيائي شاب إلى هذه المرحلة من انعدام الأمل، ولم يكن هاريسون استثناء، لكن الأمر غير المعتاد هو ما اختار فعله لعلاج هذا الأمر.
في العام الأول من الدراسات العليا بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، درس هاريسون النزعة القومية مع العالم السياسي، كارل دويتش، ووجدها موضوعا خلابا، وبتشجيع من دويتش، قرر هاريسون ترك الفيزياء لدراسة العلوم الاجتماعية، فاغتنم فرصة الحصول على منحة جامعية لمدة عام واحد من مؤسسة فورد، وعاد إلى الدراسات العليا بجامعة برنستون، وحصل على شهادة دكتوراه أخرى، لكن هذه المرة في علم الاجتماع، غير أن الفيزيائي ظل بداخله دائما. وقبل عقود من انتشار مصطلح «متعدد التخصصات» في الأوساط الجامعية ووكالات التمويل على حد سواء، كان هاريسون عالما متعدد التخصصات؛ فكان أشبه بحصان طروادة غير مؤذ يمكن لأفكار وتقنيات الفيزياء المعاصرة غزو علم الاجتماع وإعادة تشكيله من خلاله. في سبعينيات القرن العشرين، كان هاريسون زميلا لستانلي ميلجرام، بل عمل أيضا على مسألة العالم الصغير. لكنه بدأ برنامجا للرياضيات التطبيقية، وأداره. تدرب بهذا البرنامج بعض أكثر علماء اجتماع الجيل التالي تأثيرا، إلى جانب تقديمه عددا من الإسهامات المؤثرة في النظرية الحديثة للشبكات الاجتماعية. اشتهر هاريسون، وهو في العقد الثامن من عمره الآن، ليس فقط بحدة طباعه وكتاباته المبهمة، بل أيضا بسخائه الشديد والاتساع المذهل لدائرة اهتماماته وبصيرته المدهشة في بعض الأحيان.
في المؤتمر اتسم هاريسون بغموضه المعتاد، لكنه قال شيئا واحدا نجح في إثارة بعض الانتباه، كان مضمون حديثه هو أن الناس يعرف بعضهم بعضا بسبب ما يفعلونه، أو بوجه أعم بسبب «السياقات» التي يوجدون فيها؛ فكون المرء أستاذا جامعيا سياق، وكذلك كونه ضابطا في البحرية، والسفر المتكرر جوا للعمل سياق، وتعليم التسلق سياق، والعيش في نيويورك سياق؛ كل ما نفعله، وكل السمات التي تحدد هويتنا، وكل الأنشطة التي نمارسها وتدفعنا إلى الالتقاء بعضنا ببعض والتفاعل معا هي سياقات، ومن ثم فإن مجموعة السياقات التي يشترك فيها كل فرد منا هي عامل محدد شديد الأهمية لبنية الشبكة التي ننشئها بعد ذلك.
مدفوعا بعمل رابوبورت، ظللت أعاني بعض الوقت مع فكرة إنشاء شبكات عشوائية تضم بنية اجتماعية على نحو أقل فوضوية من النموذج ألفا الذي عملت عليه أنا وستيف في البداية، لكنه لا يعتمد على ركائز الشبيكات الصناعية كالنموذج بيتا. تمثلت المشكلة في أنه عندما تخلصنا من نظام قياس الشبيكات، لم تعد لدينا أي وسيلة لتحديد مدى قرب أي شخص من أي شخص آخر، ومن ثم مدى احتمال اتصال أحدهما بالآخر. لا يمثل ذلك مشكلة في الرسوم البيانية العشوائية؛ لأن احتمالات اتصال كل فرد متساوية في كل الأحوال، وفي شبكات باراباسي عديمة المعيار، تعتمد احتمالات الاتصال على الدرجة فحسب، لكننا ما إن نبدأ في تقديم أي نوع من البنية الجماعية أو الاجتماعية حتى نحتاج إلى أساس ما لتمييز «القريب» من «البعيد». في الواقع، دون مفهومي القريب والبعيد، ليس من الواضح كيف يمكن للمرء تعريف البنية الاجتماعية في المقام الأول. وفي نهاية المطاف، ماذا تكون الجماعة الاجتماعية سوى مجموعة من الأفراد أقرب إليك من بقية العالم؟
طرأت على ذهني بوادر لحل هذه المسألة أثناء استماعي لحديث هاريسون، فبدلا من البدء بمفهوم المسافة، واستخدامه لإنشاء المجموعات، لماذا لا يكون البدء بالمجموعات واستخدامها لتحديد مقياس للمسافة؟ تخيل أنه في أحد التجمعات البشرية بدلا من اختيار الأفراد بعضهم لبعض مباشرة، يختارون الانضمام لعدد من المجموعات، أو على نحو أكثر شمولا، يختارون المشاركة في عدد من السياقات، كلما زاد عدد السياقات التي يشترك فيها شخصان، زاد قرب أحدهما من الآخر، وزاد احتمال اتصال أحدهما بالآخر. بعبارة أخرى، لا تبدأ الكائنات الاجتماعية كالورقة البيضاء مثلما فعلت نقاط التلاقي في نماذج الشبكات السابقة، وذلك لأنه في الشبكات الاجتماعية الحقيقية، يمتلك الأفراد هويات اجتماعية، وبالانتماء إلى مجموعات محددة، ولعب أدوار معينة، يكتسب الأفراد سمات تجعلهم أكثر أو أقل عرضة للتفاعل بعضهم مع بعض. بعبارة أخرى، تحدد الهوية الاجتماعية عملية تكون الشبكات الاجتماعية.
على الرغم من البساطة التي يبدو عليها الأمر، فقد كانت تلك النظرة للشبكات مختلفة في جوهرها فعليا عن النظرة التي كنا نعمل وفقها حتى تلك الفترة؛ ذلك لأنها تطلبت منا التفكير على نحو متزامن في نوعين مختلفين من البنية - البنية الاجتماعية وبنية الشبكات - بدلا من نوع واحد فحسب. بالطبع، تعد هذه النظرة طبيعية تماما لعلماء الاجتماع، فكما أوضحنا من قبل، فكر علماء الاجتماع طويلا وباجتهاد في العلاقة بين البنية الاجتماعية وبنية الشبكات، لكنها غير طبيعية على الإطلاق لعلماء الفيزياء والرياضيات، الذين تبدو لهم فكرة امتلاك نقطة تلاق في الشبكة لهوية أمرا سخيفا، مع ذلك، فإن الحدس كان جذابا للغاية، وقد أدهشني أنني لم أفكر فيه من قبل. في الواقع، لقد فكرت فيه بالفعل من قبل، بل إنه كان أول فكرة اقترحتها على ستيف على الإطلاق لتكون نموذجا للشبكة الاجتماعية، وذلك عندما بدأنا لأول مرة التفكير في الأمر برمته، لكن لعدد من الأسباب الفنية، لم نتمكن من إنجاحه، فتغاضينا عنه، وانتقلنا إلى نماذج الشبكات الأسهل من حيث إمكانية تصورها. بعد بضعة أعوام ظل الأمر يمثل مشكلة عويصة، لكن في هذه المرحلة كنت قد اكتشفت أنا وستيف سلاحنا السري الجديد؛ مارك نيومان.
مارك نيومان هو الشخص الذي يجعلك تتساءل لماذا تزعج نفسك بمحاولة فعل أي شيء، فإلى جانب كونه عالم فيزياء عبقريا وخبيرا في مجال الكمبيوتر، يعد مارك أيضا عازف بيانو بارعا لموسيقى الجاز، وملحنا، ومغنيا، ومعلم رقص، بل يجيد التزلج على الجليد أيضا، وقد ألف مارك، وهو لا يزال في منتصف العقد الرابع من عمره، أربعة كتب، ونشر العشرات من الأبحاث في دوريات الأحياء والفيزياء، وأسس لنفسه سمعة طيبة كمدرس بارع، وابتكر عددا من خوارزميات الكمبيوتر الأصلية؛ كل ذلك دون العمل ليلا أو في عطلات نهاية الأسبوع! لكن الأهم من كل ذلك هو أنه سريع؛ سريع ولا يكل على نحو لا يصدق. إن العمل مع مارك يشبه الصعود على متن قطار سريع دون التحقق أولا من خط سيره؛ فأنت تضمن الوصول إلى «مكان ما» بسرعة كبيرة، لكن انشغالك بعدم سقوط قبعتك من رأسك يحول دون اكتشاف وجهتك إلى أن تصل إليها، ويكون الإرهاق قد غلبك عادة. في تلك الأثناء يكون مارك قد انطلق بالفعل لكتابة بحث آخر.
تطلبت إثارة اهتمام مارك بالمسألة التي كنا نعمل عليها بعض الجهد، لكن لحسن الحظ كان قد سبق لي التعاون معه في كتابة بعض الأبحاث في معهد سانتا في، حين اكتشفنا معا بعض الخصائص الرياضية للنموذج بيتا، الأمر الذي جعله يألف المشكلات المتعلقة بالشبكات. وبناء على اقتراحي، دعا ستيف مارك أيضا إلى جامعة كورنيل لإلقاء خطاب، وسريعا ما أعجب كل منهما بالآخر، ومن ثم لقيت فكرة التعاون قبولا لدينا جميعا. تمثلت المشكلة الرئيسية في أنه في ذلك الوقت - أوائل عام 2000 - كنت أعيش في كامبريدج بولاية ماساتشوستس، كنت قد انتقلت إلى هناك الخريف السابق للعمل مع آندرو لو، وهو عالم اقتصاد مالي بكلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وصديق قديم لستيف منذ أيام الدراسات العليا لهما بجامعة هارفارد، في تلك الأثناء، كان مارك قد عاد إلى سانتا في، وكان ستيف لا يزال في إيثاكا، ومن ثم تحتم علينا تبادل أفكارنا عبر البريد الإلكتروني، الأمر الذي أثبت عدم فعاليته، لكننا في النهاية تمكنا من الالتقاء في إحدى عطلات نهاية الأسبوع في مايو، وكان ذلك في إيثاكا، للتحدث بشأن مشروع جديد. تجاهل ستيف ذكر أن عطلة نهاية الأسبوع التي اخترناها كانت نفسها العطلة التي أقيم فيها حفل التخرج بجامعة كورنيل، الذي يختفي خلاله الحرم الجامعي ومعظم المدينة وسط الحشد العظيم من الآباء والإخوة والأخوات والأقارب والطلاب الفرحين، مع ذلك، فقد تمكنا من عزل أنفسنا في منزل ستيف في كيوجا هايتس وإنجاز بعض الأعمال المهمة، أو بالأصح، أنجز مارك بعض الأعمال المهمة، في حين جلست أنا وستيف نشاهد في إعجاب تلك الماكينة وهي تدور بأقصى سرعة لها. (5) شبكات الارتباط
كانت الحيلة الفنية التي ساعدتنا في تعيين مفهوم المسافة كدالة محددة لبنية المجموعة بدقة هي التعبير عنه في إطار ما يطلق عليه «شبكة الارتباط»، كما هو الحال في شبكة الممثلين التي تناولناها بالشرح في الفصل
الثالث ، والتي يعد فيها ممثلان متصلين إذا كانا قد مثلا معا في أحد الأفلام، يمكن القول إن أي نقطتي تلاق في شبكة ارتباط تكونان مرتبطتين معا إذا اشتركتا في «المجموعة» نفسها، أو في «السياق» ذاته، إذا استخدمنا مصطلح هاريسون، ومن ثم فإن شبكة الارتباط يمكن أن تصير الركيزة التي تقوم عليها الشبكة الفعلية للروابط الاجتماعية. ودون أي ارتباطات، تكون فرصة اتصال شخصين ضعيفة للغاية؛ فكلما زاد عدد الارتباطات، وقوة كل ارتباط، زاد احتمال تفاعلهما كأصدقاء أو معارف أو زملاء عمل، وذلك حسب طبيعة السياقات التي يوجدان فيها. لكن قبل أن نبدأ بمشكلة بناء الشبكات الاجتماعية اعتمادا على شبكات الارتباط، علينا أولا فهم بنية شبكات الارتباط نفسها، وكانت تلك هي المسألة التي وقع عليها اختيارنا أنا وستيف ومارك لنبدأ بها عطلة نهاية الأسبوع تلك في إيثاكا.
تعد شبكات الارتباط فئة مهمة من الشبكات الاجتماعية ينبغي دراستها في حد ذاتها، ليس فقط لأن الارتباطات تشكل أساس أنواع أخرى من العلاقات الاجتماعية، كروابط العمل والصداقة، بل أيضا لأنها تظهر في مجموعة كبيرة من تطبيقات الشبكات غير الاجتماعية التي تحمل مع ذلك أهمية اجتماعية واقتصادية. على سبيل المثال، عندما تدخل على موقع أمازون الإلكتروني لشراء كتاب ما، ويدرج الموقع تحت اختيارك قائمة بعنوان «من اشترى هذا الكتاب اشترى أيضا ...»، فإن هذه شبكة ارتباط، وهي تتكون من أفراد من ناحية وكتب من ناحية أخرى. من خلال شراء أحد الكتب، يرتبط الأفراد بأي شخص آخر اشترى الكتاب نفسه، فيختارون في حقيقة الأمر «مجموعة» جديدة ينتمون إليها. تعد شبكة الممثلين السينمائيين أيضا شبكة ارتباط تتكون من ممثلين من ناحية وأفلام من ناحية أخرى، ومن خلال التمثيل معا في أحد الأفلام، يصبح ممثلان مرتبطين، ويمكن أن ينطبق وصف مماثل أيضا على مديري الشركات الذين يشكلون مجالس إداراتها، والعلماء الذين يشتركون في كتابة الأبحاث معا. في الواقع، كانت واحدة من أولى شبكات الارتباط التي حظيت بالانتباه هي شبكة التأليف المشترك في الرياضيات التي ضمت بول إيردوس، واضع نظرية الرسوم البيانية العشوائية الذي ألقينا عليه الضوء في الفصل
الثاني
من هذا الكتاب.
سبب آخر لدراسة شبكات الارتباط، هو الجودة الاستثنائية للبيانات التي لدينا؛ ذلك لأنه على الأقل في سياقات مثل عضوية النوادي والاشتراك في أنشطة العمل والتعاون بالمشروعات المشتركة كالأفلام أو الأبحاث العلمية، يكون من الواضح بالضبط من ينتمي لماذا. حديثا، أصبح قدر كبير من هذه البيانات متاحا إلكترونيا في صورة قواعد بيانات على الإنترنت، ومن ثم يمكن إنشاء شبكات ضخمة وتحليلها سريعا، بل الأفضل من ذلك أنه على الأقل في بعض الحالات - كمثال موقع أمازون وبعض شبكات التعاون التي سنناقشها - يسجل الأفراد أنفسهم البيانات تلقائيا، وذلك حين يتخذ المستهلكون قرارات الشراء أو تقديم الباحثين للأبحاث العلمية في الوقت الفعلي، ومن خلال توزيع جهد إدخال البيانات على أعضاء الشبكة أنفسهم، بدلا من تركيزها في أيدي مدير قاعدة بيانات، يزول القيد الرئيسي على تسجيل البيانات فعليا، ويمكن أن تنمو قواعد البيانات جوهريا بلا حدود، وهو الأمر المختلف تماما عن أساليب الجمع والتسجيل التي استخدمت حتى عقد مضى.
نظرا لأن شبكات الارتباط تتكون دائما من نوعين من نقاط التلاقي - التي يمكن أن نسميها «الفاعلين» و«المجموعات» - فإن أفضل طريقة لتمثيلها هي الشبكة ثنائية القسم أو ثنائية النمط. في الشبكة ثنائية القسم، كما هو موضح في اللوحة الموجودة بمنتصف الشكل
4-6 ، تظهر مجموعتا نقاط التلاقي منفصلتين، ونقاط التلاقي التي تنتمي لأنواع مختلفة فقط هي التي يمكنها أن يتصل بعضها ببعض، من خلال علاقة يمكن أن نفسرها على أنها «انتماء» أو «اختيار»، ومن ثم يتصل الفاعلون بالمجموعات فقط، وتتصل المجموعات بالفاعلين فحسب. وفي حين تتسم الشبكات ذات النمط الواحد (أو القسم الواحد)، كالشبكات التي تناولناها حتى هذه المرحلة، بتوزيع فردي الدرجة، تتطلب الشبكات ذات النمطين توزيعين: توزيعا لأحجام المجموعات (عدد الفاعلين الذين ينتمون لكل مجموعة)، وتوزيعا لعدد المجموعات التي ينتمي إليها كل فاعل.
شكل 4-6: أفضل تمثيل لشبكات الارتباط هو الشبكات ذات النمطين (الموجودة في منتصف الشكل) التي يظهر فيها الفاعلون والمجموعات كنوعين مختلفين من الأنماط. يمكن دائما عرض الشبكات ذات النمطين على إحدى شبكتين أحاديتي النمط تعكسان الارتباطات بين الفاعلين (أسفل الشكل) أو التداخلات بين المجموعات (أعلى الشكل).
مع ما تبدو عليه الشبكة ثنائية القسم من اختلاف، فيمكن دائما أن تمثل في صورة شبكتين أحاديتي النمط؛ واحدة تتكون من الفاعلين، والأخرى تتكون من المجموعات، وذلك من خلال عرضها في مجموعتين من نقاط التلاقي، كما فعلنا في الشكل
4-6 . يعد نمط الفاعلين هو المألوف؛ إذ يكون الفاعلان متصلين (مرتبطين) إذا انتمى كلاهما لمجموعة واحدة على الأقل، لكن المجموعات يمكن أيضا أن ترتبط بفضل الأعضاء المشتركين؛ فإذا كان فاعل واحد على الأقل ينتمي إلى مجموعتين، فيعني ذلك أنهما متداخلتان أو متشابكتان، وتكون نتيجة حيلة العرض هذه أنه من حيث المبدأ، تتضمن أي شبكة ذات قسمين كل المعلومات ذات الصلة بكل من «شبكة ارتباط الفاعلين» و«الشبكة المتداخلة المجموعات»، الموضحتين في أسفل الشكل
4-6
وأعلاه على الترتيب. ما كنت آمل فعله أنا وستيف ومارك هو فهم الخصائص الواضحة للشبكات أحادية النمط، في ظل التمثيل ثنائي الأقسام. يرجع السبب وراء العمل على هذا النحو إلى كلمة هاريسون في مؤتمر الرابطة الأمريكية للنهوض بالعلم. تعكس شبكات النمط الواحد تمثيلا للعلاقات التي قد يلاحظها المرء فعليا في بيانات الشبكات التي يمكن قياسها، مثل البيانات التي يجمعها محللو الشبكات بصورة طبيعية، والتي في جوهرها ما هي إلا قائمة توضح من يعرف من، فعليا، لكن ما لا يمكن لهذا النوع من بيانات الشبكات أن يطلعنا عليه هو من أين تأتي هذه العلاقات.
كما أوضحنا في الفصل
الثاني ، حاول التحليل التقليدي للشبكات تجنب هذه المشكلة عن طريق ابتكار أساليب لاستخلاص بنية المجموعات من بنية الشبكات وحدها، وفي ضوء الشكل
4-6 ، سيعني ذلك إعادة إنشاء شبكة تداخل المجموعات (الموجودة أعلى الشكل) بناء على معرفة شبكة ارتباط الفاعلين (الموجودة أسفله)، ويكون ذلك دون معرفة الرسم البياني ذي القسمين الموجود في المنتصف. لكن كما هو ملاحظ أيضا في الشكل
4-6 ، في حالة شبكة صغيرة نسبيا ذات قسمين، لا يكون عرض المجموعات (الموجود أعلى الشكل) أقل تعقيدا بكثير من عرض الفاعلين (الموجود أسفل الشكل)؛ لذا ليس من الصعب فحسب استخلاص العلاقة بين الشبكتين دون معرفة من أين أتت كلتاهما، لكن ليس من الواضح تماما كيف يمكن للاختبار توضيح الأمور من الأساس. من خلال البدء بالتمثيل الصريح للبنية الاجتماعية - أي التمثيل الكامل ذي القسمين - كان يحدونا الأمل في أن نفهم بنية شبكة الارتباط وشبكة التداخل في آن واحد. (6) المديرون والعلماء
في الوقت ذاته تقريبا الذي التقينا فيه نحن الثلاثة في إيثاكا، تلقيت رسالة بريد إلكتروني من جيري ديفيز، وهو أستاذ بكلية إدارة الأعمال بجامعة ميشيجان، يلتمس فيها مساعدة حسابية تتعلق ببعض بيانات الشبكات التي كان يدرسها مع معاونه، واين بيكر. كان ديفيز مهتما للغاية، لبضع سنوات، بالبنية الاجتماعية لعالم شركات القطاع الخاص بأمريكا، خاصة البنية المتشابكة لمجالس إدارات الشركات. ليست هذه بالشبكة الاجتماعية المتواضعة؛ فهناك ما يقرب من ثمانية آلاف مدير في مجالس إدارات الشركات التي تتصدر قائمة أفضل ألف شركة في الولايات المتحدة وفقا لقائمة مجلة فورتشن، وهذا العدد القليل نسبيا من الأفراد، إلى جانب الموظفين التنفيذيين التابعين لهم، يلعبون دورا محوريا في تشكيل اقتصاد الدولة، والعالم ككل بدرجة أقل. نظرا لأن معظم اللاعبين في هذه اللعبة يكونون مسئولين فقط أمام المساهمين في شركاتهم (هذا إن كانوا كذلك بالفعل!) وليس من الضروري أن يكون الوصول بثروة الشركة إلى أقصى حد ممكن في مصلحة عامة الأفراد أو البيئة أو الإدارة المستنيرة، فإن السؤال المهم يكمن فيما إذا كانت العناصر واسعة الانتشار لعالم الشركات قادرة على العمل المتناسق، بما في ذلك من خرق لمبدأ منافسة السوق المفترض. في أعقاب الفضائح المحاسبية واسعة الانتشار في مجالي الاتصالات وتجارة الطاقة، يبدو الأهم الآن أكثر من أي وقت مضى التعرف على الآليات الممكنة للتواطؤ بين الشركات.
على مر التاريخ لم يفكر علماء الاقتصاد كثيرا في هذه القضية؛ لأنهم يفترضون بوجه عام أن الأسواق تتحكم دائما في التفاعلات بين الشركات، لكن علماء الاجتماع، مثل ديفيز، يفكرون فيها كثيرا، فمن الطبيعي لشخص يوجد بمجلسي إدارة شركتين مختلفتين أن يشكل قناة لتدفق المعلومات بين الشركتين، ومن المرجح أيضا أن يحقق توافقا بين مصالحهما. توجد بالطبع قواعد بشأن العضوية المشتركة - فلا يمكن لأحد الانضمام إلى مجلسي إدارة شركتين مختلفتين متنافستين بشكل مباشر مثلا - لكن المصالح المشتركة تكون غالبا أقوى مما يمكن لأي قواعد التحكم فيها. هذا ولا يعد التنسيق بين الشركات دائما أمرا سيئا. إذا كان من المفترض لقطاع الشركات الأمريكية ككل أن يستجيب سريعا وبفعالية للبيئة الاقتصادية العالمية سريعة التغير، فمن الأفضل لموظفي هذه الشركات أن يتحدثوا معا في إطارات أكثر حميمية من تقارير العمل.
يملك رؤساء الشركات ومديروها بالطبع العديد من أوساط التفاعل، سواء أكانت رسمية أم غير رسمية، ولا تمثل غرف اجتماعات مجالس الإدارات سوى واحدة منها فقط، لكن نظرا لأن غرفة اجتماعات مجلس الإدارة هي المكان الذي تحدد فيه معظم التغيرات الرئيسية في استراتيجية الشركة أو يوافق عليها، فهي تبدو سياقا مهما للغاية ينبغي دراسته، بالإضافة إلى ذلك، وعلى عكس التفاعلات غير الرسمية بين المديرين التنفيذيين بملعب الجولف أو على الغداء، فإن عضوية مجالس إدارات الشركات هي بيانات متاحة للجميع، ومن ثم يمكن تحليلها. أراد كل من ديفيز وبيكر معرفة هل شبكة مجالس الإدارات التي تناولاها بالدراسة عالما صغيرا، بمعنى أنها شديدة التكتل، بحيث يتمكن أي مديرين من الاتصال أحدهما بالآخر عن طريق عدد قليل من الوسطاء فحسب. لم يستغرق الأمر وقتا طويلا لإثبات أنها كانت كذلك بالفعل، فتمكنا من إضافة نموذج آخر للقائمة المتزايدة لشبكات العالم الصغير المعروفة، لكن هذه الحقيقة لم تعد تبدو مفاجئة لنا، فطلبت من ديفيز أن نجري بعض التحليل المفصل لبيانات هذه الشبكات، وتكرم بالموافقة.
في تلك الأثناء التي كان مارك يجري فيها بعض الأعمال وحده - في منتصف تسعينيات القرن العشرين - بدأ كل من بول جينسبارج وجيفري ويست - وهما عالما فيزياء بمختبر لوس ألاموس الوطني - ثورة صغيرة في مجال النشر العلمي، عن طريق إنشاء مخزن إلكتروني على الإنترنت للأبحاث قبل النشر التي تتناول العديد من التخصصات الفرعية في الفيزياء، وما كان من العاملين في مجال الفيزياء، المحبطين كسواهم من عملية النشر التقليدية القائمة على الدوريات والتواقين دائما للحاق بالموجة التالية، إلا أن تهافتوا على ذلك المنفذ الجديد المعروف باسم «أرشيف المطبوعات الإلكترونية لمختبر لوس ألاموس الوطني». يقوم هذا الأرشيف بوظيفتين على الأقل تجعلان منه مؤسسة علمية ابتكارية؛ أولا: يقدم للباحثين خيار النشر الفوري؛ إذ لا يتطلب الأمر منهم سوى تحميل أبحاثهم على خوادم الأرشيف. ثانيا: يزود باقي العاملين في مجال البحث العلمي بإمكانية وصول سريعة لأعمال الباحثين الآخرين جميعا، الأمر الذي يؤدي إلى الإسراع للغاية من دورة الأفكار والابتكار. لم يتضح بعد ما إذا كانت هذه الإمكانية غير المقيدة لنشر عمل المرء أمرا جيدا تماما لتقدم العلم أم لا، لكن من الواضح أن معظم الفيزيائيين يؤمنون بذلك، على الأقل إذا وضعنا حماسهم لتحميل الأبحاث وتنزيلها في الاعتبار.
بالإضافة إلى أهمية الأرشيف المؤسسية، فإنه يمثل أيضا وسيلة للتحقق العلمي من خلال كونه شبكة للتعاون بين العلماء؛ ففي خلال نصف عقد منذ تأسيسه، نشر ما يزيد عن خمسين ألف باحث نحو مائة ألف بحث به. ومن الجلي أن هذه الأرقام ليست سوى جزء صغير من إجمالي عدد الفيزيائيين وأبحاثهم على مدار الزمن ككل، لكنها معبرة بما فيه الكفاية لتمثل على الأقل البنية الاجتماعية المعاصرة لهذا الفرع من المعرفة. تمكن مارك بمساعدة جينسبارج من الحصول على قاعدة البيانات الكاملة للأبحاث والمؤلفين، وتمكن من خلالها من إعادة بناء شبكة التعاون المتوافقة في صورة رسم بياني ذي قسمين.
تمكن كذلك مارك، الذي لا يرضى عن الإتقان التام بديلا، من الحصول على بعض البيانات الأكثر إثارة للإعجاب، وهي قاعدة بيانات «ميدلاين» للأبحاث والباحثين في مجال الطب الحيوي، التي جمع محتواها على مدار فترة زمنية أطول بكثير من أرشيف المطبوعات الإلكترونية، وتضم ما يزيد عن مليوني بحث ومليون ونصف المليون من المؤلفين. بالتأكيد هذه الأرقام أكبر بكثير مما يمكن تناوله في تحليل الشبكات الاجتماعية (تعد مجموعة بيانات ديفيز كبيرة، وهي بالآلاف فقط). لم يجب على مارك استخدام تطبيق «إنتل كلستر» فحسب، وهو التطبيق الذي كان قد ثبت للتو بمعهد سانتا في لإجراء الحسابات، لكن كان عليه أيضا تحسين بعض خوارزميات الشبكات القياسية؛ كيلا تحتاج تلك الأداة لسنوات لإتمام العمل. وكما لو أن ذلك لم يكن كافيا، حصل مارك أيضا على قاعدتي بيانات أصغر حجما (لكنهما لا تزالان ضخمتين بمعايير الشبكات الاجتماعية) من مجالي الحاسبات وفيزياء الطاقة العالية.
من المنظور الاقتصادي، لا تتمتع شبكة التعاون العلمي بالأهمية الواضحة نفسها التي تتسم بها شبكة مديري الشركات، لكن عند المتابعة على مدى زمني أطول، يكون لقدرة المجتمع العلمي على الابتكار، والاتفاق أيضا، آثار عميقة (وإن كانت غامضة إلى حد ما) على إنتاج وتحويل معارف جديدة تتغير بها أوجه التكنولوجيا والسياسة، ونظرا لأن البنية الاجتماعية لصور التعاون تمثل آلية يتعرف بها العلماء على تقنيات جديدة ويحلمون بأفكار جديدة ويحلون مشكلات ما كانوا ليتمكنوا أبدا من حلها وحدهم، فإنها مهمة لسير البحث العلمي على نحو سليم. وبوجه خاص، يمكن أن يأمل الفرد أن تتصل شبكة تعاون ضخمة من العلماء في صورة مجتمع واحد وليس مجتمعات فرعية منعزلة عديدة.
هكذا، حين تقابلنا في إيثاكا في عطلة نهاية الأسبوع بشهر مايو، لم يكن لدينا بعض الأفكار النظرية بشأن شبكات الارتباط فحسب، بل أيضا صورة ممتازة للظاهرة التجريبية التي يجب على نماذجنا تفسيرها. تمثلت إحدى أكثر السمات إدهاشا لشبكات التعاون، على سبيل المثال، في أن أغلبية المؤلفين في كل من هذه الشبكات كانوا متصلين بالفعل في مكون واحد يمكن ربط كل عالم عامل بداخله بأي عالم آخر من خلال سلسلة قصيرة فقط من المتعاونين (أربعة أو خمسة أفراد عادة). لم نتفاجأ في الواقع بهذه النتائج؛ لأننا لاحظنا هذه السمة من قبل في شبكة الممثلين السينمائيين، لكن يجب التذكر هنا أن بعض مجموعات بيانات مارك قد أنشئت في خمس سنوات فحسب، وتكونت بالفعل من عشرات الآلاف من المؤلفين، ومن ثم لم يتح للعلماء (الذين يتسمون بالتركيز الشديد دائما) وقتا طويلا للاتصال بعضهم ببعض كما هو الحال مع الممثلين، بالإضافة إلى ذلك، يكون العدد المعتاد لمؤلفي أي بحث حوالي ثلاثة فقط، وهو العدد الأقل بكثير من متوسط فريق التمثيل بالأفلام (نحو ستين فردا)، وهو ما لا يسهل على كل فرد أن يتصل بنظرائه على نحو جيد.
مع ذلك، يمكن لنظرية الرسم البياني العشوائي أن تفسر هذه الظاهرة بسهولة إلى حد ما. في الرسوم البيانية العشوائية - كما هو الحال في النموذج ألفا الموضح في الفصل
الثالث - لا يمكن وجود مكونين كبيرين بالحجم ذاته تقريبا دون أن يكونا متصلين؛ والسبب في ذلك ببساطة هو أنه إذا كان هذان المكونان موجودين بالفعل، فحتما سيتصل أحد أعضاء أحد المكونين في النهاية، بالصدفة العشوائية، بعضو بالمكون الآخر، وسيتوقف انفصالهما عند هذه المرحلة. ربما تكون المفاجأة هي أن هذه النتيجة عينها تظهر في الشبكات غير العشوائية أيضا، حيث تعزل قوى، مثل التخصصات المعرفية، المجتمعات بعضها عن بعض، لكن كما رأينا في النموذج ألفا، فإن أقل قدر من العشوائية يبدو أنه يحل الأمر، ومن ثم، فإن الاتصال القوي وقصر طول المسارات العامة تنبئ على نحو جيد بنموذج لشبكة عشوائية. (7) تعقيدات
مع ذلك، سريعا ما كشفت دراسة البيانات على نحو أكثر دقة عن عدد من الخصائص البعيدة كل البعد عن الشبكات العشوائية. بداية، كانت شبكات التعاون جميعها شديدة التكتل كشبكات العالم الصغير، التي صارت مألوفة بحلول ذلك الوقت. ثانيا، التوزيعات المعبرة عن عدد الأبحاث التي كتبها كل مؤلف، وعدد المؤلفين المعاونين له في كتابة كل من هذه الأبحاث، بدت مشابهة لتوزيع قانون القوة لباراباسي وألبرت أكثر من توزيعات بواسون ذات القمم التي تعد سمة مميزة للرسوم البيانية العشوائية.
ازدادت الأمور تعقيدا عندما بدأنا في فحص بيانات ديفيز المتعلقة بمجالس الإدارات، كان «كل فرد» في شبكة المديرين بأكملها - وليس فقط عدد كبير منهم - متصلا بالآخرين، وكانت توزيعات الدرجات المتوافقة بعيدة عن الشبكات العشوائية الطبيعية أو عديمة المعيار. إن الانضمام إلى مجلس إدارة إحدى الشركات المدرجة في قائمة أفضل 1000 شركة وفق تصنيف مجلة فورتشن الأمريكية، ليس بالمهمة الهينة؛ لذا فليس من المدهش أن يكون معظم المديرين - نحو 80 بالمائة منهم في الواقع - ينتمون إلى مجلس إدارة واحد فحسب. يتناقص التوزيع بعد ذلك تناقصا أسيا، أسرع بكثير من توزيع قانون الطاقة، لكن أبطأ من التوزيع الطبيعي أو توزيع بواسون. بالمصادفة، فإن أكثر المديرين اتصالا في الشبكة هو فيرنون جوردن، أعز أصدقاء الرئيس الأمريكي الأسبق، بل كلينتون، الذي اكتسب سمعة سيئة للغاية أثناء فضيحة مونيكا لوينسكي (شركة ريفلون، التي يعتقد أنه عرض على مونيكا وظيفة بها، واحدة من الشركات التسع التي هو عضو بمجالس إداراتها). في الوقت ذاته، كان توزيع المديرين المشتركين - عدد المديرين الآخرين الذين يشاركون كل مدير في عضوية مجلس الإدارة - غريبا للغاية، فلا تظهر به - كما هو واضح في الشكل
4-7 - قمة واحدة فحسب، بل قمتان مختلفتان، ثم صف طويل يبدو بلا نهاية تقريبا. لا يتلاءم أي توزيع قياسي في أي كتاب إحصاء مع هذه الفوضى المنبسطة كثيرة التكتلات. أي نوع إذن من الشبكات كانت هذه الشبكة؟ وهل كانت هناك أي وسيلة لفهم مثل هذه التوزيعات في إطار نظرية سبق لها تفسير بنية شبكات التعاون؟
شكل 4-7: توزيع المديرين المشتركين وفق بيانات مجالس الإدارات التي تناولها الشبكة، كما هو موضح فيجيري ديفيز. الدوائر هي البيانات الحقيقية، والخط هو التوقع النظري.
كان الحل - كما أوضحنا سابقا - هو تشكيل شبكات الارتباط في إطار تمثيل كامل ذي قسمين (نمطين) في الشكل
4-6 ؛ أي عن طريق التعامل مع الفاعلين والمجموعات كنوعين مختلفين من نقاط التلاقي، مما يسمح للفاعلين بالاتصال فقط بالمجموعات، والعكس. ومن خلال البدء بسمات الشكل ذي القسمين يمكننا حساب السمات المتوقعة للعروض أحادية النمط المتوافقة (الرسمين العلوي والسفلي بالشكل
4-6 ). لكن للتعامل مع ما هو أكثر من الوصف فحسب، كان علينا وضع بعض الافتراضات، وكان من المنطقي أن تكون بدايتنا بسيطة. عند تناول توزيعي الشبكة ثنائية القسم (المجموعات لكل فاعل والفاعلون لكل مجموعة) كما هو محدد، افترضنا أن التوفيق بين الفاعلين والمجموعات حدث عشوائيا إلى حد ما. من الواضح أن هذا ليس هو الحال في العالم الحقيقي حيث تكون القرارات التي تؤخذ بشأن المجموعات التي يتم الانضمام إليها مخططة بوجه عام، واستراتيجية عادة، لكن كما فعلنا في أغلب الأحيان مع النماذج التي تناولناها من قبل، طمحنا أن تكون قرارات الفاعلين معقدة ولا يمكن توقعها على نحو كاف، بحيث لا يمكن التمييز بينها وبين العشوائية البسيطة.
من خلال استخدام تقنية رياضية قوية لدراسة خصائص التوزيعات العشوائية، أوضحنا، أنا ومارك وستيف، أن الخصائص التقليدية للشبكات العشوائية أحادية النمط (التي درسها إيردوس وريني من قبل على نحو أكثر رسمية بكثير) قد امتدت على نحو طبيعي للغاية إلى الشبكة ثنائية النمط. إن السمات التي لاحظناها في شبكات التعاون العلمية، مثل أطوال المسارات القصيرة ووجود مكون ضخم، نبعت جميعها على نحو مباشر من الافتراض القائل إن الفاعلين يختارون المجموعات عشوائيا. والأمر الأكثر إثارة والأقل توقعا هو أن نموذجنا فسر أيضا توزيع الدرجات الغريب لبيانات ديفيز (يشير الشكل
4-7
إلى أن الاتفاق بين النظرية والبيانات قريب للغاية، بل مدهش) وجميع صور التكتل به تقريبا.
لكن ألم نوضح من قبل أن الشبكات العشوائية لا تحتوي على أي تكتل؟ حسنا، بلى، لكن هذا ما يجعل التمثيل ثنائي القسم لشبكات الارتباط مفيدا للغاية؛ فنظرا لأن كل فاعل في أي مجموعة، كالمتوقع، يكون مرتبطا بكل فاعل آخر في هذه المجموعة، فإنه في العرض أحادي النمط للشبكة ثنائية القسم، تعرض كل مجموعة على صورة «عصبة» متصلة بالكامل من الفاعلين، ومن ثم فإن شبكات الارتباط (مثل اللوحة السفلية بالشكل
4-6 ) هي شبكات من العصب المتداخلة التي ينغلق بعضها على بعض من خلال العضوية المشتركة للأفراد في المجموعات المتعددة، ونظرا لأن هذه الخاصية تمثل إحدى سمات «تمثيل» الشبكات، وليست سمة لأي عملية توفيق محددة، فهي تصح بصرف النظر عن كيفية توافق الأفراد والمجموعات. والشبكة العشوائية ثنائية القسم نفسها - التي لا يكون بها أي بنية معينة على الإطلاق - ستكون شديدة التكتل. على الجانب الآخر، تؤدي العشوائية إلى بقاء الشبكات عالية الاتصال وظهور أطوال مسارات عامة قصيرة. بعبارة أخرى، ستكون شبكات الارتباط العشوائية شبكات عالم صغير دائما!
كانت هذه نتيجة مشجعة للغاية، ولا يرجع ذلك إلى حاجتنا لوسيلة أخرى لإنشاء شبكات العالم الصغير (فكان الأمر يسيرا إلى هذا الحد)، لكن لأن خصائص العالم الصغير ظهرت على نحو طبيعي. ببساطة، من خلال تمثيل المشكلة على نحو بدا مقبولا اجتماعيا - عن طريق الافتراض فعليا أن الناس يعرف بعضهم بعضا بسبب المجموعات والأنشطة التي يشاركون فيها - تمكنا من التوصل إلى الكثير من خصائص الشبكات الاجتماعية الحقيقية. وعلى نحو لا يثير الدهشة، لا تزال نماذجنا تعتمد على عدد من الافتراضات التبسيطية، أهمها أن الفاعلين يختارون المجموعات عشوائيا، لكن هذه العيوب ليس من الممكن تصحيحها فحسب، بل إنها توضح في الحقيقة مدى قوة النتائج، وإذا أمكن حتى لأبسط آليات اختيار الفاعلين للمجموعات أن تنشئ بنى شبكات مقبولة على الأقل، فإن المنهج الأساسي يبدو سليما إذن.
لكن لا يزال هناك الكثير من العمل، ومرة أخرى تبدو الديناميكيات هي الحل. قد يعرف الناس من يعرفونهم بسبب ما يفعلونه، لكنهم يجربون أيضا أشياء جديدة بسبب من يعرفونهم؛ فيدعوك أصدقاؤك للحفلات، أو يجذبونك معهم في أنشطتهم المفضلة؛ يشركك زملاؤك أيضا معهم في مشروعات جديدة، أو يقترحون عليك معارف جددا قد يساعدونك في حل مشكلة ما؛ يقترح الرؤساء في العمل فرصا جديدة داخل الشركة، وخارجها أيضا. بعبارة أخرى، فإنك تحصل على المعلومات التي توسع بها آفاقك عن طريق ما لديك من معارف اجتماعيين حاليين، والتي تغير البنية الاجتماعية التي تتحرك بداخلها وتؤدي إلى ظهور المجموعة التالية من المعارف الذين ستتشارك معهم هذه المعلومات. تتمثل القوة الحقيقية للمنهج ثنائي القسم في أن كل هذه العمليات - ديناميكيات الشبكة - يمكن تمثيلها ببساطة ووضوح في إطار واحد؛ إطار يمكنه أن يتتبع تطور كل من البنية الاجتماعية وبنية الشبكة، إلى جانب الاحتواء اللانهائي لكل بنية داخل الأخرى، الذي يشكل قلب العملية الاجتماعية.
لكن ماذا يعني كل ذلك؟ فحتى لو فهمنا كيف ينتهي الأمر بالناس إلى إنشاء بنية شبكية من البنية الاجتماعية (والعكس)، فما الذي يمكنهم فعله بها بعد إنشائها؟ أيضا، من خلال الحد من المعلومات المتاحة للناس وتعريضهم لتأثيرات يمكن أن تقع خارج نطاق سيطرتهم، ما التأثير الذي تملكه الشبكات على الأفراد الموجودين بداخلها؟ إن الإجابات عن هذه الأسئلة - كما سبق وأوضحنا في الفصل
الأول - تعتمد اعتمادا كبيرا على نوع الإجراء أو التأثير - الديناميكيات القائمة على الشبكة - الذي يهتم به المرء، ومن ثم يجب فحص أنواع مختلفة من الديناميكيات القائمة على الشبكات بأساليب مختلفة، وهو ما سيؤدي بنا أحيانا إلى رؤى جديدة حول الشبكات نفسها. ولإدراك الأمر جيدا، سنحتاج للعودة مرة أخرى إلى مشكلة العالم الصغير التي تناولها ستانلي ميلجرام، والتي تبين أنها أكثر صعوبة مما ظن أي شخص على الإطلاق.
الفصل الخامس
البحث في الشبكات
أثار ستانلي ميلجرام، في الواقع، قدرا كبيرا من الجدل على مدار معظم حياته المهنية؛ أظهر ميلجرام، الذي يعد أحد أعظم علماء علم النفس الاجتماعي في القرن، نبوغا في تصميم التجارب التي سبرت أغوار الحد الغامض الفاصل بين عقول الأفراد والبيئة الاجتماعية التي يعملون فيها عادة. كانت نتائج هذه التجارب مدهشة في أغلب الأحيان، لكنها مزعجة وبغيضة أحيانا؛ ففي أشهر الدراسات التي أجراها ميلجرام، جلب إلى معمله في جامعة ييل أعضاء بمجتمع نيو هيفن المحلي، بهدف ظاهري هو المساهمة في دراسة التعلم البشري، وعند وصولهم، قدم كل مشارك إلى الشخص الخاضع للتجربة، وطلب منه أن يقرأ عليه مجموعة من الكلمات ليرددها وراءه، وفي حال ارتكاب الشخص الخاضع للتجربة خطأ ما، فسيكون عقابه صدمة كهربائية يعطيها له المشارك، ومع كل خطأ متعاقب تزيد قوة التيار الكهربي للصدمة، لترتفع في النهاية إلى مستويات ضارة، بل مميتة أيضا، في تلك الأثناء يأخذ الشخص الخاضع للتجربة في التأوه والصياح والتوسل طلبا للرحمة والتقلب في أغلاله، والمشاركون الذين يعترضون أو يحتجون على ما طلب منهم فعله بإنسان آخر يأمرهم بالاستمرار مشرف قاس يرتدي معطفا أبيض ويحمل لوحا لتدوين الملاحظات. الخطير في الأمر أنهم لم يجبروا فعليا على فعل أي شيء، ولم يهددوا أبدا بتوقيع عقاب عليهم، وإذا كانوا قد رفضوا الاستمرار في أي مرحلة، كانت التجربة ستلغى دون أي عواقب.
كانت التجربة برمتها مزيفة بالطبع؛ فلم تكن هناك صدمات حقيقة، وما كان الشخص الخاضع للتجربة سوى ممثل. كان الهدف الحقيقي هو رؤية ما سيفعله الأفراد ذوو الإرادة الحرة لشخص آخر عندما يرون أنهم ينفذون الأوامر وحسب. أخبر المشاركون في النهاية بكل ذلك، لكن أثناء التجربة ظنوا أن الأمر حقيقي، مما جعل سلوكهم يثير القلق. في إحدى صور الاختبار حيث كان للمشاركين دور فعال في التجربة، لكن الصدمات نفسها كان يعطيها وسيط، رفع سبعة وثلاثون من المشاركين البالغ إجمالي عددهم أربعين فردا قوة التيار الكهربي إلى مستويات مميتة، الأمر الذي جعل ميلجرام يتوصل إلى نتيجة مخيفة، وهي أن النظم البيروقراطية التي باعدت بين الأفراد والعواقب النهائية لأفعالهم كانت الأكثر فعالية في ظهور الوحشية. وفي تجربة أخرى، كان مطلوبا من المشارك تثبيت يد الشخص الخاضع للدراسة على لوح كهربائي أثناء تعرضه للصدمة! حتى في الوقت الحالي تصعب قراءة تقرير ميلجرام المتميز عن عمله، الذي يحمل عنوان «طاعة السلطة »، دون الشعور بقشعريرة تسري في جسدك من حين لآخر، لكن في السياق الأيديولوجي لفترة ما بعد الحرب في أمريكا في خمسينيات القرن العشرين، تحدت نتائج أبحاث ميلجرام معتقدات سائدة، وأثارت التجربة الغضب القومي.
مع ما تثيره هذه التجربة من جدل عظيم، فقد دفعت ميلجرام بالفعل إلى مصاف المفكرين الجماهيريين الذين يتذكر الناس أعمالهم ويتحدثون باستمرار عنها على نطاق واسع، إلى أن صارت جزءا راسخا من الثقافة نفسها. لا تزال نتائج تجارب ميلجرام تصعقنا (إن جاز التعبير)، لكننا لا نتشكك في صحتها، مع أن تجاربه لم يكررها أحد على الإطلاق (في الواقع، لا يمكن تكرارها في ظل القواعد الخاصة بإجراء التجارب على البشر في عصرنا الحالي). أيضا نحن لا نتشكك بوجه عام في بحثه في مسألة العالم الصغير (الموضح في الفصل
الأول )، لكن نظل ننظر لنتائجه على أنها مثيرة للاهتمام ومدهشة. لقد سمع الجميع عن «ست درجات من الانفصال»، لكن أغلب الناس يجهلون أصل العبارة، وعدد قليل جدا منهم تحقق بعناية من نتائج ميلجرام الفعلية، وحتى الباحثون الذين يستشهدون ببحث ميلجرام الأصلي، والذين قد يظن القارئ أنهم دققوا فيه بعناية، قبلوا بنتائجه ببساطة استنادا إلى معانيها الظاهرية.
ثمة نقطة مهمة تتعلق بالعلم في هذا الجانب؛ فمن ناحية، تكمن قوة أي مشروع علمي في طبيعته التراكمية: يصل العلماء إلى المشكلة المحددة التي يتناولونها وهم مدعومون بقدر مقبول من المعرفة المسبقة، والتي يتوقعون الاستناد إليها دون التحقق من صحة كل وسيلة أو افتراض أو مجموعة حقائق يستخدمونها، وإذا حاولنا جميعا فهم كل شيء من أصوله، أو صممنا على فهم كل جزء من اللغز بالقدر نفسه من التفصيل، فلن يصل أي منا إلى أي شيء؛ لذا - إلى حد ما - علينا أن نقبل بأن ما سلم المجتمع ذو الصلة بصحته قد أجري على نحو صحيح ودقيق، ويمكن الاعتماد عليه.
لكن من ناحية أخرى، فإن العلماء بشر، شأنهم في ذلك شأن العاملين في أي مجال آخر، ويدفعهم باستمرار عدد من العوامل أكثر بكثير من البحث الخالص عن الحقيقة العلمية، ونظرا لما يتسم به العلماء من عيوب بشرية من ناحية، ولأن الحقيقة نفسها قد يصعب للغاية تبينها من ناحية أخرى، فإن العلماء يرتكبون أخطاء، أو يسيئون تفسير ما يتوصلون إليه من نتائج، أو يسمحون لغيرهم بإساءة تفسيرها، ونظرا لتوقع حتمية هذه الأخطاء، يوظف النظام عددا من الآليات، كمراجعة النظراء، والمؤتمرات والندوات الأكاديمية، ونشر الأبحاث المعارضة، التي تستبعد الكثير من الأخطاء، لكن هذه العملية بعيدة كل البعد عن الكمال، وبين الحين والآخر نفاجأ باكتشافنا أن جزءا من معرفتنا، التي طالما سلمنا بصحتها، موضع شك أو حتى خطأ. (1) ما الذي أوضحه ميلجرام حقا؟
توصلت عالمة النفس، جوديث كلاينفيلد، بالمصادفة إلى ما يبدو الآن نموذجا كلاسيكيا للإيمان الموضوع في غير محله، وذلك أثناء تدريسها علم النفس لطلاب الجامعة. كانت جوديث تقدح زناد فكرها للتوصل إلى تجربة عملية يمكن لطلابها إجراؤها وتمنحهم شعورا بإمكانية تطبيق ما كانوا يتعلمونه في المحاضرات على حياتهم خارج الفصل الدراسي. بدت تجربة ميلجرام عن العالم الصغير الاختيار الأمثل، فقررت كلاينفيلد أن تجعل طلابها يكررون التجربة بأسلوب القرن الحادي والعشرين، باستخدام البريد الإلكتروني بدلا من الخطابات الورقية، وما حدث هو أنها لم تنفذ التجربة فعليا على الإطلاق؛ فأثناء الإعداد للتجربة نفسها، بدأت بقراءة أبحاث ميلجرام، وبدلا من أن تشكل نتائج ميلجرام أساسا قويا لتجربتها، بدت تلك النتائج - عند فحصها بعناية - لا تؤدي إلى شيء سوى طرح أسئلة مزعجة بشأنها.
تذكر أن ميلجرام بدأ السلاسل التي عمل عليها بنحو ثلاثمائة شخص كانوا يحاولون جميعا إيصال خطاباتهم إلى هدف واحد في بوسطن. تشير القصة التي يرويها الجميع إلى أن الأشخاص الثلاثمائة كانوا يعيشون في أوماها، لكن عند التدقيق نجد أن مائة منهم كانوا في الواقع في بوسطن! بالإضافة إلى ذلك، من بين الأفراد البالغ عددهم نحو مائتي شخص في نبراسكا، لم يقع الاختيار العشوائي إلا على نصف هذا العدد فقط (من قائمة البريد التي ابتاعها ميلجرام)، أما النصف الآخر، فكانوا جميعا مستثمرين للسندات الممتازة، والشخص المستهدف كان بالطبع سمسار أوراق مالية، والدرجات الست الشهيرة هي المتوسط المأخوذ من واقع هذه المجموعات الثلاث من الأفراد، وكما هو متوقع، يتفاوت عدد الدرجات كثيرا فيما بينها، مع نجاح أهالي بوسطن ومستثمري الأوراق المالية في إكمال السلاسل على نحو أكثر نجاحا وبعدد من الروابط أقل من عينة نبراسكا العشوائية.
تذكر أيضا أن النتيجة المذهلة لفكرة العالم الصغير هي أن أي شخص يمكنه الوصول إلى أي شخص آخر؛ ولا يقتصر ذلك على الأفراد الموجودين في المدينة نفسها فحسب، أو من لديهم اهتمامات مشتركة قوية، بل أي شخص في أي مكان؛ لذا، فإن المجموعة الوحيدة التي أوفت في الواقع - وإن كان من بعيد - بشروط الفرضية كما يعبر عنها عادة (بواسطة ميلجرام نفسه)، تمثلت في الأفراد البالغ عددهم ستة وتسعين شخصا الذين وقع عليهم الاختيار من قائمة بريد نبراسكا. في هذه المرحلة بدأت الأرقام في الانخفاض على نحو مزعج: من إجمالي ستة وتسعين خطابا مبدئيا في هذه المجموعة من الأفراد، لم يصل إلى الشخص المستهدف سوى ثمانية عشر خطابا! ثمانية عشر! أهذا ما أثيرت من أجله كل هذه الضجة؟ كيف يمكن لأي شخص أن يستنتج من ثماني عشرة سلسلة فحسب موجهة إلى شخص واحد مستهدف مبدأ عاما وشاملا كالذي بدأنا في محاولة تفسيره؟ وكيف وافق بقيتنا على هذا دون الاعتراض قط بجدية على معقولية الفكرة في المقام الأول؟
أخذت كلاينفيلد، التي أربكت هذه الأسئلة تفكيرها، تفتش عن أبحاث لاحقة بقلم ميلجرام وغيره من الباحثين، مفترضة أن الفجوة غير المدعمة ظاهريا بين النتائج العملية وتفسيرها اللاحق قد حظيت بدعم في مكان آخر. ومرة أخرى، أدهشها التوصل إلى أن هذا لم يحدث، بل كان العكس تماما في الواقع؛ فعلى الرغم من إجراء ميلجرام ومعاونيه تجارب أخرى بالفعل - أهمها كان بين السكان ذوي البشرة البيضاء في لوس أنجلوس ومستهدفين ذوي بشرة سوداء في مدينة نيويورك - فقد كانت تجارب محدودة مثل الأصلية إلى حد بعيد، بل إن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن عددا صغيرا فقط من الباحثين الآخرين هم من حاولوا تكرار نتائج ميلجرام، وكانت نتائجهم أقل إقناعا من نتائجه. على سبيل المثال، سعت إحدى التجارب إلى الربط بين مرسلين ومستهدفين داخل الجامعة نفسها الواقعة في وسط الغرب الأمريكي، الأمر الذي يعد بالكاد اختبارا لمبدأ عام!
ومع تزايد انزعاج كلاينفيلد مما كانت تتوصل إليه، انتهى بها الأمر وسط أرشيف جامعة ييل تبحث بعناية في ملاحظات ميلجرام الأصلية وكتاباته التي لم تنشر، ولا يزال بداخلها قناعة أنها غفلت عن شيء ما بالتأكيد، وكان الأمر كذلك بالفعل؛ فاكتشفت أن ميلجرام أجرى دراسة أخرى بالتوازي مع دراسة أوماها، واستخدمت هذه الدراسة مبتدئين من ويتشيتا بولاية كانساس، وزوجة طالب بمدرسة اللاهوت بجامعة هارفارد كشخص مستهدف. لقد ذكر ميلجرام هذه الدراسة بالفعل في بحثه الأول الذي نشر في مجلة «سايكولوجي توداي»؛ لأنها أنتجت أقصر سلسلة قاسها على الإطلاق: وصل الخطاب الأول للشخص المستهدف في أربعة أيام فحسب، ولم يستخدم سوى وسيطين فحسب. ما لم يذكره ميلجرام في ذلك البحث أو أي بحث آخر، هو أن هذا الخطاب الأول كان أحد ثلاثة خطابات فقط وصلت إلى الشخص المستهدف من إجمالي الخطابات الستين. كشفت كلاينفيلد أيضا عن تقارير تتعلق بدراستي متابعة كانت فيها معدلات استكمال السلاسل منخفضة للغاية، الأمر الذي أدى إلى عدم نشر أي نتائج، وكانت النتيجة النهائية لكلاينفيلد هي أن ظاهرة العالم الصغير، كما تقدم لنا عادة، ليس لها أساس تجريبي على الإطلاق.
بينما يعد هذا الكتاب للإصدار، نجري حاليا ما يعتبر إلى حد بعيد أكبر تجربة عن العالم الصغير على الإطلاق، وذلك في محاولة تأخرت كثيرا لحسم الأمر. يمكننا التعامل مع أعداد كبيرة من المرسلين والبيانات ما كان ميلجرام ليتخيلها، وذلك بواسطة استخدام البريد الإلكتروني بدلا من الخطابات، والتنسيق بين الرسائل من خلال موقع إلكتروني مركزي، لدينا حاليا خمسون ألف سلسلة رسائل تصدر من أكثر من 150 دولة تحاول الوصول إلى ثمانية عشر شخصا مستهدفا في الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا الجنوبية وآسيا والمحيط الهادي. من أستاذ جامعي في إيثاكا (لن يمكنك أن تحرز هويته أبدا) إلى مفتش أرشيف في إستونيا، ومن ضابط شرطة في غرب أستراليا إلى موظف في أوماها، يتنوع أشخاصنا المستهدفون في عالم مستخدمي الإنترنت البالغ عدده نصف مليار شخص متفرقين حول العالم. وفي الوقت نفسه، اختير المرسلون في هذه المهمة عن طريق التقارير الصحفية التي ظهرت عن التجربة بجميع أنحاء العالم، وصار يتصل بنا المئات منهم كل يوم.
ومع أن نصف مليار قد يبدو عددا كبيرا، فهو لا يزال أقل من تعداد العالم بالكامل، ومن المرجح أن من لديهم إمكانية الوصول إلى جهاز كمبيوتر (وما يكفي من وقت الفراغ) يمثلون قسما صغيرا نسبيا من المجتمع العالمي، ومن ثم يصبح من الجلي أن نتائج هذه التجربة، وإن كانت كبيرة، لن يمكن تطبيقها عالميا، بالإضافة لذلك، تعاني التجربة مشكلة سبق أن واجهها ميلجرام أيضا، لكن ليس بالقدر نفسه تقريبا، وهي عدم الاهتمام: يتلقى الناس في العصر الحالي الكثير من البريد غير المهم، خاصة البريد الإلكتروني، أكثر من ستينيات القرن العشرين بكثير، ويرفضون في كثير من الأحيان المشاركة (أو يكونون مشغولين للغاية فحسب)، حتى إن طلب منهم أحد أصدقائهم ذلك، وتكون النتيجة معدل استكمال شديد الانخفاض؛ أقل من واحد بالمائة من جميع السلاسل التي تبدأ في الوصول إلى أهدافها (يجدر التذكر أن معدل الاستكمال الذي وصل إليه ميلجرام يبلغ 20 بالمائة)؛ لذا، وعلى الرغم من الآمال العريضة التي نضعها على تجربتنا، فلم يحسم الأمر بعد، وقد يظل كذلك فترة طويلة، حتى عندما تحلل النتائج التي توصلنا إليها بالكامل، ربما تكون الرسالة الفعلية هنا هي أن ظاهرة العالم الصغير صعبة للغاية، فلا يمكن فك طلاسمها تجريبيا. (2) هل الرقم ستة كبير أم صغير؟
إلى أين يفضي بنا كل ذلك؟ في النهاية، لقد قضينا وقتا طويلا محاولين فهم ظاهرة العالم الصغير. لن نشكك فيها الآن، أليس كذلك؟ ليس بالضبط، لكن هناك فارقا مهما بين ظاهرة العالم الصغير التي عرفناها في نماذج الشبكات وتلك التي بحثها ميلجرام؛ فارقا تجنبنا التعرض له حتى الآن. تذكر هنا أن الدافع الرئيسي لتناولنا المسألة في الأساس كان صعوبة التحقق التجريبي منها، ومن ثم فإن الندرة المستمرة للأدلة التجريبية في حد ذاتها لا تمثل بالضرورة مشكلة لنتائجنا. تكمن المشكلة الحقيقية في وجود اختلاف كبير بين شخصين متصلين بمسار قصير (وهو ما تشير إليه نماذج شبكات العالم الصغير) وقدرتهما على العثور على هذا المسار. تذكر أن الأشخاص الخاضعين لدراسة ميلجرام كان من المفترض أن يعطوا الخطاب إلى شخص واحد يرون أنه أقرب للشخص المستهدف مقارنة بهم، لكن ما لم يكن من المفترض منهم فعله هو إرسال نسخ من الخطاب إلى كل شخص يعرفونه، لكن هذا بالضبط هو الحساب الذي أجريته أنا وستيف في تجاربنا العددية، والذي تعبر عنه ضمنيا تقاريرنا عن أقصر أطوال المسارات، ومن ثم، من المحتمل جدا أننا نحيا في عالم صغير، مثل نماذج شبكات العالم الصغير الموضحة في الفصلين
الثالث
و
الرابع
من هذا الكتاب، لكننا ما زلنا نشكك في صحة نتائج ميلجرام.
من الطرق الأخرى للتعبير عن الاختلاف بين اختبارنا للعالم الصغير واختبار ميلجرام هو التعبير عنه كتناقض بين «بحث واسع الانتشار» و«بحث موجه»؛ في البحث واسع الانتشار، تخبر كل من تعرفهم ليخبروا بدورهم كل شخص يعرفونه، وهكذا حتى تصل الرسالة إلى الهدف، ووفقا لهذه القواعد، إذا كان هناك ولو حتى مسار واحد قصير يصل بين المصدر والهدف، فسوف تعثر إحدى هذه الرسائل عليه. يتمثل الجانب السلبي هنا في أن الشبكة قد أتخمت بالرسائل تماما، فخضعت جميع المسارات للدراسة باعتبارها مسارات محتملة للوصول إلى الوجهة. لا يبدو هذا جيدا، وتلك هي الحقيقة بالفعل؛ ففي الواقع، هذه هي الطريقة التي تعمل بها فيروسات الكمبيوتر المزعجة بالضبط، وسوف نناقش ذلك بمزيد من الإسهاب في الفصل
السادس .
أما البحث الموجه، فهو يفوق البحث واسع الانتشار بكثير في دقته، وله مزايا وعيوب مختلفة؛ في البحث الموجه، مثل تجربة ميلجرام، تنقل رسالة واحدة فقط في كل مرة، ومن ثم، إذا كان طول أحد المسارات بين شخصين عشوائيين ست خطوات مثلا، فسيتلقى ستة أشخاص فقط الرسالة ، وإذا كان الأشخاص الخاضعون لتجربة ميلجرام قد أجروا أبحاثا واسعة الانتشار من خلال إرسال الرسائل إلى كل شخص يعرفونه، فسيتلقى الخطابات كل شخص في المدينة بأكملها - حوالي 200 مليون شخص في ذلك الوقت - وذلك للوصول إلى شخص مستهدف واحد فقط! ومع أنه من الناحية النظرية، كان من الممكن للبحث واسع الانتشار العثور على أقصر مسار إلى الهدف، فإن ذلك مستحيل من الناحية العملية؛ فمن خلال مشاركة ستة أشخاص فحسب، يتجنب البحث الموجه الضغط على النظام، لكن تصير مهمة العثور على مسار قصير أكثر صعوبة بقدر كبير، وحتى إن كنت، نظريا، تبتعد عن أي شخص آخر في العالم بست درجات فحسب، فلا يزال هناك ستة مليارات شخص في العالم، وهذا القدر نفسه على الأقل من المسارات المؤدية إليهم. كيف يمكننا العثور على المسار القصير المحدد الذي نسعى إليه في ظل المعاناة من الحيرة الناتجة عن هذا التعقد المذهل؟ حسنا، إنه أمر صعب؛ على الأقل عندما يكون المرء بمفرده.
قبل ظهور لعبة كيفن باكون بكثير، اعتاد علماء الرياضيات ممارسة لعبة مماثلة مع بول إيردوس؛ فإيردوس، الذي لم يكن عالم رياضيات عظيم (وغزير الإنتاج) فحسب، بل أيضا أحد مشاهير عالم الرياضيات، كان ينظر إليه كمركز لعالم الرياضيات على نحو يشبه كثيرا وضع باكون في عالم ممثلي الأفلام السينمائية، ومن ثم إذا كان المرء قد نشر بحثا مع إيردوس، فرقم إيردوس الخاص به سيكون واحدا، وإذا لم ينشر بحثا معه، لكن تعاون في كتابة بحث مع شخص آخر فعل ذلك، فسيكون رقمه اثنين، وهلم جرا؛ لذا فإن السؤال هو: «ما رقم إيردوس الخاص بك؟» والهدف من اللعبة هو الحصول على أصغر عدد ممكن.
بالطبع، إذا كان رقم إيردوس الخاص بك واحدا، فستكون المشكلة هينة، وحتى إن كان اثنين أيضا، فليس الأمر بالغ السوء. إيردوس رجل شهير، ومن ثم من المرجح أن يذكر كل من عمل معه هذا الأمر، لكن عندما يصبح رقم إيردوس أكبر من اثنين، تزداد المشكلة صعوبة؛ لأنك حتى إن كنت تعلم معاونيك جيدا، فأنت لا تعلم بوجه عام كل من تعاونوا معهم. إذا كنت قد قضيت فترة من الوقت في الأمر، ولم يكن معك الكثير من المعاونين، فقد يمكنك كتابة قائمة وافية على نحو معقول بمعاونيهم الآخرين عن طريق تفقد أبحاثهم الأخرى أو طلب ذلك منهم. لكن بعض العلماء يقضون أربعين عاما أو أكثر في كتابة الأبحاث، ويمكن أن يصل عدد معاونيهم إلى العشرات خلال تلك الفترة، بعضهم لا يمكنهم تذكرهم بسهولة. يبدو ذلك صعبا بالفعل، لكنه يزداد سوءا؛ ففي الخطوة التالية يصير الأمر مستحيلا تماما. تخيل محاولة كتابة قائمة لا تتضمن معاونيك ومعاونيهم فحسب، بل أيضا معاوني كل هؤلاء الناس! أنت لا تعرف معظم هؤلاء الناس، بل ربما لم تسمع عنهم أيضا، فكيف يمكنك معرفة مع من عملوا؟! في الحقيقة، لا يمكنك ذلك.
ما حاولنا فعله هنا هو إجراء بحث واسع الانتشار في إحدى شبكات التعاون، ومرة أخرى وجدنا أنه من الناحية العملية، يبدو الأمر شبه مستحيل؛ لذا، انتهى الحال بالجميع إلى إجراء بحث موجه، فتختار أحد معاونيك الذين ترى أن عملهم قد يكون الأكثر تشابها مع عمل إيردوس، ثم تختار أحد المؤلفين المشاركين لذلك الشخص تراه الأقرب لإيردوس، وهلم جرا. تتمثل المشكلة في أنك إذا لم تكن خبيرا في أحد المجالات المتخصصة التي عمل فيها إيردوس، فقد لا تعلم أيا من معاونيك هو الخيار الأمثل، وفي هذه الحالة، قد يكون تخمينك المبدئي خاطئا وينتهي بك الأمر إلى طريق مسدود، وقد يكون تخمينك المبدئي صحيحا، لكن تخميناتك التالية خاطئة، ويمكن أن تكون على المسار الصحيح، لكنك تستسلم قبل التقدم بما فيه الكفاية. كيف يمكنك أن تعرف مدى جودة تقدم البحث؟
لا يبدو أن هناك إجابة سهلة عن هذا السؤال؛ إذ تكمن الصعوبة الأساسية في محاولة حل مشكلة عامة - وهي العثور على مسار قصير - باستخدام معلومات محلية عن الشبكة فحسب، فأنت تعرف من هم معاونوك، وقد تكون على معرفة أيضا ببعض معاونيهم، لكن عدا ذلك، فأنت تتعامل مع عالم من الغرباء؛ لذا من المستحيل معرفة أي من المسارات العديدة التي أمامك تؤدي إلى إيردوس في أقل عدد من الخطوات. عند كل درجة من درجات الانفصال، يكون أمامك قرار جديد عليك اتخاذه، وما من سبيل واضح لتقييم خياراتك؛ فمثلما قد يقود شخص ما يعيش في مانهاتن سيارته شرقا إلى مطار لاجارديا ليسافر جوا إلى الساحل الغربي، يمكن للخيار الأمثل لمسار الشبكة أن يأخذك في البداية إلى ما يبدو اتجاها خاطئا، لكن على النقيض من مثال القيادة إلى المطار، ليس لديك خريطة كاملة للطريق في عقلك؛ لذلك قد لا تبدو فكرة القيادة شرقا من أجل الطيران غربا فكرة جيدة على الإطلاق.
مع أن الرقم ستة يبدو صغيرا في البداية، فمن الممكن أن يكون رقما كبيرا. في الواقع، عندما يتعلق الأمر بالأبحاث الموجهة يكون أي عدد أكبر من اثنين كبيرا للغاية، وذلك ما اكتشفه ستيف ذات يوم عندما سأله أحد الصحفيين عن رقم إيردوس الخاص به، وقد اكتشفه في النهاية - وكان أربعة - لكن بعد أن أضاع يومين كاملين في البحث (أذكر ذلك لأنني كنت أحاول دفعه لفعل شيء آخر، لكنه كان منشغلا للغاية، حتى إنه لم يتمكن من التحدث معي). إذا بدا لك ذلك كوسيلة يتجنب من خلالها علماء الرياضيات القيام بعمل حقيقي، فاعلم أن الأبحاث الموجهة لها جانب جدي؛ فبدءا من تصفح الروابط على الإنترنت وصولا إلى تحديد مكان أحد ملفات البيانات بإحدى شبكات الند للند، أو حتى محاولة العثور على الشخص المناسب للإجابة عن سؤال إداري أو فني، كثيرا ما نجد أنفسنا نبحث عن المعلومات من خلال طرح عدد من التساؤلات الموجهة التي ننتهي فيها إلى طرق مسدودة، أو التساؤل عما إذا كنا قد اخترنا أقصر الطرق أم لا، وكما سنرى في الفصل
التاسع ، يصبح العثور على الطرق القصيرة إلى المعلومات الصحيحة مهما على وجه الخصوص في أوقات الأزمات أو التغير السريع، وذلك عندما تكون المشكلات بحاجة لحلها سريعا، ولا يكون لدى أحد فكرة واضحة عما يحتاجه الأمر أو من يمكنه تقديم المساعدة ، وكما توصلنا من خلال مسألة العالم الصغير الأصلية فإن النظرية البسيطة يمكن أن تخبرنا في بعض الأحيان عن الكثير من الأمور بشأن عالم معقد ما كنا لنحزرها أبدا عن طريق النظر إلى العالم نفسه مباشرة. (3) مشكلة البحث في مسألة العالم الصغير
جاء الاكتشاف الأساسي هذه المرة على يد عالم كمبيوتر شاب يدعى جون كلاينبرج، درس كلاينبرج بجامعة كورنيل ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وقضى بضعة أعوام يعمل في مركز أبحاث ألمادن التابع لشركة آي بي إم بالقرب من سان فرانسيسكو، ثم عاد إلى جامعة كورنيل كأستاذ. طرح كلاينبرج سؤالا لم يرد بذهني أو بذهن ستيف، مع أنه في إطار الشبكات عديمة المعيار، بدا ذلك السؤال طبيعيا للغاية، حتى إننا تعجبنا كيف غفلنا عنه. بدلا من التركيز على وجود المسارات القصيرة فحسب - كما فعلت أنا وستيف - تساءل كلاينبرج كيف يمكن للأفراد في الشبكات العثور على هذه المسارات بالفعل. كان الدافع مرة أخرى هو ميلجرام؛ فبعيدا عن شكوك جوديث كلاينفيلد، أوصل بعض الخاضعين لتجربة ميلجرام الخطابات بالفعل إلى الهدف المعني، ولم يكن من الواضح لكلاينبرج كيف تمكنوا من فعل ذلك. في النهاية، كان مرسلو الخطابات في تجربة ميلجرام يحاولون في الأساس إجراء بحث موجه في شبكة اجتماعية ضخمة لا يتوفر لهم عنها سوى مقدار قليل للغاية من المعلومات؛ أقل بكثير مما يتوفر لأي عالم رياضيات يحاول حساب رقم إيردوس الخاص به.
في الواقع، كان أول ما توصل إليه كلاينبرج هو أنه إذا سار العالم الحقيقي على نحو مشابه إلى أي حد للنماذج التي طرحتها أنا وستيف، لكانت الأبحاث الموجهة - كتلك التي أشار إليها ميلجرام - أمرا مستحيلا. تنبع المشكلة من إحدى سمات نماذج العالم الصغير التي لم نناقشها بعد. مع أن النماذج تسمح لنا بإنشاء شبكات تعكس قدرا متفاوتا من الفوضى، فإن العشوائية في الواقع شيء آخر. بوجه خاص، متى ظهر طريق مختصر من خلال إحدى عمليات إعادة التوصيل العشوائية التي كنا نجريها، يتحرر أحد الأفراد المجاورين ويختار فرد آخر مجاور عشوائيا لكن على نحو منتظم من الشبكة بأكملها. بعبارة أخرى، تكون فرص اختيار كل نقطة تلاق كجار جديد متساوية، بصرف النظر عن مكانها أو بعدها.
بدت العشوائية المنتظمة افتراضا طبيعيا في محاولتنا الأولى للتعامل مع المسألة؛ ذلك لأنها لا تعتمد على فكرة شخص بعينه عن مفهوم المسافة، لكن ما أشار إليه كلاينبرج هو أن الناس، في الواقع، لديهم مفاهيم قوية عن المسافة يستخدمونها طوال الوقت لتمييز أنفسهم عن الآخرين؛ فالمسافة الجغرافية واضحة، لكن المهنة والطبقة والعرق والدخل والتعليم والدين والاهتمامات الشخصية كثيرا ما تمثل عاملا مؤثرا على تقييمنا لمدى «بعدنا» عن الآخرين. ونحن نستخدم هذه المفاهيم المتعلقة بالمسافة طوال الوقت عند تعريفنا لأنفسنا وللآخرين، ويبدو أن الخاضعين لتجربة ميلجرام قد استخدموها أيضا، لكن نظرا لأن الاتصالات العشوائية المنتظمة، مثل تلك الموضحة في الشكل
3-6 ، لا تستخدم هذه المفاهيم المتعلقة بالمسافة، فإن الطرق المختصرة الناتجة يصعب على الأبحاث الموجهة استغلالها. وغياب أي مرجع للنظام المتناسق الأساسي - الشبيكة الحلقية في حالة النموذج بيتا الموضح في الفصل
الثالث - يمنع البحث من التركيز بفعالية، فينتهي الحال بالرسالة، إما بالقفز عشوائيا في الأرجاء أو الانتقال ببطء في أرجاء الشبيكة. لو كان ذلك هو الحال في تجربة ميلجرام، لوصلت سلاسله في طولها إلى مئات الروابط، وهو أمر أفضل قليلا عما إذا كانت الرسالة قد انتقلت من باب إلى باب طوال الطريق من أوماها إلى بوسطن.
شكل 5-1: نموذج شبيكة كلاينبرج ثنائية الأبعاد. تتصل كل نقطة تلاق بجيرانها الأربعة الأقرب إليها على الشبيكة وبواحد من المعارف العشوائيين.
إذن، كان ما يفكر فيه كلاينبرج هو فئة أكثر شمولا من نماذج الشبكات تستمر فيها إضافة الروابط العشوائية إلى شبيكة أساسية، لكن تقل فيها أيضا احتمالية الارتباط العشوائي بين نقطتي تلاق بتزايد المسافة الفاصلة بينهما كما هو مقاس على الشبيكة. بتعبير أبسط، مثل كلاينبرج مسألة نقل الرسالة على شبيكة ثنائية الأبعاد (الشكل
5-1 )، التي تصور أنه يضاف فوقها روابط عشوائية وفقا لتوزيع احتمالات تمثله إحدى الدوال الموضحة في الشكل
5-2 . من الناحية الرياضية، يعد كل خط من هذه الخطوط الموضحة على رسم اللوغاريتم- اللوغاريتم قانون قوة ذا تضاعف أسي، يسمى جاما، يتغير من خط لخط، ويشير الأس الذي يساوي صفرا (الخط الأفقي بالأعلى) إلى أن جميع نقاط التلاقي في الشبيكة من المحتمل على قدر متساو أن تمثل معارف عشوائيين. بعبارة أخرى، يختزل نموذج كلاينبرج النموذج بيتا الموضح في الفصل
الثالث
إلى نسخة ثنائية الأبعاد، ومن ثم عندما تساوي جاما صفرا يوجد الكثير من المسارات القصيرة، لكن كما رأينا، لا يمكن العثور عليها، وعلى النقيض، عندما تكون قيمة جاما كبيرة، يقل احتمال ظهور طريق مختصر عشوائي سريعا للغاية مع المسافة، فلا تكون هناك أي فرصة للاتصال إلا لنقاط التلاقي المتقاربة للغاية (على الشبيكة). في هذا الحد، يحتوي كل اتصال عشوائي على الكثير من المعلومات عن الشبيكة الأساسية، ومن ثم يمكن تصفح المسارات بسهولة. تكمن المشكلة في أنه نظرا لأن الطرق المختصرة طويلة المدى مستحيلة تماما، فليس هناك أي مسارات «قصيرة» أخرى يمكن العثور عليها؛ لذا لا ينتج عن النموذج شبكات يمكن البحث فيها، لكن ما أراد كلاينبرج معرفته هو: ماذا يحدث في المنتصف؟
شكل 5-2: احتمالية ظهور أحد المعارف العشوائيين وفق المسافة على الشبيكة (م). عندما يساوي الأس جاما
صفرا، تتساوى احتمالات ظهور معارف من جميع الأطوال، وعندما تكون قيمة جاما كبيرة، لا تتصل سوى نقاط التلاقي القريبة من بعضها على الشبيكة.
شكل 5-3: يوضح الشكل نتيجة كلاينبرج الرئيسية. لا يكون للشبكة مسارات قصيرة يمكن للأفراد العثور عليها سريعا بالفعل إلا عندما تبلغ قيمة الأس جاما
اثنين.
في الواقع، ثمة شيء مثير للغاية يحدث. يوضح الشكل
5-3
العدد النموذجي للوثبات اللازمة لتحدد رسالة ما هدفا عشوائيا، وفقا للأس جاما. عندما تكون قيمة جاما أقل من اثنين، تواجه الشبكة المشكلة ذاتها التي تواجهها نماذج العالم الصغير الأصلية، ألا وهي أن المسارات القصيرة تكون موجودة، لكن لا يمكن العثور عليها، وعندما تكون قيمة جاما أكبر بكثير من اثنين، لا توجد المسارات القصيرة ببساطة، لكن عندما تساوي جاما اثنين، تصل الشبكة إلى نوع من التوازن الأمثل بين الترابط الملائم المميز للشبيكة وقوة تقليل المسافات المميزة للطرق المختصرة طويلة المدى. لا يزال صحيحا أن احتمال الاتصال بنقطة تلاق معينة سينخفض مع المسافة، لكن صحيح أيضا أنه كلما زادت المسافة، زاد عدد نقاط التلاقي التي يمكن الاتصال بها. ما أوضحه كلاينبرج هو أنه عندما تبلغ جاما قيمتها المهمة البالغة اثنين، تلغي هذه القوى المتعارضة بعضها بعضا، وتكون النتيجة شبكة تتسم بخاصية مميزة تتمثل في أن الأفراد يمتلكون العدد نفسه من الروابط بجميع «مقاييس الطول».
يصعب إلى حد ما إدراك هذا المفهوم، لكن كلاينبرج توصل إلى صورة جيدة تعكسه، وهي صورة «نظرة على العالم من الجادة التاسعة» التي رسمها سول شتاينبرج وزينت غلاف مجلة «ذي نيويوركر» في عام 1976 ويعاد تقديمها في الشكل
5-4 . تشغل الجادة التاسعة في هذا الرسم مساحة مجمع سكني كامل، الذي يشغل بدوره مساحة مماثلة للجزء من مانهاتن الواقع غرب الجادة العاشرة ونهر هادسون مجتمعين. يخصص القسم نفسه من الصورة بعد ذلك للولايات المتحدة كلها غربي هادسون، وصولا إلى المحيط الهادي، ثم أخيرا إلى بقية العالم.
كان شتاينبرج يعلق تعليقا اجتماعيا على ميل أهالي نيويورك للتركيز على الشئون المحلية بالقدر نفسه الذي يركزون به على قضايا العالم العظيمة - أي النظر إلى أنفسهم كمركز للكون - لكن في نموذج كلاينبرج، تحمل الصورة معنى ملموسا على نحو أكبر. عندما تساوي جاما قيمتها المهمة البالغة اثنين، من المحتمل أن يكون لدى شخص ما في الجادة التاسعة العدد نفسه من الأصدقاء في كل منطقة أو مقياس بالصورة. بعبارة أخرى، يجب أن تتوقع أن يكون لديك عدد من الأصدقاء يعيشون في الحي الذي تقطن به مساو لمن يعيشون في باقي المدينة وباقي الولاية وباقي الدولة، وهكذا، وصولا إلى مستوى العالم بالكامل؛ فيكون احتمال معرفتك بشخص ما يعيش في قارة أخرى مساويا تقريبا لاحتمال معرفتك بشخص يعيش في الشارع الذي تقطن به. يعيش بالطبع مليارات البشر في القارات الأخرى، وبضع مئات فقط على الأرجح في الشارع الذي تعيش فيه، لكن الفكرة هي أن احتمالية معرفتك بأي شخص محدد بالجانب الآخر من العالم منخفضة للغاية، حتى إن «باقي العالم» و«الشارع الذي تقطن به» لن يمثلا في نهاية الأمر سوى العدد نفسه من معارفك الاجتماعيين.
شكل 5-4: صورة «نظرة على العالم من الجادة التاسعة» بريشة سول شتاينبرج التي ظهرت على غلاف مجلة «ذي نيويركر» في عام 1976، توضح مفهوم كلاينبرج عن مراحل البحث. مجموعة خاصة، نيويورك.
يكمن جوهر نتيجة كلاينبرج في أنه عند حدوث هذه الحالة من الاتصال المتساوي على جميع مقاييس الطول، لا تعكس الشبكة فحسب المسارات القصيرة بين جميع أزواج نقاط التلاقي، بل يمكن أيضا للمرسلين الأفراد العثور على المسارات إذا وجه كل منهم ببساطة الرسالة للصديق الذي يبدو في نظره الأقرب إلى الشخص المستهدف. إن ما يجعل مشكلة البحث قابلة للحل هو أنه ما من شخص معين يجب عليه حلها وحده، لكن كل ما على مرسل معين القلق بشأنه عند كل مرحلة هو توصيل الرسالة إلى المرحلة التالية من البحث، وذلك عندما تكون المرحلة شبيهة بالمناطق المختلفة الموجودة بلوحة شتاينبرج؛ لذا، إذا كان هدفك النهائي هو مزارع في طاجكستان، فليس عليك التوصل إلى كيفية نقل الرسالة وصولا إلى هذه الوجهة، أو حتى إلى الدولة الصحيحة، بل كل ما عليك فعله هو إيصالها إلى الجزء الصحيح من العالم، ثم ترك شخص آخر يهتم بالأمر. بفعل ذلك، أنت تفترض أن الشخص التالي في السلسلة، نظرا لزيادة قربه من الشخص المستهدف، لديه معلومات أكثر دقة منك، ومن ثم فهو أقدر منك على التقدم بالبحث إلى مرحلته التالية، وهذا هو ما يحدث فعليا حين تساوي جاما اثنين. عندما تفي الشبكة بهذا الشرط، يكون مطلوبا من عدد قليل من المرسلين فحسب نقل الرسالة من مرحلة إلى أخرى تالية لها؛ من أي مكان في العالم إلى الدولة الصحيحة، ومن أي مكان في الدولة إلى المدينة الصحيحة، وهلم جرا، ونظرا لأن العالم - كما رآه شتاينبرج بالضبط - يمكن دائما أن ينقسم إلى عدد صغير من هذه المراحل، فإن الطول الكلي لسلسلة الرسالة سيكون قصيرا أيضا.
مثل شرط كلاينبرج، كما أسميناه - بالإضافة إلى إثبات كلاينبرج لاستحالة البحث في شبكات العالم الصغير العشوائية بانتظام - خطوة مهمة بالفعل للأمام في تفكيرنا بشأن الشبكات، تمثلت رؤية كلاينبرج العميقة في أن الطرق المختصرة فحسب ليست كافية لتكون ظاهرة العالم الصغير مفيدة فعليا بأي صورة للأفراد المطلعين محليا؛ فلكي تكون الروابط الاجتماعية مفيدة - بمعنى العثور على الشيء المقصود - يجب أن تتضمن معلومات متعلقة بالبنية الاجتماعية الأساسية، لكن ما لا يفسره نموذج كلاينبرج هو كيف يمكن للعالم أن يكون هكذا بالفعل. قد يكون صحيحا أنه إذا كانت الروابط في أي شبكة اجتماعية منظمة على هذا النحو أو ذاك، فسوف يصبح العالم فجأة قابلا للبحث فيه، لكن كيف يمكن للشبكة أن تنظم على هذا النحو في المقام الأول؟ في الواقع، من وجهة النظر الاجتماعية، يبدو شرط كلاينبرج غير محتمل بالمرة. لم يكن كلاينبرج، بالطبع، يسعى لإقامة نموذج واقعي من الناحية الاجتماعية، ومن خلال الحفاظ على نموذجه بسيطا كما فعل، تمكن من فهم خصائصه على نحو كان من المستحيل أن يتحقق مع نموذج أكثر تعقيدا، لكنه ترك الباب مفتوحا أمام سبيل جديد للتفكير بشأن المشكلة، وهو السبيل الذي تضمن بعض التفكير الاجتماعي. (4) رد علم الاجتماع
كنت أتحدث أنا ومارك بشأن مشكلة البحث الموجه في أحد الأيام أثناء زيارته لي في جامعة كولومبيا، التي انتقلت إليها من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أغسطس من عام 2000 للانضمام إلى قسم علم الاجتماع، وبعد المناقشة لبعض الوقت، اقتنعنا بأن شرط كلاينبرج لم يكن الطريقة الصحيحة لفهم نتائج ميلجرام. لكن كيف يمكن ذلك؟ ألم «يثبت» كلاينبرج أن أي شبكة غير متصلة بالتساوي عند جميع الأطوال لا يمكن البحث فيها بفعالية؟ حسنا، بلى ونعم في الوقت نفسه. ستكون الإجابة ببلى، إذا كان صحيحا أن الناس يقيسون كل المسافات التي بينهم في إطار شبيكة أساسية، لكن ربما ما كانت تعبر عنه النتيجة التي توصل إليها بالفعل هو أن الناس لا يحسبون فعليا المسافات على هذا النحو. أثناء تجولنا بأنحاء الحرم الجامعي تحت شمس الربيع، توصلنا إلى نموذج يتضمن التحدي الأصلي للعالم الصغير، ألا وهو: كيفية الوصول إلى مزارع صيني، ربما لم يكن أينا على معرفة بمزارعين صينيين، وربما لن نعرف أي مزارعين منهم أبدا، بصرف النظر عن عددهم، لكننا نعرف شخصا يمكنه على الأقل أن يرشدنا إلى الطريق الصحيح.
إريكا جين أمريكية من أصل صيني، وقد ظلت حتى وقت قريب تشغل منصب نائب الرئيس المختص بالأبحاث في معهد سانتا في، وهي من عينني أنا ومارك هناك. درست إريكا بجامعة بكين أثناء سنوات الثورة الثقافية، وذلك قبل انتقالها إلى سانتا في بكثير، بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول إنها كانت ناشطة اجتماعية آنذاك (وواحدة من أوائل الأمريكيين الذين درسوا في بكين)، وقد خمنا أنها حتى إذا لم تكن تعرف أي قادة ريفيين في إقليم سيشوان (أو أيا كان المكان الذي يعيش فيه المزارع الافتراضي في تجربتنا)، فربما تعرف شخصا يعرفه. على أي حال، إذا كنا قد أعطيناها خطابا، فقد كنا موقنين تماما أنه سيصل إلى الصين في خطوة واحدة، لم نكن نعلم بالضبط كيف، ولم تكن لدينا أي فكرة عما يمكن أن يحدث عند وصوله إلى هناك، لكن كلاينبرج كان محقا؛ فليس لنا شأن بذلك، كل ما كان يلزمنا فعله هو نقل الخطاب إلى المرحلة التالية في عملية توصيله (أي، إلى الدولة الصحيحة)، ثم إلقاء مسئولية الوصول إلى الهدف على شخص آخر.
كان الاختلاف بين نموذج كلاينبرج وسلسلتنا الخيالية من المرسلين هو أنه على الرغم من أن إريكا كانت بلا شك حلقة مهمة في السلسلة، وربما الحلقة التي ستحرك الخطاب إلى أبعد مسافة، فلم تكن، بالنسبة لي أنا ومارك، أحد المعارف «بعيدة المدى»؛ فنحن الثلاثة كنا ننتمي في مرحلة ما إلى المجتمع الصغير المتماسك ذاته الذي تضمن الباحثين المقيمين في معهد سانتا في. لم يكن مهما، من منظورنا، أين كانت تعيش إريكا أو ماذا كانت تفعل قبل عشرين عاما، كل ما كان يعنينا هو أننا عندما عرفناها ، كانت مديرتنا وزميلتنا وصديقتنا، فكانت تعمل في المكان ذاته وتهتم بالكثير من المشروعات الفكرية نفسها، لم تكن بعيدة عنا أكثر من بعدنا نحن بعضنا عن بعض، وحسب علمنا، فإن أصدقاءها في الصين قد لا يكونون في نظرها أبعد منها عنا. بعبارة أخرى، كان من الممكن لخطابنا أن يثب ما يبدو لكلا الحاملين وثبتين صغيرتين - واحدة منا إلى إريكا وأخرى من إريكا إلى صديق في الصين - وهذه قد تبدو نقلة كبيرة للغاية بالتأكيد إذا نظر إليها كخطوة واحدة.
كيف يمكن لخطوتين قصيرتين أن تنتجا قفزة عملاقة كهذه؟ لا يمكن ذلك في نموذج الشبيكة العادي، كالذي تناولناه أنا وستيف، ومن بعدنا كلاينبرج، الأمر الذي يجعل كل هذه النماذج (بما في ذلك نموذج كلاينبرج) تتطلب بعض الروابط بعيدة المدى، لكن يبدو ذلك «ممكنا» في العالم الاجتماعي الحقيقي، وقد كان هذا التناقض موضع اهتمام دائم لعلماء الاجتماع ذوي الميول الرياضية؛ فمنذ خمسينيات القرن العشرين، عندما تعاون عالم الرياضيات، مانفريد كوشين، والعالم السياسي، إيثيل دي سولا بول، لأول مرة من أجل التفكير في مسألة العالم الصغير، بدت المسافات الاجتماعية وكأنها تخالف شرطا رياضيا يعرف باسم «متباينة المثلث»، والموضحة في الشكل
5-5 . تنص هذه المتباينة على أن طول أي ضلع في المثلث يكون دائما أقل من مجموع طولي الضلعين الآخرين أو مساويا له. بعبارة أخرى، فإن التقدم خطوة واحدة ثم خطوة أخرى لا يمكن أبدا أن يبعدك عن نقطة البداية بأكثر من خطوتين، لكن هذا بالضبط ما يبدو أن رسالتنا الافتراضية فعلته.
شكل 5-5: تنص متباينة المثلث على أن المسافة س
أ ج
س
أ ب + س
ب ج ، ومن ثم، فإن خطوتين قصيرتين لا يمكن أبدا أن يساويا خطوة طويلة.
هل تخالف الشبكات الاجتماعية متباينة المثلث حقا؟ وإن لم تكن تخالفها، فلماذا يبدو الأمر كذلك؟ إن أساس فهم التناقض المتعلق بالمسافة في الشبكات الاجتماعية هو أن بإمكاننا قياس «المسافة» بطريقتين مختلفتين، وعادة ما نخلط بينهما: الطريقة الأولى - التي تحدثنا عنها معظم الوقت في هذا الكتاب - هي المسافة عبر الشبكة، ووفقا لهذا المفهوم، تكون المسافة بين نقطتين، (أ) و(ب)، هي ببساطة عدد الروابط في أقصر مسار يصل بينهما، لكن ليس هذا تعريف المسافة الذي نستخدمه عادة عند التفكير في مدى قربنا أو بعدنا عن شخص آخر. بدلا من ذلك - وكما ذكرني هاريسون في مؤتمر الرابطة الأمريكية للنهوض بالعلم في واشنطن العاصمة العام السابق - فإننا نسعى لتعريف أنفسنا والآخرين في ضوء المجموعات والمؤسسات والأنشطة التي ننتسب إليها.
نظرا لعملنا على شبكات الارتباط بعض الوقت بحلول تلك المرحلة، كنت أنا ومارك على علم بفكرة الهوية الاجتماعية، لكن ما أدركناه آنذاك هو أن الأفراد لا ينتمون ببساطة إلى المجموعات، فلديهم أيضا وسيلة لتنظيم أنفسهم فيما يشبه الفضاء الاجتماعي، بحيث يقيسون مدى تشابههم واختلافهم مع الآخرين. إن كيفية فعلهم لذلك تتشابه بعض التشابه مع صورة شتاينبرج الموضحة في الشكل
5-4 . يبدأ الأفراد على مستوى العالم ككل، ثم يقسمونه، أو «يجزئونه»، إلى عدد يمكن إدارته من الفئات الأصغر الأكثر تحديدا، وبعد ذلك، يقسمون كلا من هذه الفئات إلى عدد من الفئات الفرعية، وكلا منها إلى فئات أصغر وأكثر تحديدا، ويستمر ذلك الأمر، وهو ما ينتج عنه صورة من شبكات الارتباط تشبه الموضحة في الشكل
5-6 .
شكل 5-6: التقسيم الهرمي للعالم على مدى بعد اجتماعي واحد. المسافة بين (أ) و(ب) تساوي طول أكثر مجموعات الأسلاف المشتركين انخفاضا، وهي في هذه الحالة ثلاثة (يعد الأفراد الموجودون في مجموعة المستوى الأدنى ذاتها على بعد درجة واحدة).
يضم المستوى الأدنى لهذا التسلسل الهرمي المجموعات التي تحدد الارتباطات الأقرب لنا؛ المبنى السكني الذي نقطن به، أو مكان عملنا، أو وسائل تسليتنا، لكن على عكس شبكات الارتباط الموضحة في الفصل
الرابع ، التي كان إما ينتمي لها ممثلان للمجموعة نفسها (ومن ثم يكونان مرتبطين) أو لا، يمكننا السماح الآن للارتباطات بقوى مختلفة. قد يعمل فردان في فرق مختلفة، لكن يظلان ينتميان للقسم نفسه، وربما يكونان في قسمين مختلفين، لكن ينتميان للإدارة ذاتها، أو ربما الشركة نفسها فحسب، وكلما ارتفعنا أكثر في التسلسل الهرمي للوصول إلى المجموعة المشتركة، ازداد الفردان ابتعادا، وكما هو الحال في نموذج كلاينبرج، كلما ابتعد الفردان أحدهما عن الآخر، انخفضت احتمالية معرفة أحدهما بالآخر، ومن ثم، فإن المعادل في نموذجنا لأس جاما لكلاينبرج كان ما أطلقنا عليه اسم معامل الانجذاب إلى المثيل، وذلك نسبة إلى المصطلح الاجتماعي الذي يعكس ميل الأفراد المتشابهين إلى الارتباط بعضهم ببعض. في الشبكات ذات الدرجة العالية من الانجذاب للمثيل، لا يمكن لأحد الاتصال سوى الأفراد الذين يتشاركون أصغر المجموعات، الأمر الذي ينتج عنه عالم متشظ من المجموعات المنعزلة، وعندما لا يكون هناك انجذاب إلى المثيل، نحصل على مكافئ لشرط كلاينبرج؛ إذ يقيم الأفراد ارتباطات على جميع مقاييس المسافة الاجتماعية بدرجات احتمالية متساوية.
من ثم تعمل المسافة الاجتماعية على نحو مماثل تقريبا لنموذج كلاينبرج، لكن الآن هناك الكثير من صور المسافة التي يمكننا الإشارة إليها عند تقييم احتمالية التقاء شخصين. وبينما تحدد شبيكة كلاينبرج أماكن الأفراد في إطار الإحداثيات الجغرافية لهم فحسب، فإن الأفراد في العالم الحقيقي يستقون مفاهيم المسافة من مجموعة متنوعة من الأبعاد الاجتماعية. يظل الموقع الجغرافي مهما، لكن العرق والمهنة والديانة والتعليم والطبقة الاجتماعية ووسائل التسلية والارتباطات المؤسسية تحمل أهمية أيضا. بعبارة أخرى، عندما نقسم العالم إلى مجموعات أصغر وأكثر تحديدا، فنحن نستخدم الأبعاد المتعددة على نحو متزامن. في بعض الأحيان، يكون الاقتراب الجغرافي أمرا مهما، لكن في أوقات أخرى، يمكن أن يكون العمل في المجال ذاته أو ارتياد الجامعة نفسها أو الإعجاب بالنوع ذاته من الموسيقى أهم بكثير في تحديد من يعرفه الفرد مقارنة بمكان معيشة ذلك الشخص، بالإضافة إلى ذلك، فإن الاقتراب في بعد واحد لا يشير بالضرورة إلى الاقتراب في بعد آخر؛ فالنشأة في نيويورك لا تزيد من احتمال أن تصبح طبيبا وليس مدرسا مقارنة بالنشأة في أستراليا، وأيضا الانتماء إلى المهنة ذاتها لا يشير بالضرورة إلى حتمية سكنك بالقرب من الآخرين العاملين بالمهنة ذاتها.
وأخيرا، إذا كان فردان متقاربين في أحد الأبعاد فقط، فقد يعتبران أنفسهما قريبين على نحو مطلق ، حتى وإن كانا بعيدين تماما في أبعاد أخرى؛ فأنا وأنت بحاجة إلى شيء واحد مشترك فحسب - سياق واحد فقط من التفاعل - وقد يكون ذلك كافيا لنا لكي يعرف كل منا الآخر. بعبارة أخرى، تركز المسافة الاجتماعية على أوجه التشابه مقارنة بأوجه الاختلاف، وهنا يكمن حل متناقضة العالم الصغير؛ فكما يمكننا أن نرى في الشكل
5-7 ، يمكن لفردين، (أ) و(ب)، أن يعتبرا أنفسهما قريبين من فرد ثالث، (ج)، بحيث يكون (أ) قريبا في بعد واحد (الموقع الجغرافي مثلا)، و(ب) في بعد آخر (المهنة مثلا). نظرا لأن أقصر مسافة هي المهمة فقط، فلا يهم أن (ج) بعيد تماما أيضا عن كل من (أ) و(ب) من منظور آخر، لكن نظرا لأن (أ) و(ب) بعيدان أحدهما عن الآخر في كلا البعدين، فهما يريان أنفسهما بعيدين أحدهما عن الآخر. يشبه ذلك عندما يكون لديك صديقان تعرفهما في ظروف مختلفة، ومع أنك تحب كليهما، فإنك تشعر أنه ما من شيء مشترك بينهما، لكن هناك شيئا مشتركا بالفعل بينهما، ألا وهو أنت، ومن ثم فهما قريبان سواء أكانا على علم بذلك أم لا. من الطرق الأخرى للتفكير في هذه السمة أنه بينما يمكن تصنيف المجموعات بسهولة، لا يمكن فعل ذلك مع الأفراد، من ثم، تعكس الهوية الاجتماعية طبيعة متعددة الأبعاد - بمعنى أن الأفراد يدورون في سياقات اجتماعية مختلفة - مما يفسر مخالفة متباينة المثلث في المسافة الاجتماعية. وقد بدا لي أنا ومارك أن الطبيعة متعددة الأبعاد للهوية الاجتماعية الفردية هي ما يسمح للرسائل بالانتقال بواسطة شبكة في وجه ما قد يبدو حواجز اجتماعية مفزعة.
شكل 5-7: يقسم الأفراد العالم في وقت واحد حسب الأبعاد الاجتماعية المستقلة المتعددة. يعرض هذا المثال التخطيطي المواضع النسبية لثلاثة أفراد - (أ) و(ب) و(ج) - في بعدين (الموقع الجغرافي والمهنة مثلا). (أ) و(ج) قريبان جغرافيا، و(ب) و(ج) قريبان مهنيا؛ لذا، فإن (ج) يرى نفسه قريبا لكل من (أ) و(ب)، لكن (أ) و(ب) يريان أنفسهما بعيدين، مما يخالف متباينة المثلث الموضحة في الشكل
5-5 .
وصلت أنا ومارك إلى هذا الحد في مناقشتنا قبل أن يضطر للعودة إلى سانتا في، فانشغلنا انشغالا حال دون إجراء مزيد من العمل على المسألة. بعد نحو ستة أشهر، كان جون كلاينبرج يزور جامعة كولومبيا لإلقاء محاضرة في قسم علم الاجتماع عن بحثه المتعلق بالعالم الصغير، فانتهزت الفرصة لعرض أفكارنا عليه، لم يوافقنا فحسب على أن منهجنا بدا كطريقة سليمة للتفكير في المسألة، بل بدأ أيضا في سلسلة مشابهة من الأفكار خاصة به. كان ذلك خبرا سيئا لنا؛ ففي النهاية، جون عالم شهير بسرعة بديهته؛ من النوع الذي يسمع عن أي مسألة في محاضرة للمرة الأولى وينتهي به الأمر إلى فهمها أفضل ممن يلقي المحاضرة ذاته؛ لذلك، إذا كان يفكر في منهجنا - إلى جانب آخرين أيضا حسبما يقول - لم يكن أمامنا الكثير من الوقت لتنظيم جهودنا.
لحسن الحظ، يتسم جون بالكرم مثلما يتسم بالذكاء تقريبا، فوافق على أن يبحث في تفاصيل مناقشتنا لبضعة أشهر حتى يمنحنا الفرصة لنشر شيء ما أولا، مع ذلك، كنت أنا ومارك مشغولين تماما خلال المستقبل القريب، ومن ثم كنا بحاجة إلى بعض المساعدة إذا كنا ننوي إنجاز شيء ما بسرعة. لحسن الحظ، كان بيتر دودز - وهو عالم رياضيات بجامعة كولومبيا وأحد أعضاء مجموعتي البحثية - حاضرا المناقشة أيضا مع جون. كنت أنا وبيتر نعمل بالفعل معا على مسألة أخرى (سنتناولها في الفصل
التاسع )، فعلمت أن بإمكانه برمجة جهاز كمبيوتر بالسرعة نفسها تقريبا التي يقوم بها مارك. وبعودة مارك إلى سانتا في، صار بيتر قريبا للغاية! وخلال أيام من زيارة كلاينبرج، تخليت أنا وبيتر عن مشروعاتنا الأخرى للعمل على مسألة البحث، وبعد بضعة أسابيع فاجأنا مارك بمجموعة من النتائج أفضل مما توقعناه.
كانت النتيجة الرئيسية التي توصلنا إليها هي أننا عندما سمحنا للأفراد في نموذجنا باستغلال الأبعاد الاجتماعية المتعددة، تمكنوا من العثور على الأهداف المختارة عشوائيا في الشبكات الضخمة بسهولة نسبية، حتى عندما كانت ارتباطاتهم ذات معامل انجذاب إلى المثيل مرتفع . في الواقع، كما يمكننا أن نرى في الشكل
5-8 ، يتضح أن وجود الشبكات القابلة للبحث فيها لا يعتمد كثيرا على معيار الانجذاب إلى المثيل، أو حتى على عدد الأبعاد الاجتماعية. من منظور الرسوم البيانية، يعني ذلك أن الشبكات القابلة للبحث فيها تقع في أي نطاق لمعايير النموذج داخل المنطقة المظللة بالشكل
5-8 ، على النقيض من ذلك، يتمثل مكافئ شرط كلاينبرج في النقطة المفردة الموجودة أقصى يسار أسفل الشكل، من ثم كانت نتيجتنا مناقضة، إلى حد ما، لنتيجة كلاينبرج؛ ففي حين يوضح شرطه أن العالم يجب أن يكون على شكل معين لتنجح عمليات بحث العالم الصغير، تشير النتيجة التي توصلنا إليها إلى أنه يمكن أن يكون العالم على أي شكل على الإطلاق؛ فما دام الأفراد من المحتمل أكثر أن يعرفوا أشخاصا مثلهم (الانجذاب إلى المثيل)، وما داموا - وهو الأمر الحاسم - يقيسون التشابه على مدى أكثر من بعد اجتماعي واحد، فلن توجد مسارات قصيرة فحسب بين أي شخصين في أي مكان تقريبا، بل سيكون الأفراد الذين لديهم معلومات محلية فقط عن الشبكة قادرين على العثور عليهم.
شكل 5-8: تكون الشبكات الاجتماعية قابلة للبحث متى وجدت داخل المنطقة المظللة لمساحة معيار النموذج. تتوافق هذه المنطقة مع انجذاب المجموعات الاجتماعية للمثيل (α = 0)، لكن الأفراد يحكمون على التشابه من خلال أبعاد متعددة (ب)، وعلى النقيض، يحتل شرط كلاينبرج نقطة واحدة في الركن الأيسر السفلي بمساحة الشبكات.
لكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه تم التوصل إلى أفضل أداء عندما لم يتعد عدد الأبعاد اثنين أو ثلاثة فحسب. كان هذا منطقيا على نحو ما من الناحية الرياضية؛ فعندما يستخدم الجميع بعدا واحدا فحسب (البعد الجغرافي، مثلا) لتقسيم العالم، لن يمكنهم الاستفادة من الارتباطات المتعددة لتجاوز مسافات كبيرة في الحيز الاجتماعي، من ثم نعود مرة أخرى إلى عالم كلاينبرج حيث يلزم تنظيم الروابط بالتساوي على جميع مقاييس الطول لكي تنجح الأبحاث الموجهة، وعندما ينشر الجميع معارفهم بين الكثير من الأبعاد - أي عندما لا ينتمي أي من أصدقائك إلى المجموعات نفسها التي ينتمي إليها أصدقاؤك الآخرون - نعود مرة أخرى إلى عالم الشبكات العشوائية حيث توجد مسارات قصيرة لكن لا يمكن العثور عليها؛ لذا من المنطقي أنه يجب على الشبكات التي يمكن البحث فيها أن توجد في مكان ما بالمنتصف؛ حيث لا يكون الأفراد منتمين للغاية لبعد واحد أو مشتتين إلى حد بعيد، لكن مثلت فكرة أن الأداء المثالي يجب أن يحدث عندما يكون عدد الأبعاد اثنين تقريبا مفاجأة سعيدة؛ لأن هذا هو العدد الذي يبدو أن الناس يستخدمونه بالفعل.
بعد عدة أعوام من نشر ميلجرام لبحثه المؤثر عن العالم الصغير، أجرت مجموعة أخرى من الباحثين بقيادة راسل برنارد (عالم إنسانيات) وبيتر كيلوورث (عالم محيطات، من بين كل العلوم الأخرى) ما أطلقوا عليه اسم «تجربة عكسية للعالم الصغير»؛ فبدلا من إرسال طرود وتتبع تقدمها - كما فعل ميلجرام - شرح هؤلاء الباحثون التجربة لعدة مئات من الأفراد الخاضعين لها، وسألوهم عن المعايير التي سيستخدمونها لتوجيه أحد الطرود إذا طلب منهم ذلك، فتوصلوا إلى أن معظم الناس لا يستخدمون سوى بعدين فقط - الموقع الجغرافي والمهنة أكثرها شيوعا - لتوجيه الرسالة إلى المتلقي التالي. أدهشنا للغاية أن يكون ذلك هو الرقم نفسه الذي نتوصل إليه من خلال تحليلنا بعد خمسة وعشرين عاما، ودون أي فكرة مسبقة (لم تكن لدينا أي فكرة عما سيكون عليه الرقم، لكننا ما كنا لنعتقد أنه سيكون اثنين)، لكننا تفوقنا في نقطة إضافية.
فمن خلال إدخال تقديرات تقريبية للمعايير في نموذجنا، مثلما كانت ستطبق في تجربة ميلجرام، تمكنا من مقارنة توقعاتنا بالنتائج الفعلية التي توصل إليها ميلجرام. يوضح الشكل
5-9
المقارنة. لم تبد مجموعتا النتائج قابلتين للمقارنة فحسب، لكن لا يمكن تمييز إحداهما عن الأخرى أيضا باستخدام الاختبارات الإحصائية القياسية، فهما متماثلتان تماما، ومع الوضع في الاعتبار استيعاب نموذجنا لقدر كبير من تعقيدات العالم، كانت هذه النتيجة مدهشة بحق. لنرى كيف يعمل الأمر، دعونا نعد إلى مثال المزارع الصيني الافتراضي؛ من خلال استخدام صديقتنا إريكا كوسيط أول، فنحن نستخدم بذلك مجموعتين من المعلومات؛ أولا: يؤدي مفهومنا عن المسافة الاجتماعية إلى استنتاجنا أننا بعيدون تماما عن هدفنا، لكنه يخبرنا أيضا عن المجموعات التي يجب أن ينتمي إليها المرء لكي يكون قريبا؛ لذلك يساعدنا مفهومنا عن المسافة الاجتماعية في تحديد الظروف التي تجعل أحد الأفراد مرشحا جيدا لنقل الرسالة إليه. ثانيا: نحن نستخدم معرفتنا المحلية عن الشبكة لتحديد هل أي من أصدقائنا يلبي هذه الشروط؛ أي هل ينتمي أي من أصدقائنا إلى مجموعة واحدة على الأقل تجعلهم أقرب إلى الهدف؟ وحياة إريكا في الصين آنذاك جعلت منها مرشحة جيدة.
شكل 5-9: نتيجة نموذج أبحاث الشبكة الاجتماعية بالمقارنة بنتائج أبحاث ميلجرام في نبراسكا. تمثل الأعمدة اثنتين وأربعين سلسلة مكتملة بدأت في نبراسكا، بينما يمثل المنحنى المتوسط على مر الكثير من أبحاث المحاكاة المؤداة وفقا لنموذجنا.
هذا هو المنهج الأساسي الذي اتبعه الخاضعون لتجربة ميلجرام؛ لذلك فإن ما يعرضه نموذجنا هو أنه ما دام لديهم بعدان على الأقل يمكنهم من خلالهما الحكم على أوجه التشابه بينهم وبين الآخرين، عندئذ حتى في عالم تكون فيه كل صلاتهم بأشخاص يشبهونهم كثيرا، سيظل بإمكانهم العثور على مسارات قصيرة توصلهم بأفراد بعيدين وغير مألوفين لهم. إن استمرار التوافق بين نموذجنا ونتائج ميلجرام بقوة، وذلك على نحو مستقل إلى حد بعيد عن كيفية اختيارنا للمعايير، يخبرنا بشيء عميق عن العالم الاجتماعي، فعلى عكس شبكات المولدات الكهربائية أو الخلايا العصبية في المخ، يملك الأفراد في الشبكات الاجتماعية أفكارهم الخاصة بشأن ما يجعلهم ما هم عليه. بعبارة أخرى، يكون لكل شخص في أي شبكة اجتماعية هوية اجتماعية، وهذه الهوية الاجتماعية، من خلال التحفيز على إنشاء الشبكة وتحديد مفاهيم المسافة التي تمكن الأفراد من التنقل عبرها، هي ما يجعل الشبكات قابلة للبحث فيها. (5) البحث في شبكات الند للند
بناء على ما سبق، تعد القابلية للبحث سمة عامة للشبكات الاجتماعية؛ فبتقسيم العالم على النحو الذي نفعله - حسب المفاهيم المتزامنة المتعددة للمسافة الاجتماعية - وتقسيم عملية البحث نفسها إلى مراحل يمكن تطويعها، يمكننا حل ما يبدو كمشكلة في غاية الصعوبة (حاول فقط ممارسة لعبة الدرجات الست لكيفن باكون دون الاستعانة بكمبيوتر) بسهولة نسبية، وشأن كثير من الأفكار الثاقبة، فإن إدراك أن الشبكات الاجتماعية يجب أن تنشأ من مكان ما، وأن أصلها في الهوية الاجتماعية يلعب دورا حاسما في السمات التي تملكها هذه الشبكات، يبدو أمرا بديهيا الآن، لكن في علم يهيمن عليه علماء الفيزياء على نحو متزايد، كان دخول علم الاجتماع مرة ثانية إلى الصورة بمنزلة تطور فكري ذي دلالة، وما تعلمناه هو أنه مع عدم وجود أي خطأ في النماذج البسيطة، فإن هناك الكثير من هذه النماذج في أي واقع معقد، ومن خلال التفكير فقط في الكيفية التي يعمل بها العالم - أي التفكير فقط كما يفكر علماء الاجتماع والرياضيات أيضا - يمكننا اختيار النموذج الصحيح.
لكن هناك سببا عمليا أيضا لفهم أن الأبحاث الموجهة داخل الشبكات، وتحديدا عملية العثور على شخص مستهدف في شبكة اجتماعية، من خلال سلسلة من المعارف الوسطاء، تشبه بشكل أساسي العثور على ملف أو أي معلومة أخرى محددة على نحو متفرد في قاعدة بيانات موزعة. وجه الكثير من الاهتمام حديثا لإمكانيات ما يعرف باسم شبكات «الند للند»، وخاصة في مجال الموسيقى، في الواقع، لم يكن الجيل الأول لهذه الشبكات الموسيقية، التي تعد شبكة نابستر سيئة السمعة النموذج الأولي لها، سوى شبكة ند لند على نحو محدود، وبينما توجد الملفات نفسها بأجهزة الكمبيوتر الشخصية الخاصة بالأفراد - الذين يطلق عليهم اسم الأنداد - وتحدث عمليات تبادل الملفات بشكل مباشر بين الأنداد، يحتفظ بسجل كامل من جميع الملفات المتاحة (ومواقعها) على خادم مركزي.
من ناحية المبدأ، يجعل السجل المركزي مشكلة البحث عن المعلومات أمرا تافها، حتى إن كان ذلك في شبكة ضخمة؛ فكل ما عليك فعله هو طلب المعلومات من السجل، وسوف يخبرك بمكان الملف، لكن السجلات المركزية مكلفة من حيث إنشاؤها والحفاظ عليها. من وجهة نظر المستخدم، تشكل محركات البحث على الإنترنت، مثل جوجل، سجلات مركزية، وتقوم بعمل معقول بوجه عام في تحديد أماكن المعلومات (رغم الإحباط بين الحين والآخر )، لكن جوجل لا يشبه أي موقع إلكتروني عادي آخر؛ فهو يتضمن عشرات الآلاف من الخوادم المتطورة للتعامل مع طلبات المعالجة الهائلة لملايين الاستفسارات المتزامنة عن المعلومات. عندما سمعت لاري بيج - أحد مؤسسي جوجل - يتحدث عن الشركة منذ عامين بمؤتمر في سان فرانسيسكو، قال إنهم كانوا يضيفون نحو ثلاثين خادما كل يوم لملاحقة الطلبات فحسب! قد تكون السجلات المركزية حلا فعالا لمشكلة البحث، لكنها ليست رخيصة. يمكن أيضا للتصميم المركزي أن يكون ضعيفا للغاية، وذلك ما اكتشفه مستخدمو نابستر عندما أغلقت الجهات المختصة بالتسجيل آليتهم المفضلة لتبادل ملفات الموسيقى، فما إن يختف المركز حتى ينهار النظام بالكامل، مثل شبكة الخطوط الجوية التي لا تحتوي إلا على مركز واحد يجب أن تمر به جميع رحلات الطيران.
قبل دخول نابستر إلى مراحل اضمحلالها، كانت أكثر الصور تطرفا من قواعد البيانات الموزعة - التي يمكن أن نطلق عليها شبكات الند للند حقا - قد بدأت في الظهور في عالم الإنترنت غير الشرعي. صمم إحدى هذه الشبكات، التي تعرف باسم «نيوتيلا»، مبرمج متمرد بشركة إيه أو إل، وقد نشر البروتوكول على الموقع الإلكتروني لشركة إيه أو إل في مارس من عام 2000. أزالت سلطات شركة إيه أو إل الكود المضر في غضون نصف ساعة من نشره، لمعرفتها لإمكانية انتهاك حقوق النشر التي ينطوي عليها أي نظام لمشاركة الملفات، وإدراكها لاندماجها المكتمل الجديد مع شركة تايم وارنر، لكنها تأخرت كثيرا في ذلك؛ إذ جرى تحميل الكود بالفعل وسرى كالنار في الهشيم في مجتمع قراصنة الإنترنت، ومر بعشرات التحسينات والتنويعات. كان من أوائل الداعين لاستخدام بروتوكول نيوتيلا مبرمج شاب يدعى جين خان، وقد زعم أن نيوتيلا هو الاستجابة لدعوات جميع من يتبادلون الملفات، والخصم الدائم لصناعة التسجيلات الموسيقية، ونظرا لأن نيوتيلا لم يكن سوى بروتوكول، فلم يكن من الممكن مصادرته، ونظرا لأنه لم يوجد مركز، لم يكن بالإمكان مقاضاة أي شخص أو إغلاق أي موقع. عند الاستماع إلى خان، يمكن للمرء أن يظن أن نيوتيلا شيء خالد عظيم.
بعد عام واحد ثبت أن خان لم يكن على حق تماما، فلم ينجح أحد في تدمير نيوتيلا، لكن أيضا لم تكن هناك حاجة لذلك. من الواضح أن شبكة نيوتيلا قد ارتبطت أجزاؤها في نقاط تلاق، وذلك بالتوافق مع البنية الموزعة التي جعلتها تبدو واعدة جدا، ونظرا لأنه ما من خادم واحد يعرف أين توجد جميع الملفات - لأنه لا يوجد سجل مركزي - يصبح كل طلب للمعلومات بحثا واسع الانتشار يسأل كل نقطة تلاق في الشبكة السؤال الآتي: «هل لديك هذا الملف؟» ومن ثم، فإن شبكات الند للند، مثل نيوتيلا، التي تنطوي على عشرة آلاف نقطة تلاق، تنتج على سبيل المثال، عددا من الرسائل يزيد بنحو عشرة آلاف مرة عن شبكة مثل نابستر ذات حجم مماثل، حيث لا يرسل كل طلب للمعلومات إلا إلى خادم واحد عالي القدرة. ونظرا لأن الهدف من شبكات الند للند هو أن يزيد حجمها قدر الإمكان (من أجل زيادة عدد الملفات المتاحة)، ونظرا لأنه كلما زاد حجم الشبكة، ساء أداؤها، فهل من الممكن أن تكون شبكات الند للند مدمرة لذاتها حقا؟
ظهرت بالمصادفة إشارة إلى عالم شبيه بشبكة نيوتيلا منذ نحو عام أو أكثر بواسطة فصل السيدة جانيت فورست للدراسات الاجتماعية بالصف السادس بمدرسة تايلورزفيل الابتدائية بولاية كارولاينا الشمالية، بدأت السيدة فورست وطلابها «مشروعا بالبريد الإلكتروني»، فأرسلوا رسالة قصيرة رقيقة لكل أسرهم وأصدقائهم، وطلبوا من جميع متلقي الرسالة توجيهها إلى كل من يعرفونهم ليرسلوها بدورهم إلى كل معارفهم (وهلم جرا)، وقد طلبوا أيضا من كل متلق أن يرد عليهم ليسجلوا عدد الأشخاص الذين وصلت إليهم الرسالة ومكانهم، وكانت فكرة سيئة. بحلول الوقت الذي ألغي فيه المشروع أخيرا بعد بضعة أسابيع، كان الفصل قد تلقى ما يزيد عن 450 ألف رد من كل ولاية في البلاد، وثلاث وثمانين دولة أخرى، وكان هؤلاء فقط من ردوا! لك أن تتخيل محاولة كل فصل للدراسات الاجتماعية بالصف السادس في العالم إجراء تجربة مماثلة في الوقت ذاته. (الأمر الذي لا يصدقه عقل هو أنني قد تلقيت بالفعل رسالة أخرى مماثلة مؤخرا من مدرسة في نيوزيلندا، مصدقا عليها من وزير التعليم النيوزيلندي نفسه. يبدو أن بعض الناس لا يتعلمون أبدا.) الأسوأ هو أن تتخيل أن يبدأ أي شخص مثل هذا النشر العالمي عندما يرغب في أي وقت في توصيل رسالة إلى شخص آخر. إن حدث ذلك، لكان عصر الإنترنت قد وصل إلى نهاية سريعة ومشينة بوصوله إلى درجة من الازدحام في تدفق البيانات تفوق ازدحام المرور على طريق بانكوك السريع.
إذن، السجلات المركزية، بوجه عام، باهظة التكلفة وسريعة التأثر بالهجمات، أما الأبحاث واسعة الانتشار فتسفر عن مشكلات أكثر مما تحققه من ميزات، وبناء عليه، من المفترض أن تكون لوغاريتمات البحث الفعالة، التي لا تتطلب سوى معلومات محلية عن الشبكة، ذات أهمية عملية كبيرة. من أكثر السمات المثيرة للاهتمام لظاهرة العالم الصغير أن الأفراد الموجودين في الشبكات الاجتماعية يبدون قادرين على حل مشكلة البحث في شبكات الند للند، حتى إن كانوا هم أنفسهم لا يعلمون كيف يفعلون ذلك، ومن خلال فهم خصائص الصورة الاجتماعية للمشكلة واستغلالها، يمكننا أن نطمح لابتكار حلول جديدة لمشكلات البحث في الشبكات لا تتضمن بالضرورة أناسا على الإطلاق. ولاستكمال منهجنا في تناول المشكلة، اقترحت بعض الحلول الأخرى لمشكلة البحث الموجه بشبكات الند للند لاستغلال الجوانب الأخرى لبنية الشبكات. من أبرز هذه الجهود ما قام به الفيزيائي برناردو هوبرمان وطالبته لادا أداميك بمعمل أبحاث (إتش بي) في بالو ألتو بولاية كاليفورنيا.
من خلال ملاحظة أن درجة التوزيع لشبكة نيوتيلا تتبع أحد توزيعات قوانين القوة (إلى حد ما)، اقترح هوبرمان وأداميك لوغاريتما للبحث، توجه من خلاله نقاط التلاقي طلبات المعلومات لجاراتها «الأكثر اتصالا» بها، التي تبحث بدورها في السجل المحلي، وسجلات نقاط التلاقي المجاورة لها، للحصول على نسخة من الملف المطلوب، مع تكرار الإجراء في حال عدم العثور على الملف، وبهذا الشكل، يحدد سريعا كل استعلام عددا صغيرا نسبيا من المراكز التي يشيع وجودها في الشبكات عديمة المعيار وترتبط بمعظم الشبكة، ومن خلال البحث في هذه الشبكة من المراكز عشوائيا، أوضحت المجموعة أن معظم الملفات يمكن العثور عليها في وقت قصير نسبيا دون إثقال الحمل على الشبكة ككل. مع ما يتسم به هذا المنهج من إبداع، فإنه يعاني صورة أضعف من حل السجل المركزي؛ إذ يجب أن يكون لدى المراكز قدرة أكبر من نقاط التلاقي العادية، ويعتمد أداء الشبكة بدقة على قدرة المراكز المهمة على العمل، وعلى النقيض من ذلك، تبدو قابلية البحث في الشبكات الاجتماعية عملية متساوية تماما. في نموذجنا، يكون الأفراد العاديون قادرين على العثور على مسارات قصيرة، فلا تكون هناك حاجة لمراكز خاصة.
مع ذلك، ربما تكون الفكرة الرئيسية هي أنه عند التحفيز للحصول على حلول جديدة لمشكلات مختلفة (بوضوح)، تقدم مسألة العالم الصغير النموذج الأمثل حول كيف يمكن للنظم المختلفة أن تساعد بعضها بعضا في تأسيس علم شبكات جديد. بالعودة إلى الخمسينيات من القرن العشرين، كان كوشين (عالم رياضيات) وبوول (عالم سياسي) أول من فكرا في ذلك، لكنهما لم يتمكنا من العثور على حل دون أجهزة كمبيوتر. تناول بعد ذلك ميلجرام (عالم نفس)، بمعاونة من وايت (عالم فيزياء واجتماع) المسألة عمليا، وتبعهما في ذلك كل من برنارد (عالم إنسانيات) وكيلوورث (عالم محيطات)، لكنهم لم يتمكنوا من تفسير كيفية عملها بالفعل، وبعد ثلاثين عاما حولت أنا وستيف (عالما رياضيات) المسألة إلى مسألة خاصة بالشبكات بوجه عام، لكننا فشلنا في معرفة مكونها اللوغاريتمي، لنترك بذلك المجال لجون (عالم كمبيوتر) كي يتناولها، وترك جون بدوره المجال أمام مارك (عالم فيزياء)، وبيتر (عالم رياضيات)، وأنا (عالم اجتماع حاليا) لاختيار الحل الذي يبدو الآن أنه كان موجودا طوال تلك الفترة.
لقد كان طريقا طويلا، استمر نحو خمسين عاما، والآن وقد صرنا نعتقد أننا فهمنا أخيرا المسألة، يبدو أنه كان ينبغي على أحدهم التوصل إليها منذ فترة طويلة، لكن ما كان للأمر أن يحدث بطريقة أخرى؛ فبدون جون - على سبيل المثال - ما كنا لنفهم أبدا كيف نفكر في مسألة البحث؛ أي ما كنا لنعلم الطريق الذي ينبغي السير فيه، ودون عملنا المبكر على شبكات العالم الصغير، ما كان جون ليفكر أبدا في المشكلة في المقام الأول، ودون ميلجرام، ما كان أحد منا ليعرف ما كنا نحاول تفسيره، ولولا بوول وكوشين، لكان ميلجرام يجري تجربة مختلفة. بالنظر إلى الماضي، يبدو كل شيء واضحا، لكن الحقيقة أن مسألة العالم الصغير لا يمكن حلها إلا عن طريق الجهود المتضافرة لكثير من المفكرين المختلفين، وذلك من خلال تناولها من الزوايا المختلفة كافة، والإسهام فيها بمجموعة هائلة من المهارات والأفكار ووجهات النظر. في العلم - كما هو الحال بالضبط في الحياة - لا يمكن تقديم الشريط تقديما سريعا لمعرفة ما ستكون عليه النهاية؛ ذلك لأن النهاية لا تكتب سوى أثناء الوصول إليها، وكما هو الحال في أفلام هوليوود الناجحة فإن النهاية، حتى وإن كانت تقدم حلا ما، ليست سوى تمهيد لجزء ثان. في حالتنا، كان الجزء الثاني هو الديناميكيات، ومقارنة بالألغاز المتعلقة بالديناميكيات القائمة على الشبكة - سواء تمثلت في تفشي وباء ما أو سلسلة أعطال في أنظمة الطاقة الكهربائية أو اندلاع الثورات - تعد مشكلات الشبكات التي واجهتنا حتى الآن قطرة في بحر.
الفصل السادس
الأوبئة والأعطال
(1) المنطقة الحارة
قد يكون من الإنصاف القول إن احتمال ظهور الأوبئة الفتاكة لا يقض مضاجع أغلبنا، وربما يرجع ذلك إلى أن معظمنا لم يقرأ كتاب «المنطقة الحارة»، وهو قصة حقيقية بقلم ريتشارد بريستون عن فيروس إيبولا القاتل الذي يهلك ضحاياه وسط فيض من نزيف دموي شديد الضراوة لا تحدثه سوى الطبيعة. ظهر هذا الفيروس لأول مرة من مكمنه بالأدغال في عام 1976، وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى نهر إيبولا الذي يجري في المناطق الشمالية من جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي كانت تعرف في السابق باسم «زائير»، وقد ظهر في السودان أولا، ثم بعد شهرين في زائير حيث انتشر في خمس وخمسين قرية في وقت واحد تقريبا، حاصدا نحو سبعمائة روح في ذلك العام وحده.
على الرغم من عدم معرفة الكثير عن فيروس إيبولا، وهو الأمر الذي يدعو إلى الدهشة ، فمن المعتقد أنه انتقل، شأنه في ذلك شأن فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، من القردة إلى البشر، وله ثلاث سلالات على الأقل ذات معدلات متزايدة من القدرة على الفتك. تفشى مؤخرا فيروس إيبولا في أوغندا وكان من سلالة السودان، وهي السلالة التي تتسم بمعدل إماتة يبلغ 50 بالمائة فقط، ومن ثم تعد أضعف من السلالتين الأخريين (يحصد فيروس إيبولا زائير 90 بالمائة من أرواح ضحاياه)، ومع ذلك، فقد توفي 173 شخصا في مقاطعة جولو في الفترة ما بين أكتوبر من عام 2000 إلى يناير 2001 قبل أن ينتهي التفشي نهايته الطبيعية. أدت حالات التفشي الأخرى على مدار العقود الثلاثة الماضية إلى مقتل أعداد مماثلة من البشر في ظل ظروف مشابهة إلى حد ما، في قرى صغيرة معزولة ذات مرافق رعاية صحية متدهورة. إن قصص الرعب المتعلقة بتفشي هذا الوباء عديدة: الضحايا يذهبون إلى طبيب محلي وهم يشكون من أعراض شبيهة بالإنفلونزا؛ الانهيار والنزيف بعد عدة أيام في أقرب عيادة طبية؛ الإدراك المفزع، والمتأخر عادة، لتفشي فيروس إيبولا؛ انخفاض عدد المختصين الطبيين الأبطال الموجودين في خط الدفاع الأول؛ انتشار الذعر؛ اكتشاف العشرات من الأجساد الدامية في أكواخ مهجورة؛ خراب القرى وهجرانها؛ ترويع مناطق كاملة. إن فيروس إيبولا وحش ضار بحق، إنه قطعة من الجحيم.
من قبيل المفارقة أن البأس الشديد لفيروس إيبولا هو نفسه نقطة ضعفه الوحيدة: فهو شرس لدرجة تضر به نفسه؛ فعلى عكس فيروس نقص المناعة البشرية الساكن الغادر، يكشف إيبولا عن طبيعته الحقيقية المدمرة في غضون أيام، ويفتك بالمرضى بعد إصابتهم به بقليل، إلى جانب ذلك، ما إن تظهر الأعراض حتى يصبح الضحايا عاجزين تماما ويبلغ بهم السقم مبلغه، فيواجهون صعوبة في السفر، ويكون من الممكن حجرهم صحيا بسهولة نسبية، ومن ثم الحد من قدرة الفيروس على الانتشار إلى عائلين جدد. نتيجة لذلك، تم احتواء معظم حالات التفشي في المناطق النائية الواقعة بالقرب من الغابات المطيرة وبعيدا عن المراكز السكانية الرئيسية.
مرة واحدة فقط، أثناء حالة التفشي الثانية في عام 1976، تمكن فيروس إيبولا من الوصول إلى مدينة كبيرة، وذلك عندما قضت ممرضة شابة تدعى ماينجا إن - كانت مصابة بسلالة زائير من هذا الفيروس - أحد الأيام متجولة بأرجاء مدينة كينشاسا، عاصمة الكونغو وأكبر مدنها، ولحسن الحظ، أدت سمة أخرى للفيروس إلى تجنب وقوع كارثة: ففيروس إيبولا - على الأقل في مراحله الأولى - ليس معديا على الإطلاق، بل حتى عندما يكون المريض في مرحلة متأخرة من المرض، وجسمه ينزف داخليا ويسعل مخاطا مليئا بالدماء في الهواء، من المعتقد بوجه عام أن الفيروس لا يمكنه الوصول للمضيفين الجدد سوى عبر شق في الجلد أو غشاء منفذ مثل أغشية الأنف أو العين. وبوصول الممرضة ماينجا إلى هذه المرحلة، كانت قد أدركت بالفعل مصيرها ووضعت تحت الحجر الصحي في المستشفى.
بقراءة ذلك، قد تعتقد أن إيبولا ليس سوى عنصر آخر بسلسلة الأهوال اللانهائية المبتلاة بها البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى. وأفريقيا، القارة الأكثر غرابة وتوحشا، بعيدة بالطبع عن أمريكا بما يكفي بحيث لا يكون للوباء التالي - إذا حدث ومتى حدث - تأثير على سكان أمريكا أكثر من الشعور بالضيق بين الحين والآخر أثناء تصفح الجريدة الصباحية، لكن إذا كان ثمة شيء واحد يمكن تعلمه من كتاب «المنطقة الحارة»، فسيكون أنه ينبغي التوقف عن الاسترخاء الآن. يمثل فيروس إيبولا مشكلة ليس فقط لأفريقيا، لكن للعالم أجمع؛ فمن الممكن أن تحرر سلسلة صحيحة من الأحداث فيروس إيبولا من قيوده، مثلما زحف فيروس نقص المناعة البشرية عبر طريق كينشاسا السريع من مكان ميلاده في الأدغال، وعثر بشكل ما، ربما في إحدى المدن الساحلية، على جايتان دوجاس - المضيف الجوي الكندي الشهير بالمريض صفر - الذي جلب الفيروس إلى الحمامات العامة بسان فرانسيسكو وأدخل مرض الإيدز إلى العالم الغربي.
إن الجانب الأكثر إزعاجا في قصة بريستون ليس الوصف الحي لحالات الوفاة الناتجة عن فيروس إيبولا، بل احتمالية انتشار الفيروس على مستوى العالم؛ فعلى مدار القرن الماضي لم نتدخل نحن البشر تدخلا سافرا فحسب في النظم البيئية القديمة للغابات المطيرة الأفريقية، حيث تكمن أكثر الفيروسات فتكا، لكننا أنشأنا أيضا نظاما دوليا لشبكات نقل يمكن أن تنقل مرضا معديا إلى مراكز القوة والعواصم العالمية في غضون بضعة أيام؛ أي في فترة تقل عن طور حضانة الإيبولا. ويصف بريستون أحد الأشخاص المحكوم عليهم بالهلاك في قصته، وهو يجلس في طائرة صغيرة متوجهة إلى نيروبي ويتقيأ كميات كبيرة من الدم الأسود، قائلا: «لقد دخل كل من شارل موناي والكائن الموجود بداخله إلى الشبكة.»
إن إمكانية ظهور مرض إيبولا في مركز تجاري محلي أبشع مما يمكن تصوره، لكن بعد قراءة كتاب «المنطقة الحارة»، سيذهلك أنه ليس أمرا مستبعدا بهذا القدر. في الواقع، تصف حبكة الأحداث الفرعية في الكتاب تفشي سلالة ثالثة من فيروس إيبولا بين مجموعة من القردة في أحد معامل أبحاث الجيش الأمريكي في ريستون بولاية فيرجينيا، بالقرب من واشنطن العاصمة؛ لقد اكتشف أن الفيروس، المعروف الآن باسم إيبولا ريستون، لا يضر بالبشر، لكنه مهلك بشكل مذهل للقردة المسكينة التي مات جميعها، لكن فيروس إيبولا ريستون كان شديد الشبه بإيبولا زائير، فلم تتمكن أي من الاختبارات التقليدية آنذاك من التفريق بينهما، وظل العلماء ومدربو الحيوانات، الذين تعرضوا له، يظنون أنه إيبولا زائير لبضعة أيام من القلق الشديد، وإن كان الأمر كذلك بالفعل - ولحسن الحظ أنه لم يكن - لكان جميعنا قد عرف عن إيبولا أكثر مما نعرفه الآن. (2) فيروسات الإنترنت
ليست الفيروسات البيولوجية المصدر الوحيد المحتمل للأوبئة في العصر الحالي، وهذا ما اكتشفته كلير سواير لحظها التعس قبل أعياد رأس السنة لعام 2000. كلير سواير شابة إنجليزية من الواضح أنها أقامت علاقة لفترة قصيرة قبل أعياد رأس السنة ببضعة أيام مع شاب إنجليزي يدعى برادلي تشايت، ونظرا لكونها سيدة معاصرة، أرسلت إليه رسالة بالبريد الإلكتروني تطري عليه فيها، وراقت هذه الرسالة لتشايت كثيرا، فقرر مشاركتها مع أصدقائه؛ أصدقائه المقربين فقط، وعددهم ستة أفراد، لكن من الواضح أنهم استمتعوا بدورهم برسالة الإطراء، فأعادوا توجيهها للعديد من أقرب معارفهم وأعزهم، الذين شعر الكثيرون منهم بالشعور ذاته، وهكذا، دارت تلك الرسالة البريدية البسيطة، مع إضافة بسيطة من تشايت: «إطراء لطيف من إحدى عشيقاتي» في العالم ليستمتع بها نحو 7 ملايين قارئ في غضون أيام. سبعة ملايين! تحتم على كلير المسكينة الاختباء لتجنب السعار الصحفي الناجم عن تلك الفضيحة، وتعرض تشايت لإجراء تأديبي من شركة المحاماة التي يعمل بها بسبب استخدامه غير المصرح به لحساب البريد الإلكتروني الخاص به (كما لو أن الناس لا يرسلون رسائل شخصية عبر البريد الإلكتروني الخاص بالعمل طوال الوقت!) قد تكون قصة سخيفة، لكنها مثال جيد على قوة التزايد الأسي، خاصة عند اقترانه بنقل المعلومات غير المكلف الذي يقدمه الإنترنت. وحول هذا الموضوع، هناك العديد من الأمور الخطيرة التي يجب التحدث عنها.
تجري الفيروسات، سواء التي تصيب البشر أو الحاسبات، بشكل أساسي نوعا مما أطلقنا عليه «البحث واسع الانتشار» بجميع أنحاء الشبكة، وتمثل الأبحاث واسعة الانتشار - كما ناقشنا في الفصل
الخامس - أكثر الطرق فعالية للبدء من أي نقطة تلاق، والعثور على كل نقطة تلاق أخرى عن طريق التفرع على نحو منتظم من كل نقطة تلاق جديدة إلى كل من النقط غير المستكشفة المجاورة لها، لكن عندما يبدأ مرض ما «بحثا»، فإنه لا يبحث عن شيء معين، بل يسعى ببساطة لنشر نفسه إلى أقصى مدى ممكن، ومن ثم فإن «كفاءة» كيان معد كالفيروس تحمل بين طياتها دلالات للقدرة على الإيذاء، وكلما كان الفيروس أكثر نقلا للعدوى، زادت كفاءته في البحث، ومن ثم يعد فيروس إيبولا أكثر كفاءة من فيروس نقص المناعة البشرية من حيث نقله للعدوى (لا يتقيأ المرضى المصابون بنقص المناعة البشرية دما في غرفة الطوارئ)، لكنه أقل كفاءة من حيث إنه يؤدي إلى الوفاة سريعا للغاية. وكل من فيروس نقص المناعة البشرية وإيبولا أقل كفاءة بكثير من فيروس الإنفلونزا، الذي لا يبقي على مضيفيه أحياء فترة أطول فحسب، بل هو قادر أيضا على الانتشار عبر الجسيمات التي يحملها الهواء. ولإدراك أهمية كفاءة الأمراض على النحو الصحيح، نقول إنه لو كانت عدوى إيبولا تنتقل عبر الهواء، لكان قد قضي على الحضارة الحديثة في أواخر سبعينيات القرن العشرين.
على الرغم من وجوب القلق بشأن احتمال ظهور وباء جحاف بين البشر، فإن فيروسات الكمبيوتر - من حيث الكفاءة فحسب - أكثر إثارة للقلق من الفيروسات البشرية. يمكن النظر لأي فيروس - سواء أكان يصيب البشر أم أجهزة الكمبيوتر - على أنه ليس أكثر من مجموعة من التعليمات للتوالد باستخدام مواد من المضيف كوحدات بناء. في البشر، يحجب جهاز المناعة مجموعات التعليمات الغريبة، التي من المحتمل أن تنطوي على خطر ما، لكن أجهزة الكمبيوتر لا تمتلك أجهزة مناعة بوجه عام. تتمثل وظيفة الكمبيوتر، أساسا، في تنفيذ التعليمات بأكبر قدر من الكفاءة، بصرف النظر عن مصدر هذه التعليمات؛ لذا فإنه أكثر عرضة للتأثر بالأكواد الخبيثة مقارنة بتعرض البشر للفيروسات، ومع أن وباء عالميا يصيب أجهزة الكمبيوتر قد لا ينذر بنهاية الحضارة البشرية، فلا يزال بإمكانه إحداث ضرر اقتصادي جسيم. لم يسبق حدوث ذلك من قبل، لكننا واجهنا بالفعل بعض الاضطرابات المزعجة؛ ففي السنوات القليلة الأخيرة من القرن العشرين، حتى قبل أن تصبح مشكلة عام 2000، التي يرمز إليها بالرمز
Y2K ، خاتمة مخيبة للآمال للألفية، أحدثت سلسلة من فيروسات الكمبيوتر قدرا هائلا من الإرباك والإزعاج لمئات الآلاف من المستخدمين بجميع أنحاء العالم، وبدأت الهيئات الحكومية والشركات الكبيرة، وحتى عامة الناس المتضاربة آراؤهم عادة، في التأهب والانتباه.
لقد تعايشنا مع فيروسات الكمبيوتر لعقود من الزمان، فلماذا لم نبدأ في مواجهتها على مستوى عالمي إلا مؤخرا؟ الإجابة عن هذا السؤال هي نفسها الإجابة عن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالنصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين: الإنترنت. قبل ظهور الإنترنت، انتشرت الفيروسات، وكان مستخدمو الكمبيوتر يواجهون صعوبات بين الحين والآخر، لكن، آنذاك، كان السبيل الوحيد لنقل فيروس من جهاز لآخر هو القرص المرن، الذي يجب أن يوضع داخل الجهاز. بالطبع، كان من الممكن للقرص المحمل بالفيروس أن ينتشر بين الكثير من أجهزة الكمبيوتر، وعندما يصاب أحدها به، تؤدي محاولة إنقاذ الملفات ذات الصلة بنقلها إلى قرص غير محمل بالفيروس إلى انتقال الفيروس إلى هذا القرص أيضا، ومن ثم كانت إمكانية النمو المتسارع موجودة بالفعل، لكن طبيعة الانتشار الملموسة إلى حد بعيد - مثل حاجة فيروس إيبولا لشق في الجلد لينتشر - قللت بوجه عام من كفاءة الفيروسات إلى الحد الذي أصبح معه الظهور البسيط للفيروسات لا يتحول إلى أوبئة متفشية.
جاءت شبكة الإنترنت، وخاصة البريد الإلكتروني، لتغير ذلك كله، وهذا ما بدأ العالم في إدراكه بحلول شهر مارس من عام 1999 بظهور الفيروس ميليسا، ومع أنه كان يشار بوجه عام إلى ميليسا على أنه فيروس (أو خطأ برمجي)، فقد كان يتشابه في العديد من الأوجه مع نوع آخر من الأكواد الضارة تعرف باسم ديدان الكمبيوتر، لا تسبب هذه الديدان الضرر لأجهزة الكمبيوتر الفردية بقدر ما تحدثه للشبكات؛ فهي تنسخ نفسها وتنتقل في أعداد كبيرة من جهاز لآخر دون تنشيط من جانب المستخدم. ظهر فيروس ميليسا، الذي كان آنذاك أسرع الفيروسات التي رآها الإنسان انتشارا، في صورة رسالة بريد إلكتروني تحمل العنوان التالي: «رسالة هامة من (اسم)»، بحيث يشير «اسم» إلى المستخدم المرسل للرسالة، أما متن الرسالة، فهو: «إليك بالوثيقة التي طلبتها ... لا تطلع أحدا آخر عليها ؛-)» ومرفق بها مستند وورد يحمل اسم
list.doc ، وفي حال فتح المستند المرفق، يرسل ماكرو ميليسا نسخا منه تلقائيا إلى أول خمسين عنوانا في قائمة عناوين البريد الإلكتروني الخاصة بالمستخدم، وفي حال كان أحد هذه العناوين قائمة بريدية، فسيصل الفيروس إلى كل من تضمهم هذه القائمة.
كانت العواقب وخيمة؛ فعند اكتشاف الفيروس للمرة الأولى يوم الجمعة، 26 مارس، كان قد انتشر بجميع أرجاء المعمورة في غضون ساعات، وبحلول صباح يوم الاثنين كان قد أصاب ما يزيد عن مائة ألف جهاز كمبيوتر في ثلاثمائة مؤسسة قاصفا بعض المواقع بعدد هائل من الرسائل (وصل في إحدى الحالات إلى اثنين وثلاثين ألف رسالة خلال خمس وأربعين دقيقة!) الأمر الذي أجبر تلك المؤسسات على قطع اتصال نظمها البريدية عن الإنترنت. مع ذلك، كان يمكن أن يكون الأمر أسوأ من ذلك بكثير. كان فيروس ميليسا غير خطير نسبيا - إذ كان أسوأ أثر له هو إدراج مرجع غير ضار لمسلسل «عائلة سيمبسون» في مستند مفتوح عندما تتوافق الدقيقة في الساعة مع تاريخ اليوم - ولم يكن بإمكانه أيضا الانتشار إلا عن طريق برنامج البريد مايكروسوفت أوتلوك. ظل وصول الفيروس إلى من لا يستخدمون برنامج أوتلوك ممكنا، لكن مع عدم إمكانية انتقاله إلى آخرين. هذا هو الفارق الذي له عواقب مهمة (ربما لشركة مايكروسوفت نفسها) تتعلق باحتمالية أن يصبح الفيروس فيروسا عالميا مدمرا حقا كما سنوضح لاحقا، لكن، أولا، علينا أن نعرف بعض المعلومات عن الرياضيات المتعلقة بأي مرض معد، وعلينا أن نفهم، على وجه الخصوص، الظروف التي يصبح فيها ظهور مرض بسيط وبائيا.
شكل 6-1: الحالات الثلاث للنموذج
SIR . يمكن لكل عضو بمجموعة الأفراد أن يكون قابلا للإصابة أو معديا أو مبعدا، ويمكن أن يصاب الأفراد القابلون للإصابة بالعدوى عن طريق التفاعل مع الناقلين لها، ويمكن أن يشفى الناقلون للعدوى أو توافيهم المنية، ومن ثم يتوقف دورهم في هذه الديناميكية، وفي حال شفائهم، قد يصبحون قابلين للإصابة ثانية من خلال فقد المناعة. (3) رياضيات الأوبئة
ظهر علم الأوبئة الرياضي الحديث لأول مرة منذ ما يزيد عن سبعين عاما بظهور النموذج
SIR ، الذي صاغه عالما الرياضيات: ويليام كيرماك وإيه جي ماكندريك، ولا يزال يمثل إطار العمل الرئيسي الذي تبنى عليه معظم نماذج الأمراض المعدية. تشير الأحرف المكونة للاختصار إلى الحالات الثلاث الرئيسية (الموضحة في الشكل
6-1 ) التي يمكن أن يكون عليها أي فرد فيما يخص أي مرض بعينه، وهي:
susceptible (قابل للإصابة)؛ وتعني أن الفرد يكون عرضة للإصابة سريعا بالعدوى لكن لم يصب بها بعد، و
infectious (معد)؛ وتعني أن الفرد لا يكون مصابا بالعدوى فحسب، بل بإمكانه أيضا نقلها للآخرين؛ و
removed (مبعد)؛ وتشير إلى أن الفرد إما شفي أو لم يعد يمثل أي تهديد آخر (ربما بوفاته). ولا يمكن أن تحدث حالات عدوى جديدة إلا عندما يتصل شخص مصاب، يوصف عادة بالمعدي، اتصالا مباشرا بشخص قابل للإصابة، عندئذ يصبح الشخص سريع التأثر معديا، مع إمكانية لنقل العدوى تعتمد على قدرة المرض على الانتقال وسمات الشخص القابل للإصابة (من الواضح أن بعض الناس أكثر قابلية للإصابة من آخرين).
من الجلي أن هوية الأفراد الذين يتصل بعضهم ببعض تعتمد على شبكة المعارف في أي مجموعة؛ لذا، ولاستكمال النموذج، يلزم وضع بعض الافتراضات بشأن الشبكة؛ تفترض النسخة القياسية للنموذج - على سبيل المثال - أن التفاعلات بين أعضاء المجموعات الثلاث تحدث على نحو عشوائي تماما، كما لو أنهم مزجوا في وعاء كبير، كالموضح في الشكل
6-2 . إن العشوائية التامة، كما هو موضح في الشكل
6-2 ، ليست تمثيلا مثاليا للتفاعلات البشرية، لكنها تبسط التحليل بالتأكيد على نحو كبير. في النموذج
SIR ، يشير افتراض العشوائية إلى أن احتمال مقابلة شخص معد لآخر قابل للإصابة لا يحدده سوى عدد الأفراد الناقلين للعدوى والقابلين للإصابة، ففي الوعاء لا توجد بنية للمجموعة البشرية يمكن التحدث عنها. لا تزال المشكلة غير هينة، لكن على الأقل يمكن الآن تسجيل مجموعة من المعادلات لا تعتمد حلولها إلا على حجم الظهور الأول للمرض وبعض المعايير الخاصة بالمرض نفسه؛ كإمكانية العدوى ومعدل الشفاء.
شكل 6-2: في الصورة التقليدية للنموذج
SIR ، يفترض أن تكون التفاعلات عشوائية تماما. يمكن التفكير في التفاعلات العشوائية كما لو أن الأفراد يمزجون معا في وعاء كبير. تتمثل النتيجة الرئيسية لافتراض المزج العشوائي في أن احتمالات التفاعل تعتمد على أحجام مجموعات الأفراد النسبية فحسب، وهي السمة التي تبسط التحليل بشكل كبير.
وفقا للنموذج، عند تفشي وباء ما، لا بد أن يتبع مسارا يمكن التنبؤ به يعرفه علماء الرياضيات باسم «النمو اللوجيستي». كما يشير الشكل
6-3
على نحو تخطيطي، تتطلب كل عدوى مشاركة شخص ناقل للعدوى وآخر قابل للإصابة، ومن ثم يعتمد المعدل الذي يمكن أن تظهر به حالات العدوى الجديدة على حجم مجموعتي الأفراد كلتيهما. عندما يكون المرض في مراحله المبكرة، تكون مجموعة الناقلين للعدوى صغيرة، ومن ثم يكون أيضا معدل حالات العدوى الجديدة صغيرا؛ وكما يوضح الرسم العلوي بالشكل
6-3 ، لا يوجد عدد كاف من ناقلي العدوى لإحداث ضرر كبير. تعد مرحلة النمو البطيء هذه أكثر المراحل فعالية لإعاقة وباء ما؛ إذ يمكن لعدد صغير من حالات العدوى يتم تلافيها أن تعود بالمرض إلى مرحلة السكون، ومع الأسف، يمكن أن يصعب تمييز وباء ما في مرحلته المبكرة من خلال مجموعة عشوائية من الحالات غير المرتبطة ببعضها، خاصة إذا اتسمت هيئات الصحة العامة بسوء التنسيق أو أبت الاعتراف بأن لديها مشكلة ما.
شكل 6-3: في النمو اللوجيستي، يعتمد معدل نمو حالات العدوى الجديدة على حجم مجموعتي الأفراد الناقلين للعدوى والقابلين للإصابة. عندما تكون أي منهما صغيرة (الرسمان العلوي والسفلي بالشكل)، تندر حالات العدوى الجديدة، لكن عندما تكون المجموعتان متوسطتي الحجم (الرسم الأوسط)، تصل معدلات العدوى إلى أقصى حد ممكن لها.
عندما تزيد كثافة الناقلين للعدوى على نحو يصبح معه من الصعب إغفالها أو تجاهلها، يدخل الوباء عادة «مرحلة الانفجار» في عملية النمو اللوجيستي (الرسم الأوسط بالشكل
6-3 ). يوجد الآن الكثير من الأفراد الناقلين للعدوى والأفراد القابلين للإصابة، ومن ثم يصل معدل حدوث حالات عدوى جديدة إلى أقصى حد له. من المستحيل عمليا إيقاف الأوبئة في مرحلة النمو المتفجر، وهذا ما واجهه المزارعون البريطانيون في عام 2001 عندما تفشى مرض الحمى القلاعية على مدى نصف عام بجميع أرجاء إنجلترا وبعض أجزاء من اسكتلندا. عند اكتشاف الوباء في منتصف شهر فبراير؛ أي بعد ثلاثة أسابيع فقط من إصابة الحالات الأولى، كان المرض قد تفشى بالفعل في ثلاث وأربعين مزرعة؛ قد يبدو ذلك عددا كبيرا من المزارع، لكن الوباء كان لا يزال في مرحلة النمو البطيء الأولية، وبحلول شهر سبتمبر، زاد عدد المزارع المشتبه في إصابتها إلى ما يزيد عن تسعة آلاف، بالرغم من الذبح الوقائي لما يقرب من 4 ملايين رأس من الماشية والغنم.
لكن، في النهاية، حتى أكثر الأوبئة صعوبة في السيطرة عليها تصل إلى نهاية، حتى لو كان السبب هو استنفاد نفسها، ونظرا لأن عدد الأشخاص (أو الماشية، في حالة الحمى القلاعية) الذين يمكن إصابتهم بالعدوى كبير للغاية، تزداد صعوبة الوصول إلى الأفراد القابلين للإصابة وتهدأ حدة المرض ثانية. هذه هي مرحلة الخمود في النمو اللوجيستي. في وباء الحمى القلاعية، برزت عملية التحجيم الذاتي هذه من خلال الحجر الصحي الفعال للأراضي الزراعية والإبادة الفعالة للماشية (حوالي ألفي حالة فعلية من المرض اكتشفت، وهي نسبة ضئيلة من أعداد الماشية التي قتلت). وهكذا يعكس مسار الوباء، من البداية إلى النهاية، منحنى على شكل حرف
S ، كما هو موضح في الشكل
6-4 . إن إمكانية تفسير السمات الأساسية لهذا المسار - النمو البطيء والانفجار والخمود - في إطار نموذج النمو اللوجيستي يشير إلى أن القوى التي تحكم وباء ما، عندما يحدث، بسيطة للغاية.
شكل 6-4: النمو اللوجيستي، الذي يوضح مرحلة النمو البطيء ومرحلة الانفجار ومرحلة الخمود.
لكن الأوبئة لا تحدث طوال الوقت. في الواقع يحتوى أغلب الأمراض من خلال التدخل البشري، أو (في أحيان أكثر) تستنفد نفسها قبل أن تصيب نسبة بسيطة للغاية من السكان. على سبيل المثال، مع ما أثاره تفشي فيروس إيبولا عام 2000 من رعب، فلم يحمل ما يؤهله لأن يكون وباء حقيقيا، ومع أن 173 ضحية عدد كبير في المطلق، ظل تفشي المرض محصورا في مجموعة محددة جغرافيا من القرى، دون أن يفرض تهديدا على مجموعات الأفراد المعرضين للإصابة بالمرض، على النقيض من ذلك، أصاب وباء الحمى القلاعية عام 2001 الدولة بأكملها تقريبا، وفي إطار النموذج
SIR ، يكون إيقاف أحد الأوبئة مساويا تقريبا لمنعه من الوصول إلى مرحلة الانفجار في النمو الموضحة في الشكل
6-4 ، الأمر الذي لا يشير إلى التركيز على حجم الظهور المبدئي، بل على «معدل نمو» هذا الحجم. يتمثل المقياس الرئيسي لأحد الأمراض من هذا المنطلق في «معدل التزايد»؛ أي متوسط عدد حالات العدوى الجديدة التي يؤدي إليها كل فرد مصاب حاليا بالعدوى.
يتمثل الشرط الرياضي للوباء في ضرورة أن يكون معدل تزايد المرض أكبر من واحد؛ ففي حال بقاء معدل التزايد عند درجة أقل من واحد، يبعد الناقلون للعدوى من مجموعة الأفراد بمعدل أسرع من ظهور ناقلين جدد، وسيبلغ المرض نهايته دون أن يصير وباء، أما إذا زاد معدل التزايد عن واحد، فلن يزيد المرض من انتشاره فحسب، بل سيزيد أيضا من السرعة التي سيواصل الانتشار بها، ويصير من الحتمي حدوث النمو المتفجر. والوضع الحرج بين هاتين الحالتين، حيث يمرر مضيف واحد المرض لمضيف جديد واحد بالتحديد، يعرف ب «حد» الوباء. والوقاية من الوباء تعني إبقاء معدل التزايد أقل من هذا الحد.
في النموذج
SIR
التقليدي، حيث يغض الطرف عن بنية مجموعة الأفراد، يحدد معدل التزايد، ومن ثم حد الوباء، بالكامل عن طريق سمات المرض نفسه (قدرته على العدوى، وسرعة شفاء ناقليه أو وفاتهم)، وحجم مجموعة الأفراد المعرضين للإصابة الذي يمكن لحاملي المرض التفاعل من خلاله، ومن ثم أدت ممارسات الجنس الآمن إلى الحد من وباء فيروس نقص المناعة البشرية في بعض مناطق العالم عن طريق استهداف معدل العدوى، في حين أدت الإبادة واسعة الانتشار للحيوانات في بريطانيا أثناء وباء الحمى القلاعية إلى التقليل من حدته عن طريق الحد من الحجم الفعلي للحيوانات المعرضة للإصابة.
يعد مفهوم مساواة معدل تزايد الحد في النموذج التقليدي للرقم واحد بالضبط إحدى نقاط التقارب العميقة التي تجعل من الرياضيات أمرا مثيرا للغاية. في الواقع، يماثل حد الوباء بالضبط النقطة الحرجة التي يظهر عندها مكون ضخم في شبكة عشوائية (انظر الفصل
الثاني )، حيث يكون معدل التزايد مساويا من الناحية الرياضية لمتوسط عدد الجيران على الشبكة، ويكون حجم مجموعة الأفراد الناقلين للعدوى، باعتباره دالة لمعدل التزايد (الشكل
6-5 )، مساويا بالضبط لحجم المكون الضخم في الشكل
2-2 . وبعبارة أخرى، يظهر الوباء عندما يمر المرض بالتحول الطوري نفسه بالضبط الذي اكتشفه إيردوس وريني في مسألة شبكات الاتصالات التي تناولاها بالبحث، والتي تبدو غير ذات صلة بالأوبئة، لكن هذا التشابه الجدير بالملاحظة يشير أيضا إلى نقد واضح؛ فإذا رفضنا اعتبار نماذج رسوم بيانية عشوائية تمثيلات واقعية لشبكات العالم الفعلي، سواء أكانت اجتماعية أم غيرها، أليس من المفترض أيضا رفض أي استنتاجات بشأن الأوبئة تعتمد على الافتراضات ذاتها؟ إن اعتماد معدل التزايد على حجم مجموعة الأفراد المعرضين للإصابة فحسب - على سبيل المثال - لا يفسر أيا من سمات البنية الاجتماعية أو بنية الشبكات التي يمكن أن تكون مفيدة في مقاومة الأوبئة، وكما سنرى، تظل بعض الدروس المتعلقة بالنموذج التقليدي قائمة، حتى في عالم الشبكات المعقد، لكن هناك دروسا أخرى مبنية على الشبكات يجدر تعلمها أيضا.
شكل 6-5: التحول الطوري في النموذج
SIR . عندما يتجاوز معدل تزايد المرض (م) واحدا (حد الوباء)، يحدث الوباء. (4) الأوبئة في عالم صغير
انصب اهتمامي أنا وستيف في البداية - كما يذكر القارئ - على الديناميكيات، لكن انتهى بنا الحال بالعمل على الشبكات؛ لأننا كنا مهتمين بديناميكيات المذبذبات المترابطة؛ صراصير الليل؛ لذا عندما أصبح لدينا بعض نماذج الشبكات التي يمكننا استخدامها، أخذنا نفكر بطبيعة الحال كيف ستعمل النظم الديناميكية المختلفة بهذه الشبكات، وكان أول نظام حاولنا فهمه هو نموذج مذبذبات كوراموتو (الموضح في الفصل
الأول
من هذا الكتاب) الذي تناوله ستيف بالبحث المكثف في مرحلة مبكرة من مسيرته المهنية، لكن للأسف، مع ما يتسم به نموذج كوراموتو من بساطة، فإن سلوكه بشبكات العالم الصغير ظل معقدا لدرجة حالت دون فهمنا له (وهو ما استمر عليه الحال سنوات عديدة لاحقة)، من ثم بدأنا في البحث عن نوع أبسط من الديناميكيات، ومجددا كانت اهتمامات ستيف البيولوجية ذات فائدة. قال ستيف ذات مرة في مكتبه: «يتعلق النموذج
SIR
بأبسط نوع يمكنني التفكير فيه على الإطلاق من الديناميكيات غير الخطية، وأنا على يقين تام بأنه ما من أحد فكر جديا في عمل النموذج
SIR
على إحدى الشبكات؛ على الأقل ليس على شبكة كهذه. لماذا إذن لا نحاول فعل ذلك؟»
وفعلنا، لكن هذه المرة أجريت بعض التحضير المسبق، وكما هو متوقع، ومع تعميم نموذج
SIR
الأساسي بطرق عديدة ليتضمن الخصائص المميزة لأمراض معينة، والصور المختلفة لسرعة التأثر لدى مجموعات سكانية مختلفة، لم يظهر ما يشبه شبكات العالم الصغير في الدراسات الموضوعة عن هذا الأمر. كان هذا وحده مشجعا، تماما مثل التساوي العميق بين النموذج
SIR
التقليدي والاتصال في الرسم البياني العشوائي؛ فأيا كان سلوك المرض في شبكة عالم صغير عامة، يمكن أن نوقن بأنه يشبه سلوك النموذج
SIR
التقليدي في حدود كل الصلات التي أعيد الربط بينها عشوائيا (كما هو موضح في الجزء الأيمن من الشكل
3-6 ). ومن ثم، ليس لدينا نموذج شبكة فحسب، وهو الذي استوعبناه جيدا بالوصول إلى هذه المرحلة، بل لدينا أيضا مقياس راسخ للمقارنة بين النتائج التي نتوصل إليها.
أول مقارنة كان من الطبيعي أن نجريها من حيث الحد العشوائي، كانت المقارنة بمرض ينتشر بشبيكة أحادية البعد؛ الحد المنظم لسلسلة العالم الصغير، والمبينة في الجانب الأيسر بالشكل
3-6 . في الشبيكات - كما تناولنا في الفصل
الثالث - تكون الروابط بين نقاط التلاقي شديدة التكتل، مما يشير إلى أن الشبكة تدفع بالمرض المنتشر باستمرار إلى مجموعة الأفراد المصابين بالعدوى بالفعل، وكما هو موضح في الشكل
6-6 ، في شبيكة أحادية البعد، يحتوي بالفعل تكتل متنام من الناقلين للعدوى على نوعين من نقاط التلاقي؛ تلك الموجودة داخل التكتل (التي لا يمكن أن تصيب أي شخص جديد) والموجودة على الحد، أو «جبهة المرض». وبصرف النظر عن كبر حجم مجموعة الأفراد المصابين بالعدوى، يظل حجم جبهة المرض ثابتا، ومن ثم ينخفض معدل نمو مجموعة الأفراد المصابين بالعدوى «لكل شخص» حتميا مع انتشار العدوى. من ثم تمثل الشبيكة سياقا للوباء مختلفا تماما عن افتراض المزج العشوائي الموضح أعلاه، إلى جانب أنها تجعل من الصعب حساب معدل التزايد، لذا قررنا المقارنة بين نتائج شبكاتنا المختلفة مباشرة وفق القدرة على نقل العدوى، وكان الفارق مذهلا؛ فكما هو موضح في الشكل
6-7 ، يصيب المرض ذاته، المنتشر في شبيكة، عددا من الناس أقل بكثير مما يصيبه في الرسم البياني العشوائي، ولا يكون هناك أي حد واضح بعد ذلك، والرسالة هنا هي أنه عندما يكون انتشار الأمراض قاصرا على عدد محدد فقط من الأبعاد - وليكن، مثلا، جغرافيا الأرض ثنائية البعد - لا يتطور إلى أوبئة حقيقية سوى أكثر الأمراض تسببا في العدوى، وحتى عندئذ ستكون أوبئة بطيئة زاحفة، وليست متفجرة، مما يمنح هيئات الصحة العامة الوقت الكافي للاستجابة، ومنطقة محددة للتركيز عليها.
شكل 6-6: في الشبيكة الحلقية، تكون جبهة المرض (حيث يتفاعل الناقلون للعدوى مع المعرضين للإصابة بالمرض) ثابتة ، ومع زيادة حجم مجموعة الأفراد المصابين بالعدوى، يزيد عدد الناقلين للعدوى في الداخل، في حين لا يمكنهم الوصول إلى أشخاص جدد، ومن ثم تنتشر الأمراض ببطء في الشبيكات.
شكل 6-7: الجزء المصاب بالعدوى في مقابل القدرة على نقل العدوى لحد الرسم البياني العشوائي (β = 1) وحد الشبيكة (β = 0) وفق النموذج بيتا الموضح في الفصل
الثالث . إن قيمة حد نقل العدوى تمثل القدرة اللازمة لإصابة نصف مجموعة الأفراد بالعدوى.
من أمثلة هذه الأوبئة الزاحفة الطاعون الأسود الذي تفشى بجميع أنحاء أوروبا في القرن الرابع عشر ليبيد نحو ربع سكانها، ومع أن هذه الإحصائية قد تبدو مذهلة، فإن وباء مثل الطاعون من المرجح ألا يحدث في العصر الحالي؛ على الأقل ليس في العالم الصناعي. كما تشير الخريطة في الشكل
6-8 ، بدأ الطاعون في مدينة واحدة بجنوب إيطاليا (حيث يعتقد أنه وصل إليها عن طريق سفينة تحمل العدوى من الصين)، ثم انتشر في موجات أشبه بتموجات على سطح بركة ألقي بها حجر، ونظرا لانتقال المرض في الغالب عن طريق جرذان مصابة ببراغيث محملة بالطاعون (طاعون دبلي)، استغرق الأمر ثلاث سنوات، من 1347 إلى 1350، ليجتاح المرض أوروبا. لم يكن باستطاعة الطب أو خدمات الصحة العامة آنذاك الحيلولة دون اجتياح الطاعون، عديم الهوادة، الأرجاء، ومن ثم لم تحدث سرعته البطيئة نسبيا فارقا كبيرا في النهاية، لكن في العالم المعاصر يمكن التعرف على أي مرض يجبر على الانتقال بهذه الطرق البطيئة المفتقرة للكفاءة واحتواؤه.
شكل 6-8: خريطة توضح تفشي الطاعون (الموت الأسود) في أوروبا في الفترة ما بين 1347 و1350.
مع الأسف، تمتلك الأمراض في عصرنا الحالي آليات انتقال أفضل بكثير من الجرذان المهرولة، وما إن نسمح بجزء صغير من الروابط العشوائية بدخول نماذج الشبكات حتى يتحطم الاستقرار النسبي لنموذج الشبيكة. لرؤية هذا التأثير، انظر الخط الأفقي المرسوم في منتصف الجزء العلوي من الشكل
6-7 ؛ تمثل النقطتان اللتان يتقاطع عندهما منحنيا العدوى مع الخط قيم القدرة على العدوى بالمرض، التي يصاب عندها هذا الجزء من مجموعة الأفراد بالعدوى (في هذا الشكل يمثل الجزء النصف، لكن يمكن أن نختار قيمة أخرى). سم هذه القيمة «حد نقل العدوى» (تذكر أنه لم يعد بإمكاننا استخدام معدل التزايد لتحديد الحد الخاص بالوباء، لذلك نحن نستخدم جزءا ثابتا من مجموعة الأفراد بدلا من ذلك)، ثم تساءل كيف تختلف هذه القيمة باختلاف جزء الطرق المختصرة العشوائية في الشبكة. كما سنرى في الشكل
6-9 ، يبدأ حد نقل العدوى عاليا - يجب أن يكون المرض ذا قدرة عالية على نقل العدوى لكي يصيب عددا كبيرا من الأفراد - لكنه ينخفض سريعا بعد ذلك، والأهم من ذلك أنه يقترب من أسوأ سيناريو له متمثلا في شبكة عشوائية تماما في حين تظل الشبكة نفسها بعيدة تماما عن العشوائية.
قد تساعد هذه الملاحظة في تفسير لماذا تتمكن الأوبئة، كالحمى القلاعية في بريطانيا، من التفجر سريعا للغاية؛ نظرا لأن مرض الحمى القلاعية ينتشر بين الحيوانات، إما عن طريق الاتصال المباشر أو بصورة غير مباشرة من خلال القطرات المتطايرة بفعل الرياح، الآتية من الحيوانات التي تظهر عليها الأعراض وفي التربة المشبعة بالفيروس، ربما يتوقع المرء أن ينتشر الظهور الأول للوباء في مساحة جغرافية ثنائية الأبعاد بالريف الإنجليزي فحسب، كما فعل الطاعون منذ سبعمائة عام مضت، لكن كلا من وسائل النقل الحديثة، وأسواق الماشية الحديثة (التي تشهد تبادلا للحيوانات التي تنتمي لمناطق جغرافية مختلفة)، والمسافرين تنزها على الأقدام حاملين في أحذيتهم التربة الملوثة بالفيروس، أدت جميعها إلى كسر القيود الجغرافية؛ نتيجة لذلك، تتصل مزارع الماشية والأغنام البريطانية بواسطة شبكة من نظم المواصلات يمكن أن تنقل الحيوانات (والأفراد) المصابة بالعدوى إلى أي مكان في الدولة بين عشية وضحاها، ونظرا لأن هذه الروابط، بكل المقاييس العملية، عشوائية، لم يكن على الفيروس سوى أن يعثر على عدد قليل من هذه الروابط لكي ينطلق إلى منطقة جديدة. تتمثل إحدى المشكلات المبكرة الهامة - على سبيل المثال - فيما يتعلق بالقضاء على الوباء، في أن المزارع الثلاث والأربعين التي اكتشف فيها مرض الحمى القلاعية لأول مرة لم تكن متجاورة، ومن ثم وجب مقاومة الفيروس على جبهات كثيرة في آن واحد ، مع تزايد الجبهات كل يوم.
شكل 6-9: يتراجع حد نقل العدوى اللازم لحدوث وباء تراجعا كبيرا مع الكميات الصغيرة من العشوائية في الشبكة.
إن سهولة تكرار نتائج نموذج المزج العشوائي، وإن كان ذلك في الشبكات شديدة التكتل، ليست في مصلحة العالم؛ فإذا كانت الأمراض تنتشر بالفعل في شبكات العالم الصغير، يبدو أننا سنواجه دائما أسوأ سيناريو ممكن، والأكثر إزعاجا هو أنه نظرا لأن أغلب الناس لا يعرفون ما هو أكثر من المعلومات المحلية عن شبكاتهم، فقد يكون من الصعوبة بمكان لهيئات الصحة العامة أن تجعل الأفراد يدركون الطبيعة الفورية لتهديد ما قد يبدو بعيدا، ومن ثم تغيير سلوكهم. يعد الإيدز مثالا جيدا على هذه المشكلة؛ فلأكثر من عقد من الزمان بعد التعرف على وباء الإيدز للمرة الأولى، نظر إلى نقص المناعة البشرية بوجه عام على أنه قاصر على عدد قليل فحسب من الجماعات المحددة تحديدا دقيقا؛ المثليين والعاهرات ومتعاطي المخدرات عن طريق الحقن في الوريد؛ لذا إذا لم يعاشر الشخص (س) أحدا ينتمي إلى هذه الفئات الثلاث جنسيا، ولم يفعل أي ممن عاشرهم جنسيا ذلك أيضا، فمعنى ذلك أن الشخص (س) آمن، أليس كذلك؟ خطأ! لقد اتضح لنا من رؤية الفيروس وهو يصيب دولا بأكملها تقريبا في جنوب أفريقيا أنه في العالم الصغير للشبكات الجنسية، حتى الخطر الذي قد يبدو بعيدا يجب أن يؤخذ على محمل الجد. والأمر المزعج حقا هو فكرة أن فيروس نقص المناعة البشرية تمكن من اختراق حدوده الأولية بسبب اعتقادنا بعدم قدرته على ذلك.
من ثم فإن أفضل موضع لتطبيق عبارة «فكر عالميا، وتصرف محليا» هو الوقاية من الأوبئة. تذكر أن الأمراض المعدية، على عكس مشكلات البحث الموضحة في الفصل السابق، تنتشر من خلال ما أطلقنا عليه الأبحاث واسعة الانتشار. لذا إذا كان هناك مسار قصير في شبكة معارف ما بين ناقل العدوى والشخص المعرض للإصابة، فلا يهم إذا كان أي منهما يعلم بوجود هذا المسار، أو حتى قدرتهما على العثور عليه إذا أرادا ذلك، فإذا لم يوقف المرض بصورة ما، فسيعثر على المسار؛ لأنه يستكشف الشبكة عبر كل مسار ممكن، وعلى عكس مستخدمي موقع نيوتيلا أو فصل السيدة فورست بالصف السادس في الفصل السابق، من الرائع هنا الإفراط في تحميل الشبكة الكاملة بنسخ من نفسها؛ فهذا ما تفعله الأمراض المعدية. وما يبعث على القلق الشديد هو أن إدراكنا للخطر الناتج عن مرض معد، سواء أكان نقص المناعة البشرية أو إيبولا أو حتى فيروس غرب النيل، لا يتناسب مع الطريقة الحقيقية التي ينتقل بها المرض.
ومع ذلك، فالصورة ليست على هذا القدر من القتامة؛ فكما أوضحنا من قبل، ليس من المعتاد أن تتحول الأمراض إلى أوبئة، وهنا تخبرنا شبكات العالم الصغير بشيء مشجع؛ ففي شبكات العالم الصغير، يكون العنصر الرئيسي للنمو المتفجر لمرض ما هو الطرق المختصرة. لا تنتشر الأمراض بفعالية كبيرة في الشبيكات، ومع أن شبكات العالم الصغير تعكس بعض السمات الهامة للرسوم البيانية العشوائية، فتظل هناك سمة مشتركة بينها وبين الشبيكات، وهي أنه على المستوى المحلي يتسم أغلب المعارف بالتكتل الشديد؛ لذا، محليا، يتشابه نمو أحد الأمراض كثيرا مع نموه بالشبيكة؛ يتفاعل الأفراد المصابون بالعدوى في أغلب الأحيان مع غيرهم من الأفراد المصابين بالعدوى بالفعل، مما يمنع المرض من الانتشار سريعا بين الأفراد المعرضين للإصابة، ولا يبدأ المرض في عرض أسوأ مظاهر سلوك المزج العشوائي إلا عندما يصل إلى أحد الطرق المختصرة؛ سواء أكان ذلك عن طريق صعود أحد المصابين بفيروس إيبولا على متن طائرة ما، أو شاحنة محملة بالماشية المصابة بالحمى القلاعية تسير على أحد الطرق السريعة؛ لذا، على عكس الأوبئة على الرسم البياني العشوائي، يكون على الأوبئة في شبكات العالم الصغير أن تنجو أولا من مرحلة النمو البطيء التي تكون فيها في أشد درجات ضعفها، وكلما انخفضت كثافة الطرق المختصرة، طالت مدة هذه المرحلة من النمو البطيء.
بناء على ذلك، لن تعمد الاستراتيجية القائمة على الشبكات والهادفة للوقاية من الأوبئة إلى خفض معدلات العدوى بوجه عام فحسب، بل ستركز بوجه خاص أيضا على المصادر المحتملة للطرق المختصرة. المثير للاهتمام حقا أن برنامج تبادل الحقن، الذي اتسم بالفعالية في الحد من انتشار فيروس نقص المناعة البشرية بين متعاطي المخدرات بالحقن في الوريد، يعكس هاتين السمتين. إن الحيلولة دون انتشار الإبر الملوثة يقضي على إحدى الآليات التي يمكن من خلالها انتشار فيروس نقص المناعة البشرية، ومن ثم الحد من المعدل الكلي للعدوى، لكنه ينجح أيضا بفضل صور العدوى المحددة التي يقي منها. تتم مشاركة الإبر الملوثة ليس فقط بين الأصدقاء، بل أيضا بين الأغراب تماما الذين قد يلتقطون إبرة ما مهملة ويعيدون استخدامها. بعبارة أخرى، تعد الإبر المعاد استخدامها مصدرا للاتصالات العشوائية في شبكة الأمراض، ومثلما أدى الحظر المفروض على حركة الحيوانات وإغلاق ممرات المشاة بالقرى بجميع أرجاء إنجلترا في عام 2001 إلى الحد من إمكانات الطرق المختصرة طويلة المدى، أغلق إبعاد الإبر من النظام أحد طرق الهروب من مرحلة النمو البطيء الخاصة بالوباء، مما أتاح للجهات الصحية فرصة أفضل لملاحقة المرض.
إن التفكير في بنية الشبكات قد يفسر أيضا بعض الجوانب الدقيقة الأخرى لانتشار مرض، ما كانت لتظهر في غياب أسلوب تفكير قائم على الشبكات. أشار مؤخرا الفيزيائي الإسباني، روموالدو باستور-ساتوراس، والفيزيائي الإيطالي، أليساندرو فيسبيناني، إلى سمة من سمات فيروسات «الكمبيوتر» في العالم الواقعي واجهت النماذج
SIR
التقليدية صعوبة في تفسيرها. بعد دراسة بيانات الانتشار المتوافرة بإحدى نشرات الفيروسات الشهيرة على الإنترنت، توصل هذان العالمان إلى نتيجة معينة، وهي أن أغلب الفيروسات تعكس مزيجا مميزا من الاستمرارية طويلة المدى ومنخفضة المستوى «في البرية»، وهذا المزيج مميز؛ لأنه وفقا للنموذج
SIR
القياسي، يجب أن يؤدي كل فيروس إما إلى إحداث وباء ما (تصاب به في هذه الحالة مجموعة ليست بالصغيرة من الأفراد)، أو القضاء على نفسه سريعا. بعبارة أخرى، إما أن ينفجر أو لا. لكن إذا لم يكن معدل تزايده يساوي واحدا بالضبط - النقطة الحرجة في التحول الطوري الموضح بالشكل
6-5 - فلا بد أن يفعل أيا من الأمرين. على النقيض من ذلك، انتهج الكثير من الفيروسات البالغ عددها 814 وسجلت خطوطها الزمنية بنشرة الفيروسات هذا النهج بالضبط، وقد ظل بعضها ينتشر على مدار أعوام، مع توافر برامج مكافحة الفيروسات عادة في غضون أيام أو أسابيع بعد اكتشافها المبدئي.
اقترح باستور-ساتوراس وأليساندرو فيسبيناني تفسيرا تضمن بوضوح سمات لشبكة البريد الإلكتروني، ثم توصلا من خلاله إلى افتراض لكيفية انتشار الفيروسات؛ فمن خلال الاعتماد على نموذج الشبكات عديمة المعيار لباراباسي وألبرت كتمثيل لبنية شبكات البريد الإلكتروني - وهو الافتراض الذي دعمه (وإن لم يكن على نحو حاسم) بعد عام تقرير لفريق ألماني من الفيزيائيين - أوضح عالما الفيزياء أنه عند انتشار الفيروسات في الشبكات عديمة المعيار، لا تعكس الفيروسات السلوك الحدي ذاته الذي تعكسه في النموذج القياسي، بدلا من ذلك - كما هو واضح في الشكل
6-10 - يزيد حجم مجموعة الأفراد المصابين بالعدوى باستمرار من الصفر مع زيادة قدرة المرض على العدوى. وفي شبكات البريد الإلكتروني عديمة المعيار، لا يكون لدى معظم نقاط التلاقي سوى بعض الروابط فحسب؛ بمعنى أن معظم الناس يرسلون رسائل بريد إلكتروني لعدد قليل من الآخرين بصورة منتظمة، لكن عددا صغيرا فحسب من مستخدمي البريد الإلكتروني لديهم قوائم عناوين بريد إلكتروني ضخمة تحوي ألف اسم أو أكثر، ولديهم من الاجتهاد الواضح ما يجعلهم على اتصال بكل هؤلاء! إنها هذه الأقلية التي افترض باستور-ساتوراس وفيسبيناني أنها مسئولة بصورة أو أخرى عن استمرارية الفيروسات على المدى الطويل؛ إذ لا نحتاج سوى إصابة أحدهم فحسب بالفيروس بين الحين والآخر كي تستمر هذه العدوى في الانتشار بمستويات قابلة للقياس بين مجموعة الأفراد ككل.
شكل 6-10: مقارنة لمنحنيات العدوى في الشبكات العشوائية العادية والشبكات عديمة المعيار. لا تظهر الشبكات عديمة المعيار أي نقطة حرجة يبدأ عندها الوباء في الظهور على نحو مفاجئ.
بناء عليه، من الواضح أنه حتى أكثر خصائص شبكات العالم الحقيقي بساطة، مثل التكتل المحلي وتوزيعات الدرجات عديمة المعيار، يمكن أن يكون لها تبعات هامة تتعلق بانتشار المرض، والأهم بالظروف الحاكمة للأوبئة؛ لذلك، تعد دراسة نماذج الأمراض مجالا فرعيا مهما في علم الشبكات الجديد ؛ ففي عالم مصاب فيه عدة ملايين من البشر بفيروس نقص المناعة، وحيث يتنوع الانتشار، حتى داخل أفريقيا، ما بين أقل من 2 بالمائة وأكثر من ثلث سكان الدولة، يكون فهم انتشار الأمراض المعدية في الشبكات أمرا بالغ الأهمية. لا يزال هناك الكثير لفعله، لكن هناك بعض التوجيهات الواعدة بالفعل في المؤلفات التي تتناول موضوع الشبكات، وفي حين يظل النموذج
SIR
مركزيا في هذا الصدد، بدأ علماء الفيزياء، كعادتهم، في تناول المشكلة بأسلوبهم الخاص، وقد قدموا لدراسة الأوبئة مجموعة من التقنيات التي تندرج تحت المسمى العام «نظرية التخلل». (5) نماذج التخلل للأمراض
تاريخيا، تعود نظرية التخلل إلى الحرب العالمية الثانية، عندما استخدمها بول فلوري ومعاونه والتر ستوكماير لوصف عملية «تهلم» البوليمرات. من سبق له سلق البيض سيكون على معرفة ببعض مظاهر تهلم البوليمر؛ فعند تسخين البيضة، تتصل البوليمرات الموجودة فيها وتتحد بعضها مع بعض، كل زوج على حدة، وبعد ذلك، في إحدى النقاط الحرجة، يتعرض الزلال لتحول مفاجئ قد يبدو تلقائيا يعرف باسم «التهلم»، وهو التحول الذي يتحد فيه عدد ضخم من البوليمرات المتفرعة فجأة معا في تكتل واحد متماسك يشمل البيضة بأكملها. بالنظر للبيضة كإفطار، قبل التهلم كانت البيضة سائلة، وبعد التهلم صارت مادة صلبة. تمثل النجاح الأول لنظرية التخلل في تفسير فلوري وستوكماير لكيفية حدوث هذا التحول بشكل آني تقريبا، وليس ببطء وعلى نحو متراكم كما قد يتوقع البعض. مع أن نظرية التخلل قد وضعت في الأساس للإجابة عن تساؤلات في مجال الكيمياء العضوية، فقد اتضح بعد ذلك أنها وسيلة نافعة للتفكير في كل صور المشكلات، بدءا من أحجام حرائق الغابات، مرورا بإنتاجية حقول البترول الموجودة تحت الأرض، وصولا إلى قابلية المواد المركبة لتوصيل الكهرباء، وحديثا استخدمت أيضا هذه النظرية للتفكير في انتشار الأمراض.
في نهاية عام 1998، وبعد وصولي إلى معهد سانتا في بفترة ليست طويلة، بدأت في التحدث مع مارك بشأن العمل المتعلق بانتشار الأمراض الذي أجريته مع ستيف في العام السابق، تمكنت أنا وستيف، بالاعتماد على نموذج
SIR
بسيط، من الوصول إلى بعض النتائج بشأن اعتماد حد الوباء على كثافة الطرق المختصرة، لكننا لم نتمكن من فهم كيف تعمل الآلية بالضبط، أو كيف يختلف تأثير الطرق المختصرة العشوائية باختلاف كثافة الشبكة، ومنذ ذلك الحين علمت نفسي بعض أساسيات نظرية التخلل، التي بدت وسيلة طبيعية لطرح الكثير من الأسئلة ذاتها، وكان من الواضح أن مارك هو الشخص الذي يمكن طرح الأسئلة عليه؛ لكونه خبيرا في الفيزياء الإحصائية. وما عرفته سريعا عن طبيعة مارك أنه ما إن تثر مسألة ما اهتمامه حتى يتوصل إلى نتائج بعد فترة قصيرة للغاية.
تخيل مجموعة ضخمة من الأفراد (أو «المواقع» بمفردات نظرية التخلل) تصل بينهم شبكة من الروابط (الصلات) يمكن أن ينتقل من خلالها مرض ما، وإما أن يكون كل موقع في الشبكة قابلا للإصابة أو لا، مع شيء من الاحتمالية تعرف باسم «احتمالية الإشغال»، وإما أن تكون كل صلة «مفتوحة» أو «مغلقة» باحتمالية مساوية لقدرة المرض على العدوى. تكون النتيجة مشابهة للرسوم الموضحة في الشكل
6-11 (وإن كانت لشبكات أكبر بكثير)، حيث يمكن النظر للمرض كما لو كان سائلا خياليا ينبع من مصدر ما. وبالبدء من هذا المصدر، سوف «يتدفق» المرض عبر أي روابط مفتوحة تظهر في طريقه، لينتشر من موقع قابل للإصابة إلى آخر، حتى لا يصبح هناك أي روابط أخرى مفتوحة يمكن الوصول من خلالها إلى مواقع جديدة سريعة التأثر. تعرف مجموعة المواقع التي يمكن الوصول إليها على هذا النحو من نقطة بدء مختارة عشوائيا باسم «التكتل»، حيث يشير بالضرورة دخول مرض ما في تكتل ما إلى أن جميع المواقع في هذا التكتل ستصاب أيضا بالعدوى.
في الرسم الأيسر بالشكل
6-11 ، تكون احتمالية الإشغال عالية والكثير من الروابط مفتوحة، مما يشير ضمنا إلى مرض ذي قدرة عالية على العدوى يصاب به سريعا أغلب مجموعة الأفراد، وفي هذه الحالة يشمل التكتل الأكبر الشبكة بأكملها تقريبا، ومن ثم يشير إلى توقع تفشي المرض بموقع عشوائي في الشبكة على نطاق واسع. على العكس من ذلك ، في الرسمين الآخرين، تكون إما القابلية للعدوى (الرسم الأوسط) أو احتمالية الإشغال (الرسم الأيمن) منخفضة، مما يشير إلى أن ظهور الأمراض سيكون على نطاق ضيق ومحدد مكانيا، مهما يكن مكان ظهوره. وما بين هذين الحدين تقع سلسلة متصلة معقدة من الاحتمالات يمكن أن توجد بها تكتلات من جميع الأحجام في آن واحد، ويتحدد مدى انتشار المرض من خلال حجم التكتل المحدد الذي نشأ فيه. تتمثل الأهداف الرئيسية لنظرية التخلل في وصف هذا التوزيع لأحجام التكتلات وتحديد كيف يعتمد على العناصر المختلفة في المشكلة.
شكل 6-11: التخلل بإحدى الشبكات. تعبر الدوائر (الروابط) المصمتة عن المواضع (الصلات) المشغولة (المفتوحة)، وتشير الظلال إلى التكتلات المتصلة.
بلغة الفيزيائيين، تعتمد احتمالية ظهور وباء ما على وجود ما يعرف باسم «التكتل المتخلل»، وهو تكتل واحد من المواضع القابلة للإصابة (تتصل ببعضها عن طريق روابط مفتوحة) التي تتغلغل في مجموعة الأفراد الكاملة، وفي حال عدم وجود تكتل متخلل، سيظل من الممكن ظهور الأمراض، لكن سيكون ذلك على نطاق ضيق ومحدد مكانيا. مع ذلك، فإن المرض الذي يبدأ في مكان ما بتكتل متخلل، سينتشر في جميع أرجاء الشبكة - حتى لو كانت شبكة ضخمة - بدلا من أن يتلاشى تدريجيا، والنقطة التي يظهر عندها التكتل المتخلل، ويشار إليها عادة بالتخلل، تبدو مماثلة تماما لمفهوم تهلم البوليمرات الذي تناوله فلوري وستوكماير بالدراسة، وهي أيضا مساوية لحد الوباء في النماذج
SIR ؛ حيث يتجاوز معدل تزايد المرض الرقم «1» أولا (ومن ثم، بالتبعية، تتحول الاتصالية للرسم البياني العشوائي)، وكما يوضح الشكل
6-12 ، فإنه تحت الحد، يكون حجم التكتل الأكبر عند النظر إليه كجزء من مجموعة الأفراد الكاملة، كما مهملا، لكن عند الوصول إلى النقطة الحرجة، نلاحظ الظهور المفاجئ والمثير للتكتل المتخلل - من حيث لا ندري - الذي ينتشر من خلاله المرض دون رادع.
شكل 6-12: أكبر تكتل قابل للعدوى في إحدى الشبكات. يشغل التكتل الأكبر، فوق حد التخلل، جزءا محددا من الشبكة، مما يشير إلى أن ظهور المرض يمكن أن يصير وباء.
تساوي المسافة التي ينتشر المرض عبرها داخل الشبكة في المعتاد قبل أن يتلاشى، ما يطلق عليه الفيزيائيون «طول الارتباط»، وهو المصطلح الذي تناولناه في الفصل
الثاني
من هذا الكتاب في سياق الحديث عن التنسيق العام، في تلك المسألة، أشار انحراف طول الارتباط إلى أن النظام قد دخل حالة حرجة يمكن أن تنتشر فيها الاضطرابات، حتى المحلية منها، على نطاق عام. تنطبق النتيجة نفسها إلى حد بعيد في نماذج تخلل انتشار المرض. وعند تحول التخلل يصبح طول الارتباط لانهائيا، مما يشير إلى أنه حتى أكثر نقاط التلاقي بعدا يمكن أن يصيب بعضها بعضا بالعدوى، وما توصلت إليه أنا ومارك، في حالة شبكات العالم الصغير، هو كيف اعتمد طول الارتباط على جزء الطرق المختصرة العشوائية، وبما يتفق مع النتائج الأولية التي توصلت إليها أنا وستيف قبل ذلك الوقت بنحو عامين، أوضحت أنا ومارك أن جزءا صغيرا من الطرق المختصرة العشوائية يمكن أن يحدث تغييرا كبيرا في طول الارتباط، لكن الآن، من خلال الحل في ظل الشروط التي ينحرف في ظلها طول الارتباط، يمكننا تحديد موضع تحول التخلل - ومن ثم حد الوباء - بدقة. (6) الشبكات والفيروسات ومايكروسوفت
شكلت هذه النتيجة بداية واعدة، وأوضحت أنه في حالة بعض المشكلات على الأقل، يمكن فهم الأوبئة بشكل أفضل من خلال استخدام أسلوب التخلل بدلا من النموذج
SIR
القياسي. مع الأسف، يكون التخلل بالشبكات الواقعية مشكلة صعبة (ويتعذر حلها)، وقد يكون من الصعب إحراز أي تقدم إضافي. على سبيل المثال، للحفاظ على التحليل قابلا للإدارة، تفترض معظم نماذج التخلل إما أن كل المواقع بالشبكة قابلة للإصابة، وتركز على الروابط (يعرف ذلك بتخلل الروابط)، أو أن جميع الروابط مفتوحة، وتركز على المواقع (تخلل المواقع). تنجح الأساليب نفسها تقريبا مع نوعي التخلل كليهما، ويكون سلوكها مشابها من عدة نواح. على سبيل المثال، درست أنا ومارك تخلل المواقع، لكن بعد فترة قصيرة، مد كل من مارك وعالم فيزياء آخر بمعهد سانتا في يدعى كريس موور، النتائج إلى تخلل الروابط، لكن يختلف تخلل المواقع عن تخلل الروابط، في بعض الجوانب ، اختلافا كبيرا، وهو ما يؤدي في بعض الأحيان إلى تنبؤات مختلفة تماما حول احتمالية ظهور وباء ما.
لذا، قبل التسرع في التحليل، يجب التفكير بشأن أي النوعين - تخلل الروابط أم تخلل المواقع - يعكس أفضل صورة لطبيعة المرض محل الدراسة. في حالة فيروس مثل إيبولا، مثلا، يبدو مقبولا افتراض أن جميع الناس قابلون للإصابة، والتركيز على المدى الذي يمكن أن يصيبوا به بعضهم بعضا بالعدوى، ومن ثم تكون الصيغة المناسبة لمسألة التخلل المرتبطة بفيروس إيبولا هي تخلل الروابط، لكن فيروسات الكمبيوتر، مثل ميليسا، تمر عادة بين أي كمبيوتر قابل للإصابة وأي كمبيوتر آخر (تكون جميع الروابط مفتوحة فعليا)، لكن لا تكون جميع أجهزة الكمبيوتر قابلة للإصابة؛ لذا فإن نموذج التخلل الخاص بأحد فيروسات الكمبيوتر يجب على الأرجح أن يكون من نوع تخلل المواقع. إذا أخذنا فيروس ميليسا مثالا، نجد أن جزءا محددا فحسب من أجهزة الكمبيوتر في العالم يكون قابلا للإصابة بالفيروس؛ لأنه ينتشر فقط من خلال برنامج البريد الإلكتروني أوتلوك من مايكروسوفت، ولا يستخدم الجميع هذا البرنامج.
لسوء حظ مستخدمي برامج مايكروسوفت، يعمل برنامج أوتلوك على عدد كبير من أجهزة الكمبيوتر، الأمر الذي يؤدي بالتأكيد إلى تخلل أكبر التكتلات المتصلة لهذه الأجهزة. في الواقع، إذا لم يكن هذا التخلل موجودا، فما كنا لنرى انتشارا عاما لفيروسات مثل ميليسا، وتابعيه مثل فيروس «الخطاب الغرامي» وفيروس «آنا كورنيكوفا». يعود التوافق العام بين البرامج ببعض الفوائد الهامة على المستخدمين الأفراد، لكن من منظور ضعف الأنظمة، عندما يكون لدى الجميع البرنامج ذاته، يعاني الجميع أيضا نقاط الضعف نفسها، وكل برنامج له نقاط ضعفه، خاصة نظم التشغيل الكبيرة المعقدة، كنظم تشغيل مايكروسوفت. وبطريقة ما، الأمر الوحيد المدهش بشأن ظهور فيروسات مثل فيروس ميليسا هو أنها لا تحدث كثيرا، وإذا بدأت في الظهور أكثر - إذا صارت برامج مايكروسوفت شهيرة بقابلية إصابتها دائما - قد تبدأ الشركات الكبيرة، بل الأفراد أيضا الذين لا يمكنهم تحمل توقف أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم عن العمل، في البحث عن بدائل.
ما الذي يجب أن تفعله شركة مايكروسوفت؟ يتمثل المنهج الواضح في جعل منتجاتها مرنة قدر الإمكان في مواجهة هجوم أي فيروس يشبه ديدان الكمبيوتر، وجعل برنامج مكافحة الفيروسات متاحا في أسرع وقت ممكن في حال ظهور أي فيروس. تؤدي هذه الإجراءات إلى خفض احتمالية إشغال الشبكة، ومن ثم تقليص حجم التكتل المتخلل، بل ربما محوه أيضا، لكن إذا أرادت الشركات الكبرى، مثل مايكروسوفت، التي تعد أهدافا طبيعية لأي متسلل يرغب في الشهرة والمجد، حماية عملائها وحصتها في السوق، فقد يتحتم عليها التفكير بسرعة أكبر إلى حد ما، وقد يتمثل أحد الحلول في التحويل من خط منتجات واحد متكامل إلى العديد من المنتجات المختلفة التي تطور على نحو منفصل، وتصمم بحيث لا تكون متوافقة توافقا تاما.
من وجهة النظر البرمجية التقليدية، التي تؤكد على التوافق واقتصاديات الحجم الكبير، قد يبدو تفتيت خط الإنتاج عن عمد فكرة مجنونة، لكن على المدى الطويل (الذي قد لا يكون طويلا للغاية)، يؤدي تكاثر المنتجات غير المتماثلة إلى تقليل عدد أجهزة الكمبيوتر التي تتأثر سريعا بأي فيروس، الأمر الذي يجعل النظام ككل أقل تأثرا بشكل كبير لأكثر الفيروسات انتشارا، ولا يعني ذلك أن منتجات مايكروسوفت لن تظل معرضة لهجمات الفيروسات، لكنها على الأقل لن تكون أكثر تعرضا لها بكثير من منافسيها. من قبيل المفارقة هنا أن خط الإنتاج المجزأ هو في الغالب المصير الذي يبدو أن مايكروسوفت قد تجنبته مؤخرا في معركتها ضد الاحتكار مع وزارة العدل. يوما ما، قد ينظر إلى شركة مايكروسوفت على أنها أسوأ أعداء نفسها.
إن إمكانية ترجمة هذه الاختلافات الدقيقة في كيفية انتشار الأمراض إلى صور متمايزة من إطار التخلل العام - وهو ما قد يكون له نتائج مختلفة تمام الاختلاف - تشير إلى وجوب توخي قدر معين من الحرص عند تطبيق أساليب الفيزياء على مشكلة الأوبئة. في الواقع، سنرى في الفصل التالي أنه يجب إجراء بعض عمليات التمييز الأخرى إذا كنا نرغب في فهم الاختلاف بين مشكلات العدوى البيولوجية والاجتماعية، كانتشار أحد الابتكارات التكنولوجية ، وهي العمليات التي لها تأثير مهم على ظواهر العالم الحقيقي التي نرغب في فهمها، لكن نماذج التخلل تطبق على نحو طبيعي تماما على الشبكات، مما يجعلها تستمر في لعب دور مهم في دراسة الأوبئة التي تنتشر عبر الشبكات، وسريعا ما أدركت أنا ومارك أن التخلل مثير للاهتمام لأسباب أخرى أيضا، لكن، مرة أخرى، كان لازلو باراباسي وريكا ألبرت متقدمين عنا قليلا. (7) الأعطال والقوة
إن الاتصال العام، شأنه شأن أغلب سمات النظم المعقدة، ليس من الواضح وضوحا مطلقا هل هو سمة جيدة أم سيئة. في سياق الأمراض المعدية وفيروسات الكمبيوتر، يشير وجود تكتل متخلل في الشبكة إلى وباء محتمل، لكن في سياق شبكات الاتصالات، كالإنترنت، حيث قد نرغب في ضمان وصول حزم البيانات إلى وجهتها في فترة زمنية معقولة، فإن التكتل المتخلل سيبدو ضرورة حتمية؛ لذا، من منظور حماية البنية التحتية، بدءا من الإنترنت ووصولا إلى شبكات الخطوط الجوية، تكون «قوة» اتصال الشبكة، في مقابل الأعطال العرضية أو الهجمات المتعمدة، هي التي نرغب في الإبقاء عليها، ومن وجهة النظر هذه أيضا، يمكن أن تكون نماذج التخلل مفيدة للغاية أيضا.
بعد أن أوضح ألبرت وباراباسي أن عددا من الشبكات الحقيقية، كالإنترنت والشبكة العنكبوتية العالمية، يمثل ما يسمى بالشبكات «عديمة المعيار»، بدآ يتساءلان هل الشبكات عديمة المعيار تحمل أي سمات تنافسية مقارنة بالتنويعات التقليدية. ويجدر التذكر هنا أنه في الشبكات عديمة المعيار، يتحكم قانون قوة، لا توزيع بواسون ذو القمة المدببة الذي نجده في الرسوم البيانية العشوائية الموحدة، في توزيع الدرجات؛ وهو الاختلاف الذي يترجم، عمليا، إلى مجموعة صغيرة من نقاط التلاقي «الغنية» التي لها عدد ضخم من الروابط، والكثير من نقاط التلاقي «الفقيرة» الأخرى التي ليس لها أي روابط تقريبا على الإطلاق. أصبح الآن ألبرت وباراباسي مهتمين بالسؤال الآتي: إلى أي مدى ستحافظ شبكتان، إحداهما شبكة عشوائية متسقة والأخرى عديمة المعيار، على جودة الاتصال داخلهما حين تبدأ نقاط التلاقي الفردية داخلهما في التعطل.
إن التفكير في قوة الشبكة كأمر مؤثر على الاتصال جعل المشكلة مشكلة معنية بتخلل المواقع، لكن في هذا التطبيق، لعبت احتمالية الإشغال دورا مناقضا لدورها في نشر الأمراض؛ ففي حين اهتممت أنا ومارك بالأساس بتأثير المواقع المشغولة (القابلة للإصابة)، انصب اهتمام ألبرت وباراباسي على المواقع غير المشغولة؛ بلغة الشبكات، نقاط التلاقي التي تعطلت. من منظور القوة، كلما قل تأثير كل موقع غير مشغول على اتصال الشبكة، كان ذلك أفضل. كانت نظرة ألبرت وباراباسي للاتصال مختلفة عن نظرتي أنا ومارك؛ ففي حين لم نهتم إلا بما إذا كان هناك تكتل متخلل أم لا، أراد ألبرت وباراباسي معرفة عدد الخطوات بالضبط التي ستلزم لتعبر رسالة ما من أحد جانبي التكتل إلى الجانب الآخر. لا يمثل أي من هذين التعريفين السبيل الوحيد الصحيح للتفكير في القوة، لكن تعريفهما كان مناسبا بوضوح لنظم كالإنترنت؛ حيث تؤدي الزيادة في العدد النموذجي للقفزات التي تقفزها رسالة ما إلى زيادة كل من الوقت المتوقع لإيصالها واحتمال عدم وصولها.
كان أول ما أوضحه ألبرت وباراباسي أن الشبكات عديمة المعيار أكثر مقاومة لحالات الفشل «العشوائية» مقارنة بالشبكات العشوائية العادية، والسبب ببساطة هو أن خصائص الشبكات عديمة المعيار يسيطر عليها جزء صغير من نقاط التلاقي «المركزية» قوية الاتصال، ونظرا لندرة هذه المراكز، فإنها أقل عرضة لأن تفشل بالصدفة العشوائية مقارنة بنظرائها الأقل اتصالا والأكثر عددا منها بكثير، ومثل غياب مطار محلي صغير من شبكة الخطوط الجوية الأمريكية، يكون فقدان نقطة تلاق «فقيرة» غير ملحوظ إلى حد بعيد خارج المنطقة المجاورة لها مباشرة، وعلى النقيض من ذلك، في الشبكات العشوائية العادية، لا تكون نقاط التلاقي الأكثر اتصالا بمثل هذه الأهمية الشديدة، ولا تكون النقاط الأقل قوة في اتصالها غير مهمة تماما، ونتيجة لذلك، فإن كل نقطة تلاق مفقودة سيكون لها اعتبارها، وقد لا يكون ذلك بالحدث الجلل، لكنه أكثر أهمية مما لو حدث في الشبكات عديمة المعيار. وفي ضوء الأدلة الحديثة التي تؤكد أن الإنترنت هي في الواقع شبكة عديمة المعيار، تابع ألبرت وباراباسي عملهما لطرح نموذجهما كتفسير لكيفية عمل الإنترنت على هذا النحو الموثوق، على الرغم من تعطل المحولات الفردية طوال الوقت.
لكن هناك جانبا آخر للقوة أشار إليه ألبرت وباراباسي أيضا؛ فمع أنه في بعض الشبكات، كالإنترنت، تحدث أعطال المحولات بالفعل عشوائيا، فإن الأعطال يمكن أن تكون أيضا نتيجة للهجمات المتعمدة التي قد لا تكون عشوائية على الإطلاق. وفي الإنترنت أيضا، تستهدف هجمات قطع الخدمة، مثلا، نقط التلاقي قوية الاتصال، وفي أمثلة أخرى، بدءا من شبكات الخطوط الجوية ووصولا لشبكات الاتصالات، من الواضح أن المراكز تكون هي الأهداف الرئيسية لأي مخرب محتمل. وما أوضحه ألبرت وباراباسي هو أنه نظرا لأن نقاط التلاقي الأقوى اتصالا في الشبكة تكون الأولى في التعطل، فإن الشبكات عديمة المعيار تكون «أضعف» بالفعل من الشبكات المتسقة، ومن قبيل المفارقة أن سرعة تأثر الشبكات عديمة المعيار بالهجمات يرجع إلى السمة ذاتها التي تعزى إليها قوتها الظاهرية؛ في الشبكات عديمة المعيار، تكون نقاط التلاقي الأقوى اتصالا أهم بكثير لعمل الشبكة بأكملها مقارنة بنظيراتها في الشبكات المتسقة، ومن ثم فإن الرسالة العامة هنا مبهمة: تعتمد قوة الشبكة اعتمادا كبيرا على الطبيعة المحددة للأعطال، فيكون للأعطال العشوائية والمستهدفة نتائج متناقضة تماما.
مع أنه من المهم وضع كلا نوعي الأعطال في الاعتبار، فيبدو عطل المراكز الأكثر تأثيرا ذا أهمية خاصة؛ لأنه لا يجب أن يحدث بالضرورة على نحو متعمد أو لغرض الإيذاء؛ ففي كثير من شبكات البنية التحتية التي تعتمد على نحو غير متناسب على جزء صغير من نقاط التلاقي قوية الاتصال، قد تكون معدلات فشل هذه النقاط، التي تتجاوز المتوسط، نتيجة حتمية بالفعل لاتصالها. على سبيل المثال، في شبكة الخطوط الجوية، يؤدي القدر الهائل لحركة الطيران التي تمر بالمراكز الرئيسية إلى زيادة احتمالية تعرضها للأعطال، وهي الظاهرة التي اعتاد عليها المسافرون جوا في نيويورك بشكل مؤلم؛ ففي مطار لاجارديا في كوينز، تكون مواعيد الرحلات القادمة والمغادرة متقاربة للغاية بعضها من بعض، مما يعني أن سلسلة بسيطة من التأخيرات، التي من الممكن في أي مطار صغير استيعابها في الفترات الزمنية العادية الفاصلة بين رحلات الطيران، يمكن أن تتراكم لتبقي الطائرات على الأرض لساعات، حتى في الأيام التي قد تبدو مثالية. في الواقع، كان مطار لاجارديا في عام 2000 مصدر 127 رحلة من إجمالي 129 رحلة طيران متأخرة في البلاد! لا تمثل التأخيرات بالمراكز الرئيسية كمطار لاجارديا مشكلة للمسافرين المحليين فحسب، بل إن كل رحلة متأخرة بمركز رئيسي تؤدي إلى تأخيرات متتالية أيضا بالمطار المتوجهة إليه، ومن ثم كلما زاد عدد رحلات الطيران بالمركز الرئيسي، زاد احتمال تعرضه لحالات تأخير، وزادت فرصة انعكاس تأثير هذه التأخيرات على النظام ككل.
ومن ثم يؤدي اعتماد شبكات الخطوط الجوية الحديثة على شبكة فرعية من المراكز الرئيسية اعتمادا كبيرا إلى جعلها سريعة التأثر بالتأخيرات واسعة الانتشار التي تحدث بين الحين والآخر، لكن هذا يطرح أيضا حلا؛ فبدلا من التركيز على نظام تتحمل فيه المراكز الرئيسية عبء توصيل الناس من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، يمكن أن تحول الخطوط الجوية بعض الروابط من المراكز الرئيسية الكبرى الأكثر تعرضا للأعطال إلى المطارات الإقليمية الأصغر التي تحدث التأخيرات فيها بشكل رئيسي نتيجة لمشكلات يكون مصدرها المراكز الرئيسية. في ظل هذا التنظيم، تكون المطارات في ألباكيركي وسيراكيوز - على سبيل المثال - متصلة مباشرة، بدلا من الحاجة لتوجيه الرحلات عبر شيكاغو أو سانت لويس. والمطارات الصغيرة للغاية، كالموجودة في إيثاكا أو سانتا في، تظل أفرع لهذه المراكز الرئيسية، ومن خلال خفض درجة فعالية المراكز الرئيسية، تحتفظ الشبكة ككل بقدر كبير من الفعالية التي تستمدها من حجمها الكبير، لكنها تقلل من احتمالية فشل النقاط الفردية، وفي حال فشل أحد المراكز الرئيسية بالفعل، سيتأثر عدد أقل من رحلات الطيران، مما يؤدي إلى الحد من معاناة النظام ككل.
مع ما يبدو عليه الأمر من وضوح، بالنظر إليه من منظورنا اليوم، فالنتيجة التي توصل إليها ألبرت وباراباسي كانت أنيقة تماما، وعند ظهور بحثهما عن «هجمات الشبكات وفشلها» على غلاف مجلة «نيتشر»، أحدث عاصفة صغيرة من الاهتمام الإعلامي، وعاتبنا أنفسنا ثانية للتغافل عن مشكلة واضحة، ثم بمساعدة طالب آخر من طلاب ستيف - دانكن كالاواي - انطلقنا للحاق بألبرت وباراباسي. في الواقع، نجح دانكن في حل مشكلة أصعب بكثير من تلك التي تناولتها مجموعة باراباسي، وباستخدام الأساليب التي طورتها أنا وستيف ومارك لدراسة الاتصال بالشبكات العشوائية، تمكن دانكن من حساب تحولات التخلل المختلفة بالضبط، بدلا من استخدام أساليب المحاكاة بالكمبيوتر، وتمكن كذلك من حل مشكلة أعطال الروابط ونقاط التلاقي، وأوضح كيف يمكن تطبيق النموذج ليس فقط على الشبكات عديمة المعيار، بل أيضا على الشبكات العشوائية بأي درجة توزيع على الإطلاق. لقد كان مجهودا مذهلا بوجه عام، وتمكنا نحن الأربعة من التوصل إلى بحث رائع نتيجة له، لكنه في النهاية لم يحدث اختلافا كبيرا، وكانت النتائج التي توصلنا إليها، إلى حد ما، مشابهة لنتائج ألبرت وباراباسي، ولزم علينا الاعتراف بأن الأسبقية كانت لهما في التفكير فيها.
لحسن حظنا، فإن تطبيق أساليب التخلل على مشكلات العالم الواقعي عمل دقيق إلى حد ما، ومن ثم ظل هناك الكثير من المشكلات المثيرة. لا تعد الشبكات الواقعية أكثر تعقيدا فحسب من أي نموذج عشوائي - سواء أكان عديم المعيار أم لا - لكن عادة ما تمثل طبيعة العملية نفسها تمثيلا سيئا من خلال الافتراضات النموذجية لنظرية التخلل. على سبيل المثال، تفترض نماذج التخلل على نحو قياسي أن جميع نقاط التلاقي لديها الاحتمالية ذاتها لسرعة التأثر، لكن على أرض الواقع، يمثل التغاير سمة مهمة للجماعات البشرية والكثير من الجماعات غير البشرية، وفي أمور أيضا كانتشار الأمراض، يمكن أن يختلف الأفراد اختلافا كبيرا في سرعة تأثرهم الفطرية أو قدرتهم على إصابة الآخرين بالعدوى، وعند وضع العوامل السلوكية والبيئية في الاعتبار، يمكن أن تكون الاختلافات بين أفراد أي مجموعة معقدة؛ وذلك نتيجة وجود علاقات متبادلة قوية. على سبيل المثال، في حالة الأمراض المنقولة جنسيا، يكون الأفراد ذوو معدل الخطر المرتفع أكثر احتمالا للتفاعل بعضهم مع بعض، وهي السمة السلوكية التي قد يكون لها أصول اجتماعية، لكن من الواضح أن نتائجها وبائية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن الربط بين حالات الأفراد، ليس فقط وفقا لسماتهم الجوهرية ، بل أيضا ديناميكيا؛ ومثال جيد على ذلك العطل المتعاقب في شبكة نقل الطاقة الكهربائية الذي تناولناه في الفصل
الأول ، إذا كنت ستعزو احتمالات التعطل لنقاط التلاقي على نحو عشوائي، حتى لو وضعت في الاعتبار الاختلافات الفردية بين نقاط التلاقي هذه، فستغفل عن جزء رئيسي من المشكلة: دور المصادفة. كما أشرنا من قبل، لم يكن العطل الكبير الذي حدث يوم 10 أغسطس من عام 1996 نتيجة لأعطال مستقلة متعددة، بل سلسلة متعاقبة من الأعطال، جعل كل منها الأعطال التالية عليه أكثر احتمالا. وتكون السلاسل المتتالية للأعطال الطارئة التي يعتمد بعضها على بعض أكثر تعقيدا، فلا يمكن وضعها في نموذج، مقارنة بمشكلات التخلل التي تناولناها حتى الآن، لكنها تحدث دائما، وليس فقط في النظم الهندسية كشبكة الطاقة الكهربائية. في الواقع، إن أكثر مجموعة من مشكلات السلاسل انتشارا وإثارة تكمن في دوائر صنع القرارات الاقتصادية والاجتماعية، وهذه المشكلات المهمة والمذهلة وشديدة الغموض هي التي سنتحول إليها الآن.
الفصل السابع
القرارات والأوهام وجنون الجماهير
لم يمض وقت طويل على تركي الطقس الرائع لسانتا في إلى أمطار كامبريدج بولاية ماساتشوستس وصقيعها (وصلت هناك وسط إعصار فلويد بالضبط) حتى بدأت في التساؤل هل الدروس التي تعلمتها أنا ومارك من دراساتنا لانتشار الأمراض يمكن أن تطبق على مشكلة العدوى في الأسواق المالية أم لا. كنا في خريف عام 1999 وفقاعة الإنترنت تصل إلى ذروتها، كانت أموال رأس المال المخاطر تتدفق بحرية إلى أي شخص لديه خطة عمل مقبولة بعض الشيء، وفي مسكني المؤقت بكلية سلون للإدارة التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، لم يطق الطلاب صبرا للتخرج وتكوين ثرواتهم؛ ارتفعت حمى بدء المشروعات، حتى إن شركة «ميريل لينش»، التي تعد واحدة من أكبر الشركات التي توظف خريجي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، باتت تهدد بإلغاء عملية التوظيف السنوية التي تجريها؛ لأنه ما من أحد يحضر عروضها التقديمية!
في خضم كل هذه الإثارة، اقترح آندرو لو، وهو عالم اقتصاد مالي والشخص الذي كنت أسترشد بنصائحه آنذاك، أن أطلع على كتاب عنوانه «أوهام شعبية استثنائية وجنون الجماهير» بقلم تشارلز ماكاي، وكما يوضح عنوان هذا الكتاب الجذاب، فهو دراسة للعديد من صور الجنون، بدءا من محاكمات الساحرات وصولا إلى الحملات الصليبية، التي ينتهي فيها المآل عادة بأشخاص مثقفين إلى انتهاج سلوكيات يصعب فهمها فيما بعد. والجنون، كما يوضح ماكاي، ليس له صديق أفضل من المال. وبعد مرور عام واحد وانفجار فقاعة الإنترنت، صار واضحا أن كل هؤلاء الحاصلين على ماجستير إدارة الأعمال (العاطلين عن العمل حاليا)، ناهيك عن العديد من المحللين ببورصة وول ستريت، تملكتهم بالفعل «أوهام استثنائية».
لكن ربما يخامر المرء أيضا شعور بأن الهلاوس واسعة الانتشار عن القيمة الوهمية - ولا يقتصر ذلك فحسب على الولع بالتكنولوجيا الذي انتشر في أواخر تسعينيات القرن العشرين، بل ينسحب أيضا على أزمة قروض ومدخرات تكساس في ثمانينيات القرن نفسه، وانهيار سوق الأوراق المالية في أكتوبر 1987، وأزمة البيزو المكسيكي، واقتصاديات الفقاعات في اليابان، ثم في كوريا وتايلاند وإندونيسيا - هي سمة حديثة نسبيا للمناخ المالي الذي تتزايد غلظته وغدره بشكل دائم، وقد نظن بالطبع أنه قبل ظهور نظم التجارة الأوتوماتيكية والأسواق العاملة على مدار الساعة وتدفقات رأس المال الدولية دون انقطاع - بل قبل ظهور الهاتف والتلغراف والسكك الحديدية العابرة للقارات أيضا - كان الانتشار السريع لمعتقد عار من الصحة، ومسارعة رأس المال لدعمه، أمرا مستحيلا، على الأقل على نطاق واسع، لكن هذا ليس صحيحا، فقد نشر كتاب «أوهام شعبية استثنائية وجنون الجماهير» في عام 1841، وحينئذ كان موضوع ماكاي قديما بنحو قرنين من الزمان. (1) اقتصاديات التيوليب
لا تقل الأزمات المالية في قدمها - كما علمت من آندي بعد فترة قصيرة - عن عمر الإمبراطورية الرومانية، لكن المثال الأول عليها في العصر الحديث، وإحدى القصص المشوقة التي رواها ماكاي في كتابه، يعرف بفقاعة التيوليب الهولندية؛ ففي عام 1634، الذي بدأت فيه تلك الأزمة، كانت زهور التيوليب قد وصلت لتوها إلى أوروبا الغربية من موطنها الأصلي؛ تركيا، ومن الواضح أنها جلبت معها قدرا كبيرا من الطابع الاجتماعي لذلك الموطن؛ ارتفع سعر بصيلات التيوليب ارتفاعا هائلا بالفعل في سوق الأزهار بأمستردام نتيجة لزيادة الرغبة في تلك الأزهار؛ نظرا لطبيعتها الرقيقة والصعبة بوجه عام، لكن قبل أن يمر وقت طويل تدخل المضاربون و«سماسرة الأوراق المالية» المحترفون ليرفعوا أسعار بصيلات التيوليب على نحو مفتعل بنية إعادة بيعها في وقت لاحق مقابل أسعار أعلى. اشترك الجميع - بما في ذلك المواطنون العاديون - في ذلك الجنون، لحد وصل إلى هجر الأعمال الاقتصادية الروتينية تقريبا، وكان سبب ذلك افتتان الناس بوعد الغنى الفوري واطمئنانهم للتدفق الهائل لرأس المال من المستثمرين الأجانب. ويقول ماكاي إن البصيلة الواحدة من نوع «فايسوري» النادر كانت تستبدل في أوج تلك الأزمة ب «حوالي ألفي كيلوجرام من القمح، وأربعة آلاف كيلوجرام من الجاودار، وأربعة ثيران سمان، وثمانية خنازير سمينة، واثني عشر خروفا سمينا، وبرميلين من النبيذ، وأربعة أطنان من الجعة، وطنين من الزبد، وخمسمائة كيلوجرام من الجبن، وسرير كامل، وطقم من الملابس، وكأس شراب فضي». وإذا بدا ذلك منافيا للعقل، فقد كان أفضل أنواع التيوليب المعروف باسم سيمبر أوجستس يصل سعره إلى أكثر من ضعف ذلك. ليس ذلك شيئا أختلقه.
مع استثمار هذا القدر الكبير من الأموال الفعلية في سلعة بمثل هذه القيمة الموضوعية المنخفضة للغاية، كان من الطبيعي أن يبدأ الهولنديون في التصرف بشكل لا يمكن وصفه إلا بأنه غريب؛ فكانوا في بعض الحالات يبيعون سبل رزقهم بالكامل في مقابل أن يمتلكوا واحدا أو أكثر من جذور زهرة قيمة، وصار من اليسير شراء الأصول العينية التي لم يعد لها قيمة نسبيا، ومن ثم صار كل من البيع والشراء والاقتراض والإنفاق غزيرا. ويقول ماكاي إن هولندا أصبحت لفترة قصيرة مركزا لتكوين الثروات. وبالطبع، لم يكن ممكنا أن تظل كذلك للأبد؛ ففي نهاية الأمر، زهرة التيوليب هي زهرة تيوليب، وأكثر الهولنديين خبلا لا يمكن أن يدعي غير ذلك للأبد، فحدث الانهيار الحتمي في عام 1636؛ انخفضت أسعار التيوليب إلى أقل من 10 بالمائة مما وصلت إليه من قيم مرتفعة قبل ذلك بشهور فقط، مما أدى إلى مزيد من الجنون بين الحشود التي غلب عليها الغضب آنذاك وصارت تبحث دون جدوى عن أكباش فداء، وسعوا للتخلص من دينهم المتزايد على نحو سريع.
بعد عدة عقود - لكن قبل أكثر من قرن من نشر كتاب ماكاي - أصيبت اثنتان من الدول الاستعمارية الكبرى، وهما فرنسا وإنجلترا، بشكل متزامن تقريبا بفقاعات مالية تشابهت مع أزمة التيوليب، ليس فقط في أصولها ومسارها الرئيسي، بل أيضا في مستوى السخف الذي أثارته في مواطنيها، كانت المضاربة هذه المرة على أسهم شركتين، وهما شركة «ساوث سي» في إنجلترا وشركة «مسيسيبي» في فرنسا، اللتان كانتا تبشران بعائدات ضخمة بفضل وصولهما إلى حدود جديدة غير مستغلة (جنوب المحيط الهادئ للشركة الإنجليزية، والمستعمرات الجنوبية لما سيعرف بالولايات المتحدة الأمريكية للشركة الفرنسية)، وكما كان الحال مع التيوليب، تهافت المستثمرون على المضاربة وارتفعت أسعار الأسهم ارتفاعا هائلا، الأمر الذي أدى إلى مزيد من المضاربة ومزيد من الطلب ومزيد من الضغط المتصاعد على الأسعار، وغمرت إنجلترا وفرنسا، شأنهما شأن هولندا، النقود الورقية التي كانت تستبدل بالمزيد من الأصول الفعلية، فنتج عن ذلك أوهام بثروة هائلة واستمرار للارتفاع المتزايد غير المستقر للأسعار، ومثلما حدث مع الهولنديين، ومستثمري شركات الإنترنت في نهاية تسعينيات القرن العشرين، وعدد كبير من الحمقى وما أنفقوه من أموال بين الفترتين، انفجرت الفقاعة في النهاية، لتتبدد أوهام وثروات أفراد كانوا غارقين في الأحلام السعيدة. (2) الخوف والطمع والعقلانية
لماذا لم نتعلم الدرس إذن؟ بعد ما يقرب من أربعمائة عام، ما الذي تتسم به الفقاعات المالية ويجعل الفقاعة التالية لا تبدو وكأنها ستنفجر إلا بعد فوات الأوان؟ الإجابة السوداوية هنا هي أن الجشع والخوف سمتان غير محدودتين بمكان أو زمان، شأنهما في ذلك شأن أي سمات بشرية أخرى، وما إن يثرهما أي شيء، حتى لا يمكن للتحليل العميق، بل الخبرات السابقة أيضا، أن تقف أمامهما، فلولا الاحتمال المبشر بجني ثروة شخصية هائلة، ما كان المحامون الناجحون سيهرعون للعمل لمصلحة شركة ناشئة تبيع البقالة على الإنترنت، وما كان أي هولندي عاقل سيبيع شقته في أمستردام مقابل بصيلة تيوليب، ولولا الفزع الذي لا يتسبب فيه سوى شك راسخ بانعدام تام للقيمة، ما كان الانهيار المفاجئ والمتزامن تقريبا لعدد هائل من الشركات المرتبطة بالإنترنت - كان من الممكن لبعضها أن يستحق البقاء في أجواء أكثر وعيا - ليحدث، لكن هذا التفسير، شأنه شأن أغلب التفسيرات السوداوية، لا يفيد كثيرا، فهو يحكم علينا بأن نعيش المكافئ المالي لفيلم «عيد فأر الأرض» لكن بدون النهاية الهوليوودية (تعلم بيل موراي الدرس أخيرا). يدعي المتشائمون أنه ليس بإمكاننا تغيير الناس، وقد يكون ذلك صحيحا، لكن هذا الادعاء لا يخبرنا بأي شيء فيما يتعلق بآليات حدوث الأزمات المالية فعلا، أو كيف تختلف كل أزمة عن الأخرى، أو كيف يمكننا تصميم «مؤسسات» تساعد على الأقل الناس على التعايش بسلام مع مخاوفهم.
تعد النظريات الاقتصادية التقليدية لصنع القرار أقل فائدة في هذا الصدد. تذكر أن الاقتصاد هو نقيض السوداوية؛ فهو يدعي أن الناس يتسمون بالأنانية، لكنهم «عقلانيون» أيضا، ومن ثم تخفف المعرفة من وطأة الجشع ولا يكون هناك خوف على الإطلاق، والنتيجة - كما جاء في نبوءة آدم سميث الشهيرة - هي أن العقلانيين، في سعيهم لتحقيق أقصى قدر ممكن من مصالحهم الأنانية، «ستقودهم يد خفية» إلى نتيجة جمعية جيدة، والحكم - الذي يمكن القول إنه لا يقتصر على الحكومة فحسب، بل يشمل أيضا المؤسسات واللوائح والقيود المفروضة من الخارج بكافة صورها - لا يؤدي إلا إلى اضطراب العمل السليم للسوق، ومع أن سميث كان يكتب بوجه خاص عن الاقتصاد السياسي للتجارة الدولية، فإن منطقه طبق بعد ذلك على جميع أشكال الأسواق، بما في ذلك الأسواق المالية التي من الطبيعي ألا يكون بها أي أزمات.
إن القاعدة التي تقوم عليها وجهة النظر المتفائلة هذه هي أنه من منظور التجار، باعتبارهم أفرادا عقلانيين يسعون إلى ما هو أمثل، لا يمكن للفقاعات أن تحدث دون مضاربين مزعزعين يدفعون إليها، ومن المفترض عدم وجود مثل هؤلاء المضاربين المزعزعين. لماذا؟ لأنهم يبيعون ويشترون الأصول ليس وفقا لأي قياس لقيمتها «الحقيقية»، لكن باتباع اتجاهات الأسعار ، فيشترون مع انتعاش السوق ويبيعون مع ركوده، وبناء عليه، يعرف هذا النوع تحديدا من المضاربين عادة ب «متبع الاتجاهات»، على النقيض من «مستثمر القيمة» الذي لا يشتري أي أصل إلا عندما يدرك أن سعره أقل من قيمته (ويبيعه عندما يكون سعره أعلى من قيمته)، وهكذا، إذا ارتفع سعر أحد الأصول عن قيمته الفعلية لسبب ما، فسيندفع متبعو الاتجاهات ويشترونه، ومن ثم سيدفعون في هذا الأصل أكثر مما يستحقه بالفعل، وسيسفر ذلك بلا شك عن رفع السعر بقدر أكبر، وعن طريق بيع الأصل بهذا السعر الأكثر تضخما، يأمل هؤلاء الأفراد في تحقيق ربح ما، لكن، في مقابل كل متبع اتجاهات يبيع لتحقيق ربح ما، يجب أن يوجد شخص آخر يشتري (لأنه ما من مستثمر قيمة سيهتم بالأمر)، ومن ثم سيرتكب خطأ أكبر من سابقه.
وأخيرا، يتحتم أن تكون هناك نهاية لسلسلة الحمقى هذه، وهي المرحلة التي تنخفض فيها الأسعار، ويخسر بعض متبعي الاتجاهات المال. وإذا انخفضت الأسعار بما فيه الكفاية، كأن تصل إلى ما هو أقل من قيمتها الحقيقية، فسيأتي مستثمرو القيمة ثانية ويبدءون في الشراء من جديد، ليجنوا بذلك ربحا على حساب متبعي الاتجاهات. بصرف النظر عن عدد متبعي الاتجاهات الذين يحققون أرباحا، فإن هذه الأرباح لا يمكن جنيها إلا على حساب متبعي اتجاهات آخرين، ومن ثم فإن متبعي الاتجاهات بوجه عام سيخسرون دائما المال ليربحه مستثمرو القيمة، ونظرا لأن التحول النهائي للثروة من متبعي الاتجاهات إلى مستثمري القيمة سمة جوهرية للمضاربة، فما من شخص عقلاني سيختار أن يكون من متبعي الاتجاهات، ومن ثم يتحتم أن تعكس أسعار السوق دائما القيم الحقيقية للأصول المناظرة، وبلغة المال، يجب أن تتسم الأسواق «بالكفاءة» دائما. لكن ماذا إذا كان الناس أغبياء وحسب؟ تحمل النظرية إجابة لهذا الاعتراض أيضا: فحتى إن كان الناس أغبياء، فستدفعهم في النهاية حقيقة خسارتهم للمال إلى الخروج من السوق، على نحو أشبه بالانتخاب الطبيعي الذي تنص عليه نظرية داروين. يحصل مستثمرو القيمة على المال من متبعي الاتجاهات حتى يفلس هؤلاء المتبعون ويرحلوا، وعلى المدى الطويل، لن يتبقى سوى مستثمري القيمة، وينتصر النظام؛ لا مضاربة، لا إفراط في المتاجرة، لا فقاعات.
مع أن الانتصار الحتمي للعقلانية يبدو منطقيا، فإنه في الواقع يكشف عن تناقض في عمل الأسواق المالية؛ فمن ناحية، يكون على المستثمرين العقلانيين تماما في سوق يعمل بكفاءة أن يتفقوا على سعر لكل أصل يعكس على نحو صحيح قيمته الحقيقية، وذلك من خلال استغلال جميع المعلومات المتاحة، ويجب ألا يتخذ أي شخص قرارات بناء فقط على تحركات السعر نفسه، وإن حاول ذلك، فسوف يدفع في النهاية خارج السوق. من ناحية أخرى، إذا تصرف الجميع بعقلانية، فسوف تتبع الأسعار القيم دائما، ومن ثم لن يجني أحد أي أرباح، بما في ذلك مستثمرو القيمة، ولن تكون النتيجة اختفاء الفقاعات فحسب، بل لن تكون هناك أي تجارة أيضا! وثمة إشكالية تحملها هذه النتيجة فيما يتعلق بنظرية الأسواق؛ فبدون تجارة لا يكون أمام الأسواق سبيل لتعديل الأسعار لتصل إلى قيمها «الصحيحة» في المقام الأول.
إذن، ثمة منظور آخر للتعامل مع منطق العقلانية - وهو المنظور الذي يقترحه التاريخ بلا شك - وهو أن هذا المنطق لا ينطبق إلى حد بعيد على أي مما يحدث في الأسواق المالية الواقعية. نعم، يحاول الناس تحقيق أقصى ربح ممكن، ونعم، كثيرا ما يخسر المضاربون المال، وربما يكون صحيحا أيضا أنه على مدار فترات زمنية طويلة بما فيه الكفاية، يخسر جميع المضاربين كل شيء في النهاية، بما في ذلك من يحققون أرباحا مذهلة، فكما هو الحال مع المقامرين في نوادي القمار، قد يربح بعض الناس لفترة من الوقت، لكن في النهاية يكون الرابح الحقيقي الوحيد هو النادي (وهو، بالمناسبة، ما يفسر الاستمرار في بناء مثل هذه النوادي). مع ذلك، يستمر الناس في المضاربة، مثلما يستمرون في المقامرة.
لكن إذا لم يكن البشر عقلانيين تماما بالمعنى الاقتصادي البحت للكلمة، فهم أيضا لا يخضعون بالكامل لمشاعرهم الجامحة، فحتى أكثر المضاربين تحمسا، ينطوي جنونهم على منطق ما، أما بقيتنا، ففي أغلب الوقت نحاول ببساطة تدبر الأمر بتحقيق أقصى فائدة من المواقف التي نمر بها وتجنب المشكلات قدر الإمكان. لا يبدو ذلك مزيجا شديد التقلب، وصراحة هو ليس كذلك معظم الوقت. في الواقع، بينما تستقطب الفقاعات والانهيارات كل الاهتمام، كثيرا ما يكون سلوك الأسواق المالية هادئا للغاية، حتى في مواجهة الأحداث الخارجية، كالتغيرات التي تطرأ على الحكومة والهجمات الإرهابية، التي قد يتوقع المرء أن يكون رد فعل هذه الأسواق مبالغا فيه تجاهها. إذن، الأمر المحير حقا بشأن الأسواق المالية لا يتعلق بما إذا كانت عقلانية أم لا، بل بكونها تتسم بالسمتين معا، أو لا تتسم بأي منهما. في الحالتين، عندما تجتمع أعداد كبيرة من الأشخاص العاديين معا، يتصرفون «معظم» الوقت على نحو عقلاني، لكن ينتهي بهم الحال «بين الحين والآخر» إلى التصرف كالمجانين، والأزمات المالية ليست سوى مثال واحد على السلوك العقلاني المعتاد، لكن غير العقلاني أحيانا، الذي يمكن أن يصدر عن المجموعات والعامة والجماهير، بل المجتمعات ككل. (3) القرارات الجمعية
قبل الشروع في دراسة أصول الأزمات المالية بفترة ليست بالطويلة، كنت أبحث في موضوع آخر أثار اهتمامي، ألا وهو تطور السلوك التعاوني. إن التعاون سمة سلوكية بشرية واسعة الانتشار إلى حد يجعل البعض يعتقد أحيانا (خطأ) أنها أحد العوامل الأساسية التي تميز البشر عن الحيوانات، لكن مصدر السلوك التعاوني غير الإلزامي يمثل في الحقيقة تناقضا عميقا شغل أجيالا من المفكرين، بدءا من الفلاسفة ووصولا لعلماء الأحياء، ويتمثل هذا التناقض، بإيجاز، في التساؤل عن السبب الذي يجعل الأفراد المدفوعين بمصالحهم الشخصية يتصرفون على نحو غير أناني في عالم يكون فيه فعل الصواب أمرا مكلفا، ويجعل الفرد عرضة لاستغلال الآخرين له.
تصور الخروج لتناول العشاء في مطعم لطيف مع مجموعة كبيرة من الأصدقاء بافتراض أنكم في نهاية الليلة ستتقاسمون جميعا قيمة الفاتورة، تحتوي القائمة على مجموعة كبيرة من الخيارات، بدءا من طبق مكرونة رخيص وبسيط، وصولا إلى شريحة لحم باهظة الثمن. إذا طلب الجميع وجبة فاخرة، فستكون ليلة باهظة التكلفة على الجميع، ومن ثم من الطبيعي أن تسدي الجميع معروفا إذا طلبت المكرونة. على الجانب الآخر، إذا اخترت شريحة اللحم، في حين طلب أصدقاؤك المكرونة، فستحظى بوجبة رائعة بنصف الثمن تقريبا، والأهم من ذلك أنك إذا لم تطلب شريحة اللحم، في حين فعل أصدقاؤك ذلك، فستدفع في النهاية قدرا كبيرا من المال في مقابل طبق بسيط من المكرونة. السؤال هنا بالطبع هو: بينما تجلسون في ذلك المطعم تفكرون فيما ستختارونه، إلى أي مدى ستهتم بمتعتك الشخصية في مقابل سعادة أصدقائك؟
مع أن هذه اللعبة قد تبدو طريفة في البداية، فإن أزمة تناول العشاء - كما أسماها عالما الفيزياء برناردو هوبرمان وناتالي جلانس، اللذان قدما ذلك المثال - هي في الواقع نموذج معتاد لما يطلق عليه «المعضلات الاجتماعية». تتعلق المعضلات الاجتماعية، التي تعرف أيضا باسم «ألعاب الصالح العام»، بمنافع جماعية، كخدمات إعادة التدوير أو نظام نقل عام، ويتطلب وجودها عددا ضخما من الأفراد للمساهمة في المنفعة على الرغم من وجود بدائل أسهل أو أكثر ربحا أو أكثر إشباعا للمتطلبات الأنانية (مثل القيادة بدلا من ركوب الحافلة). ولإدراك الصعوبة المتأصلة في المعضلة الاجتماعية، فكر في الضرائب؛ إن وجود خدمات حكومية، كالمستشفيات والطرق والمدارس والمطافئ والشرطة والأسواق جيدة الأداء والمحاكم القانونية، بل سيادة القانون نفسها، كل ذلك يعتمد (في أغلب الدول) على عائدات الضرائب. وبقدر ما قد نشكو من عدم كفاءة الحكومة، لم يتمكن مجتمع قط من أن يحيا لفترة طويلة من الزمن في غياب بعض من هذه الخدمات العامة الرئيسية على الأقل؛ لذا من الواضح أن دفع الضرائب يصب في مصلحة الجميع، ويصل ذلك إلى الحد الذي يصبح فيه عدم دفعها ضربا من الجنون، لكن كما أوضح هوبرمان وجلانس، لا يعد دفع الضرائب في أي من دول العالم عملا تطوعيا.
ألا يمكن الوثوق بنا لفعل هذه الأمور التي من الواضح أنها في مصلحتنا (الجمعية)؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال هي: نعم، لا يمكن الوثوق بنا، وذلك وفقا ل «مأساة المشاع»، وهي نظرية مؤثرة طرحها العالم السياسي جاريت هاردن في سبعينيات القرن العشرين. لنتخيل قرية على طراز عصر ما قبل الصناعة مقامة حول قطعة من الأرض كبيرة ومركزية ومشتركة تسمى «المشاع»، يستخدم سكان القرية هذه الأرض في الغالب لرعي الأغنام والماشية، التي يجزون أصوافها فيما بعد أو يحلبونها أو يذبحونها للحصول على الغذاء أو تحقيق مكسب ما، ونظرا لأن الأرض «المشاع» لا يملكها أو يحكمها أحد، فمن حق الجميع استخدامها، لكن الأرباح الناتجة عن رعي رأس إضافية من الغنم أو الماشية فيها لا تذهب إلا إلى القروي الذي يملك هذا الحيوان، ومن ثم يكون لدى كل الأشخاص حافز لزيادة عدد قطعانهم من الحيوانات، مما يؤدي إلى تحقيق قدر أكبر من الأرباح دون زيادة النفقات العامة.
يمكنك أن ترى إلى أين يتجه هذا الأمر؛ ففي النهاية، تتعرض الأرض «المشاع» لإفراط في الرعي إلى الحد الذي تصبح فيه غير قادرة بعد ذلك على تحمل رعاية أي حيوانات على الإطلاق، وتنهار سبل عيش الجميع. لو كان أهل القرية قد نهجوا نهجا معتدلا، ما كانت لتحدث مشكلة على الإطلاق، ولتمكنت الأرض من الحفاظ على مواردها، وظل لدى الناس ما يكفي للعيش عليه بشكل دائم، لكن إن افترضنا أن قرية ما في مكان ما تمكنت من تحقيق هذا التوازن المثالي بالصدفة، فسيفتقر إلى الاستقرار بطبيعته. عندما يكون الجميع سعداء بفعل الصواب، يكون لدى كل قروي تدفعه المصلحة الذاتية (وجميعهم كذلك) دائما حافز لإضافة حيوان آخر إلى قطيعه، وما من أحد سيمنعه أو يتذمر، لن يكلفه الأمر شيئا، بل سيزداد ثراء ويصبح أكثر قدرة على إطعام أسرته. ستظل الأرض «المشاع» كما هي، ولن يلاحظ أحد رأسا زائدا من الغنم في المرعى، فلم لا؟
لم لا بالفعل؟ وهذه هي المأساة، بمفهوم شكسبير للهلاك المحتوم. لا يفعل أحد أي شيء جنوني، ومما لا شك فيه أنه بالنظر إلى ما يعرفه أي شخص عن العالم، سيكون من الحماقة (أو على الأقل عدم العقلانية) فعل أي شيء مختلف، وبصرف النظر عن الكارثة المحدقة، يستمر الأفراد في السير بخطى حثيثة نحو الهلاك، تدفعهم مصلحتهم الشخصية بلا هوادة إلى مصيرهم الجماعي المشئوم. تقدم نظرية هاردن - كما هو واضح من اسمها - نظرة قاسية للعالم، لكنها نظرة يصعب تجاهلها أيضا؛ إذ إنها تذكر بالعديد من المآسي الحقيقية في العالم؛ كالحروب طويلة الأمد التي لا مبرر لها، والرسوم الجمركية الأبدية البغيضة، وتآكل البيئات التي لا بديل لها. ومع أننا نرغب في تجنب هذه الأمور إن تمكنا، فالحقيقة المحزنة هي أنها نتاج ما تصنعه أيدينا بإرادتنا. تعبر مأساة المشاع، كمعضلة تناول العشاء، عن المعضلة الحتمية التي يعيشها الأفراد الذين تدفعهم مصالحهم الشخصية من الداخل والقادرين على التحكم في قراراتهم، لكن يتعين عليهم أن يتعايشوا أيضا مع نتائج قرارات الآخرين. (4) سلاسل المعلومات
لكن ليس من الحتمي أن تنتهي كل معضلة نهاية حزينة؛ فمثلما يمكن أن تحقق الصيحات الثقافية الحديثة نجاحا في مجتمع من الأفراد غير المكترثين عادة، يمكن أن تتغير المؤسسات والأعراف الاجتماعية أيضا بين عشية وضحاها في بعض الأحيان، ومع أن إعادة تدوير المواد المنزلية، بدءا من الزجاجات البلاستيكية ووصولا للجرائد، تبدو أمرا مألوفا حاليا، فإنها ظاهرة حديثة نسبيا؛ فعلى مدار أقل من جيل واحد، غير العالم الصناعي الغربي أنماط سلوكه اليومية استجابة لتهديد بيئي بعيد كان يعتقد في السابق أنه لا يهم سوى مجموعة صغيرة من غريبي الأطوار المهووسين بالطبيعة. كيف تحولت عملية إعادة التدوير من شيء هامشي للمجتمع إلى شيء راسخ في توقعاتنا عن أنفسنا، شيء لم نعد نتشكك في جدواه مع أنه لا يزال يصيبنا بعدم الراحة؟
ربما يرجع السبب في ذلك إلى أن التغيير في العادات غير مكلف نسبيا، ومن ثم فإن إعادة تدوير بضع علب معدنية بين الحين والآخر لا يسبب قدرا كبيرا من الإزعاج، لكن التغير الاجتماعي المفاجئ يمكن أن يحدث، حتى إن كانت المخاطر الفردية التي ينطوي عليها أعلى بكثير، مثل تظاهر مواطني لايبزيج على مدار ثلاثة عشر أسبوعا مثيرا في عام 1989، عندما نزلوا إلى الشوارع كل اثنين من كل أسبوع - بالآلاف في البداية، ثم بعشرات الآلاف، ثم بمئات الآلاف - للاحتجاج على ما يتعرضون له من ظلم في ظل الحكم الشيوعي لما كان يعرف آنذاك بألمانيا الشرقية. ومع أن الناس لا تذكر الكثير عن مسيرات لايبزيج الآن، فيمكن وصفها بنقطة تحول حقيقية في التاريخ؛ فلم تنجح فحسب في إسقاط الحزب الاشتراكي في ألمانيا الشرقية، لكنها أدت كذلك إلى سقوط سور برلين بعد ثلاثة أسابيع فقط، وإعادة توحيد ألمانيا في النهاية. أثبت متظاهرو لايبزيج، إلى جانب الكثير من الثوار الذين يظهرون كل يوم، أن السلوك التعاوني الإيثاري يمكن أن يظهر عفويا بين الأشخاص العاديين، حتى لو كانت التكاليف المحتملة - السجن أو الإيذاء الجسدي أو ربما الموت - تفوق التوقعات. في الواقع، بنهاية عام 1989، اشتهرت لايبزيج في جميع أرجاء ألمانيا الشرقية باسم «مدينة الأبطال».
كيف يمكن إذن لأعتى النظم المفروضة عنوة، التي تشكل أقسى المعضلات، أن تنهار فجأة؟ وحتى لو كان أكثر الأوضاع الراهنة ثباتا يمكن أن ينهار على نحو غير متوقع على الإطلاق، فكيف تمكن من الاستمرار بجميع الأوقات الأخرى في وجه الصدمات وصور الإزعاج والاضطرابات المستمرة التي قد تكون حاسمة مثل تلك التي أدت إلى انهياره؟ لقد أبهرني، شأني شأن الكثير من الباحثين قبلي، أصل مفهوم التعاون والظروف السابقة عليه كمشكلة في حد ذاتها، لكن ما تكشف لي ببطء هو أن كل هذه المشكلات التي كنت أقرأ عنها، بدءا من الصيحات الثقافية والفقاعات المالية وصولا إلى الظهور المفاجئ للتعاون، كانت صورا مختلفة للمشكلة ذاتها.
تعرف هذه المشكلة في لغة الاقتصاد الجافة باسم «سلسلة المعلومات»، في هذه السلسلة، يتوقف الأفراد في مجموعة ما عن التصرف بشكل فردي، ويبدءون في التصرف على نحو يشبه المجموعة المتماسكة. في بعض الأحيان، تحدث سلاسل المعلومات سريعا؛ مثلا نشأت فكرة مسيرات لايبزيج وتفجرت في غضون أسابيع؛ وفي أحيان أخرى تحدث ببطء؛ على سبيل المثال، يمكن أن تتطلب الأعراف الاجتماعية الجديدة، كالمساواة العرقية وحق التصويت للنساء وتقبل المثلية الجنسية أجيالا لتصبح عالمية، لكن ما تشترك فيه كل سلاسل المعلومات هو أنه ما إن تبدأ إحداها حتى تصبح دائمة للأبد؛ بمعنى أنها تجذب أتباعا جددا غالبا بفضل اجتذابها لغيرهم من قبل، ومن ثم يمكن للصدمة الأولى أن تنتشر في نظام ضخم، حتى لو كانت الصدمة نفسها صغيرة.
نظرا لأن سلاسل المعلومات كثيرا ما تكون مذهلة أو ذات طبيعة متميزة، فعادة ما تؤدي إلى أحداث تستحق أن تتصدر العناوين الرئيسية في الأخبار، مع أن ذلك قد يبدو مفهوما تماما، فإن هذه النزعة تخفي حقيقة أن السلاسل يندر حدوثها فعليا، لقد كان لدى الناس في ألمانيا الشرقية الكثير بالتأكيد من الأسباب ليسخطوا على حكامهم، لكنهم ظلوا على هذه الحال مدة ثلاثين عاما، ولم تحدث أي انتفاضة ملحوظة سوى مرة واحدة من قبل (في عام 1953). في مقابل كل يوم يدمر فيه جمهور فريق كرة قدم استادا ما أو تقضي سوق للأوراق المالية على نفسها، هناك آلاف الأيام الأخرى التي لا يحدث فيها ذلك، وفي مقابل كل فيلم شهير، كهاري بوتر أو بلير ويتش بروجكت، يظهر من حيث لا ندري ليأسر ألباب الناس، هناك آلاف الكتب والأفلام والمؤلفين والممثلين الذين يعيشون حياتهم بالكامل بعيدا عن أضواء الثقافة الشعبية الحديثة؛ لذا، إذا كنا نرغب في فهم سلاسل المعلومات، فعلينا أن نفسر ليس فقط كيف يمكن للصدمات الصغيرة أن تغير نظما بالكامل في بعض الأحيان، بل أيضا كيف لا تفعل ذلك في أغلب الوقت.
من المهم أن نعي أنه من الناحية الظاهرية، تبدو الصور المتنوعة لسلاسل المعلومات - الصيحات الثقافية والفقاعات المالية والثورات السياسية - مختلفة تماما، وللوصول إلى نقاط التشابه الأساسية، يجب استبعاد تفاصيل الظروف وشق طريقنا بين غياهب اللغات غير المتوافقة والمفردات المتعارضة، والتقنيات الغامضة عادة، لكن ثمة خيطا مشتركا بالفعل؛ فبعد أن أنعمت النظر في كل مشكلة، واحدة تلو الأخرى، لعدة أشهر، بدأ إطارها العام المبهم يتكون في عقلي كما لو كانت لوحة للفنان تشاك كلوز تتضح تدريجيا من بين النقاط كلما ابتعد المرء عن الحائط المعلقة عليه، لكنها كانت صورة محيرة، وتطلبت جمع الأفكار من الاقتصاد ونظرية الألعاب، بل من علم النفس التجريبي أيضا. (5) مؤثرات المعلومات الخارجية
في خمسينيات القرن العشرين أجرى عالم النفس الاجتماعي سولومون آش، الذي تتلمذ على يده ستانلي ميلجرام، سلسلة رائعة من التجارب؛ فبعد وضع مجموعات يتكون كل منها من ثمانية أفراد في إحدى الغرف الشبيهة بدار سينما صغيرة، عرض معاونو آش على هؤلاء الأفراد سلسلة مكونة من اثنتي عشرة شريحة تعرض قطاعات خطية عمودية ذات أطوال مختلفة تشبه كثيرا الصورة الموضحة بالشكل
7-1 ، وعند عرض كل شريحة، كان القائمون على التجربة يطرحون سؤالا بسيطا يفترض أن يجيب عنه الخاضعون للتجربة، من قبيل: «أي من الخطوط الثلاثة الموجودة على اليمين أقرب في الطول من الخط الموجود على اليسار؟» صممت الأسئلة بحيث تكون الإجابة عنها واضحة (في الشكل
7-1 ، الإجابة بوضوح هي أ)، لكن كمنت الخدعة في أن الجمهور كله، فيما عدا واحدا، كانوا عناصر دسيسة تلقوا تعليمات مسبقة بأن يجيبوا عن السؤال إجابة خاطئة واحدة (ب، مثلا).
شكل 7-1: رسم إيضاحي لسؤال الاختبار الذي استخدمه سولومون آش في تجاربه المتعلقة بصناعة القرار البشري في مواجهة ضغط الجماعة. كان السؤال المطروح بخصوص هذا الرسم الإيضاحي هو: «أي من الخطوط الثلاثة الموجودة على اليمين أقرب في الطول من الخط الموجود على اليسار؟» وكانت الإجابة الصحيحة مصممة لأن تكون واضحة (أ في هذه الحالة)، لكن سبعة من بين ثمانية أشخاص تلقوا تعليمات بأن يجيبوا إجابة خاطئة (ب، مثلا).
وضعت هذه المكيدة الشخص المسكين الخاضع للتجربة في موقف مربك أيما إرباك، ويرجع السبب في معرفتي بهذا الأمر إلى أنه أثناء إلقائي محاضرة عن سلاسل المعلومات في ييل، رفع أحد الحضور صوته - وهو عضو بارز الآن بكلية الاقتصاد - ليقول إنه كان في الواقع أحد الخاضعين لتجربة آش أثناء دراسته بجامعة برنستون. من ناحية، كان بإمكان الخاضع للتجربة أن يرى بأم عينيه ما هو واضح وضوح الشمس؛ أن (أ) أقرب في الطول من الخط الموجود على اليسار مقارنة بالخط (ب)، لكن هناك سبعة أشخاص على القدر نفسه من العقلانية والوعي مثله، يدعون بثقة أن الإجابة هي (ب ). كيف يمكن أن يكون سبعة أشخاص مخطئين؟ من الجلي أن الكثير من الخاضعين للتجربة قرروا أنه لا يمكن ذلك، وفي ثلث الحالات وافق الخاضعون للتجربة على الرأي الجماعي، بما يخالف حكمهم الشخصي (جدير بالذكر أن من وقف من بين الحضور في محاضرتي قد تمسك برأيه في التجربة). مع ذلك، فلم تهزم الفطرة السليمة للخاضعين للتجربة دون مقاومة؛ فقد أشار آش إلى أنه رأى آثارا واضحة للانزعاج؛ كالاهتياج والعرق الواضح، على الأفراد الذين كان عليهم الاختيار بين انتهاك يقينهم الشخصي واليقين الظاهري لنظرائهم.
لكن لماذا يجب أن تعتمد آراؤنا إلى هذا الحد على آراء الآخرين في المقام الأول؟ مرة أخرى، يقول لنا علم الاقتصاد التقليدي إن هذا ليس بالأمر الحتمي. يؤكد النموذج المعتاد لصناعة القرار الاقتصادي على أن كل بديل يفكر فيه الفرد يمكن أن يتوقع منه تحقيق ربح أو «منفعة» محددة تعتمد جزئيا على تفضيلات هذا الفرد، ومن ثم إذا كان لشخصين التفضيلات نفسها، فسيتفقان فيما يحبان ويكرهان، لكن في حال اختلاف التفضيلات، فقد يحب بعض الناس ما يكرهه آخرون، مع ذلك، يكون من الواضح تماما دائما مدى رغبة أي شخص في شيء ما، وكل ما يتبقى هو تحديد هل بإمكانه الحصول على هذا الشيء أم لا.
هذا، بالمناسبة، ما تفعله الأسواق تحديدا؛ إذ إنها تحدد الأسعار على نحو يجعل المعروض من السلع والخدمات يتماشى تماما مع الطلب السائد، ومن ثم تضمن حصول الجميع على ما يريدونه إلى الحد الذي يرغبون (أو يتمكنون) معه من الدفع في مقابل الحصول عليه؛ فإذا رغب الكثير من الناس في الشيء نفسه، فسيرتفع سعره، ربما إلى حد بعيد يجعل بعض الناس لا يرغبون فيه مثلما يرغبون في شيء آخر (كنقودهم على سبيل المثال)، لكن - وهذا هو الجزء المهم - رغبات الآخرين لا تؤدي في الواقع إلى زيادة أو نقص «رغبتنا» في شيء ما، ولا تغير أيضا من فائدته لنا؛ فالتفضيلات تظل ثابتة، وكل ما يحدده السوق هو السعر الذي يمكن تحقيق هذه التفضيلات به. في ألعاب الاستراتيجية يصبح الأمر أكثر تعقيدا؛ إذ يجب على اللاعبين أخذ تفضيلات الآخرين بعين الاعتبار عند وضع خطة عملهم، ومن ثم فإن ما أختار فعله قد يتأثر بما أعرف أنك تريده، لكن ما أريده سيظل دون تغيير. في مثل هذا العالم المفرط في العقلانية، ما من فائدة لسؤال أصدقائك عن رأيهم في شيء ما؛ لأنه ما من شيء يمكنهم إخبارك به لا تعرفه بالفعل. إن تفضيلاتهم لا يمكن أن تؤثر على تفضيلاتك.
لكن على أرض الواقع يتسم الكثير من المشكلات التي نواجهها بدرجة كبيرة من التعقيد أو الالتباس، فلا نتمكن من تقييم الأفضل من بين البدائل. على سبيل المثال، في بعض الأحيان عند الاختيار ما بين تبني تقنية جديدة معقدة أم لا، أو توظيف مرشح معين لوظيفة ما، نفتقر ببساطة للمعلومات الكافية بشأن الخيارات المتعارضة، وفي أحيان أخرى (كما هو الحال في سوق الأوراق المالية)، قد نكون قادرين على الوصول إلى قدر وافر من المعلومات، لكننا نفتقر إلى القدرة على معالجتها بفعالية. تخيل أنك تسير في أحد شوارع مدينة أجنبية باحثا عن مكان لتناول الطعام فيه، وأبصرت مطعمين متجاورين لديهما قوائم طعام متشابهة (وغير مألوفة أيضا)، وأسعار مماثلة، وديكورات متشابهة إلى حد بعيد، لكن أحدهما يعج بالزبائن، في حين هجر الناس الآخر. أيهما ستختار؟ ما لم تكن لديك مشكلة معينة في التعامل مع جموع الناس، أو تشعر بالأسف على النادل الذي يدعوك لدخول المطعم الفارغ، فستفعل ما نفعله جميعا عند افتقارنا للمعلومات الكافية؛ ستنهج النهج الذي اتبعته جموع الناس. في النهاية، كيف يمكن لهذا العدد الكبير من الناس أن يكون مخطئا؟
مع أن نتائج آش تجعل الأمر يبدو أشبه بنقيصة ما، فإن الاهتمام بأفعال النظراء ونصائحهم يمثل عادة استراتيجية يعول عليها للتصرف جيدا على نحو معقول على الأقل في عالم معقد لا يمكن التنبؤ به. يفضل الكثير من الناس في أمور عدة - بدءا من اختيار برامج الدراسات العليا وصولا إلى اختيار الأفلام التي يشاهدونها - الحد من الخطر المحتمل إلى أقصى درجة ممكنة، سواء فيما يتعلق بتوقعاتهم المهنية أو وسائل الترفيه التي يلجئون إليها في الأمسيات، وذلك من خلال ملاحظة تصرفات الآخرين ومحاكاتها، وحتى لو كنا نتحاشى الأغلبية على نحو بين، فنادرا ما نتصرف كأفراد منفصلين أو معارضين معارضة تامة، بل يشغل تفكيرنا في الغالب أقلية من الأفراد نبتغي بالفعل محاكاتهم، ومن ثم فإن الفرق بين الفاعلين الاجتماعيين التقليديين وغير التقليديين لا يتعلق في الغالب بأن غير التقليديين لا يلقون بالا للآخرين، وإنما في أن الآخرين الذين تهتم بهم هذه الفئة «يختلفون» عمن يهتم بهم الفاعلون الاجتماعيون التقليديون.
ومن ثم فإن ما توصل إليه آش في تجاربه يبدو كآلية راسخة لحل المشكلات يتطلب فهمها التعديل قليلا من النظرة التي ينظر بها إلى العقلانية البشرية مقارنة بما يتبناه علماء الاقتصاد عادة؛ ففي النهاية، تفترض العقلانية الاقتصادية الخالصة بعض الافتراضات غير المعقولة تماما بشأن إمكانات الفاعلين البشر. على سبيل المثال، من المفترض أن يعرف الفاعلون العقلانيون الاستراتيجيون كل شيء بشأن تفضيلاتهم الشخصية، وأيضا تفضيلات الآخرين كافة، هذا فضلا عن أن كل فاعل يعرف أن كل فاعل آخر يعرف ذلك، ويعرف أنه يعرف أنه يعرف ... وهكذا، وبالوصول إلى هذا النكوص اللانهائي المتمثل في معرفة الجميع لكل شيء، يكون من المفترض حينئذ أن يتصرف الفاعلون العقلانيون على نحو يحقق أقصى منفعة لهم، شريطة أن يفعل كل شخص آخر الأمر نفسه.
بالطبع، لا يؤمن الاقتصاديون أنفسهم بأن الناس على هذا القدر من الذكاء، لكن من المفترض أن يتصرفوا كما لو كانوا كذلك. ويشبه التعليل القياسي هنا إلى حد بعيد الحجة التي تناولناها سابقا ضد وجود المستثمرين المضاربين؛ فأي شخص لا يتصرف وفقا للتوقعات العقلانية سيحقق نتائج أسوأ ممن يفعل؛ لذا سواء أكانت الاستراتيجيات المختلفة متعمدة أم لا، فسوف «يتعلم» الناس أن يتصرفوا بعقلانية؛ لأنهم سيلاحظون أن ذلك يؤدي إلى نتائج أفضل، وبناء عليه، فإن التصرفات الوحيدة التي تحظى بأهمية هي تلك المستمدة من توقعات عقلانية؛ لأن ذلك هو التوازن الذي سيقترب منه النظام حتميا، وشأن النظريات المثالية عن السلوك البشري ، تتمتع هذه النظرية بجاذبية رائعة مؤكدة. في الواقع، من وجهة نظر جمالية خالصة، يتسم قدر كبير من علم الاقتصاد الكلاسيكي الحديث بأنه جميل للغاية، لكن كما رأينا في حالة المضاربين، عادة ما لا يبدو العالم الذي يصفه هذا العلم كالواقع المعاش كثيرا.
في خمسينيات القرن العشرين أشار هيربرت سايمون، الذي تناولنا أفكاره في الفصل
الرابع
من هذا الكتاب في سياق الحديث عن نماذج النمو التفضيلية، إلى أنه على الرغم من أن الوصول إلى الحد الأقصى العقلاني للمنفعة هو في النهاية نظرية مختلقة، ولا يمكن اعتبارها وصفا جيدا للسلوك البشري إلا في الحالات المحدودة التي تتحقق فيها النظرية على أرض الواقع، وإذا كانت الأدلة التجريبية، ناهيك عن الفطرة السليمة، تشير إلى أن الناس لا يتصرفون بعقلانية، فلماذا لا توضع إذن نظرية أكثر قابلية للتصديق؟ بعد أن استبدل سايمون الحدس بالملاءمة الحسابية، اقترح أن الناس «يحاولون» التصرف بعقلانية، لكن قدرتهم على فعل ذلك مقيدة بقيود فكرية ووصول محدود للمعلومات. باختصار، يظهر الناس ما يعرف ب «العقلانية المحدودة».
ومن ثم فإن أفضل طريقة لفهم ملاحظات آش عن صناعة القرار البشري هو اعتبارها انعكاسا دقيقا للعقلانية المحدودة، فنظرا لأنه كثيرا ما تنتابنا الشكوك بشأن السلوك الأمثل الذي علينا اتباعه، ولافتقارنا غالبا للقدرة على التوصل إلى هذا السلوك بأنفسنا، صرنا معتادين على الانتباه بعضنا لبعض بافتراض أن الآخرين يعرفون أمورا لا نعرفها، ونحن نفعل ذلك بانتظام، والأمر ينجح على نحو معقول غالبا، وهو ما يجعلنا نعكس نزعة لاإرادية للاهتمام كثيرا بتصرفات الآخرين، حتى لو كانت الإجابة واضحة بالفعل.
متى تأثر سلوك الفرد الاقتصادي بأي شيء يقع خارج نطاق المعاملة التجارية نفسها، يطلق علماء الاقتصاد على ذلك «الأثر الخارجي». وبوجه عام، ينظر علم الاقتصاد للمؤثرات الخارجية كما لو كانت استثناء مزعجا لقاعدة تفاعلات السوق الخالصة، لكن إذا أخذنا النتائج التي توصل إليها آش على محمل الجد، وإذا آمنا بالخبرات اليومية، بدءا من اتباع جموع الناس في إحدى محطات القطار وصولا إلى اختيار إحدى خدمات الهاتف المحمول ، فسيبدو أن ما يمكن أن نطلق عليه «المؤثرات الخارجية على القرار» منتشرة في كل مكان. وفي حالات مثل تجارب آش، حيث تنبع المؤثرات الخارجية من الحدود المفروضة على ما يمكن أن نعرفه عن العالم وكيف يمكننا معالجة ما نعرفه بالفعل، يمكننا أن نطلق على هذه المؤثرات - إلى حين التوصل إلى مصطلح أفضل - «مؤثرات المعلومات الخارجية». (6) المؤثرات الخارجية القسرية
مع أن الآراء الحقيقية للخاضعين لتجربة آش تأثرت تأثرا واضحا بالآراء (الزائفة) لنظرائهم، فإن بعضهم شعر بضغط دفعهم لإبداء موافقتهم، على الرغم من أنهم «في قرارة أنفسهم» لم يتغير رأيهم، وقد أوضح آش لاحقا أن إدراك هذا الضغط للامتثال لما يراه الآخرون لم يكن وهميا؛ في صورة مختلفة من التجربة أعطيت التعليمات لشخص واحد فقط بأن يجيب إجابة خاطئة، فما كان من الأغلبية - التي لا علم لها بما يحدث - إلا أن سخرت منه فعليا؛ لذا فإن المؤثرات الخارجية القسرية قد تظهر في الكثير من مواقف صناعة القرار، شأنها شأن مؤثرات المعلومات الخارجية، وقد يكون من الصعب التمييز بينهما في بعض الأحيان. تفسر، على سبيل المثال، نماذج الجرائم التي تقوم بها العصابات بأن من يرتكبها مراهقون سريعو التأثر بما حولهم، يتعرضون لضغوط من أقرانهم وممن يعدونه مثلهم الأعلى لارتكاب أفعال عنيفة أو مخربة؛ ليثبتوا جدارتهم لأن يصبحوا أعضاء بهذه العصابات، لكن في هذا المثال أيضا، تلعب المعلومات دورا ما. إذا كانت النماذج الشهيرة للنجاح الاقتصادي والاجتماعي لدى الشاب هي تلك المرتبطة بقيادة العصابات، فعلى الأقل سيكون من المعقول أن يبدو قراره بالسير على نهجهم - وإن كان ثمنه ارتكاب جرائم يدرك أنها غير أخلاقية - طبيعيا تماما وغير قسري على الإطلاق.
إن تغيير المرء لمعتقداته استجابة لمعتقدات الآخرين الواضحة لا يقتصر على سريعي التأثر أو ذوي المعلومات المغلوطة من الأفراد فحسب. في دراسة مبتكرة أجريت في ألمانيا الغربية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أثبتت العالمة السياسية إليزابيث نويل-نيومان، أنه قبل دورتين من الانتخابات الوطنية، عكست الحوارات المتعلقة بالسياسة نموذجا ثابتا ؛ إذ زاد مناصرو حزب الأغلبية من تعبيرهم اللفظي الملح عن آرائهم على حساب الأقلية المتصورة، لكن كلمة السر هنا هي «المتصورة»؛ فقد أوضحت نويل-نيومان أن مستويات دعم الحزبين السياسيين، التي يعبر عنها المواطنون الأفراد سرا، ظلت ثابتة تقريبا، لكن ما تغير هو إدراك الأفراد لرأي الأغلبية، ومن ثم توقعاتهم بشأن الحزب الذي سيفوز. ومن خلال ما أطلقت عليه نويل-نيومان «الارتفاع الحاد لمستوى الصمت»، صارت «الأقلية» أقل رغبة في التعبير عن آرائها علنا، ومن ثم عززت من وضعها كأقلية، وأضعفت من رغبتها في التعبير عما تراه بشكل أكبر.
لكن التصويت نشاط سري، ومن ثم قد يكون التوازن في الخطاب السابق للانتخابات غير مهم، لكن نويل-نيومان اكتشفت أن الأمر ليس كذلك؛ فقد كانت أكثر النتائج التي توصلت إليها إثارة للدهشة أنه في يوم الانتخابات، لم يكن أقوى العوامل التي تتنبأ بالنجاح في الانتخابات هو أي الحزبين يدعمه المرء سرا، ولكن أيهما يتوقع أن يحقق الفوز، وبناء عليه، فإن المعتقدات المتعلقة بمعتقدات الآخرين تبدو قادرة على التأثير على صناعة القرارات الفردية، حتى لو كان ذلك في خصوصية حجيرة الاقتراع (أو ربما التأثير على قرار التصويت في الانتخابات من عدمه في الأساس). وكما هو الحال في تجارب آش، وكذلك التوقعات بشأن انتشار الجريمة، تبدو القوى التي تدفع إلى الارتفاع الحاد لمستوى الصمت أو تؤثر على قرار المرء النهائي للتصويت مبهمة قليلا، مع ذلك، ربما تلعب كل من المؤثرات الخارجية القسرية ومؤثرات المعلومات الخارجية دورا في هذا الأمر، ويمكن أن تظهر المؤثرات الخارجية على القرار بطرق أخرى أيضا. (7) مؤثرات السوق الخارجية
أثار علماء الاقتصاد الازدهار الذي شهدته التكنولوجيا المتقدمة بدءا من سبعينيات القرن العشرين، فانصب اهتمامهم على المنتجات التي تزيد قيمتها بتزايد عدد من يستخدمونها. على سبيل المثال، يعد جهاز الفاكس ماكينة مستقلة بذاتها، كالسيارة أو ماكينة تصوير المستندات؛ فله مجموعة من الخصائص المحددة جيدا، لكن على عكس السيارات وماكينات تصوير المستندات، يعتمد تحقيق النفع من جهاز الفاكس بشكل محوري على امتلاك الآخرين لأجهزة فاكس بدورهم ، فما من جدوى لشراء جهاز فاكس قبل الآخرين، إلا إذا كانت هناك جائزة لأول شخص يقتني أحدث أجهزة الفاكس، لكن مع تزايد عدد من يشترون هذه الأجهزة، أصبحت أكثر قيمة، لتتحول في النهاية من طرفة تكنولوجية إلى ضرورة فعلية.
نظرا لأن منتجات مثل أجهزة الفاكس تستمد بعضا من نفعها الذاتي على الأقل من وجود أجهزة أخرى خارجية، فإن قرار شراء أحدها يتأثر بمؤثرات خارجية، لكن المؤثرات الخارجية على اتخاذ القرار المرتبط بشراء جهاز فاكس ليست هي نفسها المؤثرات المعرفية أو القسرية في تجارب آش. مع أنه عند اختيار جهاز معين لشرائه بالفعل، قد نعتمد على النصائح التي يقدمها لنا أصدقاؤنا ذوو الاهتمامات التكنولوجية (ومن ثم نستفيد من مؤثرات المعلومات الخارجية)، فإن القرار المتعلق بشراء جهاز الفاكس أو عدم شرائه هو عملية حسابية اقتصادية تماما لا تعتمد إلا على التكلفة والمنفعة. يمكننا إذن التحدث، في حالة منتجات مثل جهاز الفاكس، عن «مؤثرات السوق الخارجية» لنوضح أن المنفعة العائدة من المنتج ذاته - وتكلفته في كثير من الأحيان، التي تنخفض غالبا عندما تصبح التكنولوجيا أكثر انتشارا - تعتمد على عدد الوحدات المباعة، ومن ثم حجم السوق. (يفضل علماء الاقتصاد، بالمناسبة، مصطلح «مؤثرات الشبكات الخارجية»، لكن نظرا لأن جميع المؤثرات الخارجية على قراراتنا تعتمد على شبكات من التأثيرات، يعد مصطلح «مؤثرات السوق الخارجية» أقل التباسا.)
تحظى في كثير من الأحيان مؤثرات السوق الخارجية بدعم غير مباشر مما يطلق عليه علماء الاقتصاد «حالات التكامل»، ويتحقق التكامل بين اثنين من المنتجات (أو الخدمات) عندما يزيد كل منهما من القيمة المستقلة للآخر. على سبيل المثال، تعد تطبيقات البرامج وأنظمة التشغيل منتجات مكملة بعضها لبعض، وتتسم مؤثرات السوق الخارجية - خاصة عندما تعززها حالات التكامل - بقدرتها على إحداث أثر تعقيبي إيجابي يعرف باسم «العوائد المتزايدة» التي تشبه تأثير متى الذي سبق لنا تناوله في الفصل
الرابع . فكلما زاد عدد أجهزة الكمبيوتر المزودة بنظام تشغيل محدد، زاد الطلب على تطبيقات البرامج التي تعمل عليه، وكلما زاد عدد البرامج المتاحة لنظام تشغيل معين، زاد الطلب على أجهزة الكمبيوتر التي تعمل بهذا النظام، ويعبر ذلك، في الواقع، إلى حد ما عن كيفية ارتباط سوق أجهزة الكمبيوتر الشخصية على نحو وثيق بنظام ويندوز الذي تقدمه شركة مايكروسوفت. ونظرا لريادة مايكروسوفت المبكرة في سوق نظم التشغيل (باعتبارها الخيار المفضل لدى شركة آي بي إم)، ولأنها تتمتع طبيعيا بميزة معينة مقارنة بأي جهة أخرى في إنتاج البرامج المتوافقة مع نظام التشغيل الذي تنتجه، فقد تمكنت من أن تستأثر بحصص ضخمة في كل من سوق نظم التشغيل وسوق التطبيقات، وعلى العكس، كان لزاما دائما على شركة آبل شق طريقها بجهد في ظل حقيقة أنها تتحكم في حصة صغيرة نسبيا من سوق نظم التشغيل، ومن ثم لم تتح أبدا أمام مستخدمي نظام التشغيل ماكنتوش نفس خيارات تطبيقات البرامج التي يتمتع بها نظراؤهم من مستخدمي نظام التشغيل ويندوز. (8) مؤثرات التنسيق الخارجية
بناء على ما سبق، فإن المؤثرات الخارجية على القرارات يمكن أن تنشأ لأن الشكوك التي تكتنف العالم الواقعي تدفعنا لالتماس المعلومات أو النصائح من نظرائنا (مؤثرات المعلومات الخارجية)، أو الاستسلام مباشرة للضغط الذي يمارسونه علينا (المؤثرات الخارجية القسرية)، ويمكن أن تظهر كذلك في ظل غياب الشك، ويرجع ذلك ببساطة إلى أن موضوع القرار نفسه عرضة للعوائد المتزايدة (مؤثرات السوق الخارجية)، لكن ثمة فئة متميزة أخرى من المؤثرات الخارجية على القرارات تنبع من بنية ألعاب المنافع العامة، مثل معضلة العشاء ومأساة المشاع.
تذكر هنا أن نجاح هذه الألعاب يكمن في أن «فعل الصواب» - سواء أكان ذلك إعادة تدوير المخلفات البلاستيكية أو الزجاجية، أم عدم الانتظار صفا ثانيا في شارع مزدحم (ولو لبرهة قصيرة فحسب)، أو ملء وعاء القهوة بعد الحصول على آخر كوب به - يكون مكلفا على المستوى الفردي، لكنه مفيد على المستوى الجمعي؛ فمن وجهة النظر الجمعية، إذا فعل عدد كاف من الناس الصواب، فسيصبح الجميع أفضل حالا؛ فلن تنفد الموارد الطبيعية في العالم، ولن تعاني الشوارع الازدحام المروري، ولن يصبح وعاء القهوة فارغا أبدا، أما من وجهة نظر الأفراد، إذا كان الآخرون يفعلون الصواب، فثمة إغراء دائم في الانتفاع مما يبذله هؤلاء الآخرون من جهود؛ أي جني ثمار مورد عام ما دون المساهمة فيه، بل الأسوأ من ذلك أنه إذا لم يكن هناك من يفعل الصواب، فما مغزى المحاولة إذن؟ سيظل الأمر يكلفك القدر نفسه من الجهد، لكن دون أن ينتفع به أي شخص.
يكمن جوهر المعضلة هنا في أن الأفراد هم من يتخذون القرارات، وليس الجماعات؛ لذا فإن معظم الاستراتيجيات التي تهدف للتغلب على المعضلات الاجتماعية تحاول تنظيم الأمور بحيث يكون لدى الأفراد حوافز أنانية لفعل ما هو مرغوب فيه على المستوى الجمعي. تطبق الحكومة ذلك بإصدار مرسوم ما؛ فتضع قوانين تهتم بالمواطنين، ثم تجبر هؤلاء المواطنين على الطاعة بقوة القانون. والأسواق، من جانبها، تحل هذه المعضلة أيضا، لكن على نحو مختلف تماما؛ فمن خلال وضع كل شيء رهن الملكية الخاصة، والسماح للمالكين بالمتاجرة في ممتلكاتهم بحرية، تتمكن الأسواق (كما أشار آدم سميث لأول مرة) من كبح جماح الأنانية الفردية لحساب المصلحة العامة.
لكن لا يمكن لكل شيء أن تنظمه الحكومة أو أن يقدم جاهزا على نحو يسهل المتاجرة فيه، وليس بالضرورة أن نرغب في أن تسير الأمور على هذا النحو؛ ففي ظل غياب حكومة عالمية تملك القوة لإخضاع جميع الدول، ودون اللجوء إلى أي حروب، لا وجود في الحقيقة لما يسمى معاهدة دولية نافذة (فلا يمكن الزج بدولة بأكملها في السجن ببساطة لامتناعها عن التعاون). ونظرا لأن الكثير من الاتفاقيات الدولية تعنى بكيانات غير قابلة للتجزئة بطبيعتها، كالمناخ والمحيطات، كثيرا ما يستحيل تحقيق التوافق بين المصالح الفردية والجمعية عبر قوى السوق فحسب. بالأحرى، لا بد من التوصل إلى الاتفاقيات الدولية والحفاظ عليها من خلال التعاون بين دول مستقلة ذات سيادة، بحيث تعرض كل منها منطقها ومصالحها على مائدة المفاوضات. ومعاقبة إحدى الدول الجانحة عن طريق تطبيق عقوبات تجارية، مثلا، يتطلب تعاون الدول الأخرى من خلال عدم انتهاك هذه العقوبات لتحقيق مصلحة خاصة.
وعلى الرغم من صعوبة تحقيق التعاون الجماعي والمحافظة عليه في غياب حكومة مركزية فعالة أو أسواق ذات أداء فعال، فإنه أمر ممكن، بل يحدث بالفعل، ليس فقط على الساحة الدولية، بل أيضا على مستوى المجتمعات والشركات والحياة الأسرية، ومع أن الشروط اللازم توافرها لظهور التعاون بين صناع القرار، الذين يتسمون بالأنانية، لا تزال موضوعا للنقاش، فقد ألقت الدراسات النظرية والتطبيقية على مدار العقدين الماضيين قدرا كبيرا من الضوء على هذا الأمر. تقوم كل هذه التفسيرات على متطلبين أساسيين؛ أولا: ينبغي على الأفراد الاهتمام بالمستقبل، ثانيا: لا بد أن يؤمنوا بأن أفعالهم تؤثر على قرارات الآخرين. فإذا كنت لا تعنى بما يحدث لك أو لغيرك في اللحظة التالية، فسيكون دافعك الوحيد للتصرف هو الأنانية، لكن عندما يكون للمستقبل أهمية، حينئذ فقط تكون التضحية قصيرة الأجل التي ينطوي عليها أي فعل يقوم به المرء تجاه الآخرين تستحق ما يبذل في سبيلها من جهد، لكن الاهتمام بالمستقبل ليس كافيا؛ فلن يمنحك المستقبل أي حافز لدعم مصلحة الجماعة، إلا إذا آمنت بأنه من خلال فعل ذلك ستتمكن من دفع الآخرين للانضمام إليك، والسبيل الوحيد - لتقييم قدر الاختلاف الذي يمكنك تحقيقه، وهل هو كاف - هو ملاحظة التصرفات الصادرة عن الآخرين. إذا بدا أن عددا كافيا من الناس يسيرون على النهج نفسه، فقد تقرر أن الأمر جدير بالمحاولة أيضا، وإن لم يكن فلن تفعل. نتيجة لذلك، فإن اتخاذ قرار بالتعاون من عدمه يعتمد اعتمادا أساسيا على ما سنطلق عليه «مؤثرات التنسيق الخارجية». (9) صناعة القرار اجتماعيا
دائما ما ننتبه نحن البشر بطبيعتنا، وعلى نحو حتمي، وأحيانا بلا وعي، إلى بعضنا البعض عند اتخاذنا القرارات بصورها كافة، بدءا من التافهة ووصولا إلى تلك التي تغير مسار حياتنا، وسواء أكان ذلك نابعا من حاجة لتعويض ما نفتقر إليه من معلومات، أو انصياعا منا لضغوط الأقران، أو استغلالا لمزايا وسيلة تكنولوجية مشتركة، أو محاولة منا لتنسيق مصالحنا المشتركة، غير أن هذا منظور لا نرتاح تماما عندما نرى أنفسنا من خلاله؛ فنحن نفضل النظر لأنفسنا كأفراد مستقلين قادرين على اتخاذ قراراتنا بأنفسنا بشأن ما نراه مهما، وبشأن الكيفية التي نعيش حياتنا بها. لقد اكتسبت فكرة الفرد المستقل، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، عددا كبيرا من الأتباع المخلصين؛ لتتحكم بذلك في حدسنا ومؤسساتنا، فيجب النظر إلى الأفراد ككيانات مستقلة، والتعامل مع قراراتهم على أنها تنبع من داخلهم، والنتائج التي تنعكس عليهم مؤشرات لما يتمتعون به من مواهب وخصال فطرية.
هذه فكرة جيدة، لا تدل ضمنا فحسب على المفهوم الجذاب من الناحية النظرية، القائل إنه يمكن للأفراد المستقلين أن يكونوا أشخاصا يسعون دائما، وعلى نحو عقلاني، إلى ما هو أمثل، لكنها تنطوي أيضا على رسالة ذات بريق أخلاقي تقول إن كل شخص مسئول عن أفعاله. مع ذلك، ثمة اختلاف بين أن يكون المرء مسئولا عن أفعاله، والاعتقاد بأن تفسير هذه الأفعال مقتصر على الذات وحدها، وسواء أكنا نعي ذلك أم لا، فنادرا - هذا إن لم يكن مطلقا - ما نتخذ قراراتنا على نحو مستقل ومنعزل تماما عما حولنا، فغالبا ما تتوقف هذه القرارات على الظروف المحيطة بنا، وماضينا، وثقافتنا. لا يمكننا كذلك عدم التأثر بالكم المذهل من المعلومات المتاحة دائما في كل مكان من حولنا، وتقدمها لنا في أغلب الأحيان وسائل الإعلام، وعندما نحدد طبيعتنا كأفراد، والظروف المحيطة بنا في حياتنا، تحدد هذه المؤثرات العامة كلا من الخبرة والتفضيلات التي نستحضرها في أي موقف نتخذ فيه قرارا، لكن عندما نوضع في الموقف ذاته، قد تكون خبراتنا وميولنا غير كافية لحسم قراراتنا بشأن ما نتخذه من قرارات، وهنا تتدخل المؤثرات الخارجية - سواء أكانت معلومات، أم عوامل قهرية، أم متعلقة بالسوق، أم تنسيقية - لتلعب دورا محوريا، وعندما تأتي لحظة الاختيار، فإن البشر كائنات اجتماعية في الأساس، وإذا تجاهلنا دور المعلومات الاجتماعية في عملية صنع القرار - أي تجاهلنا دور المؤثرات الخارجية - فسوف نسيء فهم العملية التي تحدد ما نقوم بفعله.
قرأت حديثا مقالا في إحدى الصحف عن الرواج المتزايد لثقب أجزاء من الجسم لوضع الأقراط بها ، خاصة بين المراهقين، ووفقا لما قاله الشباب المتمردون الذين أجريت معهم المقابلات، فهم لم يتخذوا القرار بثقب أجسامهم لإغضاب آبائهم غير المواكبين للعصر، أو حتى لأن أصدقاءهم يفعلون ذلك، لكن السبب الوحيد هو إرضاء أنفسهم! قالت إحدى الفتيات: «لأنني أردت ذلك.» حسنا، ربما يكون الأمر كذلك، لكن هذا التفسير المرتجل لا يفضي في الحقيقة إلا إلى السؤال: ولماذا أرادت ذلك؟ بلا شك ستدعي الفتاة المذكورة في ذلك المقال أنه كان اختيارها الحر؛ نظرا لكون الاستقلالية ميزة يسعى وراءها المراهقون الأمريكيون بصورة خاصة، لكن التكتل الزمني والجغرافي والاجتماعي المدهش لهذه القرارات «الحرة» يوحي بأنها كانت بعيدة كل البعد عن الاستقلالية، فانتشرت النزعة لثقب أجزاء الجسم كالنار في الهشيم، من مدينة إلى مدينة وبين المجموعات الاجتماعية في هيئة سلسلة من القرارات، يتخذها شخص لا يعي الإطار الأكبر الذي ينتمي إليه القرار الذي اتخذه، لكن الإطار موجود، وهو إطار يتشارك فيه عدد وافر من الظواهر الاجتماعية الأخرى، بدءا من النظم المالية المعاصرة وصولا إلى الثورات الشعبية، لكن، لفهم هذا الإطار، علينا التوغل أكثر في القواعد التي تتحكم في اتخاذ الأفراد للقرارات، وكيف، في هذه الأثناء، تصبح خياراتنا التي تبدو مستقلة، مرتبطة بعضها ببعض على نحو معقد.
الفصل الثامن
الحدود والسلاسل وقابلية التنبؤ
أذكر أنني أخبرت ستيف بشأن سلاسل المعلومات في مؤتمر الرابطة الأمريكية للنهوض بالعلم في عام 2000 في واشنطن العاصمة، حيث ألقى هاريسون وايت خطابه عن السياقات الاجتماعية، الذي دفعنا لبدء العمل على مشروع شبكات الارتباط مع مارك، وأثناء تجولنا بأرجاء حديقة الحيوان الوطنية صبيحة أحد أيام الآحاد الباردة في انتظار استيقاظ القردة من نومها، اتفقنا على أن إحدى أكثر السمات الخادعة لمشكلة السلاسل تتمثل في اتسام النظام معظم الوقت بالاستقرار التام، حتى في وجه الصدمات الخارجية المتكررة، لكن بين الحين والآخر، ولأسباب لا تبدو واضحة مسبقا أبدا، تتجاوز إحدى هذه الصدمات الحدود على صورة سلسلة.
يبدو أن العامل المحوري في أي سلسلة هو أنه عندما يتخذ الأفراد قراراتهم، بشأن كيفية التصرف أو بشأن ما يشترونه، فهم يتأثرون ليس فقط بماضيهم ومداركهم وتحيزاتهم، بل أيضا بعضهم ببعض، ومن ثم لا يمكن فهم السلوك الجمعي، بدءا من الصيحات الجديدة وصولا إلى الفقاعات المالية، إلا من خلال استيعاب ديناميكيات القرارات مع المؤثرات الخارجية عليها. ومرة أخرى، تكمن في أعماق المشكلة شبكة؛ تلك الشبكة المتشعبة من الإشارات والتفاعلات التي ينتقل من خلالها المؤثر من شخص لآخر. وقد فكرت أنا وستيف، فيما بيننا، كثيرا بشأن الكيانات المعدية التي تنتشر عبر الشبكات، لكن ما ورد على ذهننا أغلب الوقت هو أن ما نتحدث عنه هو الأمراض البيولوجية؛ كنقص المناعة البشرية والإيبولا، أو فيروسات الكمبيوتر. أجرينا بعض الدراسات - كجزء من بحثي لرسالة الدكتوراه - عن نشوء التعاون في شبكات العالم الصغير وعن حالة خاصة تعرف باسم «نموذج المقترعين» (وهي حالة مشابهة لمسألة الارتفاع الحاد لمستوى الصمت التي درستها نويل-نيومان)، لكننا لم نفكر آنذاك في أي من هاتين المشكلتين باعتبارهما مرتبطتين بالعدوى.
الآن يبدو جليا أن العدوى في أي شبكة تمثل عنصرا محوريا لظهور التعاون أو بروز إحدى فقاعات السوق، شأنها في ذلك شأن تفشي وباء نتيجة لمرض ما، لكنها ليست النوع نفسه من العدوى. وهذه النقطة مهمة للغاية؛ لأننا عادة عندما نتحدث عن مشكلات العدوى الاجتماعية نستخدم مفردات الأمراض، فنصف الأفكار بأنها «معدية»، وصور انتشار الجريمة بأنها «وبائية»، ووسائل الوقاية من مخاطر السوق بإقامة «مناعة» ضد الأزمات المالية. ما من شيء خاطئ في هذه الصفات، عند النظر إليها كاستعارات؛ فهي، في نهاية المطاف، جزء من المخزون اللغوي، وكثيرا ما تعبر عن الفكرة العامة بوضوح. لكن يمكن أن تكون الاستعارات مضللة؛ لأنها توحي أيضا بأن الأفكار تنتشر من شخص لآخر بالطريقة ذاتها التي تنتشر بها الأمراض؛ أي إن كل صور العدوى متشابهة جوهريا، وهذا غير صحيح، وبوسعنا أن ندركه عندما نفكر ثانية في الجوانب النفسية لصنع القرار. (1) نماذج حدود القرارات
تصور نفسك في إحدى تجارب سولومون آش، ومعك سبعة أفراد آخرين، تلقى بعضهم تعليمات بالإجابة عن السؤال الذي سيطرح عليهم إجابة صحيحة، وهي (أ )، في حين يجيب البعض الآخر الإجابة الخاطئة، (ب)، عن عمد. لست على علم بذلك، لكن لا أهمية لذلك في البداية؛ لأنك ما إن تر الشريحة حتى تثق تماما أن الإجابة هي (أ). لكن قبل أن تتمكن من التعبير عن رأيك، عليك أن تنتظر أن ينطق الآخرون جميعا بإجاباتهم، وفي تلك الأثناء من الجائز أن تغير رأيك. تصور الآن أن ستة من بين الأفراد السبعة قد صوتوا للإجابة (أ)، الأمر الذي يعزز رأيك، في حين صوت شخص واحد للإجابة (ب). ذلك الشخص أحمق بالطبع، وسيسخر منه الجميع، وما من سبيل لتغير رأيك، وإذا صوت شخصان للإجابة (ب)، فمن المحتمل ألا يتغير شيء؛ فستظل الأغلبية داعمة لرأيك الطبيعي، ومن ثم ليس هناك سبب لتشك في نفسك، أما إذا صوت ثلاثة أو أربعة أشخاص للإجابة (ب)، فربما يبدأ القلق في التسرب إلى نفسك. ما الذي يحدث؟ كيف يمكن لمجموعة من الناس أن تنقسم على نفسها إلى هذا الحد بشأن أمر على هذا القدر من الوضوح؟ ما الذي غفلت عنه؟ قد تظن حينها أنك لست على يقين تام، وإن كنت عديم الثقة بالذات، فقد تغير رأيك، لكن ربما تكون واثقا حقا من إجابتك، فلا يزعزعك شيء عن قرارك. حسنا، والآن ماذا إذا صوت خمسة أفراد للإجابة (ب)، أو ستة، بل ماذا إذا أجاب الأفراد السبعة جميعهم بتلك الإجابة؟
ما المرحلة التي سينهار عندها يقينك؟ ما المرحلة التي ستعلن فيها إذعانك ذهنيا وتسلم فيها بأنك لا تستوعب ما يفهمه الآخرون جميعا؟ ربما لن تفعل ذلك أبدا؛ فبعض الناس لا يغيرون رأيهم مطلقا، لكن في المواقف التي نحمل فيها شكا ما في نفوسنا، حتى لو كان بسيطا للغاية، يفعل أغلبنا ذلك؛ هذا بالتأكيد ما أشارت إليه تجارب آش. وعند دراسة النتائج التي توصل إليها آش بمزيد من التعمق نكتشف أمرا أكثر إثارة؛ فقد أثبت، بتغيير عدد الناس في الغرفة، أن نزعة الخاضعين للتجربة للموافقة على رأي الأغلبية كانت مستقلة إلى حد بعيد عن العدد المطلق للأفراد ، فلم يكن مهما هل ثلاثة أفراد أم ثمانية أجابوا إجابة معينة؛ المهم أنهم أجمعوا عليها. الأمر الثاني الذي لاحظه آش أنه في حال ظهور أي صدع بسيط في حائط الإجماع هذا - أي إذا تلقى فرد واحد من الأغلبية تعليمات بأن يجيب إجابة صحيحة، ومن ثم يتفق مع الشخص الخاضع للتجربة - فسوف تعود إليه ثقته في الغالب، ومن ثم يشهد معدل الأخطاء تراجعا حادا.
تكشف هذه التنويعات حول نتيجة آش الرئيسية عن بعض المعاني الخفية المهمة للقاعدة العامة التي تنص على أن الكائنات الاجتماعية تعير بعضها بعضا اهتماما عند اتخاذ القرارات؛ أولا: ليس العدد المطلق لمن يتخذون خيارا معينا هو الذي يلزم المرء باتباع نهجهم، بقدر ما هو العدد النسبي، أو الجزئي، من الناس الذين يفضلون أحد البدائل على غيره. ولا يعني ذلك أن حجم العينة لا علاقة له بالأمر، فإذا التمست القليل فقط من الآراء قبل اتخاذ قرار ما، فسوف يحمل كل رأي قيمة أكبر مما إذا التمست آراء الكثير من الناس، لكن ما إن يحدد عدد المجاورين لك، ويعرض الخيار؛ الخيار (أ) في مقابل الخيار (ب)، يكون العدد «النسبي» للمجاورين لك ممن يختارون (أ) بدلا من (ب) هو الدافع وراء قرارك. ثانيا: يمكن أن يكون للتغيرات الطفيفة في نسبة المجاورين لك ممن يتخذون خيارا واحدا بدلا من الآخر تأثير هائل على قرارك النهائي. على سبيل المثال، عندما نسمع شائعة ملفقة، قد نرغب عن تصديقها، لكننا عندما نسمع الشائعة نفسها من مصدر ثان، وربما ثالث، نميل في مرحلة ما للانتقال من الشك إلى القبول (ربما على مضض)، ومرة أخرى نتساءل: كيف يمكن لهذا العدد الكبير من الناس أن يجانبهم الصواب؟
ومن ثم، مع أن اتخاذ قرار ما يمكن اعتباره نوعا من «الإصابة بعدوى» فكرة معينة، فإن آلية العدوى هنا مختلفة تماما عن العدوى بمرض ما؛ ففي الأمراض ينطوي التعرض لشخص واحد مصاب بالعدوى على القدر نفسه من احتمالية الإصابة مهما يكن عدد حالات التعرض غير الناجحة التي حدثت قبل ذلك . بعبارة أخرى، تحدث حالات العدوى بالأمراض على نحو «مستقل» بعضها عن بعض. على سبيل المثال، في حالة الأمراض المنقولة جنسيا، إذا أقام شخص ما علاقة جنسية مع آخر مصاب بالعدوى، وحالفه الحظ في ألا يصاب بها، فإن احتمالية تجنبه للضرر في المرة التالية التي يتعرض فيها هذا الشخص للعدوى، لن تزيد أو تقل؛ فكل مرة مستقلة بذاتها. يعرض الشكل
8-1
رسما بيانيا يعكس الاحتمالية المتزايدة للإصابة بالعدوى، ومع أن هذه الاحتمالية تكون ثابتة في حالة الأعداد الكبيرة من المتجاورين المصابين بالعدوى، فمع كل حالة تعرض إضافية تزيد الاحتمالية الكلية لتعرض الأعداد الصغيرة للعدوى بالقدر نفسه تقريبا.
شكل 8-1: احتمالية الإصابة بالعدوى في نموذج انتشار الأمراض القياسي تعتمد على عدد الأفراد المجاورين للمرء المصابين بالعدوى.
على النقيض من ذلك، العدوى الاجتماعية مشروطة إلى حد بعيد؛ إذ يعتمد تأثير رأي شخص معين - ربما على نحو هائل - على الآراء الأخرى التي تلتمس. على سبيل المثال، يمكن أن يمثل رأي سلبي بشأن أحد المرشحين المحتملين لوظيفة ما القشة التي تقصم ظهر البعير إذا جاء في أعقاب ملاحظات سلبية سابقة، أو قد يتجاهل تماما إذا تبعه عدد وافر من التقارير الإيجابية؛ لذا فإن قاعدة القرار الاجتماعي تشبه ما هو موضح في الشكل
8-2 ، حيث تزيد احتمالية اختيار النتيجة (أ) ببطء شديد في البداية مع زيادة نسبة المجاورين الذين يختارون (أ)، قبل أن تقفز سريعا عند تجاوز «الحد الحرج». نظرا لهذا التحول المفاجئ من بديل لآخر، نطلق على هذا النوع من قواعد القرارات «قاعدة الحدود»، وهي القاعدة التي يعبر فيها موضع حد الشخص عن مدى سهولة تأثره. يقع الحد، في تجارب آش، قريبا للغاية من الرقم واحد؛ ذلك لأن أي شيء أقل من الإجماع المطلق أدى إلى عدد قليل للغاية من الأخطاء من جانب الخاضعين للتجربة، لكن في المواقف الأخرى التي يشوبها قدر أكبر من الشك، مثل اختيار جهاز كمبيوتر جديد أو التصويت لأحد الأحزاب السياسية، حيث قد يبدو أفضل بديل مبهما، يمكن أن تكون قيم الحدود أقل بكثير .
شكل 8-2: احتمالية اختيار (أ) في مقابل (ب) في صناعة القرار اجتماعيا، وذلك وفقا لنسبة الأفراد المجاورين الذين يختارون (أ). عند الوصول إلى «الحد الحرج» للفرد، تقفز احتمالية اختيار (أ) سريعا من الصفر تقريبا إلى حوالي واحد.
ثمة سبل أخرى لاستنباط قواعد الحدود، المتوافقة مع الأنواع المختلفة للمؤثرات الخارجية التي تناولناها في الفصل السابق. على سبيل المثال، يمكن تمثيل قرار تبني تقنية جديدة بقاعدة حدود إذا كانت هذه التقنية عرضة لمؤثرات السوق الخارجية. لا أهمية هنا لاختلاف أصل المؤثرات الخارجية عن مؤثرات المعلومات الخارجية المستخدمة في تجارب آش. في مثال جهاز الفاكس، كل ما يهم فيما يتعلق بقرار الشراء (بجانب التكلفة) هو أن تمتلك نسبة معينة من الناس الذين تتواصل معهم (أو ترغب في التواصل معهم) أجهزة فاكس، بالإضافة لذلك، فإن احتمالية تبني مثل هذه التقنية يمكن أن تتغير سريعا، إذا زاد عدد الأفراد المالكين للفاكس - كنسبة من إجمالي عدد من تتواصل معهم - ليتجاوز الحد الذي يصبح فيه الشراء ذا مغزى اقتصادي.
يمكن أيضا استنباط قواعد الحدود من مؤثرات التنسيق الخارجية في المعضلات الاجتماعية، حيث لا تستحق تكلفة المساهمة في المصلحة العامة وحدها ما يبذل في سبيلها من عناء، إلا عندما يساهم عدد كاف أيضا من الأفراد الآخرين. يعتمد الوضع الفعلي لحد الفرد بدقة على مدى اهتمام ذلك الفرد بالمكاسب المستقبلية مقارنة بالربح قصير الأجل للتصرف على نحو أناني، وأيضا مدى التأثير الذي يرى أنه يحدثه. من الممكن أن يكون لدى الأفراد حد مرتفع يجعلهم لا يشاركون مطلقا، بصرف النظر عما يفعله الآخرون، أو حد منخفض يدفعهم للمشاركة دائما. المهم هنا هو أنه مهما تكن ماهية هذا الحد أو كيفية وصوله لهذه الدرجة على وجه التحديد، فكل شخص له حد ما.
ولهذا من الأهمية بمكان فهم نماذج حدود صناعة القرار. ومع أنه قد يوجد الكثير من السبل لاستنباط إحدى قواعد الحدود - سواء من منطق نظرية الألعاب أو رياضيات العوائد المتزايدة أو الملاحظة التجريبية - فما إن يترسخ وجودها حتى لا يكون هناك داع لأن نشغل بالنا بكيفية استنباطها، ونظرا لأن اهتمامنا منصب على صناعة القرار الجماعي، فإن كل ما نحتاج إلى معرفته بشأن قاعدة صناعة القرار ذاتها هو أنها تتسم ببعض السمات الأساسية لصناعة القرار الفردي. ما يعنينا الآن هو «النتائج» على مستوى «مجموعة الأفراد». بعبارة أخرى، عندما يبحث الجميع عن إشارات حول ما يجب فعله، وتصدر عنهم هم أنفسهم إشارات، فما شكل القرار الذي من المرجح أن تجمع عليه مجموعة الأفراد ككل؟ هل سيظهر التعاون أم سيظل الوضع الراهن كما هو؟ هل ستؤدي سلسلة البيع إلى تحول الأسعار إلى فقاعة غير مستقرة أم سيسود حس بقيمة جوهرية ما؟ هل سينجح أحد الابتكارات التكنولوجية أم يفشل؟ هذه هي نوعية الأسئلة التي يمكن أن نأمل أن تجيب عنها النماذج البسيطة القائمة على قواعد الحدود. ونظرا لأن قاعدة الحدود تعبر عن العديد من مواقف صنع القرار اجتماعيا، فأيا كان ما ستعبر عنه بشأن صناعة القرار الجماعي فسيطبق بصرف النظر عن كثير من التفاصيل. (2) تحديد نقاط الاختلاف
رغم ما ذكر سابقا، فإن بعض التفاصيل مهمة بالفعل، وأهم شيء هو أنه في مشكلات العدوى الاجتماعية بكافة صورها، يجدر بنا أن نضع في حسابنا ملاحظة أساسية مفادها أن «البشر مختلفون». يتمتع البعض - أيا كان السبب وراء ذلك - بإيثار يفوق ما يتسم به الآخرون، ولديهم الاستعداد لتحمل تكلفة شخصية أكبر لدعم فكرة لم تحظ بعد بفرصة للنجاح. هؤلاء هم متظاهرو لايبزيج، والمحتجون بميدان السلام السماوي، ومريدو القس الألماني مارتن لوثر، وأتباع الزعيم الأمريكي مارتن لوثر كينج؛ جميعهم وضعوا حياتهم وحريتهم على أكفهم في معركتهم للدفاع عما يؤمنون به، ونادرا ما ينتهي بهم المآل منعمين بحياة رغدة، لكنهم يلعبون الدور المحوري في الريادة، أما البعض الآخر، فيتسمون بالتعاطف والرغبة في المشاركة، لكن ليس قبل أن تتضح إمكانية نجاح الفكرة، وتقل تكاليف الانضمام إليها، وثمة فئة أخرى لا تنضم إلى الفكرة إلا عندما يبدو النجاح مؤكدا تماما؛ فيخشون أن يفوتهم جني ثماره.
من الأمور المهمة أيضا من منظور صناعة القرار أن الأفراد يملكون بوجه عام مستويات مختلفة من المعلومات أو الخبرات المرتبطة بإحدى المشكلات، ومن ثم من السهل أن يتأثر بعضهم بسهولة أكبر مقارنة بآخرين. يختلف الناس أيضا من حيث قوة قناعاتهم، بصرف النظر عما إذا كانوا أكثر معرفة أم لا؛ فبعض الناس مبتكرون بطبيعتهم؛ يحلمون دائما بأفكار جديدة أو استخدامات مبتكرة للمنتجات الموجودة بالفعل، أما البعض الآخر الأقل ابتكارا، فيبحثون باستمرار عن أحدث الأدوات أو الصيحات، آملين في تحقيق الربح من استثمار مبكر أو التفاخر فحسب أمام أصدقائهم، لكن يواصل آخرون التمسك بما يفهمونه بالفعل، رغم محاولات تغيير العالم من حولهم. ومعظمنا في المنتصف بين هذا وذاك، تشغلنا حياتنا لدرجة لا تسمح لنا بقضاء وقت طويل في الابتكار أو البحث عن المبتكرات، لكن يسعدنا دائما الانضمام إلى الآخرين ما إن يصبح خطر الظهور بمظهر الحمقى في أدنى مستوى له.
مع أن تنوع تفضيلات الناس وأمزجتهم أمر معقد في الحياة الواقعية، فمن اليسير نسبيا التعبير عنه في نموذج الحدود الذي سبق لنا تناوله، وعلى عكس معظم النماذج في الفيزياء (بل في الاقتصاد أيضا) حيث يعد الأفراد متماثلين بوجه عام، يمكن للأفراد هنا في شبكتنا أن يكون لهم حدود مختلفة، حيث يمكن تفسير «التوزيع العام للحدود» (الموضح مثال عليه في الشكل
8-3 ) كقياس للتنوع في مجموعة الأفراد ككل. وهذا النوع من التنوع، الذي يمكن أن نطلق عليه «التنوع الجوهري»، يبدو مهما في انتشار سلاسل المعلومات؛ بطرق مدهشة في بعض الأحيان. على سبيل المثال، يؤدي وجود مجموعة متنوعة كبيرة من الحدود الشخصية في مجموعة الأفراد إلى زيادة فرص المنتجات أو الأفكار الجديدة في الانتشار بصورة كبيرة.
شكل 8-3: يعكس توزيع احتمالية الحدود بمجموعة الأفراد تنوع الخصائص الفردية.
ثمة نوع آخر من التنوع على درجة من الأهمية: إذا كان انتباه بعضنا لبعض مهما إلى هذا الحد، فلا بد أن «عدد» من ننتبه إليهم مهم أيضا. على سبيل المثال، عندما أشتري ملابس جديدة، أصطحب معي في أغلب الأحيان امرأة ما، خشية أن تتسبب احتمالية اتخاذي قرارات بشأن ملابسي دون رقابة في إصابتي بالفزع وهجر فكرة الشراء. من الأمثل لي أن أصطحب معي أكثر من امرأة واحدة، ليس فقط لأن ذلك سيحدث العجائب في مظهري، بل أيضا لأن العديد من الآراء من المحتمل أن تؤدي إلى معلومات يمكن الاعتماد عليها على نحو أكبر، لكن عادة ما يعد إقناع أكثر من واحدة من صديقاتي بالمجيء معي للتسوق أمرا صعبا جدا، ومن ثم يجب علي تحري الدقة عند اختياري لصديقتي؛ فرأيها - في ظل عدم تمتعي بذوق راق في الملابس - يكون قاطعا، وما سينتهي بي الحال مرتديا إياه يكون تحت رحمتها تماما. في مواقف أخرى، بدءا من اختيار فيلم معين، أو زيارة مطعم ما، أو شراء جهاز كمبيوتر محمول جديد، أو تعيين مرشح محدد في وظيفة ما، قد نلتمس مجموعة مختلفة من الآراء تعتمد على أهمية القرار لنا والوقت المتاح أمامنا، لكن لا تعد الآراء الكثيرة أفضل دائما، فكلما زاد عدد الآراء التي نلتمسها لاتخاذ قرار ما، تراجع مدى تأثرنا بأي منها، ومن ثم قل تأثير أي اقتراح منفرد.
يمكن اعتبار الإحصائيات الإجمالية؛ كاستطلاعات الآراء أو حصص السوق لمنتج معين، من نفس نوعية المعلومات المنقولة اجتماعيا التي نحصل عليها من أصدقائنا، لكنها تنتشر بين عدد أكبر من الأفراد. كثيرا ما تروج شركة فورد لسيارتها «إكسبلورر» تحت مسمى «السيارة الرياضية متعددة الأغراض الأكثر مبيعا في أمريكا»، لتشير ضمنا إلى أنه إذا نالت السيارة إعجاب هذا العدد الكبير من الناس، فسوف تنال إعجابك أنت أيضا. يعد سعر سهم ما مثالا آخر على هذا الأمر: فكلما زاد عدد الأشخاص الذين يريدون شراء الأسهم في السوق كلها، ارتفع سعرها. ظاهريا، يبدو أن هذا النوع من المعلومات العامة ينبغي أن يكون أكثر موثوقية من طرح الأسئلة فحسب على أصدقائك؛ فهي صادرة عن عينة كبيرة من الناس.
مع ذلك، فكثيرا ما نتأثر على نحو متفاوت بالآراء أو الأفعال الصادرة عن زملاء أو مصادر أو معارف أو أصدقاء مقربين لنا. على سبيل المثال ، عند اتخاذ قرار بشأن شراء جهاز كمبيوتر محمول شخصي أو ماكنتوش، ستبدو حقيقة تفوق الكمبيوتر الشخصي على الماكنتوش من حيث المبيعات عالميا أمرا غير ذي صلة إذا كان كل من تعمل معهم يستخدمون الماكنتوش. في الواقع، أشارت إحدى حملات الدعاية الحديثة لشركة آبل إلى أنك إذا كنت محاسبا (أي «مضجر، ممل، يتحاشاه الآخرون في الحفلات»)، فستستخدم الكمبيوتر الشخصي على الأرجح، أما إذا كنت تعمل في الفن أو التصميم أو الأزياء (أي «عصري، أنيق، دائم الانشغال»)، فأنت على الأرجح تستخدم جهاز ماكنتوش. تتمثل الرسالة هنا في أن المعلومات التي يمنحها لك أصدقاؤك تكون أهم من أي معلومات عامة أخرى قد تحصل عليها؛ وذلك لأنها أكثر صلة بك أنت؛ لذا فإن طرح الأسئلة على عدد قليل للغاية من الأفراد قد يكون سيئا؛ وذلك لأنك تجعل نفسك عرضة للأخطاء، لكن طرحها على عدد كبير للغاية من الأفراد أمر سيئ أيضا؛ لأن المعلومات ذات الصلة تضيع في هذه الحالة وسط الزحام.
بالإضافة إلى ذلك، فإن شبكات المعلومات الاجتماعية مهمة، ليس فقط لأنها تساعدنا في اتخاذ قرارات فردية أفضل، بل أيضا لأنها تسمح للأمور التي أدركت في أحد السياقات بالانعكاس على سياق آخر، ونظرا لأن هذا النوع من الانعكاس يعد أمرا محوريا في ديناميكيات السلاسل، فإن للشبكات الاجتماعية مكانة جوهرية في عملية تحول شيء بسيط إلى شيء مهم. عندما طرحت شركة «ثري كوم» الإصدار الأول لها من أجهزة «بالم بايلوت»، لم يشترها سوى المولعين بالتكنولوجيا، وهذه المجموعة الصغيرة من الناس - الذين انتمى أغلبهم إلى فئة المهندسين والعاملين في مجال التكنولوجيا في وادي السليكون ومنطقة خليج شمال كاليفورنيا المحيطة به - لم تكن بحاجة لتوجيه من أحد لكي يمتلكوا أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا، فقد كان ما يعنيهم حقا هو الابتكار نفسه؛ فوجب عليهم امتلاكه، بصرف النظر عما إذا ابتاعه آخرون أم لا. لكن المولعين بالتكنولوجيا حقا، شأنهم شأن المولعين بأحدث صيحات الأزياء والمتابعين المخلصين لها، يندر وجودهم نسبيا، بل إنهم نادرون لدرجة تجعل من العسير عليهم إنجاح منتج جديد وحدهم ، لكنهم إذا تمكنوا من إعلاء شأن هذا المنتج في عالمهم الصغير حتى ينعكس على العوالم الصغيرة الأخرى التي يتصلون بها، فقد تعطي كل هذه العوالم الصغيرة هذا المنتج الدفعة التي يحتاجها ليدخل العالم الأكبر ويصبح سلسلة. لكن على أي صورة يجب أن يكون اتصالهم؟ (3) السلاسل في الشبكات الاجتماعية
كان ذلك هو السؤال الذي بدأت في العمل للإجابة عنه. في النهاية، كان ما أردته هو التوصل إلى السمات المحددة للشبكات الاجتماعية - مثل وجود المجموعات والمجتمعات، ونزعة الأفراد للاتصال عبرها - التي تعزز من نمو أثر مبدئي بسيط إلى حركة عالمية. إذا أراد شخص ما - على سبيل المثال - إشعال ثورة أو بدء صيحة جديدة، فكيف ينبغي عليه أن يبادر بها؟ هل توجد نقاط ضعف في الشبكات إذا استهدفت على النحو الصحيح تماما، تتحول الصدمة البسيطة إلى وباء، ويشكل كل قرار متعاقب الظروف المؤدية إلى القرار التالي؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل يمكن استغلال هذه المعرفة لتعزيز احتمال ظهور سلسلة ما؟ أو الحيلولة دون ذلك الظهور؟ هل يمكن لهذا المنطق نفسه أن يتسع ليشمل نظما مصممة هندسيا، كشبكات الطاقة، لتقليل احتمالية حدوث عطل متسلسل، مثل العطل الذي حدث في شهر أغسطس من عام 1996؟ هل يمكن إنشاء جدران الحماية، بصورة ما، في الشبكات على النحو نفسه تقريبا الذي تقام به في المباني لاحتواء الحرائق؟
كانت هذه كلها أسئلة جيدة، لكن مع تعمقي أكثر في المشكلة، صار من الجلي أن الإجابات لن تأتي بسهولة؛ فالعدوى الاجتماعية أكثر تناقضا مع المنطق من العدوى البيولوجية؛ ذلك لأنه في نماذج الحدود، يعتمد تأثير تصرف شخص ما على الآخر اعتمادا كبيرا على المؤثرات الأخرى التي تعرض لها هذا الشخص الآخر. أما في انتشار الأمراض - كما سبق وأوضحنا - فلسنا بحاجة للقلق بشأن هذا التأثير؛ لأن كل حالة عدوى ينظر إليها على نحو مستقل عن أي حالة أخرى، لكن في العدوى الاجتماعية، يمكن أن يحدث هذا الأثر اختلافا هائلا.
يمكن لمجموعة منعزلة من الناس - طائفة دينية كالطائفة الداودية مثلا - أن تحافظ على معتقدات غير قابلة للتصديق على الإطلاق ما دام أفرادها يظلون في سياق يمكنهم في إطاره تعزيز بعضهم لبعض باستمرار، ومنع بعضهم بعضا من التفاعل مع العالم الخارجي، لكن لهذا السبب ذاته، تظل أفكارهم محصورة في المجموعة ذاتها التي ظهرت فيها. على النقيض التام من ذلك، يمكن للأفراد المشتركين في الكثير من المجموعات المختلفة على نحو متزامن أن يخبروا أنواعا أكثر من الناس بأفكارهم، والوصول أيضا إلى مجموعة أشمل من المعلومات، لكن يقل احتمال سيطرة أي رؤية عامة واحدة عليهم، وقد يضطرون أحيانا إلى إقناع الآخرين بأفكارهم بأنفسهم، دون الاستعانة بدعم الآخرين إلا فيما ندر؛ لذا فإن انتشار الأفكار، على عكس انتشار الأمراض، يتطلب الموازنة بين تماسك المجموعات والاتصال فيما بينها.
من الحقائق الغريبة التي عرفتها أثناء دراستي بجامعة كورنيل بشأن إيثاكا أن المدينة تدعم عملة بديلة، تعرف باسم «إيثاكا آورز»، وهي عملة يمكن جنيها وإنفاقها في عدد من المتاجر في وسط المدينة. ومع أن هذا النظام قد يبدو غريبا، فقد استمر ثابتا لما يزيد عن عقد من الزمان، لكنه ظل أيضا قاصرا على نطاق شديد المحلية، بل لم ينتشر ليصل إلى الأعمال التجارية المحيطة بحرم جامعة كورنيل. عندما تركت إيثاكا في عام 1997، وانتقلت في البداية إلى نيويورك (كباحث ما بعد الدكتوراه بجامعة كولومبيا)، أذكر أن بنكي سيتي بنك وتشيس مانهاتن كانا يحاولان أيضا طرح نوع ما من العملات البديلة - بطاقة نقدية إلكترونية - في الجانب الغربي العلوي من مانهاتن، ومع الترويج المكثف الذي أجراه اثنان من أكبر البنوك في البلاد، فشل هذا البديل - الأفضل افتراضيا - للنقود الورقية في الانتشار.
هناك الكثير من الاختلافات بين هذين المثالين، لكن أكثر هذه الاختلافات ملاءمة لهذه المناقشة هو أنه في إيثاكا، تتسم شبكة العملاء والباعة باتصالها الوثيق، مما يمكنها من تحقيق الاستمرارية لنفسها، وعلى النقيض، تتسم منطقة الجانب الغربي العلوي من مانهاتن باندماجها الوثيق مع باقي نيويورك، ومن ثم لا يرى أحد مصلحة في التعامل بالبديل المحلي للنقد، لكن لو كانت البطاقات النقدية قد انتشرت بالجانب الغربي العلوي، لبدا من المعقول أن ينتشر هذا الابتكار - على عكس «إيثاكا آورز» - للسبب نفسه بالضبط الذي فشل نتيجة له. ومرة أخرى، يبدو أن نجاح أحد الابتكارات يتطلب تبادلا بين التعزيز المحلي والاتصال العالمي، وهذا المتطلب يجعل العدوى الاجتماعية أصعب كثيرا في فهمها من العدوى البيولوجية التي يكون فيها الاتصال هو الأهم.
بعد قدر لا بأس به من البحث غير المثمر، سلمت بأنه مع بساطة نموذج الحدود، كان لا بد من تبسيطه أكثر إذا كنت أرغب في استبعاد التعقيدات التي يتسم بها الهيكل الجماعي من مفهوم السلاسل التي تنتشر عبر شبكات الارتباط؛ لذا قررت البدء بشبكة ليس بها أي هيكل جماعي على الإطلاق: رسم بياني عشوائي. ومع أن الرسوم البيانية العشوائية ليست نماذج جيدة تماما للشبكات الاجتماعية الحقيقية، فهي مع ذلك نقطة جيدة للبدء بها. وعاهدت نفسي بأنني ما دمت لا «أقتصر» على الرسوم البيانية العشوائية، فسيكون من الجيد استخدامها نقطة انطلاق لاستكشاف التمثيلات الأكثر واقعية للشبكات، وكما سنرى، تصبح الأمور أكثر تعقيدا حتى مع الرسوم البيانية العشوائية نفسها، لكن يظل بإمكاننا تعلم بعض الدروس العامة المذهلة منها.
نظرا لأن النسخة الفنية لنموذج الحدود تجريدية إلى حد ما، فسيكون من المفيد استخدام مصطلح «انتشار الابتكارات» المنطقي، الذي قدمه إيفريت روجرز في ستينيات القرن العشرين. ومع أن كلمة «ابتكار» ترتبط عادة بطرح تقنيات حديثة، يمكن استخدام المفهوم للإشارة إلى الأفكار والممارسات كذلك، ومن ثم يمكن أن يكون الابتكار عميقا للغاية، مثل فكرة حديثة ثورية أو مبدأ اجتماعي جديد يدوم لأجيال، أو قد يكون تافها تماما، كدراجة الأرجل (السكوتر) أو أحد تصميمات الأزياء التي لن تحظى بشعبية إلا لموسم واحد فقط. يمكن أن يكون أي شيء بين هذا وذاك فعليا، بما في ذلك العقاقير الطبية الجديدة، وتقنيات التصنيع الحديثة، ونظريات الإدارة الحديثة، والأجهزة الإلكترونية الجديدة. وبناء عليه، يمكن استخدام مصطلح «المبتكرون» للإشارة ليس فقط إلى الأفراد الذين يقدمون أجهزة حديثة، بل أيضا إلى مؤيدي الأفكار الجديدة، أو بصورة أعم، أي صدمة بسيطة تهز كيان أي نظام اتسم فيما مضى بالسكون. وتشمل عبارة «المعتنقون الأوائل»، التي تستخدم غالبا لوصف الأفراد الذين يتبنون أي خدمة أو منتج جديد، ويرشحونه للآخرين، جميع الرواد والمناصرين وأتباع الثائرين أيضا. والمعتنقون الأوائل، كهواة التقنية في وادي السليكون، ليسوا سوى أفراد كان لهم أسبقية التأثر بأحد المنبهات الخارجية.
ومع ما تثيره مفردات روجرز من أفكار، فهي ليست دقيقة بما يكفي لتجنب الالتباس. على سبيل المثال، قد يكون من الصعب تحديد هل الأفراد تبنوا فكرة جديدة لأنهم كانوا أكثر ميلا لها مسبقا بطبيعتهم (لديهم حد منخفض)، أو لأنهم كانوا عرضة لتأثيرات خارجية قوية للغاية (تصادف وجود أعداد كبيرة من المعتنقين السابقين للفكرة في الحي الذي يقطنون به). قد يبرر أي من هذين التفسيرين الاعتناق المبكر للفكرة، لكن كلا منهما يحمل معنى ضمنيا مختلفا تماما فيما يتعلق بالأفراد قيد البحث. في أغلب الأحيان، نقبل ببساطة أن مصطلحات من قبيل «المبتكرون» و«المعتنقون الأوائل» تحمل معاني غير موضوعية، ونستخدمها بأي وسيلة تناسب هدفنا وقت استخدامها، لكن نظرا لأن لدينا إطارا رياضيا دقيقا نستعين به في عملنا، يمكن أن نقدم ما هو أفضل، وإذا أردنا تحقيق أي تقدم، فسوف نحتاج إلى ذلك.
لذا، من الآن فصاعدا، سيشير مصطلح «المبتكر» إلى نقطة تلاق تشهد نشاطا عشوائيا في بداية «دورة الابتكار». عندما تبدأ الدورة، تكون كل نقطة تلاق غير نشطة (خاملة)، ثم يحفز الابتكار عن طريق الاختيار العشوائي لنقطة أو أكثر (تمثل البذرة الأولى) بحيث تنشط (تتحول إلى وضع التشغيل)؛ هؤلاء هم المبتكرون. يمكن الآن أيضا تعريف «المبتكر المبكر» بأنه نقطة تلاق تتحول من حالة الخمول إلى النشاط تحت تأثير جار واحد نشط. نظرا لرغبتنا في فهم سرعة تأثر الشبكات بالسلاسل، نصف نقاط التلاقي التي تمثل المعتنقين الأوائل في هذه الحالة بالتحديد بأنها «سريعة التأثر»؛ إذ يمكن تنشيطها بأقل قدر ممكن من التأثير من نقاط التلاقي المجاورة لها في الشبكة. تكون كل نقاط التلاقي الأخرى في هذه الأثناء «مستقرة» (مع أن هذه النقاط المستقرة أيضا - كما سنرى فيما بعد - يمكن تنشيطها في ظل الظروف المناسبة)؛ لذا يمكن أن تتسم نقاط التلاقي بسرعة التأثر على أي من النحوين التاليين: إما لأن لها حدا منخفضا (ومن ثم ميلا مسبقا للتغير)، أو لأن عدد نقاط التلاقي المجاورة لها قليل للغاية، لكن كلا منها له تأثير قوي.
في الواقع، يمكن أن يكون للمعتنقين الأوائل أي حد على الإطلاق، ما دام لديهم عدد قليل كاف من المجاورين. قد يبدو هذا فارقا غريبا، لكنه جدير بالفهم؛ لأنه يغير توجهنا في تناول المشكلة بالكامل، فبدلا من الحكم على المعتنقين الأوائل في ضوء حدودهم، يمكننا التركيز على درجتهم التي - كما أوضحنا في الفصل
الرابع - تشير إلى عدد المجاورين لهم. على سبيل المثال، في الشكل
8-4 ، لنفترض أن الحد الخاص بنقطة التلاقي (أ) يبلغ الثلث. في الجزء العلوي يوجد للنقطة (أ) ثلاث نقاط تلاق مجاورة، إحداها نشطة، ونظرا لأن هذه النقطة الوحيدة النشطة تشكل ثلث عدد النقاط المجاورة للنقطة (أ)، يتم الوصول إلى حد النقطة (أ) وتنشط، ومن ثم يصير (أ) معتنقا أولا. على النقيض من ذلك، في الجزء السفلي، تمتلك النقطة (أ) الحد نفسه، لكن لديها هنا أربع نقاط تلاق مجاورة بدلا من ثلاث، ونظرا لأن النقطة النشطة الوحيدة المجاورة لها لا تشكل الآن سوى ربع مجموع النقاط المجاورة، فلن تنشط النقطة (أ)، ومن ثم يمكن أن يكون حد الثلث، اعتمادا على درجته، منخفضا بما فيه الكفاية لتصبح النقطة (أ) معتنقا أولا، أو لا. بعبارة أخرى، يمكن القول إنه في حالة حد الثلث، تكون «الدرجة العليا الحرجة» لنقطة التلاقي (أ) هي ثلاثة، حيث تتحدد هذه الدرجة بوصفها الحد الأقصى لعدد النقاط المجاورة التي يمكن أن تمتلكها نقطة تلاق واحدة، ويظل من الممكن تنشيطها بواسطة «أي» نقطة مجاورة، وإذا كان حد النقطة (أ) أقل من ذلك (الربع، مثلا)، فسترتفع الدرجة العليا الحرجة (أربعة)، والعكس. الجدير بالذكر هنا هو أنه فيما يتعلق بأي حد، يمكننا دائما تعيين درجة عليا حرجة مكافئة ، وإذا كان لدى نقطة التلاقي عدد من النقاط المجاورة أكبر من الدرجة العليا الحرجة لها، فستكون مستقرة أمام تأثيرات النقاط المجاورة الفردية، وإن لم يكن الأمر كذلك، فستكون سريعة التأثر؛ لذا فإن تغير الدرجة - مثل الملاحظة التي أوضحناها من قبل بأن بعض الناس لديهم عدد أكبر من الأصدقاء أو يلتمسون ببساطة عددا أكبر من الآراء مقارنة بالآخرين - أمر محوري لاستقرار الأفراد، ومن ثم لديناميكيات السلاسل.
شكل 8-4: لأي حد من الحدود، يمكن تنشيط أي نقطة تلاق بواسطة نقطة مجاورة واحدة إذا كانت درجتها أقل من الدرجة العليا الحرجة المكافئة لحدها أو مساوية لها. يكون هنا لنقطة التلاقي (أ) حد الثلث، ومن ثم يكون مقدار الدرجة العليا الحرجة هو ثلاثة. في الجزء العلوي تمتلك النقطة (أ) ثلاث نقاط تلاق مجاورة، ومن ثم تنشط، أما في الجزء السفلي، فلديها أربع نقاط تلاق مجاورة، ومن ثم تظل غير نشطة. (4) السلاسل والتخلل
في ظل هذا الإطار، يمكن الآن تحديد مسألة ظهور سلسلة المعلومات داخل مجموعة من صانعي القرار من عدمه تحديدا دقيقا. في شبكة الأفراد التي ننتمي إليها، يكون لكل فرد حد داخلي ومجموعة من المجاورين بالشبكة ينتبه إليهم. في بداية أي دورة ابتكار، يطرح ابتكار واحد في مكان ما داخل الشبكة، ثم لا بد أن يحدث أحد الأمرين التاليين قبل انتهاء الدورة: إما أن يختفي الابتكار تدريجيا، أو ينفجر ليصبح سلسلة معلومات.
لكن ما المدى الذي يجب أن يصل إليه انتشار الابتكار قبل أن يوصف بالسلسلة؟ يتمثل مفتاح الإجابة عن هذا السؤال في شيء سبق لنا التعرف عليه، وهو: مفهوم التخلل. تذكر أنه في سياق الحديث عن انتشار الأمراض، كان تعريفنا للوباء هو وجود تكتل واحد متصل؛ التكتل المتخلل، الذي يشغل جزءا لانهائيا من الشبكة مهما يكن حجمها. وبالمثل، عندما ينشأ تكتل متخلل في سياق عدوى اجتماعية، يكون النظام عرضة لحدوث «سلسلة عامة». تنشأ سلاسل أصغر حجما طوال الوقت؛ فكل صدمة، في الواقع، تؤدي إلى ظهور سلسلة بحجم معين، حتى إن اقتصرت على المبتكر وحده فقط، لكن السلاسل العامة هي الوحيدة التي تنمو على نحو ذاتي الاستدامة بالفعل، ومن ثم تغير من حالة النظم بالكامل، وبناء عليه، وكما انصب اهتمامنا من قبل على الأوبئة أكثر من ظهور الأمراض نفسها، فإن السلسلة «العامة» هي التي تعنينا الآن.
لكن، على عكس انتشار الأمراض، حيث تحمل كل نقطة تلاق القدر نفسه من احتمالية أن تكون جزءا من تكتل مصاب بالمرض، لدينا الآن نوعان من نقاط التلاقي - سريعة التأثر والمستقرة - علينا التفكير فيهما على نحو منفصل. إذا تخيلنا ما سيحدث عند طرح ابتكار ما على مجموعة غير نشطة مبدئيا من الأفراد، فسنرى أنه لن يتمكن من الانتشار إلا عندما يكون المبتكر الأول متصلا بمعتنق أول واحد على الأقل. من الواضح أنه كلما زاد عدد المعتنقين الأوائل في مجموعة الأفراد، زاد احتمال انتشار الابتكار، وكلما كبر حجم التكتل المتصل للمعتنقين الأوائل لهذا الابتكار، اتسعت دائرة انتشاره، وإذا تصادف أن التكتل سريع التأثر الذي «يصيبه» الابتكار (أي التكتل الذي يحتوي على مبتكر ما) متخلل عبر الشبكة، فسيؤدي هذا الابتكار إلى ظهور سلسلة عامة، ومن ثم إذا احتوت الشبكة على «تكتل متخلل سريع التأثر»، فمن المحتمل أن تنشأ سلاسل عامة بها، والعكس صحيح؛ إن لم تحتو الشبكة على تكتل متخلل سريع التأثر، فدائما ما ستختفي السلاسل تدريجيا دون أن تنشط سوى جزء بسيط من مجموعة الأفراد.
ومن ثم اختزلت مسألة تحديد هل السلاسل الناجحة يمكن أن تظهر داخل أحد النظم أم لا إلى مسألة إظهار هل للتكتل المتخلل سريع التأثر وجود أم لا وحسب. وصدق أو لا تصدق، فقد حققنا تقدما هائلا في هذا الشأن؛ فمن خلال تحويل ما كان في الأصل ظاهرة ديناميكية (مسار كل سلسلة من صدمة أولية بسيطة إلى حالتها النهائية) إلى نموذج تخلل ثابت (أحجام التكتلات سريعة التأثر)، يسرنا من مهمتنا كثيرا دون أن نفقد جوهر تساؤلنا الأساسي. لكنها لا تزال مشكلة صعبة. شهدت الصور المختلفة لنماذج التخلل تقدما هائلا خلال الثلاثين عاما الأخيرة، لكن لم يتم التوصل إلى حل عام على الإطلاق. في الواقع، نظرا لأن علماء الفيزياء هم من طوروا فكرة التخلل، ولأن تطبيقات الفيزياء تتضمن عادة شبيكات منتظمة، فليس معروفا عن التخلل في بنى الشبكات المعقدة، كالشبكات الاجتماعية، سوى أقل القليل.
في هذا الجانب تحديدا، أثبتت بنية الرسوم البيانية العشوائية متناهية البساطة أهميتها. في الواقع، عند هذه المرحلة من التفكير في المسألة أدركت أنني بحاجة لفهم السلاسل في الرسوم البيانية العشوائية أولا، وفي تلك الأثناء أيضا، عملت بالتعاون مع مارك وستيف على التوصل إلى الأساليب الرياضية اللازمة لحساب خصائص اتصال الشبكات العشوائية (انظر الفصل
الرابع )، وهي الأساليب التي عدلناها فيما بعد بمساعدة دانكن كالاواي بهدف دراسة التخلل في سياق قوة الشبكة (انظر الفصل
السادس )، واتضح، بالمصادفة، أن الأدوات نفسها يمكن تطبيقها إلى حد بعيد على مسألة البحث عن تكتلات متخللة سريعة التأثر، لكن ليس على نحو تام؛ لأننا نتعامل الآن مع نوع مختلف من التخلل، ومثلما يوضح الشكل
8-4 ، فإن نقاط التلاقي ذات العدد الكبير من النقاط المجاورة تميل للاستقرار أمام تأثيرات النقاط المجاورة الفردية، ونقاط التلاقي المستقرة، بطبيعتها، لا يمكن أن تكون جزءا من أي تكتل سريع التأثر، ومن ثم، يحتاج التكتل سريع التأثر للنفاذ بفعالية في غياب أكثر نقاط التلاقي اتصالا في الشبكة. وليس من المدهش أن يكون لهذا الانحراف عن التخلل القياسي مؤثرات هامة على النتائج.
مع ما تتسم به التفاصيل الرياضية لهذا الأسلوب من فنية عالية، فإن النتائج الرئيسية يسهل فهمها من خلال التفكير فيما يعرف باسم «الرسم البياني الطوري»، الذي يعرض الشكل
8-5
مثالا عليه. يمثل المحور الأفقي متوسط قيمة توزيع الحدود؛ أي المقاومة المعتادة لأحد الأفراد لفكرة جديدة، أما المحور الرأسي، فهو متوسط عدد المجاورين بالشبكة (الدرجة) الذين ينتبه إليهم المرء، ومن ثم يلخص الرسم البياني الطوري جميع الأنظمة الممكنة التي يمكن تمثيلها في الإطار البسيط للنموذج. كل نقطة على السطح المستوي تمثل نوعا محددا من النظم، مع كثافة معينة للشبكة من ناحية، وحد متوسط للأفراد من ناحية أخرى، وكلما انخفض الحد المتوسط، زاد ميل الأفراد للتغيير، ومن ثم يمكن للمرء أن يتوقع ارتفاع السلاسل على نحو أكثر تكرارا على الجانب الأيسر من الرسم البياني (حيث تكون الحدود منخفضة) مقارنة بالجانب الأيمن، وهذا، بالطبع، ما نراه بالفعل، لكن العلاقة هنا معقدة نظرا لوجود الشبكة التي يلزم للسلسلة الانتشار بأرجائها.
شكل 8-5: الرسم البياني الطوري لنموذج السلاسل. تتساوى كل نقطة بالسطح المستوي مع خيار معين من المعاملات المتغيرة (القيمة المتوسطة للحد، والعدد المتوسط للنقاط المجاورة، أو «الدرجة»). يمكن للسلاسل العامة أن تحدث داخل الخط المتصل (نافذة السلسلة)، لكن ليس خارجه، وتتماشى حدود نافذة السلسلة مع التحولات الطورية في سلوك النظام. تمثل النقطة (ح) حالة النظام التي تصبح فيها السلاسل العامة غير ممكنة، وبدءا من النقطة (ح)، يمكن الحث على ظهور السلاسل العامة، إما بتخفيض الحد المتوسط للأفراد (السهم الأيسر) من خلال زيادة الجاذبية المتأصلة في الابتكار، أو التقليل من كثافة الشبكة (السهم السفلي).
يرجع سبب تسمية الشكل
8-5
بالرسم البياني الطوري إلى أن الخط الأسود المتصل يفصل الحيز الخاص بجميع النظم الممكنة إلى طورين. تمثل المنطقة المظللة الموجودة داخل الخط إحدى مرحلتي النظام التي يمكن للسلاسل العامة أن تحدث فيها. ليس بالضرورة أن تحدث - وهذا مهم - لكنه أمر ممكن. أما خارج الخط، على العكس، لا يمكن للسلاسل العامة أن تحدث على الإطلاق، ومن ثم فإن حدود «نافذة السلسلة» الجلية هذه تشير إلى وجود ثلاث طرق يمكن من خلالها منع ظهور السلاسل؛ الطريقة الأولى واضحة: إذا كان الحد الخاص بكل شخص عاليا، فلن يتغير أحد على الإطلاق، وسيظل النظام مستقرا مهما تكن كيفية اتصاله، وعندما لا يكون الأمر كذلك، يظل من الممكن منع ظهور السلاسل عن طريق السلسلة نفسها، من خلال طريقتين: إما أنها ليست جيدة الاتصال على نحو كاف، أو قوية الاتصال «للغاية» (وهذا هو الجزء المثير للدهشة).
السمة الأخرى المهمة للرسم البياني الطوري هي أنه بالقرب من أي حد لنافذة السلسلة، يمر النظام بتحول طوري، وتعد هذه إحدى السمات القياسية لأغلب مشكلات التخلل، لكن ما يجعل هذا النوع من التخلل مختلفا عن النوع الذي تناولناه في الفصل
السادس
هو أن نافذة السلسلة لها حدان: حد علوي، حيث يكون اتصال الشبكة قويا؛ وحد سفلي، حيث لا يكون الاتصال قويا على الإطلاق. هذه الخاصية وحدها تجعل السلاسل مختلفة عن الأوبئة، حيث يزيد الاتصال القوي من احتمالية انتشار الأمراض دائما (إذا وضعنا رسما بيانيا طوريا للأوبئة، فسيظل الحد الأدنى موجودا، في حين سيختفي الحد العلوي)، ومع ذلك، تظل الاختلافات كبيرة بالفعل، وكما سنرى، فإن التحولات الطورية التي تحدث عند كل حد من الحدين مختلفة جوهريا، ومن خلال دراسة طبيعة هذه التحولات الطورية، يمكننا التنبؤ بأنواع السلاسل التي يمكن أن تحدث، وحجمها، ومعدل حدوثها. (5) التحولات الطورية والسلاسل
نلاحظ عند الحد السفلي لنافذة السلسلة، حيث يكون اتصال الشبكة ضعيفا، تحولا طوريا يتشابه كثيرا مع التحول الطوري الذي تناولناه في الفصل
السادس
لنماذج العدوى البيولوجية، وتفسير ذلك هو أنه عندما يكون لنقاط التلاقي جار واحد فقط في المتوسط، فستظل على نحو شبه دائم أدنى من الدرجة العليا الحرجة لها، ومن ثم سريعة التأثر بالتأثيرات الجديدة، مهما يكن الحد الخاص بها. مع ذلك، ونظرا لأن الاتصال منعدم في الشبكة، فلا يمكن لهذه التأثيرات الانتشار على نحو كبير. نتيجة لذلك، تتسم الابتكارات بميلها للانتشار مبدئيا، لكنها دائما ما تحتوى داخل التكتل المتصل الصغير الذي تبدأ داخله، ولا يظهر التكتل المتخلل سريع التأثر إلا عندما تصبح الشبكة كثيفة على نحو كاف، لكن نظرا لأن «معظم» نقاط التلاقي لا تزال سريعة التأثر في هذا النظام، فإن التكتل المتخلل سريع التأثر يكون في الحقيقة مماثلا للمكون الضخم للرسم البياني العشوائي الذي تناولناه في الفصل
الثاني
ثم
السادس
من هذا الكتاب.
ومن ثم بالقرب من الحد السفلي، تكون العدوى الاجتماعية مساوية إلى حد بعيد للعدوى البيولوجية؛ ذلك لأنها تمر بالتحول الطوري نفسه الذي تمر به الأوبئة، وهكذا يكون الدمج بين نوعي العدوى صحيحا في بعض الظروف؛ نظرا لأن الاختلافات بين النوعين من النماذج لا تؤثر في الناتج، وللسبب نفسه - وهو أن اتصالية الشبكات، وليس مرونة صانعي القرارات الأفراد، هي العقبة الرئيسية أمام نجاح السلاسل - فمن الصحيح أيضا أنه في الشبكات ضعيفة الاتصال، يتفاوت الأفراد المتصلون اتصالا قويا في تأثيرهم على انتشار العدوى الاجتماعية. تعكس هذه الملاحظة الثانية التفكير المعتاد حول انتشار الابتكارات، الذي وفقه يعد قادة الرأي والفاعلون المركزيون أكثر المروجين فعالية لتقنية أو ممارسة أو فكرة جديدة.
على سبيل المثال، يؤكد الكاتب والصحفي مالكولم جلادويل في كتابه الصادر قريبا بعنوان «نقطة التحول»، على الدور الذي يلعبه الأفراد ذوو الاتصال القوي في العدوى الاجتماعية، ويستخدم مالكولم في هذا الكتاب مصطلح «نقطة التحول» بمعنى يتفق تقريبا مع مفهوم السلسلة العامة، ومع أنه يبني أفكاره عن انتشار الأفكار على المقدمة المنطقية القائلة إن العدوى الاجتماعية لا تختلف في كيفية عملها عن العدوى المرضية، فإن ملاحظاته تتفق بوجه عام مع الملاحظات المتعلقة بنموذج الحدود، شريطة أن تكون شبكة صانعي القرار ضعيفة الاتصال. وتتمثل «عوامل الاتصال» التي يتناولها جلادويل في النوعية الفريدة للأفراد الاستثنائيين اجتماعيا الذين لا يحتفظون بأعداد ضخمة من المعارف فحسب، بل أيضا تمتد علاقاتهم عبر العديد من المجموعات الاجتماعية المختلفة. في عالم لا يمتلك فيه الناس سوى عدد قليل من الأصدقاء، أو يلتمسون عددا قليلا للغاية من الآراء عند اتخاذ القرارات، يبدو عامل الاتصال العرضي ذا أهمية كبيرة حقا.
لكن يمكن أيضا إضعاف التأثيرات عندما تكون الشبكة قوية الاتصال؛ فمثلما أوضحنا من قبل، كلما زاد عدد الأفراد الذين يضع المرء أفعالهم وآراءهم في الاعتبار قبل اتخاذ قرار ما، تراجع تأثير أي منهم عليه؛ لذا عندما ينتبه «الجميع» لأشخاص آخرين عديدين، فلن يمكن لمبتكر واحد يعمل وحده أن ينشط أيا منهم. هذه السمة هي التي تفرق بين العدوى الاجتماعية والبيولوجية، التي فيها يكون لاتصال الشخص العرضة للعدوى بشخص واحد مصاب بها التأثير نفسه، بصرف النظر عن عدد الآخرين الذين يتصل بهم هذا الشخص العرضة للعدوى. ويجدر التذكر هنا أنه في العدوى الاجتماعية، ما يهم هو العدد النسبي للأفراد المجاورين «المصابين بالعدوى» في مقابل «غير المصابين بها»؛ أي النشطاء في مقابل غير النشطاء، ومن ثم مع أن الشبكات قوية الاتصال قد يبدو، ظاهريا، أنها تدعم انتشار جميع أنواع التأثير، فإنها لا تدعم بالضرورة سلاسل التأثير الاجتماعي؛ لأن جميع الأفراد في هذا النوع من الشبكات يتسمون بالاستقرار محليا، ومن ثم لا يمكن ظهور السلاسل في المقام الأول.
إذن، الشبكات التي لا تتمتع بالاتصال الكافي تحول دون ظهور السلاسل العامة؛ لأن السلسلة لا يكون أمامها سبيل للقفز من أحد التكتلات سريعة التأثر إلى آخر، والشبكات التي تتمتع باتصال قوي للغاية تمنع أيضا ظهور السلاسل، لكن لسبب آخر؛ أنها تعلق في نوع من الركود، حيث تقيد كل نقطة تلاق تأثير أي نقطة أخرى وتصبح هي نفسها مقيدة، ومن ثم فإن الملاحظة المثيرة التي توصلنا إليها سابقا يمكن صياغتها الآن على نحو أكثر دقة: في العدوى الاجتماعية لا يتعرض النظام للسلاسل العامة إلا عند تحقيق التوازن، على النحو المحدد في نافذة السلسلة الموضحة في الشكل
8-5 ، بين الاستقرار والاتصال العام. (6) تجاوز الصدع
لكن تحمل لنا العدوى الاجتماعية مفاجأة أخرى؛ فعند الحد العلوي لنافذة السلسلة، تكون كثافة نقاط التلاقي سريعة التأثر كافية لأن تحتوي الشبكة على تكتل متخلل سريع التأثر، وفي هذه الحالة المتقلقلة، يكون النظام مستقرا محليا في كل مكان تقريبا ما عدا حول التكتل سريع التأثر نفسه، ونظرا لأنه داخل النافذة بالضبط، لا يشغل التكتل سريع التأثر سوى جزء صغير من الشبكة الكلية، فإن فرصة ظهور ابتكار واحد تكون صغيرة، ومن ثم ستندر السلاسل للغاية، وسيبدو النظام معظم الوقت وكأنه ليس مستقرا على المستوى المحلي فحسب، بل على المستوى العام أيضا، لكن بين الحين والآخر - وقد يعني ذلك مرة في المائة أو في المليون - يظهر ابتكار عشوائي في التسلسل سريع التأثر، ليحث بذلك على ظهور سلسلة ما. لا يختلف ذلك كثيرا عما يحدث عند الحد السفلي، حيث تندر السلاسل العامة أيضا، لكن ما إن تنتشر السلسلة حتى يختلف السيناريوهان سريعا.
تذكر أنه عند الحد السفلي ، تنتشر السلسلة حتى تشغل التكتل سريع التأثر، ثم تنفد الأماكن التي يمكنها الوصول إليها، ومن ثم لا تشغل السلاسل سوى جزء صغير نسبيا فحسب من الشبكة الكاملة، أما عند الحد العلوي، ونظرا لأن الشبكة تكون قوية الاتصال للغاية، يندمج التكتل سريع التأثر للمعتنقين الأوائل على نحو وثيق بباقي الشبكة (أو ما يطلق عليه روجرز «الأغلبية المبكرة» و«المتأخرة»). هذا العدد الأكبر من الأفراد يظل مستقرا فيما يخص المبتكرين الأفراد، لكن ما إن ينشط التكتل سريع التأثر بالكامل حتى تتعرض نقاط التلاقي المستقرة هذه «لعدد كبير» من المعتنقين الأوائل، ووجود هذه التأثيرات النشطة المتعددة كاف لتجاوز حدود نقاط التلاقي، بما في ذلك المستقرة منها تماما، فتبدأ في النشاط هي الأخرى.
هذا الحدث، عند وقوعه، هو الذي يطلق عليه الكاتب والمستشار التجاري جيفري مور «تجاوز الصدع»، ويشير بذلك إلى الوثبة التي يحتاج أي ابتكار ناجح (كأجهزة «بالم بايلوت» التي ذكرناها سابقا) إلى القيام بها من المجتمع المبدئي للمعتنقين الأوائل إلى العدد الأكبر من عامة الناس. عند الحد الأدنى ما من صدع لتجاوزه، كل ما هنالك هو تكتلات مختلفة الحجم من المعتنقين الأوائل. عند الحد العلوي فقط، يكون من المهم ليس فقط أن يعثر المبتكر على معتنقين مبكرين، بل أيضا أن يكون هؤلاء المعتنقون في موضع يمكنهم من إحداث تأثيرهم الجماعي على الأغلبية المبكرة والأغلبية المتأخرة، وفي نموذج الحدود يمثل تجاوز الصدع تطورا مثيرا بلا شك؛ لأن أي سلسلة تنجح في الإطاحة بالتكتل سريع التأثر ستنتشر بالضرورة إلى «الشبكة بالكامل»، لتحث على ظهور سلسلة ذات درجات عامة. وبلغة الفيزياء، يكون التحول الطوري عند الحد العلوي تحولا طوريا غير متصل؛ لأن الحجم النموذجي للسلاسل الناجحة يرتفع في الحال من صفر (وهو ما يشير إلى عدم وجود سلاسل على الإطلاق) إلى النظام بالكامل.
من ثم تكون السلاسل عند الحد العلوي لنافذة السلسلة أندر وأكبر حجما من تلك الموجودة عند الحد السفلي، الأمر الذي يؤدي إلى نوع مختلف نوعيا من عدم القدرة على التنبؤ. إن أغلب الابتكارات التي تظهر في الشبكات بالقرب من الحد العلوي تختفي تدريجيا قبل انتشارها على نطاقات واسعة، حيث يقمعها الاستقرار المحلي لنقاط التلاقي الفردية. يمكن لهذه الأوضاع الاستمرار إلى الأبد تقريبا، مما يدفع أي ملاحظ إلى استنتاج أن النظام مستقر بالفعل، ثم فجأة يطغى تأثير ما - كان يبدو في بادئ الأمر مشابها للتأثيرات الأخرى - على الشبكة بالكامل. ليس بالضرورة أن يكون هناك أي شيء مبشر بشأن المبتكر الذي أثار هذه السلسلة أيضا، على عكس الحال عند الحد السفلي - حيث تلعب عوامل الاتصال دورا مهما في الربط بين التكتلات سريعة التأثر - لا تكون الاتصالية هي المشكلة في الحد العلوي، ومن ثم فإن احتمالية إثارة السلاسل بواسطة فرد ذي عدد متوسط من المجاورين تتساوى مع احتمالية إثارتها بواسطة فرد يثير اهتمام الكثير من الناس، وعندما يسيطر الاستقرار المحلي على انتشار السلاسل بقدر أكبر مقارنة بالاتصالية، يكون الاتصال الجيد أقل أهمية من الاتصال بأشخاص يمكن التأثير عليهم بسهولة.
تخبرنا هذه السمات الخاصة بنافذة السلسلة ببعض الدروس غير المتوقعة بشأن انتشار الابتكارات، قد يكون أكثرها إثارة للدهشة هو أن السلسلة الناجحة ليس لها علاقة كبيرة بالخصائص الفعلية للابتكار، بل للمبتكر أيضا، مثلما نظن. ففي إطار نموذج السلاسل على الأقل، ما من شيء يميز الصدمة التي تسفر عن ظهور سلسلة عامة عن أي صدمة أخرى، وإنما يحدث كل النشاط بفضل اتصالية التكتل سريع التأثر الذي يرتبط به المبتكر الأولي. وما يزيد من صعوبة مشكلة تحديد النجاح هو أن التكتل المتخلل سريع التأثر، عند ظهوره، يكون سمة عامة للنظام؛ خيط محير مجدول بجميع أنحاء الشبكة. ليس من المهم فقط أن يكون لدى فرد معين جار واحد سريع التأثر أو أكثر، بل أيضا أن يكون لدى كل من هؤلاء المجاورين أيضا جار أو أكثر سريع التأثر، وهكذا، ومن ثم، حتى إذا تمكنت من تعيين المعتنقين الأوائل المحتملين، فلن تتمكن من معرفة ما إذا كانوا جميعا متصلين أم لا، إلا إذا كان بإمكانك رؤية الشبكة أيضا.
لا يعني ذلك أن عوامل مثل الجودة والسعر والعرض ليست مهمة، فعند تغيير حدود تبني الابتكارات لدى الأفراد في المجموعة، يمكن أن تؤثر السمات المتأصلة للابتكار أيضا على نجاحه أو فشله. الفكرة هنا هي أنه نظرا لأن الحدود لا تحدد وحدها الناتج، فلا يمكن للجودة والسعر والعرض فعل ذلك أيضا. في المناطق الموضحة بالشكل
8-5 ، أعلى ويمين نافذة السلسلة (النقطة ح على سبيل المثال)، يمكن تغيير النظام لجعله أكثر عرضة لظهور السلاسل، إما عن طريق تخفيض الحد المتوسط للتبني (السهم الأيسر) أو تحجيم اتصالية الشبكة (السهم السفلي). بعبارة أخرى، يمكن أن يكون لبنية الشبكة تأثير كبير أيضا على نجاح أحد الابتكارات أو فشله، شأنها شأن جاذبية الابتكار نفسه، بل داخل نافذة السلسلة نفسها، يتعلق قدر كبير من مصير الابتكار على الصدفة العشوائية؛ فإذا أصاب التكتل المتخلل فسينجح، والعكس صحيح. ومع رغبتنا في الاعتقاد أن الجودة المتأصلة للفكرة أو المنتج هي التي تحدد أداءه فيما بعد، بل الأسلوب الذي يعرض به، فالنموذج يوضح أنه لتحقيق أي نجاح هائل يمكن العثور دائما على محاولات على القدر نفسه من الجدارة، لكنها فشلت في جذب ما يزيد عن قدر ضئيل من الانتباه، وربما تكون بعض الابتكارات - مثل هاري بوتر ودرجات رازور وفيلم بلير ويتش بروجكت - قد أصابت التكتل سريع التأثر الصحيح، في حين لم تفعل أغلب الابتكارات الأخرى ذلك. وبوجه عام، لن يفرق أحد بين هذا وذاك إلا بعد انتهاء النشاط كله. (7) وجهة نظر غير خطية للتاريخ
إن الفكرة القائلة إن النتائج لا يمكن فهمها جيدا إلا في إطار تفاعلات الأفراد، الذين يصدر عن كل منهم في الوقت عينه رد فعل معين لقرارات الآخرين وأفعالهم، تقدم لنا رؤية مختلفة تماما للسبب والنتيجة مقارنة بتلك التي اعتدنا عليها بوجه عام. من وجهة النظر التقليدية، عند نجاح شيء أو شخص ما، نفترض أن حدود هذا النجاح ترتبط نسبيا بأهمية أو ميزة ما متأصلة في هذا الشيء أو الشخص؛ فالفنانون الناجحون عباقرة مبدعون، والقادة الناجحون أشخاص ذوو رؤى، والمنتجات الناجحة هي بالضبط ما يبحث عنه المستهلكون. مع ذلك، فلا يمكن إطلاق صفة النجاح إلا بعد وقوع الحدث، ومن اليسير الاتسام بالحكمة عند الحكم على الشيء بعد حدوثه، ومن ثم فإن نظرتنا التقليدية للعالم القائمة على النتائج تدفع بنا إلى عزو نجاح شيء ما إلى الخصائص التي يعكسها أيا كانت، سواء اعتبرت هذه الخصائص متميزة مسبقا أم لا.
ما لا ندركه بوجه عام هو أن الشيء نفسه بالضبط، بما يحمله من الخصائص ذاتها، يمكن أن يفشل فشلا ذريعا بسهولة، إلى جانب أننا لا نضيع الكثير من الوقت في التندم على العدد الكبير من الابتكارات الفاشلة التي كان من الممكن أن تتنافس على النجاح إذا اختلفت الظروف التي ظهرت فيها اختلافا قليلا فحسب. بعبارة أخرى، يميل التاريخ إلى تجاهل الأشياء التي «كان من الممكن» أن تحدث، لكنها لم تحدث. من الواضح أن ما حدث بالفعل يكون أكثر صلة بظروفنا الحالية مما لم يحدث، لكننا لدينا نزعة أخرى للافتراض بأن الناتج الفعلي كان «مفضلا» على جميع الاحتمالات الأخرى، ومن هنا يمكن للطرق التي ننظر بها إلى العالم أن تجعلنا نرى العشوائية خطأ على أنها نظام، ومن ثم، من وجهة النظر العلمية، إذا أردنا فهم ما يمكن أن يحدث في المستقبل، ينبغي علينا التفكير ليس فقط فيما حدث بالفعل، بل أيضا ما كان من الممكن أن يحدث.
ليس الدور المهم الذي تلعبه الصدفة والظروف في التاريخ بالفكرة الجديدة، لكن مفهوم سلسلة المعلومات يشير إلى شيء أكثر إدهاشا؛ أن المعطيات والنتائج لا يمكن أن ترتبط على نحو متناسب، أو حتى متفرد، فإذا آمن مليار شخص بدين معين، فسنفترض أنه منزل من السماء، وإلا فلماذا يؤمن به مليار شخص؟ وإذا تمتع عمل فني ما بشهرة أكبر بكثير من عمل آخر، فلا بد أنه أفضل بكثير، وإلا فلماذا يتحدث عنه الجميع؟ إذا احتشدت أمة ما حول أحد القادة لتحقيق أهداف عظيمة، فلا بد أن هذا القائد عظيم، وإلا فلماذا اتبعه الجميع؟ ومن ثم مع أن العظمة (أو الإلهام أو الشهرة) تتحقق فعليا بعد وقوع الحدث دائما، فإن مفهومنا عن الأمر هو أن هذه الميزات متأصلة من البداية في مصدر التغيير العظيم، وتمثل سمة متأصلة به.
مع ذلك، فقبل وقوع الحدث، نادرا ما تكون النتيجة التي يمكن لأي مجموعة من الظروف أن تؤدي إليها واضحة. ولا يرجع السبب فقط إلى أن العظمة، كالعبقرية، يصعب الحكم عليها، أو يساء فهمها في بعض الأحيان، بل لأنها لا تمثل أبدا سمة متأصلة من البداية؛ فهي إجماع توصل إليه عدد كبير من الأفراد، يلاحظ كل منهم آراء الآخرين بقدر ما يصدر من أحكام مستقلة، فقد يؤمن الناس بشيء ما ببساطة لأن آخرين مؤمنون به، وقد يتحدث الناس عن شيء ما لأن آخرين يتحدثون عنه، وقد يحتشدون حول قائد ما لأن آخرين يحتشدون حوله. ينطوي هذا النوع من العدوى في صناعة القرار على سلسلة معلومات، الأمر الذي يجعل العلاقة بين السبب الأولي والتأثير النهائي شديدة الغموض.
من الناحية النفسية، قد يصعب قبول وجهة النظر هذه؛ فكل عصر يحتاج إلى رموزه، مثلما تحتاج كل ثورة إلى قادتها، لكن نزعتنا إلى عزو تأثير ما للمبتكرين يتناسب مع النتيجة النهائية التي توصلوا إليها، تتجاهل الآلية التي تحول من خلالها تأثيرهم الفعلي إلى حركة جماهيرية. هذا هو الحال مع سوق الأوراق المالية؛ فعند ظهور حدث مهم في السجل التاريخي، نحاول دائما العثور على ما سبقه، وعندما نعثر على شيء ما - حتى وإن كان تافها - نعلق عليه أهمية كبيرة. ويشير آيزيا برلين إلى أن استياء تولستوي من التاريخ المدون، خاصة التاريخ العسكري، قد نبع من رؤيته المتعمقة بأنه في خضم أحداث الحرب، لا يمتلك أحد - بما في ذلك القادة العسكريون - أي فكرة عما يجري، ويعتمد التوازن بين المنتصر والمنهزم على الحظ أكثر من اعتماده على قوى القيادة أو الاستراتيجية، لكن بعد انتهاء الحرب، وظهور الطرف المنتصر، ينال القائد المنتصر (بالمصادفة) كل المجد.
من هذا المنظور، ما كان شعور تولستوي حيال العلم في أواخر القرن العشرين ليختلف عن شعوره حيال الحرب في أوائل القرن التاسع عشر، فمنذ أن أعلنت مؤسسة سيليرا، برئاسة جيه كريج فينتر، والاتحاد ذو التمويل الحكومي، برئاسة فرانسيس كولينز وإريك لاندر، عن توصلهم جميعا إلى نتيجة واحدة في وضع خريطة الجينوم البشري، تنازع كل من فينتر وكولينز ولاندر على استحقاق التقدير عن هذا الاكتشاف. في الحقيقة، ما من أحد فيهم يستحق التقدير: فقد كان مشروع الجينوم تعاونا بين المئات، إن لم يكن الآلاف، من العلماء المجدين، الذين بدونهم ما كان سيوجد أي تقدير يمكن توزيعه. وفي الهندسة المعمارية لا يختلف الوضع كثيرا؛ فيحظى كل من فرانك لويد رايت وإيرو سارنين وفرانك جيري بتقدير رفيع نظرا لتصميماتهم المذهلة، لكن بدون فرق العمل من المهندسين الموهوبين وعمال البناء الجادين الذين حولوا رسومهم الهندسية إلى واقع، ما كان أي من هؤلاء المهندسين سيتمكن من تنفيذ أي شيء على الإطلاق. إن العمل البارز يصعب فهمه على نحو مباشر، ومن ثم فإن عقولنا تستجيب بتمثيل مشروع كامل أو فترة زمنية كاملة من التاريخ في صورة شخص أو جزء واحد؛ رمز ما. إن صناعة الرموز حيلة معرفية معروفة (وإحقاقا للحق، فالكثير من رموزنا أفراد موهوبون للغاية بالفعل)، لكنها من الممكن أن تتسبب في تضليل حدسنا عندما نحاول فهم أصول السلوك الجمعي، بالمقارنة بالسلوك الفردي.
من الأمثلة الأكثر واقعية أنه في أوائل عام 1999، عندما كان شون فانينج طالبا يبلغ من العمر تسعة عشر عاما في جامعة نورث إيسترن، صمم كودا لمساعدة صديق له على تنزيل الملفات الموسيقية بتنسيق «إم بي ثري» من الإنترنت، كانت النتيجة أن البرنامج، الذي أطلقوا عليه اسم نابستر، صار ظاهرة بين عشية وضحاها؛ إذ جذب ملايين المستخدمين وأثار غضب جميع العاملين في مجال التسجيلات، ليدخل فانينج بذلك الدوامة العالمية التجارية والقانونية والأخلاقية الصاخبة، ولفترة من الوقت على الأقل كان فانينج محط الأضواء؛ يبجله البعض ويحقره البعض الآخر، وصارت مقولاته تقتبس في صحف الأعمال، وصورته تحتل أغلفة المجلات، لكن في النهاية، وبعد إجباره على فرض رسوم مقابل خدمات مشاركة الموسيقى، نجح فانينج وخدمة نابستر (التي لم يعد لها وجود تقريبا الآن) في عقد اتفاق مع شركة النشر العالمية العملاقة بيرتلسمان. مجهود مذهل حقا لشاب لا يزال في مرحلة الدراسة الجامعية، أليس كذلك؟! الحقيقة هي أنه ليس كذلك، لكن مجهود من هو إذن؟
لا شك أن البرنامج الذي اخترعه فانينج كان بارعا، لكن تأثيره الهائل لم يأت نتيجة أي براعة خاصة يتسم بها الكود نفسه، أو أي رؤية خاصة لفانينج؛ الذي كان يساعد صديقا له فحسب؛ إن التأثير الهائل لنابستر جاء نتيجة الأعداد الهائلة من الناس الذين أدركوا أن هذا هو بالضبط ما كانوا يبحثون عنه، وبدءوا في استخدامه. لم يتوقع فانينج الطلب غير المسبوق على ابتكاره، وما كان بإمكانه توقع ذلك، بل على الأرجح أيضا أن الملايين من الأفراد الذين استخدموا نابستر في النهاية لم يعلموا برغبتهم في تنزيل الموسيقى مجانا من الإنترنت إلا عندما برزت الإمكانية أمامهم لفعل ذلك، فكيف أمكن لفانينج أن يعلم ذلك؟ في الحقيقة، لم تكن هناك حاجة لذلك، كل ما كان عليه فعله هو طرح فكرته، وما إن صارت في المتناول حتى التقطها القليل من الناس وبدءوا في استخدامها، ليسمع بها عدد آخر من الناس ويبدءون في استخدامها بدورهم، وكلما زاد عدد الأفراد الذين استخدموا نابستر، زاد عدد الأغاني المتاحة، ومن ثم صارت الخدمة أكثر جاذبية ووضوحا للآخرين.
إذا لم يبدأ شخص آخر سوى فانينج والقليل من أصدقائه في استخدام نابستر، أو إذا لم يكن لديهم مجموعات جيدة من الأغاني، أو لم يعلموا ما يكفي من الأشخاص الآخرين الذين لديهم مثل هذه المجموعات، فربما ما كان نابستر ليرى النور أبدا. فبصورة ما، تحتم أن تسير الظروف المحيطة بنابستر على هذا النحو بالضبط ليحقق النجاح، ولو كان تنزيله مكلفا، أو استخدامه مستحيلا، أو الطلب على الشيء الذي صمم من أجله منخفضا للغاية - مثل حل معادلات التفاضل أو ترجمة البولندية إلى الإيطالية - ما كان سيشتهر بهذا القدر على الإطلاق. وبلغة نموذج الحدود، كان لزاما على حد التبني أن يكون منخفضا بما فيه الكفاية لينتشر نابستر، لكن إلى حد ما أيضا، وربما إلى حد بعيد، كان نجاح نابستر مستقلا عن هيئته وأصله، ومع تلقي فانينج، باعتباره المبتكر، معظم الاهتمام، فإن المحرك الحقيقي لتحول نابستر من مجرد فكرة إلى ظاهرة كان الأشخاص الذين استخدموه. (8) القوة للناس
إن المبتكرين والثائرين - بعبارة أخرى، من يتصرفون من منطلق الضمير والأيديولوجية والإبداع والشغف - هم المكون الرئيسي في أي سلسلة عامة؛ فيشكلون البذرة أو نقطة الانطلاق التي تنتشر منها السلسلة، لكن - وهذا ما يجعل السلاسل صعبة الفهم - البذرة وحدها «لا تكفي». في الواقع، فيما يتعلق بنجاح السلسلة أو فشلها، فإن بذور التغيير، شأنها شأن نظيراتها في عالم الأحياء، شائعة ومتوفرة، قد تحتوي البذرة التي تسقط على الأرض على مخطط لشجرة وافرة الأزهار، ومن ثم فهي تتحمل، نظريا، المسئولية المطلقة عن المنتج النهائي، لكن تحولها إلى شجرة يعتمد اعتمادا شبه كامل على الخصائص الغذائية للمادة التي تهبط عليها. تنشر الأشجار بذورها بأعداد هائلة لسبب معين؛ أن واحدة فحسب من بين هذا العدد الكبير ستنمو وتثمر، وهذه البذرة لا تحمل ميزة خاصة متفردة، بل ستنمو لأنها هبطت في المكان «المناسب». ينطبق الأمر نفسه على البذور الاجتماعية؛ فالمبتكرون والمحرضون السياسيون موجودون دائما، ويحاولون على الدوام بدء شيء جديد وإعادة تشكيل العالم حسب مخيلتهم، لكن ما يجعل من الصعب التنبؤ بنجاحهم هو أن النجاح في كثير من الحالات لا يتعلق بالأساس برؤيتهم المحددة أو سماتهم الفردية بقدر ما يتعلق بنموذج التفاعلات الذي تظهر وسطه محاولاتهم المغيرة للواقع.
ليست هذه العبارة صحيحة دائما، شأنها شأن أغلب التعميمات. يحدث الأفراد في بعض الأحيان أثرا عميقا للغاية، فيبدو أن تأثيرهم مسلم به حقا. عند نشر بحث أينشتاين الأصلي عن النسبية الخاصة في عام 1905، قلب النظام العلمي السائد طوال الثلاثمائة عام السابقة، ومنذ ذلك الوقت صارت عظمة أينشتاين أمرا مؤكدا، وأحدث كل من ديكارت ونيوتن وحدهما ثورة في وجهات النظر العلمية العالمية في عصريهما؛ ديكارت بالهندسة التحليلية ونيوتن بنظرية الجاذبية. بعبارة أخرى، في بعض الأحيان، يتطلب الأثر العميق سببا عميقا بالدرجة نفسها، إلا أن هذا النوع من الاكتشافات نادر تماما، ومعظم التغيير الاجتماعي والعلمي لا تصنعه قفزات معرفية هائلة لأفراد عباقرة. إذا أراد المرء إحداث انهيار جليدي بأحد الجبال، يمكنه إسقاط قنبلة ذرية عليه، لكن ليس ذلك ضروريا، ولا تبدأ الانهيارات الجليدية في العادة بهذا الشكل، فبدلا من ذلك قد يتسبب اصطدام متزلج واحد على الجليد بالجبل الخاطئ في الوقت الخاطئ من اليوم في انهيار عنيف لا يتناسب مطلقا مع سبب حدوثه.
من الواضح أن الأمر نفسه ينطبق على الصيحات الثقافية والابتكارات التكنولوجية والثورات السياسية والأزمات المتعاقبة وانهيارات أسواق المال وغيرها من صور الجنون والهوس والأعمال الجماعية. المهم هنا هو عدم التركيز على المنبه ذاته، وإنما على بنية الشبكة التي يعمل عليها هذا المنبه، ولا يزال أمامنا الكثير من العمل في هذا الشأن. تذكر أن الشبكات العشوائية ليست هي التمثيل الأفضل للشبكات الحقيقية، وثمة محاولات جارية حاليا لتعميم أبسط نماذج السلاسل على شبكات واقعية تتضمن البنية الجمعية والهوية الاجتماعية الفردية ومؤثرات وسائل الإعلام. تعد قاعدة الحدود تمثيلا مثاليا إلى حد بعيد لصناعة القرار الاجتماعي، وستتطلب عددا من عمليات التجويد إذا أردنا تطبيقها على أي موضوع محدد، لكن حتى في وقتنا الحالي، تعد بعض الأفكار العامة ممكنة.
قد تكون السمة الأبرز لنموذج السلاسل هي أن الظروف الأولية التي لا يمكن تمييزها بعضها عن بعض قبل الحدث قد يكون لها نتائج مختلفة تماما حسب بنية الشبكة، من ثم لا يمكن التعويل على الجودة (التي يمكن ترجمتها هنا بحد التبني) كعامل تنبؤ بالنجاح، بل حتى النجاح الهائل لا يعد بالضرورة علامة على الجودة العالية. يمكن أن يتولد الفارق بين الابتكار الناجح للغاية والفشل الذريع بواسطة ديناميكيات التفاعل بين الفاعلين الذين قد لا تكون لهم أي علاقة بإيجاد هذا الفارق. لا يعني ذلك أن الجودة لا أهمية لها؛ فهي مهمة بالفعل، شأنها شأن الشخصيات والعرض، لكن في العالم الذي يصنع فيه الأفراد القرارات ليس بناء على ما يصدرونه من أحكام فقط، بل ما يصدره الآخرون أيضا، لا تكفي الجودة وحدها. (9) عودة إلى القوة
بالإضافة إلى تأثير السلاسل العامة على النظم المتصلة بشبكات من ناحية إمكانية التنبؤ، يمكن أيضا لفهمها أن يلقي بالضوء على مسألة قوة الشبكات التي تناولناها في الفصل
السادس . في بعض الأحيان، قد تتعرض النظم التي تتسم بكثرة أجزائها المعتمدة بعضها على بعض والتي تتفاعل بطرق معقدة، كشبكات الطاقة الكهربائية والمؤسسات الكبيرة، لأعطال كبيرة مفاجئة مع كل الاحتياطات المتخذة للحيلولة دون ذلك. يطلق عالم الاجتماع تشارلز بيرو، الذي تناول بالدراسة سلسلة من الكوارث التنظيمية، بدءا من الانصهار الجزئي لقلب المفاعل النووي بجزيرة ثري مايل وصولا إلى انفجار المكوك الفضائي تشالنجر، على هذه الأحداث «حوادث عادية»؛ فهو يرى أن الحوادث لا تقع بسبب أخطاء استثنائية أو إهمال يتعذر الصفح عنه، بل تقع لأن عددا من الأخطاء المعتادة تماما تراكمت، وربما تجمعت على نحو غير متوقع نتيجة للأعمال الروتينية والإجراءات المكتبية والاستجابات التي تحافظ في الوضع الطبيعي على سير الأمور بسلاسة. ومع أن هذه الحوادث قد تبدو استثنائية، فإن أفضل سبيل لفهمها هو اعتبارها عواقب غير متوقعة لسلوك معتاد، ومن ثم فهي ليست عادية فحسب، بل حتمية أيضا.
قد يبدو موقف بيرو، الموضح في كتابه «حوادث طبيعية»، متشائما بعض الشيء، لكنه يتشابه إلى حد بعيد مع الصورة المزمنة لعدم القدرة على التنبؤ الراسخة في نموذج السلاسل، وهذا التشابه ليس مجازيا فقط؛ فمع أننا استقينا قاعدة الحدود من سمات عملية صناعة القرار الاجتماعي، فيمكن أن تظهر الحدود في سياقات أخرى أيضا. فمتى كان من الممكن التعبير عن «حالة» نقطة تلاق في شبكة ما على صورة خيار بين بديلين - مصاب بالعدوى أو معرض للإصابة بها، نشط أو غير نشط، عامل أو متعطل - يعتمد على حالة نقاط التلاقي المجاورة، فإن المسألة تتعلق في جوهرها بالعدوى، ومتى عكست العدوى اعتمادا متبادلا بين حالات النقاط المتجاورة، بمعنى أن نتيجة أحد التأثيرات (مثل التعطل) يزيدها أو يقللها تأثير آخر ، ستنشأ قاعدة للحدود، ومن ثم فإن نموذج السلاسل يمكن تطبيقه ليس فقط على سلاسل القرارات الاجتماعية، بل أيضا على سلاسل الأعطال في الشبكات المؤسسية، بل شبكات الطاقة أيضا، ومن ثم فإن السمة الرئيسية لنموذج السلاسل - المتمثلة في أن النظم المستقرة ظاهريا يمكن أن تعكس فجأة سلسلة ضخمة - يمكن تفسيرها أيضا على أنها تعبير عن هشاشة النظم المعقدة، بما في ذلك تلك التي تبدو قوية.
منذ بضعة أعوام طرح كل من جون دويل، وهو عالم رياضيات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وجين كارلسون، وهي عالمة فيزياء في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا - نظرية لما أطلقا عليه «التحمل الأمثل» لتفسير توزيعات الحجم المرصودة لمجموعة كبيرة من الظواهر؛ بدءا من حرائق الغابات وصولا إلى انقطاع الكهرباء، وكانت أبرز النتائج التي توصلا إليها هي أن النظم المعقدة في العالم الواقعي تتسم بالقوة والضعف في الوقت ذاته، فنظرا لحاجة هذه النظم إلى البقاء في العالم الواقعي، فهي قادرة على تحمل الصدمات بكافة أشكالها، إما لأنها صممت لهذا الغرض أو لأنها تطورت لتفعل ذلك. وإن لم تتمكن من فعل ذلك، فسيجب تعديلها أو ستنتهي من الوجود، لكن كما هو الحال مع نموذج السلاسل الذي أوضحناه من قبل، يكون لدى أي نظام معقد نقطة ضعف، إذا أصيبت على النحو الملائم، فستتسبب في انهيار الكيانات المصممة بعناية ودقة هائلة، وما إن تظهر إحدى نقاط الضعف هذه حتى نهرع عادة لإصلاحها، وهو ما يعزز قوة النظام على نحو محدد (يتولى الانتخاب الطبيعي التعامل مع نقاط الضعف بطريقته الخاصة). لكن أوضح دويل وكارلسون أن هذا لا يقضي على الضعف المتأصل في النظام، بل يستبعده فقط حتى يأتي يوم آخر، وربما حادث من نوع مختلف تماما.
تعد الطائرات مثالا جيدا لهذه الظاهرة المتمثلة في الجمع بين القوة والضعف في الوقت عينه. عندما يظهر عيب ما في تصميم إحدى الطائرات الهامة، ويتسبب أحيانا في سقوطها، يعين المحققون أصل هذه المشكلة بالتحديد، وتخضع كل طائرة من هذا النوع في العالم للفحص والتعديل، إن لزم الأمر، للحيلولة دون تكرار هذه المشكلة. في العموم، يكون ذلك الإجراء فعالا، وهو ما يتبدى في الندرة النسبية للعيوب المتكررة المؤدية لتحطم الطائرات، لكنه لا يمنع حوادث الطائرات كلية؛ يرجع ذلك إلى سبب بسيط، وهو أن أفضل إجراءات الصيانة نفسها في العالم لا يمكن أن تضمن وقوع أخطاء لم يعلم أحد بوجودها بعد.
الطائرات أمر هين للغاية مقارنة بالكيانات المؤسسية الضخمة، مثل إنرون وكيه مارت، اللتين أعلنتا فجأة وعلى نحو غير متوقع إفلاسهما في غضون شهر واحد بين ديسمبر 2001 ويناير 2002، وهو الوقت الذي أنهيت فيه كتابة هذا الفصل، ومن ثم، في العالم الواقعي، لا يمكن لأي قدر من التخطيط الحذر، بل العلم المتطور، أن يحول دون وقوع الكوارث بين الحين والآخر. هل يعني ذلك أن علينا الاستسلام؟ بالطبع لا، ولم يشر أي من بيرو أو دويل أو كارسلون إلى انعدام الأمل، لكن المهم هو إثراء مفهومنا عن القوة، فلا يجب علينا تصميم نظم تتجنب الأعطال قدر الإمكان فحسب، بل علينا أن نتقبل أيضا فكرة أن الأعطال تحدث مع ما نبذله من جهود قصوى، وأن النظام القوي فعلا هو الذي يمكنه النجاة عند وقوع الكارثة، وسنتناول مفهوم القوة باعتبارها سمة مزدوجة للمؤسسات المعقدة - تمنع الأعطال من ناحية وتعد المؤسسة لها من ناحية أخرى - في الفصل التالي.
الفصل التاسع
الابتكار والتكيف والتعافي
في يناير من عام 1999، أثناء عملي باحثا ما بعد الدكتوراه بمعهد سانتا في، كنت ألقي خطابا على ممثلين من شبكة الشركات التي يتصل بها معهد سانتا في، وهي مجموعة من الشركات التي تقدم الدعم المالي للمعهد. كان تشاك سابيل من بين الحضور، وهو أستاذ قانون بجامعة كولومبيا التقيت به مرة أو اثنتين، لكن السبب الرئيسي لمعرفتي به هو اشتهاره بشخصيته المشاكسة. سبق لي آنذاك إلقاء الكثير من الخطب عن مسألة العالم الصغير، وأثناء إلقائي خطابي المعهود كان جل ما أتمناه ألا أتسبب في ضجر الحضور؛ لذا أدهشني كثيرا أن رأيت تشاك يهرول نحوي، بينما كنت أهم بالرحيل بعد انتهائي من الخطاب، ملوحا بيديه إلي ومصرا على ضرورة أن نتحدث معا. حسب ما كنت أدركه آنذاك بشأن عمل تشاك، فقد كان معنيا بتطور العمليات التجارية والصناعية الحديثة، ومن ثم لم يكن لعمله علاقة بي، هذا فضلا عن أنني لم أتمكن من فهم كلمة واحدة مما كان يقوله؛ فمع أن تشاك - كما اكتشفت لاحقا - كان صاحب فكر مثير للاهتمام للغاية، فقد كان أسلوبه أسلوب شخص مثقف انفعالي تدرب بجامعة هارفارد؛ يزخر حديثه بمفردات مهيبة ومنطق معقد واستنتاجات مجردة. إن الاستماع إلى تشاك وهو يفكر يشبه شرب الخمر من خرطوم إطفاء الحرائق؛ فالمذاق طيب، لكنك قد تختنق إن عببت منه عبا.
بعد دقائق قليلة من التحدث معه، وعيناي توشكان أن تدمعا، تمكنت من الفرار بأن ناولته مخطوطة كتاب كنت أعمل على تأليفه آنذاك، متوقعا أن تكون تلك المرة الأخيرة التي أسمع فيها منه، لكن كان ذلك قبل معرفتي به، فبعدها بأيام قلائل دق جرس الهاتف، وكان المتصل هو تشاك، وكان متحمسا أيما حماسة. إنه لم يقرأ المخطوطة المعقدة فحسب (وهو على الطائرة)، بل صار مقتنعا آنذاك بأن ما أملاه عليه حدسه المبكر كان صحيحا، وأنه علينا أن نلتقي في وقت لاحق من ذلك العام للتعاون في العمل على مشروع ما. لم تكن لدي أي فكرة عما كان يتحدث عنه، لكن غمرني حماسه لدرجة جعلتني أوافق. وبحلول شهر أغسطس، قدم تشاك إلى سانتا في، وتسلل الفزع إلى صدري. كيف سيتسنى لي قضاء شهر كامل في العمل مع شخص لا أعرفه تقريبا، على مشروع لا أفهمه تقريبا أيضا؟ بدأت أنظر إلى الموقف برمته كخطأ مؤسف، لكن عندئذ أخبرني تشاك بقصة ظلت تستهويني منذ ذلك الحين. (1) أزمة تويوتا-آيسين
في ثمانينيات القرن العشرين، كانت صناعة السيارات اليابانية مثار حسد العالم؛ لقد مثلت الشركات اليابانية، كتويوتا وهوندا، صورة مصغرة لمفهوم الشركات الحديثة التي تحقق أقصى استفادة ممكنة مما لديها من موارد، وذلك من خلال إتقانها لمجموعة من عمليات الإنتاج، مثل أنظمة التخزين الآني، والهندسة المتزامنة (التي تعين فيها الخصائص التصميمية للمكونات المرتبطة بعضها ببعض على نحو متزامن وليس متعاقب)، والرقابة المتبادلة. وعمد الخبراء الإداريون إلى الاستشهاد بشركة تويوتا، على وجه التحديد، أمام العالم أجمع باعتبارها نموذجا ملهما للامتزاج المتناغم بين الكفاءة الشديدة والمرونة الإبداعية. وعاما بعد عام، أفقدت تويوتا ديترويت هيبتها، وذلك بإنتاجها عددا كبيرا من أفضل السيارات في العالم من الناحية الهندسية، التي أذهلت الجميع بما في ذلك منافسوها الأوروبيون.
قد يكون من المثير للدهشة، إذن، أن يتضمن الصرح الصناعي الذي ينتج سيارات تويوتا وشاحناتها أكثر من شركة واحدة بكثير. في الواقع، إنه مجموعة مكونة من نحو مائتي شركة يجمعها اهتمامها المشترك بإمداد شركة تويوتا بكل شيء؛ بدءا من المكونات الإلكترونية وصولا إلى أغطية المقاعد، وأيضا يجمعها ما يعرف ب «نظام إنتاج تويوتا». يتمثل هذا النظام في مجموعة من بروتوكولات التصميم والتصنيع نفسها التي تبنتها معظم الشركات الصناعية اليابانية (والأمريكية حاليا)، ومن ثم فهي ليست بالأمر المميز جدا. إن ما يجعل هذا النظام فريدا حقا هو الالتزام الشديد بتطبيقه داخل مجموعة تويوتا؛ فالشركات في المجموعة، بما في ذلك الشركات التي يتنافس بعضها مع بعض للعمل مع تويوتا، تتعاون إلى حد يكاد يبدو معارضا لمصالحها، فتتبادل الموظفين فيما بينها باستمرار، وتتشارك الملكية الفكرية، ويعاون بعضها بعضا على حساب ما لديها من وقت وموارد، كل ذلك دون الحاجة لعقود رسمية أو الاحتفاظ بسجلات مفصلة. وتتبع هذه الشركات نهجا، في العديد من النواحي، أشبه بالإخوة وليس الشركات، باذلة أقصى ما لديها من جهد لتحظى باستحسان شركة تويوتا، التي تراقبها عن كثب كما لو كانت أما تحرص على التوافق بين الجميع مثلما تهتم بالأداء.
قد يبدو هذا أسلوبا جيدا لإدارة أسرة، لكن ليس من الواضح على الإطلاق أنه أسلوب جيد لصناعة السيارات، ومع ذلك، فمنذ ثمانينيات القرن العشرين بدأت الشركات الأمريكية؛ بدءا من مصنعي السيارات وصولا إلى مصنعي المعالجات الصغيرة وأجهزة الكمبيوتر وبرامجه، في تبني أساليب الإنتاج الياباني وأعرافه، واجتاحت التوجهات المستوحاة من اليابان الصناعات، واحدة تلو الأخرى، مع تمتع كل من نظم التخزين الآني وإدارة الجودة الشاملة وإعادة الهندسة بالشهرة لبعض الوقت، وكانت النتيجة النهائية لهذه الثورة أن الشركات الأمريكية في أواخر تسعينيات القرن العشرين صارت لا تشبه كثيرا السلاسل الهرمية المتكاملة عموديا التي قامت عليها صناعة السيارات، مثل هنري فورد وألفريد سلون في عشرينيات القرن العشرين، وظلت تمثل الشكل النموذجي لتنظيم الشركات منذ ذلك الحين، لكن مع المحاولات الجادة لشركات السيارات الأمريكية العملاقة للتغير، لم تتمكن أبدا من أن تواكب نظيراتها اليابانية في أدائها، لكن منذ أعوام قلائل واجهت تويوتا أزمة كبيرة أصابت صناعة السيارات العالمية بالذهول؛ ففي النهاية، لم يعرض نظام إنتاج تويوتا الثوري الشركة لمشكلة عويصة وحسب، بل أخرجها منها بالسرعة نفسها أيضا.
من أهم الشركات المكونة لمجموعة تويوتا وأكثرها موثوقية شركة آيسين سيكي. صارت آيسين شركة مستقلة، بعد أن كانت جزءا من شركة تويوتا نفسها في الأساس، وذلك في عام 1949، لينصب تركيزها بالتحديد على صناعة مكونات الفرامل. تنتج آيسين بالتحديد فئة من المعدات تعرف باسم الصمامات بي، وهي تستخدم في جميع المركبات التي تصنعها شركة تويوتا لتساعد في منع الانزلاق، وذلك عن طريق التحكم في الضغط الواقع على الفرامل الخلفية. ليست الصمامات بي، التي لا يتجاوز حجمها حجم علبة السجائر، بالأمر المعقد على الإطلاق، لكن نظرا لدورها المحوري للغاية في مسألة الأمان، لا بد من تصنيعها بدقة، ومن ثم فهي تنتج في منشآت عالية التخصص باستخدام مقاييس ومثاقب مصممة خصيصا لهذا الغرض، ونظرا لما تمتعت به شركة آيسين من تاريخ مشرف من حيث الأداء، صارت بحلول عام 1997 المورد الوحيد للصمامات بي لشركة تويوتا. ولأسباب تتعلق بالكفاءة اختارت شركة آيسين إقامة خطوط إنتاجها للصمامات بي في مصنع واحد؛ المصنع رقم 1 في مدينة كاريا، الذي بلغ إنتاجه بحلول ذلك الوقت 32500 صمام يوميا. وأخيرا، نظرا لنجاح نظام الإنتاج الآني لشركة تويوتا، فلم تكن تحتفظ بمخزون يومين من الصمامات بي؛ لذا كان الإنتاج بمصنع كاريا عنصرا شديد الأهمية لسلسلة الإمدادات بشركة تويوتا؛ فدون المصنع، لا صمامات بي، ودون صمامات بي، لا فرامل، ودون الفرامل، لا سيارات.
في الصباح الباكر ليوم السبت الأول من فبراير عام 1997، اشتعلت النيران بمصنع كاريا وسوته بالأرض، حدث الأمر على نحو مباغت؛ فبحلول الساعة التاسعة صباح ذلك اليوم، دمرت جميع خطوط إنتاج الصمامات بي، إلى جانب خطوط إنتاج أسطوانات القابض والأسطوانات الترادفية، ومعظم الأدوات ذات الأغراض الخاصة التي استخدمتها شركة آيسين للصناعة ومراقبة الجودة. وفي غضون ما لا يزيد عن خمس ساعات، تلاشت السعة الإنتاجية لشركة آيسين تماما، وتطلب إحياؤها شهورا. شهورا! كانت تويوتا تصنع آنذاك ما يزيد عن خمسة عشر ألف سيارة يوميا بنحو ثلاثين خط إنتاج، لكن بحلول يوم الأربعاء، 5 فبراير، توقف الإنتاج تماما، ليسفر ذلك عن تعطل ليس فقط مصانع تويوتا نفسها، بل أيضا المنشآت والعاملين بالكثير من الشركات التي قام عملها على إمداد تويوتا بمستلزماتها، وخيم الصمت على أضخم المصانع بجميع أرجاء منطقة تشوكيو الصناعية، مع سقوط مجموعة تويوتا المنيعة جراء انهيار إحدى لبناتها الأساسية. كان ذلك بلا شك كارثة مروعة، لا يضاهيها أي شيء، بما في ذلك الزلزال العنيف الذي ضرب مدينة كوبه اليابانية قبل ذلك الوقت بعامين.
إلا أن ما تلا ذلك لم يقل في تأثيره عن الكارثة نفسها؛ ففي استجابة منسقة تنسيقا مذهلا من أكثر من المائتي شركة، ودون إشراف مباشر يذكر من أي من آيسين أو تويوتا، أعيد إنتاج ما يزيد عن مائة نوع من الصمامات بي في غضون ثلاثة أيام بعد الحريق، وما إن حل يوم الخميس الموافق 6 فبراير، حتى أعيد فتح اثنين من مصانع تويوتا. ويوم الاثنين التالي، أي بعد ما يزيد عن الأسبوع بقليل من وقوع الكارثة، عاد الإنتاج لقرابة أربعة عشر ألف سيارة يوميا، وبعد ذلك بأسبوع عاد الحجم اليومي للإنتاج إلى مستواه قبل الكارثة، ومع ذلك، فقد قدرت وزارة الصناعة والتجارة الدولية في اليابان أن الخسارة في الإنتاجية الناجمة عن الحريق قد بلغت 1 / 12 من إجمالي صناعة وسائل النقل اليابانية في شهر فبراير.
في ظل معدل الخسارة المروع هذا، لا يمكن تصور العواقب التي كانت ستنجم عن توقف العمل شهورا، بل أسابيع، ومن ثم، من الجلي أن كل شركة في مجموعة تويوتا كان لديها دافع قوي للتعاون، سواء عن طريق استعادة إنتاجيتها ببساطة أو التودد للحصول على مزيد من الأعمال المستقبلية مع تويوتا، لكن حتى أقوى الدوافع ليست كافية وحدها، وهذا ما أوضحه توشيهيرو نيشيجوشي وألكساندر بوديه في تقريرهما المفصل عن مساعي تحقيق التعافي، فبصرف النظر عن عدد الشركات في مجموعة تويوتا التي رغبت في المساعدة، كان من الضروري أن تملك هذه الشركات «القدرة» على ذلك. من الجدير بالذكر أنه لم يكن لدى الاثنتين وستين شركة التي تولت إنتاج الصمامات بي في تلك الحالة الطارئة، أو الشركات التي فاق عددها 150 شركة وشاركت في الأمر بشكل غير مباشر كموردين، أي خبرة سابقة في صناعة الصمامات، هذا فضلا عن عدم تمتعها بإمكانية الوصول لأدوات متخصصة كتلك التي قضى عليها الحريق. كانت شركة براذر إندستريز مثلا إحدى الشركات التي ساهمت في جهود التعافي، وهي شركة تعمل في تصنيع ماكينات الخياطة، ولم يسبق لها تصنيع أجزاء السيارات من قبل على الإطلاق! ومن ثم فالسؤال المثير هنا ليس لماذا عمل الجميع بهذا الكد لتحقيق التعافي، وإنما: كيف؟
قبل أن تخمد الحرائق شرع المهندسون بشركة آيسين في العمل؛ فأخذوا في تقييم الخسائر وتحديد ما يجب فعله بالضبط، وقد أدركوا على الفور أن مهمة التعافي - لكي تتم سريعا بما فيه الكفاية لتفادي الهلاك الوشيك آنذاك - تفوق إمكاناتهم كشركة منفردة وإمكانات مورديهم الحاليين. تطلب الأمر مزيدا من الجهد، وهو ما لا يملكون التحكم فيه تحكما مباشرا. في وقت لاحق من صباح اليوم نفسه بعثت شركة آيسين، التي كانت قد أقامت مراكز للاستجابة لحالات الطوارئ، رسالة استغاثة تحدد فيها المشكلة باستخدام أكثر المصطلحات الممكنة شمولا، وتطلب المساعدة، واستجابت الشركات المكونة لمجموعة تويوتا، كما لو كانت طائرات مقاتلة تنتظر إشارة الانطلاق.
ومع ذلك، في هذا الموقف على وجه التحديد، لم يكن تقديم العون أمرا يسيرا؛ فنظرا لافتقار الشركات التي ساهمت في جهود التعافي للأدوات والخبرات الخاصة بإنتاج الصمامات بي، تعين عليها الابتكار على الفور، واستحداث إجراءات التصنيع، حتى تحل مشكلات التصميم والإنتاج في آن واحد. وما زاد الطين بلة أن خبرة آيسين تعلقت في المقام الأول بما تجريه من عمليات تخصها، ومن ثم لم تكن مفيدة كثيرا في التغلب على العوائق الفنية، وأخيرا، في خضم الأزمة، صار من العسير للغاية الاتصال بشركة آيسين، وحتى بعد تركيب الآلاف من خطوط الهاتف الإضافية، تدفق قدر هائل من المعلومات الصادرة والواردة على صورة استفسارات واقتراحات وحلول ومشكلات جديدة، الأمر الذي حال في كثير من الأحيان دون الوصول للشركة، وهو ما جعل الشركات المشاركة في عملية الإنقاذ تعتمد على نفسها بالأساس.
لكن في مثل هذه الظروف تظهر نتائج التدريب؛ فبعد أعوام من الخبرة بنظام إنتاج تويوتا، أصبح لدى جميع الشركات المشاركة في عمليات التعافي فهم مشترك لكيفية التعامل مع المشكلات وحلها، فكانت عمليات التصميم والهندسة الفورية نشاطا يوميا في هذه الشركات، ونظرا لأن شركة آيسين كانت على علم بذلك، تمكنت من تحديد متطلباتها بأقل قدر ممكن من التفصيل، مما أتاح للموردين المحتملين أقصى قدر ممكن من الحرية بشأن كيفية متابعة العمل، والأهم هو أنه بينما كان الموقف في حد ذاته غير مألوف، لم يكن التعاون كذلك؛ فنظرا لأن الكثير من الشركات المشاركة في جهود التعافي سبق لها تبادل الموظفين والمعلومات الفنية مع آيسين، وبعضها مع بعض أيضا، تمكنت من الاستفادة من خطوط الاتصال وموارد المعلومات والروابط الاجتماعية القائمة بالفعل بينها؛ صار بينها فهم متبادل وثقة مشتركة، الأمر الذي يسر ليس فقط الانتشار السريع للمعلومات (بما في ذلك أيضا وصف الأخطاء التي يقعون فيها)، بل أيضا تعبئة الموارد وتخصيصها.
وصل الأمر ببعض الشركات إلى إعادة تنظيم أولويات إنتاجها بالكامل للمساعدة في جهود التعافي، فاختارت ما بين الحد من المهام الأخرى أو العهد بالمهام الأقل تعقيدا من الناحية الفنية لمورديها الخارجيين، واستحوذت شركات أخرى على المثاقب والمقاييس من جميع أنحاء البلاد، ومن واجهات المتاجر، بل من الولايات المتحدة أيضا ، دون وضع اعتبار للتكاليف ، ومن ثم تمكنت الشركات في مجموعة تويوتا فعليا من إنجاح اثنين من جهود التعافي على نحو متزامن، فأعادت؛ أولا: توزيع الضغط الناجم عن عطل رئيسي من شركة واحدة على مئات الشركات، ومن ثم قلصت حجم الخسائر التي تتكبدها أي شركة بمفردها في المجموعة. وثانيا: أعادت مزج الموارد لهذه الشركات نفسها في تكوينات متعددة متميزة ومبتكرة لتحقيق ناتج مماثل من الصمامات بي. وقد فعلت ذلك دون التسبب في أي أعطال أخرى، وبقدر بسيط من التوجيه المركزي، وفي غياب تام تقريبا للعقود الرسمية، وكل ذلك في ثلاثة أيام فحسب.
بفضل باحثين مثل نيشيجوشي وبوديه، أصبح لدينا سجل معقول للأحداث التي أدت إلى أزمة آيسين، والتي تلتها، ومن ثم عرفنا بصورة ما كيف حلت هذه الأزمة، وما الذي اتسمت به شركات مجموعة تويوتا كي تتمكن من حلها، لكن مثلما لم تتمكن سلسلة الأعطال وحدها التي أصابت شبكة نقل الطاقة من توضيح السبب وراء سرعة تأثر النظام بمثل هذه السلسلة في المقام الأول، أو عدم كشف السرد التاريخي لإحدى الصيحات الثقافية عن سبب تفضيل مجموعة كاملة من الأفراد لشيء عن آخر فجأة، لا يمكن لهذا السجل أيضا أن يخبرنا بما مكن النظام من النجاة من مثل هذه الصدمة الهائلة.
وكما هو الحال في مثال شبكة الطاقة، كان لعطل مكون واحد في نظام ضخم أصداء عامة أدت إلى عطل كارثي واسع الانتشار، لكن حالة آيسين تختلف في أن النظام استعاد عافيته فيما بعد بالسرعة نفسها تقريبا التي انهار بها، وبقدر ضئيل من التحكم المركزي. يبدو ذلك كما لو أن شبكة الطاقة، بعد تعرضها للعطل المتسلسل ذاته الذي أدى إلى تهاويها في أغسطس 1996، قد وقفت على قدميها من جديد في غضون ساعات قليلة، في حين ظل المراقبون في حالة ذهول بشأن ما يحدث. ليست الأنظمة «ذاتية المعالجة» سوى أمل بعيد في عيني أي مهندس، لكن في عالم المؤسسات يبدو أنها موجودة بالفعل. ما الذي يمكننا تعلمه إذن من أزمة آيسين ويمكن أن يساعدنا على فهم تصميم النظم القادرة على التعافي حتى من الأعطال التي ربما تكون مدمرة؟ على نحو أشمل، ما الذي يمكن لمجموعة تويوتا أن تعلمنا إياه بشأن بنية المؤسسات الصناعية الحديثة؟ وبعبارة أخرى، كيف يرتبط أداء الشركات - أي قدرتها على تخصيص الموارد والابتكار والتكيف وحل المشكلات، سواء الاعتيادية أو الجوهرية - ببنيتها التنظيمية؟ (2) الأسواق والهياكل الهرمية
تعد المؤسسات الصناعية، في الواقع، موضوعا قديما للغاية؛ إذ نمت هذه المؤسسات من رحم الحراك الاقتصادي والاجتماعي الشديد الناتج عن الثورة الصناعية. وفي الواقع، كان موضوع المؤسسات الصناعية هو ما افتتح به آدم سميث كتابه المتميز «ثروة الأمم». يناقش سميث بالتحديد «تقسيم العمل»، وهو المبدأ الذي استدل عليه في الأصل من ملاحظاته للعمال في المنشآت الصناعية، الذين اتسم أداؤهم دائما بالتحسن عند تقسيم المهمة الجماعية المنوطة بهم إلى مهام فرعية متخصصة، وكان النموذج الذي استخدمه لشرح هذا المبدأ، من بين كل المنتجات الأخرى، هو إنتاج المسامير؛ فمع أن صناعة المسمار تبدو أمرا تافها، فهي تنطوي على ما يزيد عن عشرين خطوة مستقلة، مثل سحب الأسلاك وشحذ الأطراف وطرق الرءوس وقطع السلك ... إلخ. عند وضع سميث لكتابه في أواخر القرن الثامن عشر، لم يكن بإمكان الحرفي الماهر نفسه، عند العمل وحده، سوى صنع حفنة فقط من المسامير يوميا، لكن سميث لاحظ أنه عند تقسيم العمل على فريق مكون من عشرة أفراد، كل منهم يؤدي خطوة أو خطوتين، ويستخدم أدوات متخصصة، كان بالإمكان إنتاج آلاف أضعاف هذه الكمية.
تعد فكرة أنه يمكن لفرق من العاملين أداء خطوات متخصصة لمهمة معقدة وإنتاج أضعاف ما ينتجه العدد نفسه من العاملين عند أداء كل منهم المهمة بالكامل، نتيجة أساسية للتعلم البشري في واقع الأمر. تنص قاعدة عامة، تعرف باسم «التعلم بالممارسة»، على أنه كلما تكرر فعلنا لشيء ما أجدناه، وإذا قل عدد المهام المنوطة بنا، ومن ثم صار بإمكاننا أداء كل منها أكثر من مرة، فستكون النتيجة أنه عند أدائنا خطوة واحدة فحسب من عملية الإنتاج، سنؤديها على نحو أكثر إتقانا مما إذا تحتم علينا أداء جميع الخطوات الأخرى أيضا، وتسمى الفائدة التي يجنيها كل عامل من تعلم أداء مهمة واحدة بكفاءة «عوائد التخصص». ومن خلال توزيع مكونات عملية معقدة على العديد من الأفراد المختلفين، الذين يعملون بالتوازي، تسخر عملية تقسيم العمل عوائد التخصص مرارا وتكرارا.
ومن ثم، من منظور تقسيم العمل، كلما زادت وظيفة المرء تخصصا، كان ذلك أفضل. على سبيل المثال، عند صناعة سيارة، ستتوافق المهام الفرعية الواضحة مع المكونات الرئيسية للمركبة؛ البدن والمحرك وناقل الحركة والهيكل الداخلي، لكن كل مكون من هذه المكونات يمثل مهمة معقدة في حد ذاته، ومن ثم يتطلب مزيدا من درجات التخصص. على سبيل المثال، يمكن تقسيم المحرك إلى جسم المحرك ومصدر الوقود ونظام التبريد ونظام الكهرباء، وهي العناصر التي قد يتطلب كل منها مزيدا من التقسيم، وهكذا، حتى «تتجزأ» المهمة المعقدة الكاملة إلى مجموعة من الخطوات الأساسية، ونظرا لأن كلا من هذه الخطوات ينتج عنها عوائد التخصص، فالمكاسب الكلية في الكفاءة ستكون هائلة.
كانت عوائد التخصص التي رصدها سميث عميقة للغاية؛ فقال إن تقسيم العمل هو إحدى السمات الفارقة الأساسية للمجتمعات المتحضرة؛ ففي المجتمعات التي تفتقر للعمل المتخصص، يتحتم على كل أسرة توفير جميع حاجاتها، بما في ذلك المأكل والملبس والمسكن وكافة المصنوعات المستخدمة في الحياة اليومية. في مثل هذا العالم يكون البقاء الشغل الشاغل للبشر، ويكون كل جيل مرغما على البدء من النقطة نفسها بالضبط التي بدأ عندها السابقون. ولا يكون من الممكن ظهور المدارس أو الحكومات أو الجيوش المتخصصة أو التصنيع أو الإنشاء أو النقل أو الصناعات الخدمية. لكن ومع جوهرية تقسيم العمل للمؤسسات الصناعية من وجهة نظر سميث، فإنه لم يحدد فعليا قط الآلية التي يجب تجميع المهام الفرعية بها لتصبح كيانا كاملا معقدا. في كتاب «ثروة الأمم» تجنب سميث هذا الموضوع، قائلا فقط إن الحد الذي يمكن أن يصل إليه التخصص يعتمد على «حدود السوق»، وقد عنى بهذه العبارة أنه كلما زاد عدد المستهلكين المحتملين، زادت كمية الموارد التي يمكن للشركة تحمل تكاليفها للاستثمار في بناء منشآت الإنتاج، وتصميم الماكينات المتخصصة وتشييدها، وتوظيف العاملين، ومن ثم تستفيد من اقتصاديات الحجم الكبير، لكن هذا الوصف لا يحدد لماذا يجب أن تكون الكيانات الرسمية التي تدعى «الشركات» هي المسئولة عن الإنتاج، لا المقاولين المستقلين أو العاملين المؤقتين أو المستشارين مثلا.
أيضا لا يقتضي تقسيم العمل ضمنا بالضرورة أن الشركات، عند وجودها بالفعل، يجب أن تشبه هياكل السلطة الهرمية التي تشكل الصورة التي في مخيلتنا عن التصنيع في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وفكرة أن المهام يمكن إنجازها على نحو أكثر كفاءة من خلال تقسيمها، بشكل هرمي، إلى مكونات فرعية أكثر تخصصا، لا تقتضي ضمنا «وحدها» حتمية تنظيم الشركات بالطريقة نفسها. مع ذلك، ونظرا لأن الكثير من الشركات بعد الثورة الصناعية كانت منظمة بالفعل بهذه الطريقة، فقد أجمعت النظريات الاقتصادية على مدار أغلب القرن الماضي على أن الصورة المثالية للمؤسسة الصناعية، ومن ثم البنية الداخلية لأي شركة تجارية، هي التسلسل الهرمي.
اختصارا لقصة طويلة (للغاية)، أجمعت أكثر النظريات الاقتصادية المتعلقة بالمؤسسات الصناعية والمتفق عليها عموما على تقسيم العالم إلى هياكل هرمية وأسواق. تنص هذه النظريات على أن الشركات تظهر للوجود؛ لأن الأسواق على أرض الواقع تعاني مجموعة من العيوب التي يطلق عليها عالم الاقتصاد الحاصل على جائزة نوبل، رونالد كواس، «تكاليف المعاملات». فإذا تمكن كل شخص من اكتشاف عقود قائمة على الأسواق وإبرامها وتنفيذها مع الآخرين كافة (أي إذا تمكنا جميعا من أن نكون مقاولين مستقلين مثلا)، فإن المرونة الهائلة التي تتمتع بها قوى السوق ستلغي فعليا الحاجة إلى الشركات تماما، لكن في العالم الواقعي، وحسبما شهدنا في عدد من السياقات، يعد اكتشاف المعلومات أمرا مكلفا ومعالجتها أمرا صعبا، بالإضافة إلى ذلك، يكون الاتفاق بين أي طرفين - وإن بدا فكرة جيدة في وقت ما - عرضة للشك بشأن الظروف المستقبلية والاحتمالات غير المتوقعة، وإذا أبرم عقد بين طرفين ثم بدا في وقت ما لأحد هذين الطرفين فجأة أنه فكرة سيئة، فقد يقرر هذا الطرف نقض الاتفاق، مما يتسبب على الأرجح في خسارة للطرف الآخر. وتنفيذ العقود أمر صعب ومكلف في عالم يمكن فيه للغموض والظروف غير المتوقعة أن تطغى على أكثر النوايا وضوحا.
لذا كانت الفكرة الرئيسية التي دعا إليها كواس هي أن الشركات تظهر للوجود من أجل إزالة كافة التكاليف المرتبطة بمعاملات السوق، وذلك من خلال استبدال عقد توظيف واحد بها. بعبارة أخرى، داخل الشركات، تتوقف الأسواق عن العمل، ويتم التنسيق بين مهارات موظفيها ومواردهم ووقتهم من خلال هيكل سلطة صارم. ومع أن كواس نفسه لم يحدد مطلقا ما يجب أن يبدو عليه هذا النوع من هياكل السلطة، فقد أجمعت النظريات الاقتصادية اللاحقة على أنها يجب أن تكون هياكل هرمية. في الوقت نفسه تستمر الأسواق في العمل بين الشركات، حيث يكون الحد بين الشركة والسوق هو الموازنة بين «تكلفة تنسيق» تنفيذ وظيفة محددة داخل الشركة وتكلفة عملية إبرام عقد خارجي، وإذا صارت العلاقة بين شركتين متخصصة يوما ما لدرجة سمحت لإحداهما بالتلاعب بالأخرى، فمن المفترض أن تحل المشكلة عن طريق الاندماج أو الاستحواذ، ومن ثم تنمو الشركات عن طريق عملية «الدمج الرأسي»؛ إذ يذوب أحد الهياكل الهرمية فعليا في هيكل آخر، مما يؤدي إلى تكون هيكل هرمي أكبر «متكامل رأسيا». وعلى العكس من ذلك، عندما تقرر شركة ما أن إحدى المهام الداخلية بها مكلفة للغاية، فإما أن تفصل هذا الفرع من التسلسل الهرمي لتنشئ فرعا متخصصا، أو تزيله تماما عن طريق العهد بالمهمة لشركة أخرى، وفي جميع الأحوال تظل الشركات في صورة هياكل هرمية (لا يتغير سوى حجمها وعددها)، وتستمر الأسواق في العمل بين الشركات.
إنها نظرية أنيقة حقا، وتحمل من المعقولية ما جعلها تسود الفكر الاقتصادي بشأن الشركات لما يزيد عن نصف قرن، لكن في عام 1984 دق كتاب ثوري وضعه اثنان من أساتذة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا - أحدهما عالم اقتصاد والآخر عالم سياسي - نواقيس الخطر الأولى لما أصبح صراعا متزايد التعقيد حول الطبيعة الفعلية للمؤسسة الصناعية ومستقبل النمو الاقتصادي. حمل ذلك الكتاب عنوان «التقسيم الصناعي الثاني»، وكان العالم السياسي الذي شارك في تأليفه يدعى تشارلز فريدريك سابيل، وهو نفسه تشاك سابيل الذي بادرني بالحديث في معهد سانتا في بعد خمسة عشر عاما. (3) التقسيمات الصناعية
من منظور علماء الاقتصاد، ربما تكون النقطة الأكثر إثارة للجدل (إن لم تكن الأهم) التي أشار إليها تشاك والمؤلف الذي شاركه تأليف الكتاب، مايكل بيور، هي أن نظرية الشركات ظهرت بعد أن صار الأمر واقعا بالفعل؛ فلم يشرع علماء الاقتصاد في وضع نظرية عن الشركات إلا بعد أن استقر نظام التصنيع واسع النطاق بالفعل على نموذج التكامل الرأسي وما يتصل به من اقتصاديات الحجم الكبير، ومن ثم لم يحاول هؤلاء العلماء شرح سوى نوع واحد من الشركات - ذات التسلسل الهرمي الكبير المتكامل رأسيا - كما لو أنه ما من نظرية أخرى عن المؤسسات الصناعية يمكن أن تكون منطقية، لكن بالعودة إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما ظهرت الصورة المعاصرة للشركات الصناعية للمرة الأولى، أوضح بيور وسابيل أن التسلسل الهرمي لم يكن الشكل الوحيد الناجح للمؤسسات الصناعية، ولم يعتمد تميزه النهائي بالضرورة على مبادئ اقتصادية عامة.
لم يصبح التكامل الرأسي، بالطبع، الشكل السائد للمؤسسات الصناعية بالصدفة، بل كان الخيار الأمثل آنذاك لعدة أسباب، لكن ما قاله بيور وسابيل هو أن الأشكال المؤسسية قد ظهرت كحل لمشكلات بعضها اقتصادي والبعض الآخر اجتماعي وسياسي وتاريخي، وأبلغ دليل على اعتماد القرارات الاقتصادية على أمور غير اقتصادية هو أن التاريخ التكنولوجي يواجه بين الحين والآخر نقاطا فرعية؛ تعرف باسم «التقسيمات»، وهي النقاط التي تتخذ عندها القرارات من بين الحلول المتباينة لمشكلة عامة، وما إن يتخذ أحد القرارات حتى يستقر الحل الفائز في التفكير المعاصر والتاريخي على حد سواء، فينسى العالم تماما أنه كان له بديل.
أشار بيور وسابيل إلى أن التقسيم الصناعي الأول كان الثورة الصناعية نفسها؛ ففي أثناء تلك الثورة تفوق النموذج المتكامل رأسيا للمصانع الضخمة وخطوط الإنتاج عالية التخصص والأيدي العاملة غير الماهرة بوجه عام، على نظام الحرف السائد قبل ذلك والمتمثل في الحرفيين المهرة الذين يديرون ماكينات وأدوات ذات أغراض عامة، بل قضى عليه أيضا. وعلى مدى قرن بعد تلك الفترة اتبعت المؤسسات الصناعية نموذج التسلسل الهرمي، ومثلما ركز الباحثون على نموذج علمي معين، افترض علماء الاقتصاد وقادة الأعمال التجارية وصانعو السياسات ببساطة أنه ما من شكل آخر للمؤسسات يمكن تصوره، واعتبر أن مفاهيم تقسيم العمل والمؤسسة الصناعية والتكامل الرأسي مرتبطة ارتباطا وثيقا بعضها ببعض.
لكن مع أواخر سبعينيات القرن العشرين، شرع العالم في التغير، فبدأ النمو السريع للنظم الاقتصادية الصناعية في العالم لفترة ما بعد الحرب في الوصول إلى حدود طلبات الأسواق الاستهلاكية المحلية، وتطلب المزيد من النمو عملية عولمة ضخمة لكل من الإنتاج والتجارة. في الوقت نفسه تقريبا، وللسبب ذاته جزئيا، بدأ نظام سعر الصرف الثابت الذي نصت عليه اتفاقية بريتون وودز لعام 1944 في الانهيار، وظهرت الصدوع الأولى في جدران الحماية التجارية التي التجأت خلفها الكثير من استراتيجيات التعمير لفترة ما بعد الحرب التي تبنتها الكثير من الدول. وما أدى إلى تفاقم هذه التغيرات الهائلة في الاقتصاد العالمي كان سلسلة من الهزات الاقتصادية والسياسية - أزمتان بتروليتان سريعتا التعاقب، والثورة الإيرانية في عام 1979، ومزيج من البطالة والتضخم المتناميان في الولايات المتحدة وأوروبا - وهي الأمور التي محت جميعها رؤية العالم الصناعي لمستقبل باهر ممتد بلا نهاية. وفي خلال عقد من الزمان صار العالم مكانا أكثر قتامة والتباسا، ولزم على قادة الأعمال التجارية البدء في التفكير خارج إطار المعرفة الاقتصادية التقليدية لكي يتمكنوا من البقاء، ومع أنه كان من الواضح لأي شخص مهتم بمتابعة الأمر أن رخاء ما بعد الحرب قد ولى، فلم يبد أن أحدا قد أدرك أن النظام الاقتصادي القديم نفسه سقط، وأن العالم كان يدخل، في الواقع، التقسيم الصناعي الثاني له.
وهكذا، كان التقسيم الصناعي الثاني في جزء منه تعبيرا عن ضرورة التفكير المستقل بعيدا عن المؤثرات الخارجية، وجزء منه محاولة للتوصل إلى وجهة نظر بديلة أفضل. لم يختف تماما نظام الحرف، الذي أشار إليه بيور وسابيل ؛ فظل قائما في المناطق الصناعية في شمال إيطاليا، بل في بعض الأجزاء من فرنسا وسويسرا والمملكة المتحدة، ويرجع أحد أسباب استمرار هذا النظام في تلك المناطق إلى ما تتمتع به من تاريخ متميز، وشبكات اجتماعية بين نظم الإنتاج التقليدية القائمة على الأسر، والتركيزات الجغرافية للمهارات المتخصصة التي تمثلها، لكن الإنتاج الحرفي استمر أيضا لما يتمتع به هو نفسه من مزايا؛ إذ تفوق في أدائه على اقتصاديات الحجم الكبير المتكاملة رأسيا في الصناعات سريعة التغير التي لا يمكن التنبؤ بها؛ كصناعة الأقمشة التي تعتمد في مكسبها على عالم الأزياء دائم التغير.
لكن الأهم كثيرا من استمرارية نظام الحرف نفسه هو أن السمة الأساسية له، التي أطلق عليها بيور وسابيل اسم «التخصص المرن»، قد تبناها بتمهل عدد وافر من الشركات، حتى في أقوى الصناعات القائمة على اقتصاديات الحجم الكبير. على سبيل المثال، تخلت صناعة الصلب الأمريكية على مدار الثلاثين عاما الماضية عن تقنية أفران صهر المعادن التقليدية لمصلحة المصانع المصغرة الأكثر مرونة والأصغر حجما، ويعد التخصص المرن نقيض التسلسل الهرمي المتكامل رأسيا من حيث استغلاله لاقتصاديات «المجال» بدلا من اقتصاديات الحجم؛ فبدلا من إنفاق كميات كبيرة من رأس المال على منشآت إنتاجية متخصصة تنتج فيما بعد خطا محدودا من المنتجات على نحو سريع ومنخفض التكلفة، يعتمد التخصص المرن على الماكينات ذات الأغراض العامة والعاملين المهرة في إنتاج مجموعة متنوعة من المنتجات على دفعات صغيرة.
تذكر أن عوائد التخصص تنشأ من التكرار الدائم لنطاق محدود من المهام، ولا يكون التكرار ممكنا إلا في حالة عدم تغير المهام نفسها؛ لذا، في البيئات بطيئة التغير، التي تروق فيها المنتجات العامة لعدد كبير من المستهلكين ويكون فيها نطاق الخيارات المتنافسة محدودا، تكون اقتصاديات الحجم الكبير هي الخيار الأمثل، أما في أواخر القرن العشرين، حين اتجه العالم نحو العولمة على نحو متسارع، وعلقت الشركات بين التنبؤات السياسية والاقتصادية المبهمة من جانب، وأذواق المستهلكين متزايدة التفاوت من جانب آخر، اكتسبت اقتصاديات المجال مزية هامة. بعبارة أخرى، رجح كل من الشك والغموض والتغير السريع كفة المرونة والقدرة على التكيف على الحجم الضخم، وعلى مدار عقدين من الزمان منذ أن أوضح سابيل وبيور هذه النقطة للمرة الأولى، لم يزد عالم الأعمال إلا غموضا.
طرحت مؤخرا على تشاك سؤالا عن رأيه بشأن تعطل ظهور الأفكار التي أوضحها في كتابه لمدة عشرين عاما تقريبا منذ تبشيره بها للمرة الأولى. هل ثبت أنه وبيور كانا على حق؟ حسنا، نعم ولا. نعم، لأن هيمنة ما يعرف بالأشكال المؤسسية الحديثة على التسلسلات الهرمية التقليدية المتكاملة رأسيا صارت الآن أمرا غير قابل للنقاش على الإطلاق (خلا في الدوريات الاقتصادية الأكثر تحفظا ربما). ونعم، من حيث الاتفاق بوجه عام على أن السبب وراء هذا التحول هو الزيادة الحادة في الشك، والتغير المرتبط ببيئة العمل العالمية في العقود القليلة الماضية، في الأقسام الرئيسية للاقتصاد القديم، كالأنسجة والصلب والسيارات والبيع بالتجزئة، بالإضافة إلى صناعات الاقتصاد الحديث، المتمثلة في التكنولوجيا الحيوية وأجهزة الكمبيوتر، لكن لسبب ما، وبخاصة على مدار العشر سنين الماضية، رأى تشاك أن حل التخصص المرن الذي اقترحه هو وسابيل كان غير كامل على نحو خطير. (4) الغموض
تتمثل الفكرة القائم عليها التخصص المرن في أن المهام اللازم إنجازها في إحدى الشركات الحديثة - سواء أكانت صناعة سيارة، أم ابتكار قماش جديد لكتالوج الربيع، أم تصميم نظام تشغيل الكمبيوتر التالي - تكون عرضة للتغير السريع وعدم إمكانية التنبؤ بها على الإطلاق. وفي ظل هذه الظروف، بدلا من إغراق كميات كبيرة من رأس المال في منشآت الإنتاج المتخصص، تتبنى الشركة منهج اقتصاد المجال، بحيث تضم فرق عمل منظمة تنظيما مرنا من العاملين ذوي المهارات العالية الذين يمكنهم إعادة مزج مهاراتهم المتخصصة على نحو سريع ومتكرر لإنتاج دفعات صغيرة من مجموعة عريضة متنوعة من السلع. قد تبدو هذه معادلة قوية، وهي كذلك بالفعل، لكنها تخفي نوعا ثانيا من الغموض، وهو نوع ذو طبيعة أعمق جوهريا؛ فالشركات لا تواجه شكا فحسب بشأن المهمة المحددة التي يطالبهم بها السوق الخارجية، بل أيضا لا تكون على يقين بشأن ما يجب عليها فعله لإتمام أي مهمة، أو ما يمكن أن تكون عليه معايير النجاح المكافئة.
يكمن في أعماق هذا اللغز - وهو ما يتضح في جميع نظريات الشركات تقريبا - الافتراض القائل إنه إذا كان إنجاز مهمة معقدة عملية لامركزية تتطلب جهودا منسقة متزامنة يبذلها الكثير من العاملين المتخصصين، يكون تصميمها مركزيا بطريقة ما، ومفروضا إلى حد ما «من أعلى». وما تمكن تشاك من إدراكه على مدار السنوات منذ «التقسيم الصناعي الثاني» هو أن هذا الافتراض ليس سوى وهم مريح، أما في الواقع، عندما تباشر إحدى الشركات مشروعا جديدا كبيرا، فإن المشتركين فيه فعليا لا يعلمون كيف ينفذونه. وفي الصناعات سريعة الحركة بدءا من برامج الكمبيوتر وصولا إلى السيارات، نادرا ما تكون التصميمات نهائية قبل بدء التصنيع نفسه بالفعل، بالإضافة إلى ذلك، لا يتحدد دور الشخص في المخطط الكلي على وجه الدقة مسبقا أبدا، بل يبدأ كل فرد بمفهوم عام حول ما هو مطلوب منه، ويصقل هذا المفهوم عن طريق التفاعل فحسب مع الآخرين ممن يحلون المشكلات (الذين يفعلون، بالطبع، الأمر نفسه). بعبارة أخرى، لا يتمثل الغموض الحقيقي لعمليات الأعمال العصرية في أن البيئة تحتم إعادة التصميم المستمر لعملية الإنتاج، بل أيضا في أن التصميم نفسه، إلى جانب الابتكار واستكشاف الأخطاء وإصلاحها، يعد مهمة واجبة الأداء، ليس فقط في وقت مهمة الإنتاج نفسه، بل أيضا على النحو اللامركزي ذاته.
عند تراجع «الغموض البيئي»؛ أي عندما يحدث التغيير ببطء ويكون المستقبل قابلا للتنبؤ به، يختفي غموض هذه المهمة الرئيسية، مما يسمح على نحو فعال بإتمام مرحلتي التصميم/التعلم والإنتاج على نحو منفصل، وفي عالم بطيء التغير بما فيه الكفاية، يكون أمام الأفراد المشاركين حتى في أعقد المهام الوقت الكافي لتجاوز مرحلة التعلم والاستقرار في أعمال الإنتاج الروتينية، وتكون النتيجة أن تقسيم العمل بين الأفراد المكونين للشركة يعكس التقسيم الهرمي للمهمة ذاتها، ومن ثم صورة التسلسل الهرمي الثابتة للشركات.
لكن ما إن تزيد البيئة من معدل التغيير اللازم للوصول إلى أداء تنافسي حتى يجب إعادة تقسيم المهام المعقدة، وإعادة توزيع رأس المال البشري المتاح وفقا لها. وفي غياب مراقب ذي إمكانات مطلقة، ينبغي حل هذه المشكلة المتعلقة بإعادة التقسيم على يد الأفراد أنفسهم الذين يجب عليهم أداء مهمة الإنتاج، وتكون النتيجة، في الشركات الناجحة، دوامة مستمرة من نشاط حل المشكلات، وتفاعلات دائمة بين من يحلون المشكلات، الذين يكون لدى كل منهم معلومات تتعلق بحل مشكلة معينة، لكن ما من أحد لديه معرفة كافية بشأن كيفية التصرف وحده، ولا يعلم أي فرد بالضبط من على علم بماذا، ومن ثم لا يكون حل المشكلات هو تكوين تشكيلة ضرورية من الموارد فحسب (هذا ما تدور حوله فكرة التخصص المرن)، بل يتعلق كذلك بالبحث عن هذه الموارد واكتشافها في المقام الأول.
ليس لهذه العملية أي أساس علمي على الإطلاق، لكنها قابلة للتنفيذ. على سبيل المثال، في مصانع سيارات هوندا، تحل المشكلات، بما في ذلك مشكلات التصنيع المعتادة نسبيا، على يد فرق عمل مؤقتة تتكون حسب الحاجة من أفراد ينتمون إلى جميع الأقسام في المصنع، وليس فقط المنطقة المحددة التي لوحظت فيها المشكلة للمرة الأولى، وتتضمن هذه الفرق عمال خطوط التجميع والمهندسين والمديرين، ويرجع السبب في ذلك إلى أن المشكلات - بما في ذلك تلك التي تبدو واضحة - قد يكون لها جذور عميقة، ومن ثم يمكن أن تتطلب نطاقا عريضا على نحو مذهل من المعرفة المؤسسية لحلها. على سبيل المثال، قد ينتج عيب بسيط بالطلاء يلاحظ في مراحل الفحص النهائية في الإنتاج من صمام معيب، ربما يكون قد توقف عن العمل نتيجة للتحميل الزائد باستمرار على إحدى محطات الرش، أو لأن محطة رش أخرى لا تعمل على الإطلاق، أو لأن محطة الرش هذه تعاني مشكلة في آلية التحكم فيها بالكمبيوتر نتيجة لتثبيت خاطئ لبرنامج الكمبيوتر بها، الأمر الذي يمكن تعقبه وصولا إلى مدير أنظمة منهك يستغرق وقتا طويلا في مساعدة المديرين في حسابات البريد الإلكتروني الخاصة بهم ... إلخ. ليس بوسع فرد واحد معرفة كل ذلك، لكن شركات مثل هوندا وتويوتا اكتشفت أنه في وجود مجموعة متنوعة على نحو كاف من المشاركين، يمكن التعرف سريعا على السلاسل، بما في ذلك السلاسل السببية المعقدة.
بدا لتشاك أن نشاط حل المشكلات المعتاد يعد سمة مميزة للشركات الحديثة، استجابة منها لبيئة عمل دائمة الغموض، من ثم كان من الأهمية بمكان فهم كل من البنية المعقدة للمؤسسات الصناعية، كمجموعة تويوتا، وقدرتها على التعافي من حالات الفشل الخطيرة، كأزمة آيسين، لكن نظرية الشركات الرسمية لم تجار الظاهرة المتغيرة نفسها، وقد عزف علماء الاقتصاد - مع تحمسهم لإقامة نماذج صارمة من الناحية التحليلية - عن الاعتراف بالغموض المتأصل في المؤسسات الصناعية الحديثة أو تضمينه فيما يضعونه من نظريات، ومن ثم ظلت النظرية الاقتصادية عالقة بالضرورة في عصر انقسام السوق/التسلسل الهرمي، وهي النظرة التي تجاهلت تماما حل المشكلات والفشل. في الوقت نفسه كان علماء الاجتماع ومحللو الأعمال التجارية أكثر ارتياحا لمفهوم القوة والقابلية للتكيف، لكنهم لم يكونوا قادرين على إدخال عنصر التحليل في نماذجهم على النحو الذي يمكنهم من تقديم بديل ملزم من الناحية النظرية للمثالية الظاهرية التي تتسم بها الأسواق والتسلسلات الهرمية. بدا واضحا لتشاك أن هناك حاجة لمنهج آخر. (5) الطريقة الثالثة
عندما التقيت بتشاك، كان مقتنعا ليس فقط بأن الغموض وحل المشكلات سمتان أساسيتان لسلوك الشركات، بل أيضا بأنه من خلال الإطار الرياضي الصحيح، يمكنه أن يتفهم كيفية حدوث ذلك، وقد قال لي ذات مرة: «أعرف ما يجب أن تكون عليه الإجابة، وإن كنت عالم رياضيات لتمكنت من تدوينها، لكنني لست كذلك.» تفسر كل هذه الأمور حماسه ذلك اليوم في معهد سانتا في؛ فأثناء الساعة التي كان يستمع فيها إلى حديثي عن شبكات العالم الصغير، أدرك أن النماذج التي طورتها أنا وستيف تتناول بعض السمات التي شعر أنها مهمة. في الشركات، كما هو الحال في الشبكات الاجتماعية بالضبط، يتخذ الأفراد قرارات بشأن من يتصلون به، ومع أن هذه القرارات تقوم على أفكار الأفراد المحلية عن الشبكة، فقد يكون لها نتائج عامة. وما أثار اهتمام تشاك، على وجه الخصوص ، هو التأثيرات الهائلة لإعادة التوصيل العشوائية: حين يشارك الأفراد المنتمون إلى فرق (تكتلات) قوية الارتباط في عمليات بحث لحل المشكلات من شأنها توصيلهم بأجزاء من المؤسسة كانت بعيدة في السابق (طرق مختصرة عشوائية)، ومن ثم تعزيز إمكانية التنسيق في الشركة بوجه عام (طول مسار مصغر). وقد بدت أوجه التشابه بين المسألتين مذهلة، وظننا أن شهرا واحدا سيكفي لتصنيف الاختلافات الدقيقة بينها، لكن مع تحول الأسابيع إلى شهور، والشهور إلى أعوام، سلمنا في النهاية بأن الاختلافات كانت أكثر أهمية وإثارة للحيرة مما كنا نتوقعه.
قررنا في النهاية أننا بحاجة إلى بعض المساعدة، وقد جاء ذلك في الوقت الذي انتقلت فيه إلى نيويورك للالتحاق بقسم علم الاجتماع في جامعة كولومبيا، بعد إقامتي المؤقتة مدة عامين في سانتا في وبوسطن. تصادف في تلك الأثناء أيضا أن انتقل صديق لي، وهو عالم رياضيات يدعى بيتر دودز (الذي ذكر باقتضاب في الفصل
الخامس
من هذا الكتاب)، إلى نيويورك. أما عن تصادف وجودي أنا وبيتر في المكان والوقت نفسيهما، فيشير في حد ذاته إلى صغر العالم الذي نعيش فيه. كان بيتر، الأسترالي الأصل مثلي، قد هاجر إلى الولايات المتحدة بعد هجرتي إليها بعام واحد، لدراسة الرياضيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مع ستيف ستروجاتس نفسه، ولسوء حظ بيتر، كان ستيف يستعد للانتقال الأسبوع التالي لبدء وظيفته في جامعة كورنيل، وأذكر عندما بدأت العمل مع ستيف أنه ذكر لي بالفعل أن أستراليا آخر كان قد وصل إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بينما كان على وشك الرحيل، وكان محبطا للغاية لرحيله، لكن لم يخطر ببال أينا قط أننا سنسمع عنه أي أخبار ثانية.
بعد عامين، كنت أتناول عشاء عيد الشكر في إيثاكا مع بعض الأستراليين الآخرين، وشرعنا في التحدث عن بحث العالم الصغير الذي كنت قد بدأته لتوي. حضر العشاء شقيق طالب آخر بجامعة كورنيل كان في زيارة من جامعة هارفارد، وبعد الاستماع إلي مدة من الوقت، ذكر أن صديقه بيتر سيهتم حقا بهذا الموضوع، وأنه قد جاء إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا للعمل مع هذا الشخص الذي يدعى ستيف - ولم يتذكر اسمه الأخير - الذي ما لبث أن رحل إلى كورنيل. قلت له حينها: «إنه مرشدي.» وظل الأمر على هذا الحال إلى أن مر عامان. أخبرني أحد زملائي بالمكتب في معهد سانتا في، ويدعى جيفري ويست - وهو بريطاني مغترب وعالم فيزياء متميز - أنه قد دعا أحد أبناء بلدي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لتعيينه في منصب باحث ما بعد الدكتوراه، وجاء ردي: «حقا! دعني أخمن ... يدعى بيتر، أليس كذلك؟» وكان هو بالتأكيد. وأخيرا، التقيت ببيتر، لكنه لم يقبل بالوظيفة مفضلا البقاء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا للعمل مع المشرف على رسالة الدكتوراه الخاصة به؛ دان روثمان (الذي كان صديقا لستيف، على نحو لا يدعوك للدهشة كثيرا). مع ذلك، فقد زار دان معهد سانتا في أيضا، بعد بيتر بفترة قصيرة، وهكذا التقيت بدان، وتلقيت دعوة لإلقاء خطاب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بعد ذلك ببضعة شهور، والتقيت بآندي لو، وحصلت على وظيفة بالمعهد، وصرت أنا وبيتر أصدقاء أخيرا. بعد ذلك بعام حصل كلانا على وظيفة في جامعة كولومبيا وانتقلنا إلى نيويورك الواحد تلو الآخر بفاصل زمني يقدر بأسابيع.
كان من المنطقي تماما بعد أعوام من دخول كل منا عالم الآخر بفضل الاهتمامات والخلفيات المشتركة، بل الأصدقاء المشتركين أيضا، أن نعمل معا، فأخبرت بيتر بشأن المسألة التي كنت أعمل عليها مع تشاك، ولما كان بيتر قد أجرى رسالته عن البنية المتفرعة لشبكات الأنهار، كان على علم بالدراسات الرياضية التي تتناول موضوع الشبكات، لكن تركيزه كان منصبا آنذاك على علم الأرض والأحياء، فعزف قليلا عن الإلقاء بنفسه في عالم الاقتصاد والاجتماع الغريب عليه. مع ذلك، ما إن التقى بيتر بتشاك وبدأ في تقدير حجم المشكلة حتى تملكه الفضول، وصار أحد أفراد فريق العمل. استغرق الأمر منا بعض الوقت قبل أن نحرز أي تقدم، لكن أثناء ذلك بدأنا في رؤية بعض الارتباطات بين المسألة المحددة التي «ظننا» أننا كنا ندرسها - دور الغموض وحل المشكلات في الشركات - والمسألة الأعم المتعلقة بالقوة في النظم المتصلة بشبكات، كالإنترنت؛ تلك الشبكات التي تحتاج للبقاء والعمل في وجه الأعطال غير المتوقعة وأنماط طلبات المستخدمين. (6) التكيف مع الغموض
اتضح لثلاثتنا، أخيرا، أن مشكلة موضوع الغموض تتمثل في أنه ... «غامض»، فكيف يمكن تعريف الغموض بدقة، في حين أن طبيعته نفسها - أي سبب كونه مشكلة يتحتم التعامل معها في المقام الأول - هي أن تحديده أمر شديد الصعوبة؟ مع ذلك، فنحن بحاجة لتحديده، وإلا فلن يمكننا تعيين كيف يمكن لشكل تنظيمي محدد أن يتكيف معه على نحو أفضل من شكل آخر. توصلنا إلى أن مفتاح اللغز يكمن في تناول الغموض تناولا غير مباشر عن طريق التركيز على «آثاره» بدلا من أصوله، فعند حل مشكلات معقدة في بيئات يكتنفها الغموض، يعوض الأفراد معرفتهم المحدودة بالاعتماد المتبادل بين مهامهم المختلفة وعدم يقينهم بشأن المستقبل بتبادل المعلومات - المعرفة والنصائح والخبرة والموارد - مع آخرين ممن يحلون المشكلات داخل المؤسسة نفسها. بعبارة أخرى، يحتم الغموض التواصل بين الأفراد الذين يوجد اعتماد متبادل بين المهام المنوطة بهم؛ بمعنى أن يمتلك كل فرد معلومات أو موارد ذات صلة بالآخرين، فعندما تتغير البيئة سريعا، تشهد المشكلات تغيرا سريعا أيضا، ومن ثم تصبح الاتصالات المكثفة ضرورة دائمة.
وبناء عليه، تتساوى مشكلة التكيف مع الغموض البيئي المزمن مع مشكلة تشوش الاتصالات؛ فالشركات التي لا تجيد تيسير الاتصالات المشوشة لا تجيد أيضا حل المشكلات، ومن ثم لا تجيد التعامل مع الشك والتغيير؛ لذا تمثلت استراتيجيتنا في التفكير في المؤسسات كشبكات من «معالجي المعلومات»، حيث يتمثل دور الشبكة في التعامل مع كميات كبيرة من المعلومات بفعالية ودون تحميل زائد على المعالجين «الفرديين». ظاهريا، بدت هذه المشكلة مشابهة كثيرا للمشكلات التي سبق لنا مواجهتها في هذه القصة؛ فكثير من مشكلات الشبكات تكمن في الأساس في نقل المعلومات داخل النظم المتصلة بشبكات، سواء كنا ندرس انتشار أحد الأمراض أو أحد الأعراف الثقافية، أو كنا نبحث عن هدف بعيد، أو نحافظ على الاتصال في مواجهة الإخفاقات.
لكن ثمة اختلافا جوهريا بين الشبكات المؤسسية ونماذج الشبكات سبق توضيحه في فصول سابقة من هذا الكتاب؛ أن المؤسسات تتسم في جوهرها بطبيعة هيكلية هرمية، قد تكون النظرة التقليدية للشركة كتسلسل هرمي متكامل رأسيا غير كاملة على نحو بالغ، لكن ذلك لا يجعلها غير مناسبة، ومع أن الهياكل الهرمية - كما سنرى - تتجاوب تجاوبا ضعيفا مع الغموض والفشل، فإنها تعد بنى رائعة لممارسة الضبط. والضبط سمة مركزية للشركات التجارية والنظم البيروقراطية الحكومية على حد سواء. قد يعمل الأفراد تحت قيادة العديد من الرؤساء، أو يتبعون رؤساء مختلفين في أوقات متباينة، لكن حتى في أكثر الشركات الاقتصادية الحديثة حرية في الهيكل الوظيفي، لا يزال كل شخص تابعا لرئيس ما.
هذا فضلا عن أن الهياكل الهرمية لا تقتصر على تنظيم الأفراد داخل الشركة؛ فكثير من المؤسسات الصناعية كبيرة الحجم - بدءا من المجموعات الصناعية كتويوتا وصولا إلى بنية النظم الاقتصادية الكاملة - تقوم على مفهوم الهيكل الهرمي، بل إن الكثير من الشبكات المادية تكون مصممة على مبادئ هيكلية هرمية (مع أنها ليست هياكل هرمية صرفة تماما، كما سنرى). يشكل الإنترنت - على سبيل المثال - شبكة تجميع لمراكز ضخمة، تهبط نزولا عبر طبقات من المزودين الأصغر حجما على نحو متعاقب وصولا إلى المستوى النهائي للمستخدمين الأفراد، وشبكة الخطوط الجوية شبيهة كثيرا بذلك؛ لذا بقدر ما نحتاج للابتعاد عن وجهة نظرة مقتصرة على الهيكل الهرمي للشركات، لا يعد هذا الهيكل سمة راسخة في الأعمال التجارية الحديثة فحسب، بل سمة مهمة أيضا. وفكرة أن الأغلبية العظمى من نماذج الشبكات إما تجاهلت الهياكل الهرمية تماما أو تجاهلت أي شيء آخر دونها يتركنا مرة أخرى في منطقة مجهولة تماما.
من السمات الأخرى للشبكات المؤسسية - التي تميزها عن الأنواع الأخرى من الشبكات التي تناولناها من قبل - القيود المفروضة على الأفراد فيما يتعلق بكم العمل الذي يمكنهم تنفيذه، ولهذه القيود تبعات خطيرة فيما يتعلق بكل من مهام الإنتاج ومعالجة المعلومات التي يلزم على المؤسسات الحديثة أداؤها. من ناحية الإنتاج تتطلب الكفاءة أن تضع المؤسسة قيودا على الأنشطة غير المثمرة للعاملين فيها. فكر في الأمر وكأن روابط الشبكات مكلفة من ناحية الوقت والطاقة، ونظرا لأن الأفراد يتمتعون بمقدار محدود من كليهما، كلما زاد عدد العلاقات التي يحافظ عليها المرء بفعالية في العمل، تراجع حجم العمل الفعلي المرتبط بالإنتاج الذي يمكن للمرء أداؤه. إن الكفاءة الإنتاجية، في الواقع، هي السبب وراء هيمنة الهياكل الهرمية على المؤلفات الاقتصادية التي تتناول موضوع الشركات، ومن خلال إضافة المزيد من المستويات عن طريق التكامل الرأسي، يمكن لشبكة ذات هيكل هرمي صرف أن تنمو لتصبح ضخمة دون أن يضطر فرد واحد فيها إلى الإشراف على أكثر من عدد ثابت من المرءوسين المباشرين، وهو القيد الذي يعرف في علم الاقتصاد باسم «نطاق التحكم».
لكن الأفراد في المؤسسات القائمة على حل المشكلات لا بد ألا يشرفوا فحسب على مرءوسيهم، بل عليهم أيضا التنسيق بين أنشطتهم، ومن هذا المنظور (بالغ التبسيط دون شك)، لا «يفعل» المدير الحقيقي في الواقع أي شيء من وجهة النظر الصناعية التقليدية الموجهة نحو الإنتاج. اعتدت التفكير في هذا الأمر بينما كنت أجلس في الحافلة بين بوسطن ونيويورك مستمعا إلى كل المديرين التنفيذيين والمستشارين وهم يتحدثون بهواتفهم المحمولة باهتياج ليرتبوا لاجتماعات بالغة الأهمية، وتساءلت: «ما الذي ينتجه هؤلاء الأشخاص فعلا؟» إذا كان كل ما يفعله المرء هو أن يهرع من اجتماع لآخر، فما الذي يساهم به فعليا في إنتاجية المؤسسة؟ تتمثل الإجابة - من وجهة نظر معالجة المعلومات - في أن مهمة المدير الرئيسية ليست الإنتاج على الإطلاق، وإنما «التنسيق»؛ بحيث يعمل كمضخة للمعلومات بين الأفراد الذين يؤدون مهمة الإنتاج، ومن هذا المنظور، لا تتعدى الاجتماعات كونها وسيلة مؤسسية لتبادل المعلومات بين أجزاء المؤسسة المختلفة، كما هو الحال مع المؤتمرات السنوية، وفرق تنفيذ المهام، واللجان التي قد تبدو مضيعة للوقت في نظر أي مراقب خارجي (وأحيانا في نظر المشاركين أنفسهم)، لكن جميع المضخات، بما في ذلك مضخات المعلومات، لها قدرة محدودة، فحتى أكثر المديرين كفاءة ونشاطا لا يمكنه سوى حضور عدد معين من الاجتماعات ، وقطع عدد معين من الأميال جوا، والاستجابة لعدد معين من طلبات الحصول على المعلومات، وإذا زادت هذه الأمور عن حد قدرته، يعجز في النهاية عن أداء هذه المهام.
لذا فإن شبكة معالجة المعلومات «القوية» هي التي لا توزع عبء الإنتاج فحسب، بل أيضا عبء إعادة توزيع المعلومات بأكبر قدر ممكن من المساواة، ومن ثم يزيد حجم المعلومات التي يمكن معالجتها دون التعرض لأعطال. وتتسم الهياكل الهرمية بضعفها الشديد في إعادة التوزيع، مع أنها تمثل شبكات توزيع عالية الكفاءة. تخيل - على سبيل المثال - مؤسسة ينبغي فيها مراقبة كل نشاط وتنسيقه والموافقة عليه عن طريق سلسلة رسمية من الأوامر. نظريا، مثل هذه المؤسسات ذات الهياكل الهرمية موجودة بالفعل، وربما يكون الجيش أبرز الأمثلة على ذلك، لكن عمليا، ما إن يظهر أي غموض في الصورة حتى تتخم سلسلة الأوامر على الفور بطلبات معالجة لا حصر لها للمعلومات والإرشادات. للاطلاع على ذلك، اختر إحدى نقاط تلاقي المصدر (ص) عشوائيا من الهيكل الهرمي الموضح في الشكل
9-1 ، وتخيل أنها ترسل رسالة لإحدى نقاط تلاقي الهدف (ه) الأخرى، وتتمثل الرسالة على الأرجح في طلب معلومات أو مساعدة. في الهياكل الهرمية الخالصة ينبغي تمرير الطلب إلى أعلى سلسلة الأوامر حتى يصل إلى أدنى نقطة تلاق سابقة مشتركة (أ)، وهناك يمكنها أن تنتقل لأسفل وصولا إلى الهدف. ويعتمد النجاح في نقل الطلب على أن تؤدي كل نقطة تلاق في السلسلة واجبها في معالجة المعلومات، ولكن لا تتساوى كل نقاط التلاقي في قدر العبء الذي تتحمله. مثلما يوضح الشكل
9-1 ، كلما كانت نقطة التلاقي بموضع أعلى في سلسلة الأوامر، زاد عدد أزواج نقاط تلاقي المصدر والهدف التي ستمر الرسائل عبرها، ومن ثم عظم عبء معالجة المعلومات الملقى عليها. في الهياكل الهرمية الصرفة التي تعمل في بيئة غامضة، يكون عبء معالجة المعلومات موزعا على نحو غير متساو تماما، الأمر الذي يسفر عن فشل هذه الهياكل، إلا إذا اتخذ إجراء ما للتوفيق بينها.
شكل 9-1: في الهياكل الهرمية الصرفة لا بد أن تعالج سلسلة الأوامر جميع الرسائل بين نقاط التلاقي، الأمر الذي يضطر نقاط التلاقي الموجودة بالقمة إلى معالجة المعلومات التي تمر بين الكثير من أزواج نقاط التلاقي الموجودة بمستويات أدنى. وهنا، تمثل (أ) أدنى نقطة تلاق مشتركة بين ص (مصدر الطلب) وه (الهدف).
في شبكات معالجة المعلومات المادية، كالإنترنت، يمكن تعويض العبء الزائد (وإن لم يكن ذلك على نحو تام) المرتبط بوضع أعلى في التسلسل الهرمي بزيادة قدرة الخوادم ومحولات البيانات ذات الصلة. على سبيل المثال، تتمتع محولات بيانات شبكة تجميع الإنترنت بقدرة معالجة أعلى بكثير من الرابط الذي يصل بين جهاز الكمبيوتر الخاص بك ومزود خدمات الإنترنت الذي تتعامل معه، بل من الرابط الذي يصل بين هذا المزود وشبكة تجميع الإنترنت. يظهر السبب ثانية في الشكل
9-1 : حيث يحاول ملايين الأفراد مثلك إرسال رسائل عبر شبكة التجميع، في حين يتشارك معك عدد أقل بكثير من الأفراد في مزود خدمات الإنترنت (يكون مزود خدمة الإنترنت لنقطة تلاقي المصدر (ص) في الشكل
9-1
هو الأعلى منها مباشرة في التسلسل الهرمي)، لكن في الشبكات المؤسسية، لا يمكن للمرء ببساطة زيادة حجم مخه وسرعته بسبب كثرة العمل الذي يجب إنجازه فحسب. من الطبيعي أن يعمل بعض الأفراد بمزيد من الكد أو الكفاءة مقارنة بغيرهم، لكن الحقيقة الراسخة هي أن البشر، خلافا لأجهزة الكمبيوتر، ليس بوسعهم تعديل حجم أمخاخهم ليتناسب مع المهام المتزايدة، ومن ثم إذا زاد معدل نشاط حل المشكلات أو زاد ببساطة حجم المؤسسة، فإن الضغط الناتج على سلسلة الأوامر ينبغي أن يخفف بصورة ما.
من الأساليب الواضحة لتحقيق ذلك تجاوز نقطة التلاقي ذات العبء الزائد عن طريق إنشاء طريق مختصر، ومن ثم إعادة توجيه الازدحام عبر رابط شبكة إضافي، لكن إنشاء روابط جديدة والمحافظة عليها يقلل من مقدار الوقت المتاح أمام الأفراد للإنتاج، ومن ثم يعد كل من الازدحام والروابط أمورا مكلفة. والسؤال هنا: ما أكثر الطرق فعالية للموازنة بين هذين النوعين من التكاليف؟ توصلت أنا وستيف أثناء عملنا على شبكات العالم الصغير إلى أن إضافة طريق مختصر واحد أدى إلى تقليص المسارات بين الكثير من أزواج نقاط التلاقي المتباعدة على نحو متزامن، ومن ثم أدى إلى الحد بفعالية من الازدحام بالعديد من السلاسل الوسيطة الطويلة، ومن خلال الحد على نحو كبير من متوسط الانفصال بين نقاط التلاقي؛ أي جعل العالم صغيرا، تبدو الطرق القصيرة العشوائية وسيلة فعالة للتخفيف من الازدحام، لكن ثمة مشكلتين كبيرتين تتعلقان تماما بهذا التوجه العشوائي؛ أولا: أنه لا يعكس التقسيم حسب الدرجة الذي تتسم به الهياكل الهرمية. ثانيا: أن هذا التوجه يفترض أن الطرق المختصرة المعنية تتمتع بقدرة لا محدودة على نقل البيانات، وذلك من خلال السماح لكل طريق مختصر بتقليص المسافة بين كل أزواج نقاط التلاقي على نحو متزامن، لكن - وكما أكدنا من قبل - هناك قيود مفروضة على قدرات الأفراد في المؤسسات، ومن ثم يمكن لأي رابط التخفيف من الازدحام الكلي بقدر محدود فقط، وتكون النتيجة - كما هو واضح من الخط العلوي بالشكل
9-2 - أن الإضافة العشوائية للروابط تخفف من العبء الواقع على معظم نقاط التلاقي الأكثر ازدحاما، لكن ببطء، ومن ثم يكون نفعها ضئيلا نسبيا في الحيلولة دون الفشل. إن كون العالم صغيرا لا يستتبع بالضرورة أنه يتسم بالكفاءة أو القوة.
شكل 9-2: تؤدي إضافة روابط تجاوز للهيكل الهرمي إلى تخفيف العبء الواقع على نقاط التلاقي الأكثر ازدحاما، بيد أن النتيجة يمكن أن تختلف اختلافا كبيرا حسب كيفية إضافة الروابط، فعندما تضاف عشوائيا (الخط العلوي)، يتطلب الأمر الكثير من الروابط للتخفيف من العبء على نحو ملحوظ، لكن عندما تضاف حسب الطريقة الموضحة في الشكل
9-3 ، يمكن لعدد قليل من الروابط إحداث تأثير كبير. (7) الشبكات متعددة المستويات
إذا لم تجد إضافة الروابط عشوائيا وعلى نحو متسق نفعا في التخفيف من ازدحام المعلومات، فما الذي يمكنه فعل ذلك؟ بوجه عام، هذا سؤال تصعب الإجابة عنه؛ إذ إنه يتطلب توازنا بين القيود المفروضة على القدرات المحلية والأداء العام (على مستوى النظام). ولحسن الحظ، تسفر الطبيعة الطبقية للتسلسل الهرمي عن استراتيجية محلية بسيطة تقترب على نحو مدهش من المثالية، وهي الاستراتيجية الموضحة في الشكل
9-3 ؛ فنظرا لأن جميع عمليات معالجة المعلومات تنتجها نقاط التلاقي التي تمرر الرسائل إلى النقاط المجاورة لها مباشرة في الشبكة، يمكن تخفيف العبء الواقع على أي نقطة تلاق بأكبر قدر ممكن عن طريق ربط نقطتي التلاقي المتجاورتين اللتين يرسل لهما معظم الرسائل. ليس من الجلي تماما سبب نجاح هذه الاستراتيجية المحلية تماما في الحد من الازدحام العام على نحو أقرب للمثالية، ففي النهاية، لا تحذف الرسائل، بل يعاد توجيهها ببساطة، وهذا قد يجعلك تظن أن الازدحام سيزيد في مكان آخر في النظام، لكن نظرا لأن النظام يختار دائما نقطة التلاقي الأكثر ازدحاما للتخفيف من عبئها، ولأن نقاط التلاقي التي تتصل بها تتناول هذه الرسائل بأي حال (كما يشير الشكل
9-3 )، يكون الأثر دائما هو الحد من الازدحام الكلي دون زيادة العبء الواقع على أي نقطة تلاق فردية.
شكل 9-3: خوارزمية مثالية محليا. يتم تجاوز نقطة التلاقي الأكثر ازدحاما عن طريق إضافة رابط بين النقطتين المجاورتين اللتين يرسل إليهما معظم الرسائل (المشار إليهما بالأسهم).
كما يتضح من المنحنى السفلي في الشكل
9-2 ، يبدو أن هذه الخوارزمية المحلية البسيطة لإضافة الروابط تخفف من ازدحام المعلومات بفعالية في ظل العديد من الظروف البيئية، وعلى نحو أكبر بكثير من الأساليب العشوائية تماما، لكن نوع «بنية» الشبكات التي تنتجها أثناء العملية يعتمد اعتمادا كبيرا على «نوع» حل المشكلات الذي تحتمله البيئة. عندما يكون حل المشكلات محليا تماما، كالرسائل اللازم تمريرها بين أعضاء فريق العمل نفسه، أو المشتركين لدى مزود خدمة إنترنت واحد، يمكن تخفيف الازدحام بفعالية بالتوازي مع عملية «تكوين الفرق». يشعر دائما المشرفون، الذين يحاولون الإشراف إشرافا دقيقا على مرءوسيهم، بالإنهاك كلما واجهت المجموعة إجمالا مشكلة صعبة. محليا، يكون الحل - وهو السماح لأعضاء الفريق بالعمل معا دون إشراف مباشر - هو نفسه تقريبا الموضح في الشكل
9-3 ، وفي الوقت ذاته، يعكس الشكل
9-4
الصورة العامة التي تظهر نتيجة لهذه التغيرات المحلية بشكل تخطيطي، وتتكون «الفرق المحلية» (الزملاء الذين يرأسهم الرئيس المباشر نفسه) الموضحة في هذا الشكل على نحو مستقل في جميع مستويات التسلسل الهرمي.
شكل 9-4: عندما يكون مرور الرسائل محليا تماما، تتألف بنية الشبكات المحلية من فرق محلية في جميع مستويات التسلسل الهرمي.
على الجانب الآخر، عندما يقتصر مرور الرسائل على أزواج من الأفراد البعيدين بعضهم عن بعض (في قسمين مختلفين من الشركة، مثلا)، يتحول أغلب عبء معالجة المعلومات إلى قمة التسلسل الهرمي، ويمكن تقسيم الشبكة الناتجة عن ذلك (على نحو تقريبي) - كما هو موضح في الشكل
9-5 - إلى درجتين: «مركز» قوي الاتصال، كالمقر العام أو وحدة المعالجة المركزية، و«محيط» من تسلسلات التوزيع الهرمية الخالصة المكونة من نقاط تلاقي الإنتاج. حين يتحتم على المركز التعامل مع كميات ضخمة من الطلبات، قد يمتد المركز ليشمل أكثر من مستوى واحد من التسلسل الهرمي، ومن ثم يتطلب روابط أفقية ورأسية. وداخل المركز يجب على الجميع مساندة بعضهم بعضا حتى يواجهوا الضغط الخارجي؛ فيختفي قوام التسلسل الهرمي. في هذا السيناريو ينتج عن النموذج فئة متميزة من مديري المعلومات. يقضي هؤلاء الأفراد - على نحو يشبه إلى حد ما المديرين التنفيذيين الذين استمعت إليهم في الحافلة - وقتهم بالكامل في معالجة طلبات المعلومات التي يقدمها العاملون المعنيون بالإنتاج، ونظرا لأن واجب المديرين الرئيسي هو توجيه الرسائل على نحو صحيح، فإنهم بحاجة لأن يكونوا على اتصال قوي بالمديرين الآخرين (ومن هنا تأتي كل هذه الاجتماعات).
شكل 9-5: عندما يكون تمرير الرسالة عاما تماما، يتركز الازدحام في قمة التسلسل الهرمي، مما يؤدي إلى ظهور مركز قوي الاتصال يضم مديري المعلومات، ومحيط من عمال الإنتاج المتخصصين، له شكل التسلسل الهرمي الخالص.
مع أن هذه البنية القائمة على فكرة المركز والمحيط تمثل صورة متطرفة، بل ربما شديدة التطرف للمؤسسة البشرية، فهي تحمل بعض أوجه التشابه مع بنية شبكات التوزيع/إعادة التوزيع؛ كشبكة الخطوط الجوية والنظام البريدي. يتألف هذان النظامان كلاهما من مراكز قوية الاتصال، يعاد توزيع الركاب والخطابات، بالترتيب، في إطارها، وتمتد منها نظم توزيع متفرعة. في شبكة الخطوط الجوية الأمريكية - على سبيل المثال - يمكن الطيران من أي مركز إلى آخر تقريبا مباشرة، ومن ثم تشكل هذه المراكز قلب الشبكة، ويكون لكل مركز شبكة محلية خاصة به من مطارات الدرجة الثانية والثالثة التي يوزع إليها المسافرين أو يستقبلهم منها. تمثل خدمة البريد الأمريكية نظام توزيع جزئيا؛ فهي تجمع البريد من الكثير من النقاط الصغيرة (على سبيل المثال، صناديق مكاتب البريد ومكاتب البريد الفرعية) وتوزعها بدورها على المنازل والشركات، ومن ناحية أخرى، فهي نظام إعادة توزيع أيضا، لكن وظيفة إعادة التوزيع منفصلة على نحو كبير عن وظيفة التوزيع؛ إذ تتم بالأساس بين مراكز التبادل ومكاتب البريد الرئيسية.
يمكن أيضا ملاحظة البنية ذاتها القائمة على فكرة المركز والمحيط - وإن كان بقدر أقل - في بنية الإنترنت التي تشتمل على شبكة تجميع قوية نسبيا تتصل فيها المحولات بكثير من المحولات الأخرى، وتمتد منها العديد من البنى المتفرعة، نزولا بعد ذلك عبر مزودي خدمة محليين، حتى مستوى المستخدمين الأفراد (نقاط التلاقي الفرعية التي تنتهي عندها شجرة التفرع). مع أن الأمر ليس بالوضوح نفسه الذي تتمتع به شبكة الخطوط الجوية، فإن التشابه بين نموذج المركز والمحيط والإنترنت يتسم بالمنطقية؛ إذ تحدث عمليات تبادل البيانات بين المستخدمين المنفصلين انفصالا كبيرا، على النقيض من المستخدمين الذين يشتركون في مزود خدمة إنترنت محلي واحد، ومن ثم يكون عبء «إعادة توزيع» المعلومات مركزا في شبكة التجميع.
مع ذلك، تواجه مؤسسات القطاع العام والشركات الحديثة نوعا من الغموض أكثر تعقيدا عما هو الحال عليه مع الحد العام الخالص أو المحلي الخالص. علاوة على ذلك، تكون نقاط التلاقي في هذه الشبكات أفرادا، وليست محولات إنترنت أو مكاتب، ومن ثم يصعب تبين الفروق البسيطة بين التوزيع وإعادة التوزيع. من النتائج المطمئنة إذن لخوارزمية الحد من الازدحام أن تترتب الملاحظة الثانية على الملاحظة الأولى طبيعيا. يبدو أن الغموض الحقيقي يحتم حل المشكلات، ومن ثم التواصل، على جميع مستويات المؤسسة في الحال. نموذجيا، يحدث الجزء الأكبر من نشاط حل المشكلات الذي يقوم به الأفراد في البيئات كلها، بما في ذلك البيئات المعقدة سريعة التطور ، على النطاق المحلي؛ أي في إطار فريق الزملاء المباشرين، لكن يتواصل ظهور المشكلات غير المعتادة على نحو مفاجئ دائم، وكما سبق وأوضح مثال شركة هوندا الذي تناولناه من قبل، تتطلب هذه المشكلات بحثا بعيدا عن إطارها للتوصل إلى المصادر والمعلومات وثيقة الصلة بها. غالبا ما لا يتجاوز البحث نطاق فريق آخر في القسم ذاته. مع ذلك، ومثلما حدث في مجموعة تويوتا، لا بد أن تمتد عمليات البحث في بعض الأحيان إلى ما هو أبعد من ذلك، متجاوزة الإدارة نفسها، والقسم نفسه، بل تصل إلى خارج الشركة أيضا، حيث يقل معدل تكرار البحث المطلوب مع تزايد نطاقها، لكنه لا يختفي تماما.
إن ما تشير إليه نتائجنا بالأساس هو أنه عندما تحتاج المؤسسات إلى معالجة المعلومات على العديد من مستويات المسافات في مرة واحدة، يجب أن تكون بنية الشبكة اللازمة لمعالجة الحمل متصلة على العديد من المستويات أيضا، ومع أن احتمالية تمتع فردين بمعلومات تتعلق بإنتاجيتهما تقل بانفصالهما في التسلسل الهرمي، يزيد عدد حالات الاعتماد الممكنة هذه، وكما هو الحال في الشبكات الاجتماعية بالضبط، يزيد عدد الأفراد البعيدين عنك في المؤسسات الكبيرة مقارنة بالقريبين منك، وتكون النتيجة مماثلة لملاحظة جون كلاينبرج في الفصل
الخامس ، وهي أن كميات كبيرة من المعلومات تتدفق بجميع مستويات التسلسل الهرمي المختلفة، ومن ثم تظهر الحاجة لقنوات التجاوز ليس فقط على مستوى الفرق المحلية (كما هو موضح في الشكل
9-4 )، أو على مستوى المؤسسة العام (كما هو موضح في الشكل
9-5 )، بل على جميع المستويات في آن واحد، لكن نظرا لأن التسلسل الهرمي يكثف بطبيعته معالجة المعلومات في مستوياته العليا، فإن توزيع الرسائل التي تمرر وتوزيع روابط التجاوز الناتجة لا يتساويان.
تبدو الصورة البديهية أشبه بالشكل
9-6 ، فبدلا من مركز واحد قوي الاتصال في القمة، أصبح لدينا الآن روابط تمتد بجميع أرجاء التسلسل الهرمي، لكن على عكس الفرق شديدة المحلية الموضحة في الشكل
9-4 ، لا بد أن تشتمل المؤسسات المصممة للعمل في بيئات غامضة تماما على «فرق» بالمستويات المختلفة. بالقرب من قاعدة التسلسل الهرمي، يصدر الأفراد في الغالب الرسائل بدلا من معالجتها؛ فيتطلب الأمر عددا أقل نسبيا من روابط التجاوز. في الوقت نفسه لا بد من معالجة الرسائل التي تنتقل بين نقاط التلاقي البعيدة بمستويات أعلى في التسلسل الهرمي، مما يتطلب من المديرين التفاعل ليس فقط مع نظرائهم المباشرين، بل أيضا عبر المستويات الرأسية. ويؤدي ذلك إلى ظهور «الفرق متعددة المستويات»، وهي مجموعات موزعة لا تتسم بالاتصال المكثف نفسه الذي يميز الفرق الأخرى الموضحة في الشكل
9-4 ، أو المركز في الشكل
9-5 ، لكن بإمكانها توزيع عبء معالجة المعلومات على المستويات المتعددة بدلا من تكثيفها في مستوى واحد فحسب.
شكل 9-6: عند تمرير الرسائل في جميع المستويات، يتطلب الأمر شبكة متعددة المستويات. تعكس الظلال المختلفة كثافة متناقصة للروابط مع تزايد عمق التسلسل الهرمي.
من الآثار المباشرة إذن لهذا «الاتصال متعدد المستويات» أن الفارق بين مدير المعارف وعامل الإنتاج يصبح غير واضح. مع أن نشاط المعالجة يميل عادة للزيادة (على حساب الإنتاج الخالص) بارتفاع موضع الفرد في التسلسل الهرمي، فعند معالجة المعلومات بجميع مستويات المؤسسة، يتولى الجميع إلى حد ما إدارة المعلومات. يتمثل تفسير هذا الانهيار في الفوارق بين الأدوار في أنه في البيئات المبهمة حقا - حيث لا يعرف أحد بالضبط ما ينبغي عليه فعله، أو كيفية فعله - يصبح نشاط حل المشكلات جزءا لا يتجزأ من مهمة الإنتاج نفسها، ومن ثم ينبغي على كل فرد تولي جزء من كل مهمة بفعالية. (8) التعافي من كارثة
يمكن أن يحدث الفشل المؤسسي، شأنه شأن الغموض، في صور وأحجام عدة، مثل مرض الأفراد، أو انهيار المصانع جراء الحرائق، أو تعطل أنظمة الكمبيوتر، أو الحاجة لتسريح عدد كبير من الموظفين. في بعض الأحيان تأتي الكارثة من الخارج، بينما تنبع من الداخل في أحيان أخرى، وفي بعض الحالات، مثل كارثة آيسين، تجمع بين هذا وذاك؛ فكان الحريق حادثا طبيعيا، لكن ما ضخم من أهميته هو إنتاج آيسين الحصري لصمامات الفرامل، ونظام تخزين تويوتا الآني، لكن مهما يكن منشأ الكوارث ، فإنها تشترك جميعا في أنها تعطل جزءا مما كان يعرف في السابق بالنظام الكلي الفعال. يتحتم عادة، وعلى المدى الطويل، إصلاح الجزء المعطل أو استبداله أو الاستعاضة عنه عن طريق توزيع ما يجريه من وظائف على الوحدات الأخرى بصفة دائمة، على سبيل المثال. لكن في عالم الأعمال ذي الإيقاع السريع، وفي العديد من الشبكات المادية، كشبكات الطاقة والإنترنت، لا يكفي البقاء على المدى الطويل؛ فلا بد للنظام من البقاء على المدى القصير أولا.
كما شاهدنا في أزمة تويوتا-آيسين، في أعقاب أي فشل، يزيد المعدل المطلوب من حل المشكلات ومشاركة المعلومات زيادة عظيمة، وعند فقدان موارد هامة، يكون أهم أصل يمكن لأي مؤسسة امتلاكه هو الوصول اليسير للموارد التي تركتها. من ثم، وبمفردات الحديث عن الشبكات، يتمثل العنصر الرئيسي للنجاة من كارثة ما على المدى القصير في حفاظ الشبكة على اتصالها، دون أن تجلب على نفسها مزيدا من الفشل. يعيدنا هذا الأسلوب في صياغة المشكلة إلى طريق مألوف، إلى حد ما. إن التفكير في قوة النظام في ظل اتصالية الشبكة هو النهج الأساسي الذي طرحه باراباسي وألبرت، وصقله لاحقا دانكن كالاواي، لدراسة قوة شبكات كالإنترنت. حتى هذا الحد، الأمر مألوف، لكن كل هذه النتائج كانت قائمة على افتراض أن الشبكات موضوع الدراسة عشوائية، ولم نعد بالطبع نتحدث عن الشبكات العشوائية.
تعمل التسلسلات الهرمية - كما هو متوقع - على نحو سيئ في حالة الأعطال، وللسبب ذاته الذي يجعلها سريعة التأثر بالتعطل الناتج عن الازدحام (شدة مركزيتها) في حال تعطل أي من نقاط التلاقي الموجودة أعلى التسلسل الهرمي، سوف تعزل هذه التسلسلات أجزاء كبيرة من الشبكة بعضها عن بعض، وهنا يصبح الاتصال على جميع المستويات أمرا ضروريا بحق؛ لأنه في الشبكات متعددة المستويات لا يصبح هناك نقاط تلاق «مهمة» يسفر فقدانها عن تعطيل الشبكة من خلال قطع الاتصال بها. وبما أن هذه الشبكات مصممة خاصة لتكون لامركزية، ليس فقط على مستوى الفرق، بل أيضا على مستويات أكبر، يمكنها النجاة من أعطال أكبر حجما أيضا، كأن يتوقف فريق كامل عن العمل. فعليا، يمكن إزالة أجزاء بأي حجم تقريبا من الشبكات متعددة المستويات، وستظل متصلة، وقادرة من ثم على الوصول إلى أي موارد لم تدمر تماما.
وبناء عليه، لا يخدم الاتصال متعدد المستويات هدفا واحدا فحسب، بل هدفين؛ هما الهدفان المهمان لأداء أي شركة في بيئات يكتنفها الشك، فمن خلال توزيع ازدحام المعلومات المرتبط بحل المشكلات على جميع مستويات المؤسسة، تقل احتمالية الفشل إلى أدنى حد ممكن، وفي الوقت نفسه يقلل الاتصال متعدد المستويات من تأثير الفشل إذا حدث ومتى حدث. وهكذا تفي الشبكات متعددة المستويات بالشرط الموضح في نهاية الفصل
الثامن
من هذا الكتاب، ألا وهو أن القوة الحقيقية لا تكمن في تجنب الفشل فحسب، بل أيضا في النجاة منه بأقل قدر ممكن من الخسائر التالية، ونظرا لأن الشبكات متعددة المستويات تعكس هذه السمة المتمثلة في ضرب عصفورين بحجر واحد، نسميها بالشبكات «ذات القوة المفرطة».
قد تبدو القوة المفرطة أروع من أن تكون حقيقة، لكنها في الواقع منطقية تماما، ويكمن السر وراء تطور هذا المفهوم في أن إمكانيات حل المشكلات المعتادة والاستثنائية مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا قويا. يؤدي الغموض المعتاد - أي الشك بشأن ما ستفرضه عليك الحياة غدا - إلى عملية حل المشكلات المعتادة، وتحث هذه العملية بدورها على إنشاء روابط تجاوز للتخفيف من الازدحام المحلي، وهو ما يولد بدوره ازدحاما للمعلومات في نقاط التلاقي الرئيسية، وعند إعادة توزيع المعلومات على جميع مستويات المؤسسة، تتكون روابط التجاوز على جميع المستويات أيضا، وما إن تظهر هذه الروابط متعددة المستويات للوجود حتى تتمتع بميزة إضافية، وهي الحفاظ على الاتصال الدائم للشبكة، حتى في حالات الفشل الذريع، فتكون المرونة في مواجهة الصدمات الخارجية نتيجة غير متعمدة لآليات التكيف المحلية التي يستخدمها الأفراد بصفة دائمة.
بناء على ما سبق، يمكن اعتبار التعافي من الكوارث بمنزلة نشاط لحل المشكلات، لكنه أكثر إثارة من النوع المعتاد الذي تضطر الشركات لمواجهته كل يوم، لكنه لا يختلف عنه في جوهره، ومن ثم فإن القوة المفرطة لا تتعدى في الحقيقة كونها تكيفا مع الغموض في جميع صوره. يكون الغموض معتادا في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى متطرفا؛ كأزمة تويوتا-آيسين، لكن في جميع الحالات، يواجه الأفراد مشكلة غير مألوفة يتحتم عليهم حلها سريعا. وآليات التكيف العامة التي تنجح مع مشكلة ما عادة ما تنجح مع غيرها، وهكذا يمثل كل من الابتكار وتصحيح الأخطاء والتعافي من الكوارث صورا للاستجابة نفسها حيال الغموض.
بالنظر للتعافي المفاجئ الذي شهدته مجموعة تويوتا من هذا المنظور، نجد أن هذا التعافي، حتى وإن لم يكن مخططا له، ليس مفاجئا على الإطلاق. وجد بعض الأفراد أنفسهم فجأة في مواجهة موقف لم يرد بمخيلتهم أبدا، ولم يتوقعوا على الأرجح حله، لكن في ظل عدم وجود أي خيار سوى التعامل مع الواقع المتغير تغيرا بالغا، تمكنوا من حله على أي حال، ومن ثم عكسوا بشكل جمعي قدرة مؤسسية لم يدركوا أبدا أنهم يتمتعون بها. كانت لديهم هذه القدرة بالفعل، بيد أنها لم تظهر في الأحوال العادية. كان أداء العاملين في مجموعة تويوتا متميزا في وجه أزمة كبرى، لكنه لم يكن سحريا، فلم تكن الأزمة التي واجهوها سوى صورة مكثفة لاستجاباتهم المعتادة للمشكلات اليومية لا أكثر.
في التحليل النهائي لا يزال الغموض ذا طبيعة مبهمة، لكن صار بالإمكان الآن تعريفه وفهمه؛ فمن ناحية، يعد الغموض البيئي المزمن مصدرا للكثير من المشكلات التي تواجهها الشركات، الأمر الذي يؤدي دائما إلى اضطراب الأعمال الروتينية المعروفة ويجعل الحلول الحالية عتيقة لا قيمة لها، وعلى الجانب الآخر، ومن خلال جعل عملية حل المشكلات نفسها نشاطا معتادا، ودفع الشركات لإقامة هياكل قادرة على معالجة كميات ضخمة من المعلومات دون تعطل - يمثل الغموض المعتاد صديقا حميما للشركات؛ فعن طريق التكيف مع الغموض اليومي، تطور الشركة قدرتها على إنقاذ نفسها في حال وقوع كارثة غير متوقعة. تحقق عملية حل المشكلات المعتادة كلا من توزيع عبء معالجة المعلومات على الأفراد بجميع أنحاء المؤسسة، وتهيئة الظروف التي يمكن حل المشكلات الاستثنائية في ظلها .
لا تزال «الآلية» المحددة التي تولد بها استجابة الشركة للغموض المعتاد القوة المفرطة لغزا غامضا، لكنها تحمل تشابها قويا مع السمة التي تتمتع بها الشبكات؛ سمة القابلية للبحث، التي تناولناها في الفصل
الخامس . والآلية، وفقا لما نفهمه، أشبه بما يأتي: تحاول الشركات اتباع مبادئ التسلسل الهرمي في تصميم هيكلها من أجل حل مشكلة التحكم، لكن في البيئات التي يكتنفها الغموض يؤدي ازدحام المعلومات المرتبط بأنشطة حل المشكلات إلى إثقال كاهل الأفراد، وبخاصة من يحتلون المراكز العليا في التسلسل الهرمي، ويكون رد فعل هؤلاء الأفراد على المستوى المحلي هو توجيه مرءوسيهم لحل المشكلات بأنفسهم عن طريق إجراء أبحاث موجهة.
يعتمد المرءوسون، نظرا لافتقارهم إلى دليل مركزي للمعرفة والموارد المؤسسية، على ما لديهم من معارف غير رسميين داخل الشركة (أو ربما في شركات أخرى) لتحديد أماكن المعلومات ذات الصلة، وكما سبق أن أوضحنا في الفصل
الخامس ، تتسم استراتيجية البحث الاجتماعي هذه بالفعالية؛ فيتمتع الباحثون بالقدرة على النجاح مع أنهم قد لا يكونون على وعي بالأسباب والكيفية التي ينجح من خلالها ما يتبعونه من أساليب، وبذلك تتغير كل من بنية الهيكل الهرمي ووظيفته؛ فبدلا من مكافأة الأداء الإنتاجي فحسب، تكافئ سلسلة الأوامر الآن الأداء البحثي كذلك، فلا يمتلك الأفراد القدرة على تحديد أماكن المعلومات ذات الصلة فحسب (قدرة خفية)، بل أيضا الحافز لفعل ذلك. ومن النتائج المباشرة لذلك ابتعاد البنية الداخلية للشركة عن التسلسل الهرمي الخالص بفضل الروابط الجديدة التي تتكون وتتعزز على مدار الكثير من عمليات البحث المتكررة.
تكون هذه العملية في حالة توازن في الشبكة متعددة المستويات، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الازدحام الفردي - ومن ثم الضغط لإنشاء اتصالات جديدة - لا يقل إلا عند اتصال الشبكة عبر العديد من المستويات، ومثلما أوضحنا في الفصل
الخامس ، يؤدي وجود الروابط بمستويات عدة إلى تعزيز إمكانية البحث في الشبكة، ومن ثم أصبحت المستويات المتعددة أمرا يفرض نفسه. وعند وقوع كارثة ما، تبدو سمات الشبكة كالقابلية للبحث وتخفيف الازدحام أمورا مفاجئة، لكنها نتيجة طبيعية للاستجابات المحلية للمشكلات المعتادة في البيئات التي يكتنفها الغموض على نحو مزمن.
إذن العلاقة بين قابلية البحث والقوة علاقة دقيقة، تتجسد على صورة حالة وسط بين تفسيرنا المدفوع اجتماعيا عن البحث اللامركزي في الشبكات وتفسير جون كلاينبرج، وفي حين يتسم حل كلاينبرج بكونه «مصمما» خاصة حتى يتمكن المهندسون من تصميم لوحات الدوائر الكهربائية من الصفر، تنشأ المؤسسات الحقيقية بوجه عام نتيجة لعمليات بحث فردية وقرارات مدروسة محليا، لكن على عكس الشبكات الاجتماعية الخالصة، لا تنشأ المؤسسات على نحو تلقائي تماما أيضا. يعد التسلسل الهرمي، في الواقع، العلامة المميزة للحل المصمم من أجل التنظيم الداخلي للشركات، وهو حل قاصر في ظل حالة الغموض، لكنه - كما رأينا - حل قابل للتعديل لينجح في العديد من الظروف المتنوعة.
هكذا تستغل الشركات التجارية الحديثة القدرة على البحث اللامركزي الكامنة في الشبكات الاجتماعية غير الرسمية عن طريق فرض بنية التحفيز المتأصلة في التسلسلات الهرمية عليها، ومع أننا لم نصل بعد إلى فهم كامل للمشكلة، فيبدو أن الاستراتيجية الجيدة لإقامة مؤسسات قادرة على حل المشكلات المعقدة هي تدريب الأفراد على التعامل مع الغموض عن طريق البحث في شبكاتهم الاجتماعية، بدلا من إجبارهم على إنشاء قواعد بيانات وأدوات مصممة مركزيا والمساهمة فيها بهدف حل المشكلات. تتمثل الفائدة الكبرى لهذا الأسلوب في أنه من خلال فهم كيفية بحث الأفراد اجتماعيا، يمكننا أن نطمح في تصميم «إجراءات» أكثر فعالية نتمكن من خلالها من إنشاء مؤسسات قوية دون الحاجة لتحديد التفاصيل الدقيقة للبناء المؤسسي ذاته.
الفصل العاشر
نهاية البداية
قياسا إلى العالم، تمثل جزيرة مانهاتن بطولها البالغ اثنين وعشرين ميلا وعرضها الأقل من خمسة أميال، نقطة صغيرة؛ جوهرة واقعة على مصب نهر هادسون بشمال المحيط الأطلنطي. وعند إلقاء نظرة عليها عن قرب، نجدها أشبه بملعب ضخم هائل؛ إنها موطن لمليون ونصف المليون نسمة، وهي وجهة للملايين يوميا، وقد ظلت على مدار قرن من الزمان نموذجا للمدينة الحضرية التي لا تنام.
لكن من منظور علمي، تعد مانهاتن أشبه بالأحجية. يستهلك ملايين البشر يوميا ، وما يؤدونه من أنشطة خاصة وتجارية، قدرا هائلا من الموارد؛ كالغذاء والماء والكهرباء والغاز، ومجموعة متنوعة هائلة من المواد، بدءا من الأغلفة البلاستيكية، ومرورا بالعوارض الفولاذية، ووصولا للأزياء الإيطالية، هذا فضلا عما يصرفونه من كميات ضخمة من المخلفات على صورة قمامة ومواد قابلة لإعادة التدوير وصرف صحي ومياه صرف؛ فيصدرون بشكل جماعي قدرا هائلا من الطاقة الحرارية الخام، وينشئون بذلك مناخهم الصغير الخاص بهم، لكن ما من شيء تقريبا تحتاجه المدينة للبقاء ينتج أو يخزن بالفعل داخل ضواحيها، هذا فضلا عن عجزها عن تلبية أي من حاجاتها للتخلص من مخلفاتها. تنقل مياه شرب مانهاتن مباشرة عبر الأنابيب من جبال كاتسكيل التي تبعد عن المدينة ساعتين بالسيارة في اتجاه الشمال، أما الكهرباء، فتولد بعيدا في الغرب الأوسط، في حين يصل الغذاء في شاحنات من جميع أنحاء الولايات المتحدة وسفن من أنحاء العالم كافة. في الوقت نفسه يستمر نقل قمامة هذه المدينة في قوارب ضخمة إلى مقلب فريش كيلز بجزيرة ستاتن آيلاند القريبة، الذي يعد أحد بناءين من صنع البشر يمكن رؤيتهما من الفضاء (الآخر هو سور الصين العظيم).
بناء على ما سبق، يمكن النظر إلى مانهاتن كرابطة من التدفقات؛ أي نقطة التقاء دائمة الدوران للبشر والموارد والأموال والطاقة، وما إن تتوقف هذه التدفقات عن الحركة - حتى ولو مؤقتا - حتى تبدأ المدينة في الانهيار جوعا أو غرقا في فضلاتها؛ فالسعة التخزينية لمتاجر البقالة فيها لا تكفي إلا لأيام قليلة فحسب، وتقل عن ذلك لدى المطاعم، وإذا لم تجمع القمامة مرة واحدة على الأقل، تبدأ في التكدس بالشوارع. بعد انقطاع الكهرباء الكارثي في عام 1977، لا يمكن تصور ما قد يحدث حاليا إذا انقطعت الكهرباء لأكثر من بضع ساعات. يشتهر أهالي نيويورك بثقتهم المشوبة بالتهور، فيظهرون شيئا من القدرة، حتى في أكثر الظروف مشقة، لكنهم في الواقع أسرى للأنظمة نفسها التي تجعل الحياة في المدينة شديدة الملاءمة. إن اعتمادهم يزداد كل يوم على الأداء القوي للبنية التحتية المعقدة الضخمة التي لولاها لصارت تفاصيل حياتهم العادية - الطعام والشراب والتنقل - مضنية على نحو لا يحتمل.
ما الذي يمكن أن يحدث إذا توقفت هذه البنية التحتية، أو جزء منها، عن العمل؟ هل يمكن أن يحدث ذلك؟ ومن يمكنه ضمان عدم حدوثه؟ بعبارة أخرى، من المسئول؟ يفتقر هذا السؤال، شأنه شأن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالنظم المعقدة، لإجابة محددة، لكن أقصر الإجابات الممكنة هي: «لا أحد!» في الواقع، ما من شيء يسمى بنية تحتية واحدة ليكون هناك مسئول عنها، لكن القائم هو مزيج معقد من البنى الحاكمة والأنظمة والمؤسسات والشبكات المتداخلة، يجمع بين الجوانب المجتمعية والسياسية والاقتصادية العامة والخاصة. إن نقل الأفراد وحده من مانهاتن وإليها وحولها مقسم على ما لا يقل عن أربع جهات لخدمات السكك الحديدية، وجهاز مترو الأنفاق، والعشرات من شركات الحافلات، وعدة آلاف من سيارات الأجرة، في الوقت نفسه تمكن العديد من الجسور والأنفاق التي تديرها هيئة الموانئ، إلى جانب آلاف الأميال من الطرق والطرق السريعة، ملايين المركبات الخاصة - بالمعنى الحرفي للكلمة - من الدخول إلى الجزيرة ومغادرتها يوميا، هذا ويتسم كل من الغذاء والبريد بدرجة أعلى من اللامركزية، فيتضمن هذان المجالان المئات من خدمات التوصيل التي تدفع جميعها بالآلاف من الشاحنات والعربات، بل الدراجات أيضا، في جميع أنحاء شوارع مانهاتن على مدار اليوم طوال أيام الأسبوع.
ما من كيان واحد يتولى تنسيق هذا النظام المعقد والمذهل على نحو لا يصدق، وما من أحد يفهمه، لكن يوميا عندما تتوقف عند المتجر المجاور لك في الثانية صباحا لشراء المثلجات بالنكهة المفضلة لديك، يكون هذا النظام موجودا، ويكدس أحدهم دائما الأرفف البراقة بمنتج ما وصل حديثا. هذا النظام حقيقة من حقائق الحياة التي يعتبرها سكان مانهاتن أمرا مسلما به، لكن نجاحه في المقام الأول يعد معجزة حقا. لكن حري بالفكرة التالية أن تثير اهتمام سكان مانهاتن بين الحين والآخر، حتى لو لم يحدث هذا إلى الآن: فلو أن ثمة شيئا واحدا تعلمناه من الفصول السابقة، فهو أن الأنظمة المتصلة اتصالا معقدا لا تظهر القوة الهائلة في وجه المحن وحسب، بل تظهر ضعفا صادما أيضا، وعندما يكون النظام معقدا كمدينة مزدحمة بالمباني والبشر، وحيويا لحياة ملايين البشر، ومحوريا لاقتصاد إحدى القوى العالمية الكبرى، يكون التفكير في نقاط تعطله المحتملة أكثر من مجرد تأمل لا جدوى منه. وبناء عليه، ما مدى قوة مانهاتن؟ (1) الحادي عشر من سبتمبر
بدأت الإجابة عن هذا السؤال تتكشف لنا يوم الثلاثاء، الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. أشبعت أحداث ذلك اليوم المشئوم، وآثارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تحليلا بالفعل، لكن ثمة سببا يدعونا للعودة إلى هذه المأساة في سياق هذه القصة؛ إذ إنها تفسر الكثير من التناقضات التي واجهتنا: كيف يمكن أن تكون الأنظمة المتصلة قوية وضعيفة في الوقت نفسه؟ كيف يمكن للأحداث البعيدة ظاهريا أن تكون أقرب مما نظن؟ كيف يمكن أن ننعزل، في الوقت ذاته، عما يحدث بالجوار؟ وكيف يمكن للروتين العادي أن يؤهلنا لما هو استثنائي؟ كشفت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بطريقة لا تفعلها سوى الكوارث الحقيقية وحدها، عن الروابط الخفية الكامنة في بنية الحياة المعاصرة المعقدة، ومن هذا المنظور، ما زالت هناك بعض الدروس التي ينبغي علينا تعلمها.
من منظور البنية التحتية المحض، كان يمكن لتلك الهجمات أن تكون أسوأ بالفعل، فعلى عكس الانفجارات النووية أو تفشي أحد عوامل العدوى البيولوجية في الهواء، كان الهجوم متمركزا نسبيا في موقعه، بل معزولا أيضا عن باقي المدينة. على سبيل المثال، عدد خطوط المواصلات، التي تمر بما كان يعرف بمركز التجارة العالمي آنذاك، كانت أقل بكثير منها في ميدان تايمز سكوير أو محطة قطارات جراند سنترال مثلا، ومع ذلك، فقد كان انهيار البرجين كارثة مروعة، طمرت الشوارع من جرائها ودمر مترو الأنفاق، وأبيد أحد مراكز الاتصالات الرئيسية بالمدينة؛ مبنى فيرايزون في 140 بالشارع الغربي، وتطلب الكثير من هذه الأضرار سنوات لإصلاحها، مع تكلفة تقدر بالمليارات.
لكن في يوم الثلاثاء ذاك تسبب الضرر المادي في نتيجة مماثلة في الأهمية تمثلت في التعجيل بوقوع أزمة «مؤسسية» خطيرة؛ فقد دمرت غرفة متابعة الحالات الطارئة الخاصة بعمدة المدينة مع انهيار المبنى رقم 7 من مركز التجارة العالمي بعد انهيار البرجين بفترة وجيزة، وبحلول العاشرة صباحا، فقد مركز التحكم الخاص بقوات الشرطة جميع خطوط الهاتف، بالإضافة إلى خدمات الهواتف المحمولة والبريد الإلكتروني وأجهزة الاستدعاء، ولما كانت المدينة تواجه كارثة غير مسبوقة وغير متوقعة على الإطلاق، مع عدم توافر أي معلومات تقريبا يمكن الاعتماد عليها، وفي ظل تزايد التهديدات بوقوع هجمات تالية، تعين على المدينة التنسيق بين عمليتين كبيرتين في آن واحد؛ الإنقاذ والأمن، وفي أقل من ساعة على بدء حالة الطوارئ، أصابت الفوضى البنية التحتية نفسها التي صممت خاصة للتعامل مع الحالات الطارئة.
لكن بطريقة ما، تمكنت المدينة من اجتياز الأزمة؛ ففيما يعد استجابة منظمة على نحو يستحيل تصديقه في ضوء الظروف القائمة آنذاك، حول كل من مكتب العمدة، وإدارتي الشرطة وإطفاء الحرائق، وهيئة الموانئ، والهيئات المتعددة المختصة بالتعامل مع الطوارئ، سواء الفيدرالية أو التابعة للولاية، وعشرات المستشفيات ومئات الشركات وآلاف المتطوعين وعمال البناء، جنوب مانهاتن من منطقة حرب إلى موقع للتعافي في أقل من أربع وعشرين ساعة، وفي تلك الأثناء استمر كل شيء في باقي أنحاء المدينة في العمل على نحو طبيعي تماما؛ الأمر الذي بدا غريبا للغاية. لم تنقطع الكهرباء، ولم تتوقف القطارات عن العمل، وظل بالإمكان تناول غداء لطيف في أحد مطاعم شارع برودواي بالقرب من جامعة كولومبيا، ونظرا للإجراءات الأمنية التي حتمت ملازمة المنازل أو المكاتب في الجزيرة ذلك اليوم، عاد تقريبا جميع من كانوا خارج المنطقة المنكوبة إلى منازلهم تلك الليلة، وعاد سير العمل في توصيل المؤن وجمع القمامة إلى حالته الطبيعية تقريبا في اليوم التالي. ظلت الشرطة تجوب المدينة، واستمرت إدارة إطفاء الحرائق في الاستجابة لكل إنذار حريق، مع أنها فقدت في ساعة واحدة أكثر من ضعف عدد الرجال الذي يمكن فقدانه في جميع أرجاء البلاد في عام كامل. وفي تلك الليلة شاهد الأصدقاء خطاب الرئيس الذي بثه التليفزيون في الحانات التي احتشد فيها الناس كعادتهم، وفي اليوم التالي عاد أغلب سكان المدينة في الواقع إلى العمل. استمرت أنشطة الحياة اليومية إلى حد أصاب سكان نيويورك، في الحقيقة، بالشعور بالذنب لعدم تأثرهم بالحادث بما فيه الكفاية.
بحلول يوم الجمعة، كانت الحواجز المطوقة للطرف الجنوبي من الجزيرة قد تراجعت جنوبا من شارع 14 إلى شارع كانال، وفي يوم الاثنين الموافق 17 سبتمبر، كان أغلب منطقة وسط المدينة جاهزا لعودة العمل به، بل إن البورصة ذاتها فتحت أبوابها من جديد، على الرغم من تكبد عالم المال معظم الخسائر في كل من الموظفين والمواد. كافحت شركات التداول للعمل، من المنازل والمكاتب المشتركة والأدوار المكتبية المؤجرة بجميع أنحاء مانهاتن وبروكلين ونيوجيرسي وكونيتيكت في استماتة لإعادة هيكلة عملها، وإنقاذ البيانات من خوادم النسخ الاحتياطي وإصلاح نظم الاتصالات مؤقتا، وذلك في مسعاها ليس فقط للتعايش مع مأساة فقدان الزملاء، بل تعويضها أيضا.
كان لدى مؤسسة مورجان ستانلي وحدها ثلاثة آلاف وخمسمائة فرد يعملون في البرج الجنوبي، وما يصعب تصديقه هو أنه ما من أحد منهم لقي حتفه، لكن ذلك لم يقلل من حجم مشكلة إعادة توزيع آلاف الأفراد في غضون أيام؛ لأنه لم يكن من الواضح بعد في تلك الأثناء كم منهم لا يزال على قيد الحياة! واجهت الكثير من الشركات الأخرى، الكبيرة منها والصغيرة، مهمة مخيفة مماثلة؛ فعلى سبيل المثال، لم تفقد شركة ميريل لينش، التي يقع مقرها قبالة مركز التجارة العالمي، مكاتبها، لكن تعين عليها إعادة توزيع آلاف العاملين لأكثر من ستة أشهر إلى أن تمكنوا من دخول المبنى مرة أخرى. وإجمالا، تعين على أكثر من مائة ألف شخص أن يذهبوا لأماكن مختلفة للقيام بأعمالهم في يوم الاثنين من ذاك الأسبوع. إن توزيع هذا العدد الهائل من الأفراد ما كان ليتحقق في فترة تقل عن أسبوع، حتى في الجيش نفسه المعد خاصة لمثل هذه المواقف. لكن بطريقة ما، في التاسعة والنصف صبيحة يوم الاثنين؛ أي بعد ستة أيام فحسب مما بدا حينها نهاية العالم، دق جرس بدء التداول ببورصة نيويورك من جديد.
كما حدث في أزمة تويوتا-آيسين، تمتعت كل الشركات والهيئات الحكومية المشتركة في جهود التعافي بدوافع قوية - اقتصادية واجتماعية وسياسية - لفعل ما فعلته، لكن حسبما أشرنا في الفصل
التاسع ، ليست الدوافع - بما في ذلك أقواها - كافية لإحداث رد فعل فعال على المدى القصير، فلا بد أن تتوافر القدرة، وكما حدث مع مجموعة تويوتا، ما كان من الممكن تصميم القدرة على التعافي من الكارثة بوعي، بل في الواقع، لم يحقق الجزء المصمم من قبل - غرفة متابعة الحالات الطارئة الخاصة بعمدة المدينة - النجاح، أو على الأقل فشل في العمل كما كان مفترضا. أيضا لم يتوافر الوقت الكافي، في خضم الأزمة نفسها، لجميع الأطراف المعنية ليدركوا كل شيء كانوا بحاجة إلى معرفته، ومن ثم، أيا كان ما تمتع به النظام ومكنه من التعافي بهذا القدر من السرعة، فلا بد أنه كان موجودا مسبقا بالفعل، وتطور في الأساس لأغراض أخرى.
بعد أشهر قلائل من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، سمعت قصة مذهلة من سيدة تعمل بشركة كانتور فيتزجيرالد، وهي شركة لتداول الديون فقدت ما يزيد عن سبعمائة من موظفيها الذين لا يتعدون الألف موظف جراء انهيار البرج الشمالي، وبالرغم من الصدمة العميقة التي عاناها من تبقى من الموظفين (أو ربما بسببها)، قرروا في اليوم التالي أنهم سيسعون لدعم بقاء الشركة، القرار الذي بدا غير قابل للتصديق على الإطلاق نظرا للعقبات العملية المثبطة للهمم التي لزم عليهم تجاوزها. أولا: لم يقع مقر أسواق الدخول الثابتة، على عكس أسواق الأسهم، في البورصة، ومن ثم لم يتم تعليق العمل بها؛ لذا إذا أرادت شركة كانتور فيتزجيرالد النجاة، فعليها العمل في غضون الساعات الثماني والأربعين التالية. ثانيا: مع أن خطة التعامل مع الطوارئ المصممة بعناية لديها اقتضت توفير نسخ احتياطية بعيدة من كل نظم البيانات والكمبيوتر، ثمة حالة طارئة واحدة لم تتوقعها، وهي أن كل من كانوا يعرفون كلمات المرور قد فقدوا في الأحداث! وفي الواقع، إذا لم يكن أحد على علم بكلمات المرور، فما من قيمة للبيانات، على الأقل إذا استحال الوصول إليها ليومين كاملين.
لذا ما فعلوه هو أنهم جلسوا كمجموعة، وأخذوا يتذكرون كل ما يعرفونه عن زملائهم، وكل ما فعلوه، وكل مكان ذهبوا إليه، وكل ما حدث من قبل بينهم، ونجحوا بالفعل في أن يحزروا كلمات المرور. يبدو ذلك أمرا يصعب تصديقه، لكنه حقيقي، وهو يفسر بشكل كبير الفكرة الموضحة في الفصل السابق: التعافي من الكارثة ليس شيئا يمكن تخطيطه بما يناسب حدثا محددا، أو تنسيقه مركزيا وقت وقوع الكارثة نفسه. في الكوارث الحقيقية يكون المركز هو أول جزء في النظام يتعرض للانهيار، كما حدث مع مكتب العمدة وشركة آيسين من قبله؛ لذا فإن استمرارية النظام، كشركة كانتور فيتزجيرالد، تعتمد على شبكة موزعة من الأعمال الروتينية العادية والروابط الموجودة من قبل التي تربط المؤسسة بعضها ببعض على جميع المستويات.
ما كان لافتا للنظر حقا آنذاك بشأن قوة وسط مدينة نيويورك هو أن آليات النجاة والتعافي التي استخدمها الأفراد والشركات والهيئات على حد سواء لم تكن استثنائية على الإطلاق، فبعد تعطل كل الإلكترونيات الرائعة الموجودة بغرفة متابعة الحالات الطارئة الخاصة بالعمدة، وقع عبء الاتصالات على أجهزة اللاسلكي الخاصة بجهاز الشرطة والأوراق التي كانت تنقلها سيارات الشرطة ذهابا وإيابا. وفي غياب توجيهات واضحة، ما كان من رجال الإسعافات الأولية وعمال البناء ورجال الإطفاء ممن هم خارج الخدمة، والمتطوعين، إلا أن وصلوا إلى مكان الحادث، وصاروا سريعا جزءا من عمل روتيني تبلور في الأساس على أرض الواقع، وليس وفقا لأي خطة محددة مسبقا، وعثر الناجون المتفرقون من كانتور فيتزجيرالد بعضهم على بعض بالمرور على منازل كل منهم. تذكر أنه في أعقاب الحادث مباشرة، لم يكن أحد على علم بما يحدث - يستوي في ذلك القوات والقادة العسكريون - ولم يعلم أحد كيف ينبغي الاستجابة له، ومن ثم فعل الجميع الشيء الوحيد الذي كان بوسعهم، وهو اتباع الخطط الروتينية وتطويعها على أفضل نحو ممكن لتراعي الظروف التي طرأت عليها تغيرات هائلة. كانت هذه الاستراتيجية مفجعة في بعض الحالات - فرجال الإطفاء الذين هرعوا أعلى السلالم ليلقوا حتفهم كانوا يتبعون أيضا خطط عملهم الروتينية - لكنها نجحت نجاحا مذهلا في أغلب الحالات. انتشر وصف «أبطال اعتياديون» مرارا وتكرارا في الشهور التالية للحادي عشر من سبتمبر، لكن من وجهة النظر المؤسسية، ما يجدر بنا تعلمه من جهود التعافي هو أن الاستثنائي ما هو إلا روتيني في الواقع.
مع ذلك، وبعد ستة أشهر، ظهر الجانب الضعيف للنظام نفسه، مع تأثر كل مجال تقريبا؛ بدءا من التأمين والرعاية الصحية، وصولا إلى النقل والترفيه والسياحة وتجارة التجزئة والتشييد والتمويل، بالهجمات على نحو سيئ؛ توقف عدد من المطاعم في جنوب مانهاتن عن العمل على الفور تقريبا بعد أن اضطرت لغلق أبوابها أياما، بل أسابيع، وأصاب الشلل أيضا العديد من عروض برودواي نظرا لانخفاض أعداد الجماهير، وفي خلال شهر كان آلاف العاملين في القطاع المالي قد سرحوا من وظائفهم، في حين خسر أغلب الآخرين علاواتهم السنوية، ومن ثم انخفض أجرهم بنسبة وصلت إلى 75 بالمائة. ومع أن القطاع المالي يشكل 2 بالمائة فقط من الوظائف في نيويورك، فإنه يسهم بنحو 20 بالمائة من دخل المدينة؛ لذا فإن نقصا بهذا الحد من شأنه أن يطول شتى أنحاء الجزيرة، ليؤثر ليس فقط على تجارة التجزئة والإيجارات، بل أيضا على الإيرادات العامة المستخدمة في تنظيف الشوارع وتأمين خطوط مترو الأنفاق والمحافظة على جمال الحدائق.
ما زاد الأمر سوءا هو أن السبب الرئيسي وراء وجود هذا العدد الكبير من الشركات المالية في جنوب مانهاتن هو وجود الكثير من الشركات الأخرى بالفعل هناك، لكن في العقد الأخير أو نحو ذلك، ومع تحول المعاملات المالية إلى النظام الإلكتروني على نحو متزايد وتراجع أهمية التقارب المادي، بدأت بعض الشركات في الانتقال بعيدا. والآن، بعد أن دمر مركز التجارة، وصارت الكثير من الشركات تواجه قرار نقل مقراتها في الوقت نفسه، قد يتحول هذا الابتعاد إلى نوع من الفرار الجماعي، وفي حال حدوث ذلك، فإن أغلب العائدات ذات الصلة التي صارت نيويورك تعتمد عليها قد تتجه إلى مسار آخر، لتعود المدينة إلى الركود المالي الذي اتسمت به في سبعينيات القرن العشرين ، لكن لا يعلم أحد بعد احتمالية وقوع هذا السيناريو الكئيب، وقد اقترح العديد من البدائل الأكثر تفاؤلا. ليس المقصود بهذا التنبؤ بأمور معينة، بل توضيح أن المدينة متصلة بصور يصعب توقعها، ومن الأصعب توجيهها.
لم يتوقف التأثير، بالطبع، عند ضفة نهر هادسون؛ إذ كان للهجمات تأثيراتها أيضا على المستوى القومي؛ فقد أعلنت خطوط ميدواي الجوية (التي يقع مقرها في كارولينا الشمالية) إفلاسها في اليوم التالي للهجمات، وبحلول نهاية الأسبوع، كانت كل شركة نقل في البلاد تمر بضائقة مالية قاسية، وسرح في النهاية ما يزيد عن مائة ألف عامل بالخطوط الجوية، وبدا اقتصاد الدولة، الذي كان على حافة الركود بالفعل، على وشك الانهيار إذا ما هجر المستثمرون الاستثمارات الأمريكية، وفشل المستهلكون في تجاوز الركود. وعلى الرغم من مرور الاقتصاد الآن بمرحلة تعاف واه وتراجع الاحتمالات الأكثر تشاؤما، فلا يزال حجم الخسائر الثانوية كبيرا. وبعد موسم كريسماس مخيب للآمال، تقدم أحد أكبر متاجر التجزئة في البلاد، وهو كيه مارت، بطلب حماية من الإفلاس، مخلفا أطنانا من الديون المعلقة، التي يمكن أن تؤدي بدورها إلى المزيد من حالات الإفلاس بين الدائنين الذين لم يحصلوا على مستحقاتهم بعد.
ما الذي يمكن استنتاجه مما سبق؟ هل كانت الهجمات أكثر إضرارا مما بدت عليه أول الأمر، أم أقل؟ هل تجاوب النظام بقوة؟ أم أن نقاط ضعفه الخفية قد اتضحت؟ في مقال شديد الإحباط، لكنه مثير للتفكير في الوقت نفسه، نشر في صحيفة نيويورك تايمز بعد الهجمات بأسابيع قليلة، أعلن بول كروجمان عن تنبؤاته بشأن تأثير الهجمات على الاقتصاد الأمريكي الواهن بالفعل، وقد اتسمت حجج كروجمان، كعادته، بالبلاغة والمنطقية والإقناع، بيد أن ملخص ما قاله هو أنه يوجد عدد من الأسباب الوجيهة لأن ينهض الاقتصاد الأمريكي من جديد ويتعافى في المستقبل القريب، هذا فضلا عن عدد مساو من الأسباب التي تحمل القدر نفسه من المعقولية لأن يسير الاقتصاد الأمريكي سريعا نحو ركود مدمر طويل المدى. لم يرغب كروجمان في أن يقول إنه ليس لديه أي فكرة عما كان يحدث (وقد مكنه تحوطه البارع من الادعاء بالتنبؤ الصحيح بصرف النظر عن النتيجة الفعلية)، لكن من الواضح تماما أنه لم تكن لديه أي فكرة بالفعل. يعد كروجمان أحد أفضل علماء الاقتصاد في العالم، خاصة فيما يتعلق بشرح الظواهر الاقتصادية الحقيقية، ومن ثم إذا لم يكن لدى كروجمان وزملائه في جامعة برنستون فكرة عن كيفية استجابة النظم الاقتصادية للصدمات الكبيرة، فيمكنك المراهنة على أنه ما من أحد آخر يعرف ذلك.
ما الذي يمكن لعلم الشبكات إيضاحه لنا، في حين لا يستطيع كروجمان ذلك؟ للأسف، الإجابة الصادقة عن هذا السؤال هي: «ليس الكثير.» من المهم إدراك أنه على الرغم من الخمسين عاما التي مرت على ظهور علم الشبكات، فإنه لا يزال يخطو خطواته الأولى على أرض الواقع، ولو شبهناه بالهندسة البنيوية لقلنا إننا لا نزال في مرحلة التوصل إلى قواعد الميكانيكا؛ أي المعادلات الأساسية التي تحكم ثني المواد الصلبة وتمددها وكسرها، أما المعرفة التطبيقية التي يمكن للمهندسين المحترفين الوصول إليها - الموائد والكتيبات وحزم التصميم الحاسوبية والقواعد الأساسية الخاضعة لاختبارات كثيرة - فلا تزال قابعة على المدى البعيد، وذلك وفقا لأفضل التقديرات، لكن ما يمكن لعلم الشبكات فعله هو تقديم أسلوب جديد للتفكير في المشكلات التقليدية؛ الأسلوب الذي أدى بالفعل إلى بعض الرؤى المدهشة. (2) دروس لعصر متشابك
أولا: علمنا علم الشبكات أن المسافة مفهوم مضلل. إن الفكرة القائلة إن أي فردين بطرفين متقابلين من العالم لا يجمع بينهما الكثير من الأمور المشتركة يمكن أن يتصلا من خلال سلسلة قصيرة من روابط الشبكات - في ست درجات فحسب - تكشف جانبا في واقعنا الاجتماعي أذهل جيلا بعد جيل، والتفسير - كما رأينا في الفصل
الثالث - مستمد من حقيقة أن عددا قليلا فحسب من الروابط يمكن أن يكون له تأثير كبير على الاتصالية في العالم أجمع، ومثلما رأينا، بعد ذلك، في الفصل
الخامس ، يكمن أصل هذه الروابط طويلة المسافات في الطبيعة متعددة الأبعاد للهوية الاجتماعية؛ فنحن نميل للارتباط بأفراد يشبهوننا، لكن لكل منا طرقه المستقلة المتعددة داخل إطار هذا التشابه، ونظرا لأننا لا نعرف من هم أصدقاؤنا فقط، بل نعرف أيضا طبيعة شخصياتهم، يصير بمقدورنا التنقل داخل الشبكات، بما في ذلك الضخمة منها، بواسطة عدد قليل من الروابط فحسب.
لكن حتى لو كان صحيحا أن بمقدور الجميع الاتصال بعضهم ببعض في إطار ست درجات من الانفصال وحسب، فما أهمية ذلك؟ ما مدى بعد الست درجات بأي حال؟ من منظور البحث عن وظيفة أو تحديد معلومات بعينها أو الحصول على دعوة لحفل ما، يعد أي شخص أبعد من صديق أحد أصدقائك، غريبا عنك. لذا، فيما يتعلق باستخلاص الموارد أو إحداث تأثير ما، فإن أي شيء على بعد أكثر من درجتين قد يكون بعيدا للغاية أيضا. قد نكون متصلين حقا، لكن ذلك لا يقلل من درجة غربتنا بعضنا عن بعض، ولا يجعلنا ننزع بالضرورة لتجاوز التكتلات البسيطة التي تحدد شكل حياتنا الفردية. في النهاية، لدينا جميعنا أعباء علينا تحملها، وانشغالنا بعدد المسافات الذي يفصلنا عن الآخرين لن يفيدنا في شيء، بل سيدفعنا إلى الجنون.
لكن أحيانا ما تظهر هذه الأعداد الهائلة في حياتنا دون سابق إنذار؛ ففي عام 1997 أسفر فصل البات التايلاندي عن الدولار الأمريكي عن أزمة حقيقية في مجال العقارات في تايلاند، الأمر الذي أدى إلى انهيار نظامها المصرفي، وفي غضون أشهر كان الركود المالي قد انتشر للنمور الآسيوية الأخرى (إندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية)، مسببا انكماشا لنظمها الاقتصادية، التي شهدت ازدهارا سابقا، ومحدثا ركودا عالميا في أسعار السلع، خاصة البترول. في الوقت نفسه كان اعتماد روسيا، التي شهدت آنذاك تحولا مؤلما إلى النظام الرأسمالي، على صادراتها من البترول قويا، وفجأة فقد ذلك الذهب الأسود قيمته. تلا ذلك أزمة في الميزانية الروسية، وتخلفت الحكومة اضطرارا عن الوفاء بدينها السيادي، وهو الأمر الذي ليس من المفترض أن تفعله أي دولة، حتى ولو كانت قوة عظمى سابقة، وأدت الصدمة التي أصابت أسواق الديون العالمية إلى تجنب المستثمرين للسندات من أي نوع باستثناء سندات الحكومة الأمريكية.
قبل ذلك مباشرة - وهو الأمر الذي لا يعرفه الجزء الأكبر من العالم - ضخ أحد الصناديق الوقائية في جرينتش بولاية كونيتيكت، واسمه صندوق إدارة رءوس الأموال طويلة المدى، مبالغ ضخمة لشراء سندات اعتبرها سيئة التسعير، لكن أصيب الصندوق بالفزع حين رأى أن الأسعار التي كان من المفترض أن تتقارب بدأت في التباعد، الأمر الذي أسفر عن فقد سندات تقدر بمليارات الدولارات لقيمتها في غضون أشهر قليلة. نسق رئيس مجلس إدارة بنك الاحتياط الفيدرالي لمدينة نيويورك عملية إنقاذ من خلال اتحاد أكبر المصارف الاستثمارية في البلاد؛ خوفا من أنه في حال اضطرار الصندوق لتسييل أصوله ستنهار الأسواق التي يعمل فيها، وبهذا تفادى كارثة محتملة، وهكذا انتهت الأزمة التي اجتاحت آسيا في العام المنصرم دون أن تؤثر على الولايات المتحدة إلا قليلا.
لم تتضرر الولايات المتحدة كثيرا من الأزمة الآسيوية عام 1997، لكن ما من أحد علم ما يجب توقعه آنذاك. وهذا ينطبق على الحال الآن أيضا؛ فما من أحد بإمكانه توقع أي شيء في ظل انعكاس الاضطرابات السياسية والدينية في الشرق الأوسط على صورة عمليات إرهابية في سماء نيويورك وواشنطن العاصمة؛ ففي عالم لا يفصل بين أفراده سوى ست درجات فحسب، صار تأثير أي شيء سريعا، ومن ثم ليس معنى أن شيئا ما يبدو بعيدا، وأنه يحدث بلغة لا تفهمها، أنه لا صلة له بك؛ فعندما يتعلق الأمر بالأوبئة والأزمات المالية والثورات السياسية والحركات الاجتماعية والأفكار الخطيرة، ثمة اتصال بيننا جميعا من خلال سلاسل قصيرة من التأثير، وستؤثر عليك بأي حال من الأحوال، بصرف النظر عما إذا كنت تعرفها أو تهتم بها أم لا، وإساءة فهم ذلك يعني إساءة فهم الدرس المهم الأول بشأن عصرنا المتشابك: قد يكون لدينا جميعا أعباء، وسواء أحببنا ذلك أم لا، فلا بد أن يتحمل بعضنا أعباء بعض أيضا.
الفكرة المهمة الثانية، التي يمكننا الحصول عليها من علم الشبكات، هي أنه في النظم المتصلة ثمة صلة معقدة، ومضللة أحيانا، بين السبب والنتيجة؛ ففي بعض الأحيان يمكن أن يكون للصدمات البسيطة آثار كبيرة (انظر الفصل
الثامن )، وفي أحيان أخرى يكون من الممكن امتصاص الصدمات، حتى العظيمة منها، دون إعاقة تذكر (انظر الفصل
التاسع ). هذه النقطة في غاية الأهمية؛ لأننا في أغلب الأحيان نعجز عن الحكم على أهمية الأمور إلا بأثر رجعي، ومن اليسير على المرء أن يكون حكيما عند الحكم على شيء ما بأثر رجعي. بعد أن صار كتاب «هاري بوتر» ظاهرة عالمية، سارع الجميع بإغداق الثناء على جودته كرواية للأطفال، وتصدر كل جزء تال منه على الفور قائمة أفضل المبيعات. ربما تكون هذه السلسلة جديرة بالفعل بكل النجاح الذي حصدته، لكن ما نغفله هو أن العديد من الناشرين رفضوا النص الأصلي للكاتبة جيه كيه رولينج قبل أن تقبله بلوومزبري (التي كانت آنذاك مؤسسة نشر مستقلة صغيرة). إذا كانت جودة عملها على هذا القدر من الوضوح، فلماذا لم يرها العديد من الخبراء في مجال نشر كتب الأطفال؟ وما الذي يقوله ذلك بشأن جميع النصوص الأخرى المرفوضة المهملة في أدراج الناشرين العديدين بجميع أنحاء العالم؟ في عام 1957 صارت رواية «على الطريق» لجاك كرواك في مصاف كلاسيكيات الأدب الأمريكي بين عشية وضحاها، لكن ما يغيب عن أغلب قرائها الملهمين أنها كادت لا ترى النور؛ إذ انتهى كرواك من النص الأصلي قبل موافقة دار نشر فايكينج على نشره بست سنوات. ما الذي كان سيحدث إذا أصاب اليأس كرواك؟ كثير من المؤلفين يصيبهم اليأس. كم من الأعمال الكلاسيكية خسرها العالم نتيجة لذلك؟
على الجانب الآخر، ماذا إذا لم تتوصل مجموعة تويوتا إلى وسيلة للتغلب على كارثة آيسين؟ يمكن تصور السيناريو بوضوح تام؛ تغلق الشركات الكبرى أبوابها - إنرون وكيه مارت مثالان حديثان على ذلك - وقد يتسبب التعطل المحتمل لأعمال شركة تويوتا في الدفع بها إلى الإفلاس. ما الذي كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ إذا حرم العالم بغتة من سيارات تويوتا العزيزة عليه، لكانت كارثة آيسين قد احتلت العناوين الرئيسية للصحف لشهور عدة. وبقضاء تلك الأزمة ليس فقط على تويوتا، بل ربما أيضا على الكثير من مورديها البالغ عددهم مائتين تقريبا ، ربما كان الأمر سيتسبب في انهيار حاد للاقتصاد الياباني الذي كان يعاني آنذاك الركود بالفعل، وربما صار هذا أحد أهم أحداث ذلك العقد من الزمان. لكن لم يعلم أحد بأزمة آيسين قط سوى القليل من المتخصصين في مجال المؤسسات الصناعية، فنظرا لعواقبها المحدودة للغاية على الاقتصاد العالمي، صارت هذه الأزمة حادثا عرضيا فحسب في سجل التاريخ، لكن كان من الممكن أن يكون لها نتائج مختلفة بسهولة. ينطبق الأمر نفسه إلى حد بعيد (وإن كان لأسباب مختلفة تماما) على تفشي فيروس إيبولا بين القردة في مدينة ريستون بولاية فيرجينيا، الذي تناولناه في الفصل
السادس . ماذا إذا كان الفيروس من نوع إيبولا زائير؟ كانت الولايات المتحدة ستتعرض لكارثة صحية عامة خطيرة على مقربة من عاصمتها، بيد أن السبب الوحيد لمعرفتنا بالأمر هو أن ريتشارد بريستون ألف كتابه المثير (وعثر على ناشر جيد!)
لذلك لا يمكن للتاريخ أن يرشدنا ونحن بصدد مستقبل لا يمكن التنبؤ به، لكننا نركن إليه على أي حال؛ لأنه ما من خيار آخر أمامنا على ما يبدو، لكن ربما يكون أمامنا خيار آخر بالفعل، لا للتنبؤ بنتائج معينة، بل لفهم الآليات التي تحدث وفقها هذه النتائج، ويمكن أن يكون الفهم كافيا في بعض الأحيان؛ فعلى سبيل المثال، لا تتنبأ نظرية الانتخاب الطبيعي لداروين فعليا بأي شيء على الإطلاق، ومع ذلك، فإنها تمنحنا قوة هائلة لفهم العالم الذي نلاحظه، ومن ثم اتخاذ قرارات صائبة بشأن موقعنا فيه (إذا أردنا). يمكننا أن نأمل، على النحو نفسه، في أن يعيننا علم الشبكات الحديث على فهم كل من بنية النظم المتصلة والطريقة التي تنتشر من خلالها أنواع التأثير المختلفة عبر هذه النظم.
نحن نعي بالفعل أن النظم المتصلة الموزعة، بدءا من شبكات الطاقة وصولا إلى الشركات التجارية، بل النظم الاقتصادية الكاملة أيضا، أضعف، وأقوى في الوقت نفسه، من الكيانات المنعزلة، وإذا اتصل فردان عبر سلسلة قصيرة من التأثيرات، فما يحدث لأحدهما قد يؤثر على الآخر، حتى لو كان أحدهما غافلا عن وجود الآخر تماما، وإذا كان هذا التأثير مدمرا، يكون كل منهما أضعف مما إذا كان وحده. على الجانب الآخر، إذا أمكن لكل منهما العثور على الآخر عبر السلسلة نفسها، أو إذا كانا كلاهما جزءا من شبكة علاقات ذات تعزيز متبادل مع أفراد آخرين، فقد يتمتع كل منهما بالقدرة على إحداث تأثير أعظم مما يمكنه تخيله. تتشارك الشبكات في الموارد وتوزع الأعباء، لكنها تنشر أيضا الأمراض وتنقل الفشل؛ فهي تحمل الخير والشر في آن واحد. من خلال تحديد كيفية اتصال النظم بدقة، ورسم علاقات واضحة بين بنية الشبكات الحقيقية والسلوك (مثل الأوبئة، والصيحات الحديثة، والقوة المؤسسية) الذي تتسم به النظم التي تربط بينها هذه الشبكات، يمكن أن يعيننا علم الشبكات على فهم العالم من حولنا.
وأخيرا، يثبت لنا علم الشبكات أنه علم جديد بالفعل، وليس فرعا من أي فرع علمي تقليدي، بل هو علم يتجاوز الحدود الفكرية ويستمد أفكاره من العديد من فروع المعرفة في آن واحد، فكما رأينا من قبل، تمهد الرياضيات التي يستخدمها الفيزيائيون طرقا جديدة في أرض لم يسبق اكتشافها من قبل، ويمثل كل من النمو العشوائي ونظرية التخلل والتحولات الطورية والشمولية أشياء معتادة للفيزيائيين، وقد عثروا على مجموعة كبيرة مثيرة للاهتمام من المشكلات في الشبكات، لكن دون خرائط علم الاجتماع والاقتصاد، وحتى الأحياء، التي ترشدهم، ليس بوسع هؤلاء العلماء تمهيد الطرق لأي مكان على الإطلاق. الشبكات الاجتماعية ليست شبيكات منتظمة، ولا يمكن لكل شيء أن يكون عديم المعيار، وقد ينجح أحد أنواع التخلل مع بعض المشكلات، لكنه لا ينجح مع مشكلات أخرى. وتبنى بعض الشبكات على صورة هرمية، في حين لا تكون أخرى كذلك، ويكون سلوك النظام، في بعض النواحي، مستقلا عن التفاصيل الدقيقة للنظام، لكن هناك من التفاصيل ما يحمل أهمية. هناك الكثير من النماذج البسيطة التي يمكننا ابتكارها لفهم سلوك أي نظام معقد، لكن تكمن الفكرة في اختيار النموذج الصحيح. يتطلب ذلك منا التفكير بعناية في جوهر الموضوع الحقيقي، وأن نعرف عنه شيئا ما.
إن الإسهاب في التأكيد على هذه الفكرة والزعم أن كل شيء يمثل شبكة عالم صغير أو شبكة عديمة المعيار لا يعد إفراطا في تبسيط الحقيقة فحسب، بل يمكن أن يضلل المرء ليظن أن مجموعة واحدة من الخصائص تنطبق على المشكلات كافة، لكن إذا أردنا فهم العصر المتشابك على نحو بعيد عن السطحية، علينا إدراك أن الفئات المختلفة للنظم المتصلة بشبكات تتطلب منا استكشاف أنواع مختلفة من سمات الشبكات. قد يكفي، في بعض الحالات، إدراك أن أي شبكة تتضمن طريقا قصيرا يصل بين أي فردين، أو أن بعض الأفراد متصلون على نحو أكبر بكثير من آخرين، لكن في حالات أخرى، ما قد يهم هو هل الأفراد أنفسهم يمكنهم العثور على المسارات القصيرة أم لا. قد يكون من المهم للأفراد، إلى جانب اتصالهم عبر المسارات القصيرة، أن يندمجوا في تكتلات معززة محليا، أو ألا يندمجوا اندماجا كبيرا. قد يكون وجود هوية فردية أمرا مهما في بعض الأحيان لفهم سمات إحدى الشبكات، في حين قد لا يكون كذلك في أحيان أخرى، وقد يكون التمتع باتصال قوي مهما في ظروف بعينها، وقد تكون له تبعات قليلة في ظروف أخرى، وفي بعض الحالات قد يكون له نتائج عكسية، وهو ما يؤدي إلى الفشل أو يزيد من تفاقم حالات الفشل التي تحدث طبيعيا. ومن شأن التصنيف المفيد للشبكات، شأنه شأن تصنيف الحياة، أن يمكننا من توحيد الكثير من النظم المختلفة والتمييز بينها، حسب الأسئلة المحددة التي نطرحها.
وهكذا، يتطلب تأسيس علم الشبكات دفعة منسقة قوية من جميع فروع المعرفة، بل وحتى المهن، الأمر الذي يفرض صراعا ما بين التعقيد الرياضي لعالم الفيزياء، وبصيرة عالم الاجتماع، وخبرة رائد الأعمال. إنها مهمة ضخمة، وأعترف أنها تبدو مستعصية أحيانا؛ فنحن نكد طويلا ولا نتوصل إلا إلى أقل القليل، ومن المغري الاعتقاد بأن العصر المتشابك شديد التعقيد لدرجة تحول دون فهمه بأي طريقة علمية منهجية. ربما، مع كل ما نبذله من أقصى الجهود الممكنة، نضطر في النهاية إلى الاكتفاء بملاحظة لعبة الحياة المبهمة صعبة المراس، والاستيقاظ كل صباح ومشاهدة ما يحدث وحسب، لكن ما من أحد أصابه اليأس بعد.
قد يكون أكثر جوانب العلم إلهاما أن طبيعته نفسها تفرض طرح أسئلة لم يجب عنها بعد، ومن هذا المنطلق، يعد العلم نشاطا متفائلا بشكل أساسي، فلا يؤمن العلماء دائما بإمكانية فهم العالم فحسب، بل أيضا لا تردعهم القيود المفروضة على ما يمكنهم فعله، لكن وراء كل مشكلة - مهما بلغت من الصعوبة - مشكلة أخرى أصعب، ولا يكتمل أبدا أي مستوى للفهم؛ فكل مرض يعالج يعقبه مرض آخر، ولكل اختراع تبعاته غير المقصودة، وكل ما تسفر عنه أي نظرية ناجحة هو رفع معايير التفسير لدينا فحسب. في أيام الشدة يشعر كل عالم أنه مثل سيزيف الذي يدفع بحجره أعلى التل بلا نهاية، ليبدأ من جديد من قاعدة التل في اليوم التالي، لكن سيزيف واصل المسير، وهذا هو الحال أيضا مع العلم؛ فنحن نستمر في كفاحنا، حتى لو بدا الأمر ميئوسا منه، وسبب ذلك أننا نجد في الكفاح، كما هو الحال مع معظم الطموحات البشرية، قيمة أنفسنا.
بالإضافة إلى ذلك، إن ما تبدو عليه ألغاز العصر المتشابك من استعصاء على الفهم لا يعني بالضرورة أنها مستحيلة الفهم بالفعل، فقبل كوبرنيكوس وجاليليو وكبلر ونيوتن، كان ينظر إلى حركات الأجسام السماوية على أنها لا يعلمها سوى الرب وحده، وقبل أن يطلق الأخوان رايت أول طائرة لهما في مدينة كيتي هوك، لم يكن مقدرا للإنسان أن يطير، وقبل أن يتمكن متسلق يدعى وارين هاردنج من تسلق السطح الجرانيتي لصخرة الكابيتان البالغ ارتفاعها ثلاثة آلاف متر بشق الأنفس، لم يكن من المعتقد أنه يمكن لأي إنسان تسلقها. في كل مسعى من مساعي البشر، يوجد دائما ما هو مستحيل، وفي كل مسعى يوجد من يحاولون قهر المستحيل. في أغلب الأوقات يفشلون، ويظل المستحيل كما هو؛ مستحيلا، لكن أحيانا ينجحون، ومع كل قفزة من هذا النوع ننتقل جميعا إلى المستوى التالي في اللعبة الكبرى.
ليس العلم بالمجال الذي يشتهر بأبطاله؛ فما من شيء باهر بشأن ما يفعله العالم كل يوم؛ بكل صراحة، ليس هناك ما يصلح لأن يعرض على شاشة التليفزيون، بيد أن العلماء يتحدون المستحيل كل يوم، في محاولة جاهدة منهم لفهم الأجزاء غير المفهومة من العالم، سواء في الوقت الحالي أو الماضي. وعلم الشبكات ليس سوى مناوشة واحدة وسط هذا القدر الكبير من الصراع، لكنها مناوشة تلفت إليها أنظار المجتمع العلمي على نحو متسارع. وبعد أكثر من خمسين عاما على إطلاق رابوبورت وإيردوس الشرارة الأولى، يبدو أن الأمور أصبحت تسير في مصلحتنا، أو كما ورد على لسان ونستون تشرشل بعد معركة العلمين في عام 1942: «هذه ليست النهاية، بل إنها ليست حتى بداية النهاية، لكن لعلها تكون نهاية البداية.»
الفصل الحادي عشر
العالم يتضاءل: عام آخر في العصر المتشابك
قد تبدو كتابة فصل جديد لكتاب لم يمر على نشره عام واحد أمرا مستغربا، لكن الوقت يمر سريعا في عالم الشبكات، وقد شهدت الشهور الاثنا عشر الماضية أحداثا عظاما، سواء على المستوى العلمي أو العالم الواقعي، تواصل تذكيرنا بمدى اتصال بعضنا ببعض. لقد كان عام 2003، في الواقع، خير تمثيل للعصر المتصل، وسأتناول فيما يلي بعض النقاط المهمة عن هذا الموضوع.
انتقل فيروس الالتهاب الرئوي اللانمطي الحاد (سارس)، بعد ظهوره للمرة الأولى في مقاطعة جوانجدونج بجنوب الصين في نوفمبر عام 2002، إلى عدد من دول العالم، ليتفشى في هونج كونج، ثم في سنغافورة وتايوان وفيتنام، بل كندا أيضا، ونظرا لأن فيروس سارس شديد العدوى - إذ ينتقل عبر الرذاذ المحمول في الهواء الذي يمكن استنشاقه على نحو مباشر أو غير مباشر عن طريق الاتصال بالأجسام أو الأسطح - ومهلك أيضا على نحو مذهل (حوالي 10 بالمائة ممن يصابون به يلقون حتفهم)، حمل هذا الفيروس في البداية جميع سمات الوباء العالمي، ليذكر كثيرين بوباء الإنفلونزا الذي تفشى في عام 1918 وتسبب في مقتل ما يزيد عن 20 مليون شخص في العالم، لكن لحسن الحظ، أدت التحذيرات القوية المبكرة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية وما تلاها من تعاون (وإن كان على مضض أحيانا) بين الدول المصابة بالفيروس إلى السيطرة على الوباء ليقتصر عدد الحالات المصابة على ثمانية آلاف حالة في العالم وأقل من ثمانمائة حالة وفاة، لكن كان من اليسير أن يكون الحال أسوأ من ذلك بكثير؛ فنظرا لأن كل حالة تفشي لم تتطلب سوى فرد واحد مصاب، كان من الممكن أن يتسبب تسرب عدد قليل من الأفراد من شبكات الحجر الصحي التي أقيمت سريعا إلى التسبب في الآلاف، وربما الملايين، من حالات الوفاة الناتجة عن فيروس سارس، ومع اقتراب فصل الشتاء بنصف الكرة الأرضية الشمالي، يظل التهديد بظهور حالات تفشي جديدة قائما.
بعد أشهر قلائل من تراجع فيروس سارس، واجه عالم الكمبيوتر وباء فيروسيا خاصا به؛ إذ أصاب فيروسا «بلاستر» و«سو بيج» الملايين من أجهزة الكمبيوتر في العالم، الأمر الذي أصاب حركة مرور البيانات على الإنترنت بالشلل أياما، وكما كان الحال مع انتشار الفيروسات السابقة، لم يصب المستخدمون الأفراد بقدر كبير من الضرر الدائم - كان ازدحام الشبكة هو الأثر الرئيسي - لكننا تذكرنا ثانية أن أفضل جهود خبراء أمن الكمبيوتر لا يمكنها الحيلولة دون تفشي مثل هذه الأوبئة بين الحين والآخر. وفقا لأحد التقديرات، تسبب فيروس «سو بيج» في إصابة ثلاثة أرباع حركة مرور البيانات على الإنترنت بالشلل! ونظرا لأن كل حالات تفشي الفيروسات تؤثر في المقام الأول على مستخدمي نظام التشغيل ويندوز من شركة مايكروسوفت، وإذا أمكن لفيروس واحد كهذا أن ينتشر سريعا ويحدث ضررا بالغا، فإن الميزة السوقية الرئيسية التي تتمتع بها برامج مايكروسوفت - وتوافقها العالمي - يمكن أن تتحول إلى عائق، وهنا، يمكن أن تصبح فيروسات الكمبيوتر قوة اقتصادية حقيقية لا تشكل فقط تفضيلات المستهلكين الأفراد، بل تمزق أيضا بنية الاحتكار الحالية لسوق برامج الكمبيوتر العالمي.
تزامن تقريبا مع هذين الوافدين الجديدين إلى عالم فيروسات الكمبيوتر الشهيرة أعظم انقطاع للكهرباء في التاريخ؛ ففي تشابه غريب للعطل المتسلسل الذي أصاب غرب الولايات المتحدة في أغسطس 1996، تفاعلت سلسلة من الأعطال البسيطة في المعدات في أوهايو على نحو غير متوقع مع نمط من أنماط طلبات الطاقة المحلية، مما تسبب في حركات مفاجئة هائلة في الطاقة الكهربائية، وهو ما أدى بدوره إلى غلق المولدات للحماية الذاتية، ومن ثم المزيد من الظروف غير المتوقعة، ومزيد من التغيرات المفاجئة في الطلب، والمزيد من التوقفات، وكانت النتيجة سلسلة من الأعطال اجتاحت جميع أنحاء الولايات والأقاليم في شمال شرق الولايات المتحدة وكندا، وإغلاق المئات من محطات الطاقة، وانقطاع الكهرباء عن ملايين المستهلكين، بما في ذلك مدينة نيويورك بأكملها، لما يزيد عن أربع وعشرين ساعة. مرة ثانية، خرجنا من تلك الأزمة بسهولة مع تكبد قدر بسيط نسبيا من الأضرار الاقتصادية، وعدد قليل للغاية من الإصابات، ودون أي حالات اضطراب مدني تقريبا، لكن مرة أخرى، كان من الممكن أن تكون الأمور أسوأ من ذلك. ثمة أمر محير للغاية بشأن اطمئناننا الجماعي عند مواجهتنا أي كارثة محتملة لا نفهم أصولها ولا يمكننا التنبؤ باحتمالية تكرارها. يبدو أنه إذا لم يكن الأمر يتعلق بالإرهاب، فما من شيء يستدعي القلق. مع ذلك، فإن النظم التي نعتمد عليها، وتتسم بقوة الاتصال فيما بينها، بدءا من شبكات الكمبيوتر، مرورا بالرقابة على الصحة العامة، ووصولا إلى المرافق الأساسية كالطاقة والماء، تتعرض لأنماط لا حصر لها من الأعطال التي يتضمن بعضها فقط أعمالا تخريبية، وحين تكون الأعطال، حتى العرضية منها، مؤثرة ومؤلمة، فلا يسعنا سوى أن نفهمها بأكبر قدر ممكن من الشمولية.
مع ذلك، فقد شهد عام 2003 في نظر الكثيرين ظهور نوع مختلف تماما من العالم المتصل بشبكات، فقد ظهر موقع خدمات المواعدة على الإنترنت، فريندستر، الذي تزايدت شعبيته على نحو هائل نظرا للاستراتيجية الجديدة التي يتبعها في تسجيل الأعضاء به، حيث يدعو الأعضاء الحاليون أصدقاءهم للانضمام إليه، بالإضافة إلى ذلك، ما إن ينضم الأعضاء بالموقع حتى يجب عليهم إظهار أصدقائهم (وملفات تعريف هؤلاء الأصدقاء). تتمثل الفكرة ببساطة في أن العثور على رفيق محتمل عن طريق الإمعان في التعرف على أصدقاء أصدقائك أقرب إلى كيفية عثورنا على الرفقاء بالطريقة التقليدية مقارنة بالبحث عنهم باستخدام كلمة رئيسية ما. بالإضافة إلى ذلك ، فإن معرفة معلومات عن أصدقاء شخص ما يوضح لك الكثير عن هذا الشخص مقارنة بما هو مستعد للإفصاح به عن نفسه. لم يتضح بعد هل موقع فريندستر أفضل كموقع لخدمات المواعدة من المواقع الأخرى المنافسة له على الإنترنت أم لا، لكن ما لا شك فيه هو الحماس الذي يقبل به الناس على موقع فريندستر ويعبثون عليه؛ من خلال اختلاق شخصيات وهمية على أنهم أصدقاء لهم، وإرسال اعترافات بعضهم لبعض، والمشاركة في النشرات الإخبارية، وابتكار استراتيجيات لإضافة أكبر قدر ممكن من «الأصدقاء»، بل وبيع ملفات تعريفهم على موقع إي باي لأعلى سعر يعرض عليهم! ليس من الواضح ما يهدف إليه كل هذا النشاط، وربما في غضون عام سينضم فريندستر إلى مصاف المواقع الإلكترونية الغريبة التي فشلت في النضوج لتصبح عملا تجاريا، لكن كل ما كشفه هذا الموقع هو الاهتمام الدائم الذي يوليه الكثير من الناس بالأفراد الذين يتصلون بهم، وكيفية حدوث هذا الاتصال.
شهد عام 2003 أيضا أول حملة رئاسية أمريكية على الإنترنت؛ إذ اعتمد هاورد دين، الحاكم السابق لولاية فيرمونت، في جزء كبير من استراتيجية حملته الانتخابية على تأثير أحد المواقع الإلكترونية الجديدة الأخرى على الإنترنت، وهو موقع ميت أب دوت كوم
Meetup.com . بدأ هذا الموقع كمساحة على الإنترنت ذات هدف عام، وهو تنسيق اللقاءات خارج إطار الإنترنت (أي على أرض الواقع) حول أي موضوع يهم أعضائه، ومنذ تدشين الموقع انضم إليه مئات الآلاف من الأفراد، من خلال الاشتراك في المئات من مجموعات الاهتمامات المشتركة - بدءا من الساحرات، مرورا بمتعلمي اللغة الإسبانية، وصولا إلى نوادي المعجبين بالفنانين، مثل راسل كرو - في مئات المدن بجميع أنحاء العالم. وفي إحدى المرات، اقترح شخص ما (لا أحد يعرف هويته) فكرة عقد لقاء للتحدث عن هاورد دين، ولأسباب غير مفهومة لأحد في الواقع، شهدت الفكرة نجاحا مفاجئا؛ حيث جذبت الآلاف من المؤيدين، بل اهتمام حملة دين نفسها في النهاية، التي كانت حتى تلك اللحظة تتخلف كثيرا عن منافسيها الأشهر التابعين للحزب الديمقراطي ، ومن ثم صار دين رجل الساعة، وقد فاجأ الجميع بجهد مثير للإعجاب في جمع التمويل (باستخدام الإنترنت أيضا) وانتزاع العناوين الرئيسية بأدائه الرشيق، واكتسابه لإعجاب القاعدة الشعبية من الناس، وكما هو الحال مع موقع فريندستر، ليس من الواضح هل بإمكان دين وموقع ميت أب تجاوز مرحلة الحداثة وتحويل الموجة الجارفة حاليا من الاهتمام العام إلى ناتج ملموس، لكن إذا كان بإمكانهما ذلك، وإذا كان من الممكن إظهار إمكانية نجاح الحملات الشعبية على الإنترنت (وهما شرطان مهمان للغاية)، فقد تعيد مؤسسات، مثل موقع ميت أب، تشكيل الواقع السياسي الأمريكي جوهريا؛ ذلك من خلال تقديم بديل لحملات الدعاية ذات رأس المال المكثف، ومن ثم تقليل تأثير المال على السياسة. وإن فشلا، فإن نجاحهما غير المتوقع حتى الآن يشي بأن الفكرة تستحق على الأقل أخذها على محمل الجد.
بدأت شركات أخرى قائمة على الشبكات الاجتماعية في العمل بنجاح في عام 2003 أيضا، غالبا بالاعتماد على تحليل سجلات خوادم البريد الإلكتروني الخاصة بالشركات بغرض الوصول إلى معارف أفضل للمبيعات، وتتمثل النظرية هنا في أنه إذا كان شخص ما في شركتك يعرف شخصا آخر في شركة قد يمكنك التعامل معها، فقد تعينك توصيته لك على التواصل للمرة الأولى مع هذه الشركة، لكن التأثير الحديث للشبكات الاجتماعية على مجريات الأحداث الحالية كان أوسع نطاقا من شعبية هذه الشبكات في عالم الأعمال. مثال على تأثير الشبكات، وهو لا يتسم بقدر كبير من الوضوح، هو النجاح الاستثنائي لمذكرات هيلاري كلينتون، وهو النجاح الذي تحقق مع أنها نشرت فيما اعتبر بوجه عام عاما سيئا للكتب، وعدم كتابة الكثير من المراجعات النقدية الجيدة عنها، وافتقارها لأي معلومات جديدة، لكن من الواضح أنه ما من هذه الأمور كان ذا أهمية؛ إذ أقبل الناس على شراء الكتاب، مثلما حدث مع كتاب هاري بوتر (الذي صدر الجزء الخامس منه هذا العام أيضا)، فجنت هيلاري من حقوق التأليف ما يزيد عن الثمانية ملايين دولار التي كانت قد حصلت عليها مقدما من الناشر. يرجع السبب في ذلك إلى أن الناس يميلون لقراءة الكتب نفسها التي قرأها أصدقاؤهم؛ لأنها تمنحهم شيئا يتحدثون عنه، ولأنهم يفترضون أنه إذا كانت هذه الكتب قد نالت إعجاب أصدقائهم، فمن المحتمل أن تنال إعجابهم أيضا، وسواء أكانوا على حق أم لا، فالنتيجة هي أن نجاح كتاب ما (أو فيلم أو شخصية شهيرة ... إلخ) يعتمد على من ابتاعه بالفعل أكثر من اعتماده على سمات الكتاب وعيوبه في حد ذاتها. بعبارة أخرى، إنها الشبكة!
ماذا حدث في علم الشبكات إذن؟ الكثير في الواقع، ويتسم إيقاع هذه الأحداث بأنه متسارع بشكل دائم؛ فبحلول منتصف عام 2003؛ أي بعد خمس سنوات بالكاد من اشتراكي أنا وستيف ستروجاتس في نشر أول بحث لنا عن شبكات العالم الصغير في مجلة نيتشر، نشر مئات الأبحاث، فاق عددها المائة في العام المنصرم وحده، ونحو خمسين بحثا في الشهرين الماضيين. إنه معدل مذهل للنشر في مجال لا يزال يتلمس طريقه إلى الأضواء - إذ يقارب المعدل بحثا واحدا في اليوم حاليا - وتشير أفرع المعرفة التي تتضمنها الأبحاث (الفيزياء والرياضيات والأحياء وعلوم الكمبيوتر وعلم الاجتماع والاقتصاد) إلى أن ما كنا نطلق عليه اسم علم الشبكات ليس مجرد صيحة جديدة عابرة فحسب.
فضلا عن أن عام 2003 كان زاخرا بالأحداث أيضا للشخصيات الواردة بهذا الكتاب. نشرت أخيرا نتائج المشروع القائم على رسائل البريد الإلكتروني والهادف لاختبار فرضية ميلجرام المتعلقة بالعالم الصغير، الذي تناولناه باختصار في الفصل
الخامس ، ولا تزال تجرى صورة حديثة من هذه التجربة حاليا (
http://smallworld.columbia.edu ) . ونشرت أنا وتشاك سابيل وبيتر دودز أخيرا أول بحث لنا عن القوة المؤسسية، والمنبثق عن المشروع الذي تناولناه في الفصل
التاسع . نشر أيضا مارك نيومان، الذي ظهر عمله في العديد من فصول هذا الكتاب، بحثا نقديا بارزا يلخص الكثير من النتائج الفنية التي نشرت على مدار السنوات العديدة الماضية، وقدم جون كلاينبرج (الذي تعرفنا عليه في الفصل
الخامس ، في سياق الحديث عن مشكلة البحث في العالم الصغير)، مع معاونيه: ديفيد كيمبي وإيفا تاردوس، بحثا ثوريا عن نشر سلاسل المعلومات، وهو الموضوع الذي نوقش في الفصلين
السابع
و
الثامن . هذه الأبحاث مذكورة في قسم «قراءات إضافية»، وجميعها تواصل توجيه علم الشبكات نحو اتجاهات جديدة ومثيرة.
علاوة على ذلك، يستكشف العديد من الاتجاهات الأخرى أيضا على أيدينا وأيدي عشرات الباحثين الآخرين في العالم، لكن ليس مقصودا بهذا الفصل تلخيص أحدث الأبحاث أو حتى تحديث محتويات هذا الكتاب، بل الغرض منه ببساطة هو التأكيد على أن مرور الوقت - وإن لم يكن سوى عام واحد - جعل علم الشبكات أكثر ارتباطا بشئون العالم، لا أقل، وأن الأفكار التي يحتوي عليها هذا الكتاب مهمة لدرجة تستدعي التشبث بها وفهمها في النهاية.
قراءات إضافية
The following pages are designed as a guide for readers who want to expand their understanding of the science of networks, start doing their own research, or simply learn some more details about the topics mentioned in the book. As such, the readings are coded by difficulty, according to the simple rating scale given below. Also, the readings are broken down by chapter and section, thus enabling a quick association between specific topics and the relevant material. A complete, alphabetized bibliography follows. As long as the reading list is, it is far from comprehensive. In fact, most subjects have been covered rather sparsely, if at all, and I apologize to any authors that I have erroneously excluded. Such obvious omissions notwithstanding, it remains the case that by starting here, the uninitiated reader can quickly find much of the major literature associated with the new science of networks. And a lot more besides.
درجات الصعوبة ⋆
Beginner (no more difficult than this book). ⋆⋆
Intermediate (some effort and mathematical background required). •
Advanced (requires undergraduate-level mathematics training). ••
Expert (impenetrable without graduate-level mathematics training).
الفصل الأول: عصرنا المتشابك
The proximate causes and immediate effects of the cascading failure that occurred in the Western Systems Coordinating Council transmission grid on August 10, 1996, are described in: ⋆ WSCC Operations Committee.
Western Systems Coordinating Council Disturbance Report, August 10, 1996 (October 18, 1996). Available on-line at http://www.wscc.com/outages.htm.
A review of major recent power disturbances in the United States that sheds some additional light on the August 10 cascade is: ⋆ Hauer, J. F., and Dagel, J. E.
White Paper on Review of Recent Reliability Issues and System Events.
Consortium for Electric Reliability Technology Solutions. U.S. Department of Energy (1999). Available on-line at
http://www.eren.doe.gov/der/transmission/pdfs/reliabilityevents.pdf .
Some theoretical papers dealing with the problem of cascading failures in power transmission networks are: ⋆⋆ Kosterev, D. N., Taylor, C. W., and Mittelstadt, W. A. Model validation for the August 10, 1996 WSCC system outage.
IEEE Transactions on Power Systems,
14(3), 967-979 (1999). • Sachtjen, M. L., Carreras, B. A., and Lynch, V. E. Disturbances in a power transmission system.
61(5), 4877-4882 (2000). •• Asavathiratham, C. The influence model: A tractable representation for the dynamics of networked Markov chains (Ph.D. dissertation, Department of Electrical Engineering and Computer Science, MIT, 2000). (1) النشوء
Although the author doesn’t call it emergence, one of the earliest works to really grapple with the issue of emergent behavior in complex (social) systems is: ⋆ Schelling, T. C.
Micromotives and Macrobehavior (Norton, New York, 1978).
The classic paper by Phillip Anderson that outlines the fundamental concept of emergence is: ⋆⋆ Anderson, P. W. More is different.
Science,
177, 393-396 (1972).
Some very readable introductions to the subject of complex, adaptive systems in general, and emergence in particular, are: ⋆ Gell-Mann, M.
The Quark and the Jaguar: Adventures in the Simple and the Complex (W. H. Freeman, New York, 1994). ⋆ Holland, J. H.
Hidden Order: How Adaptation Builds Complexity (Perseus, Cambridge, MA, 1996). ⋆ Waldrop, M. M.
Complexity: The Emerging Science at the Edge of Order and Chaos (Touchstone, New York, 1992).
A more technical read is: • Casti, J. L.
Reality Rules I & II: Picturing the World in Mathematics: The Fundamentals, the Frontier (Wiley-Interscience, New York, 1997). (2) الشبكات
A good introduction to the mathematical theory of graphs (and one that explains Euler’s theorem in detail) is: ⋆⋆ West, D. B.
Introduction to Graph Theory (Prentice-Hall, Upper Saddle River, NJ, 1996).
A more applied approach to the subject, focusing more on algorithms and applications than on theorems, is presented in the following general texts: ⋆⋆ Lynch, N. A.
Distributed Algorithms (Morgan Kauffman, San Francisco, 1997). ⋆⋆ Ahuja, R. K., Magnanti, T. L., and Orlin, J. B.
Network Flows: Theory, Algorithms, and Applications (Prentice-Hall, Englewood Cliffs, NJ, 1993). •• Nagurney, A.
Network Economics: A Variational Inequality Approach (Kluwer Academic, Boston, 1993). (3) المزامنة
The best way to learn about the subject of coupled oscillators is from Steve Strogatz himself in his recent book: ⋆ Strogatz, S. H.
Sync: The Emerging Science of Spontaneous Order (Hyperion, Los Angeles, 2003).
Strogatz has also written two shorter accounts of his (and related) work on the Kuramoto model: • Strogatz, S. H. Norbert Wiener’s brain waves. In Levin, S. A. (ed.),
Frontiers in Mathematical Biology, Lecture Notes in Biomathematics, 100 (Springer, New York, 1994), pp. 122-138. ⋆ Strogatz, S. H., and Stewart, I. Coupled oscillators and biological synchronization.
Scientific American,
269(6), 102-109 (1993). (4) الطريق الأقل ارتيادا
Winfree’s original paper on the entrainment of coupled oscillators that kicked off much of the recent literature, and that was my initial reference point, is: • Winfree, A. T. Biological rhythms and the behavior of populations of coupled oscillators.
Journal of Theoretical Biology,
16, 15-42 (1967).
For those who want to learn more from the master, a fascinating (albeit a somewhat challenging) read is: • Winfree, A. T.
The Geometry of Biological Time (Springer, Berlin, 1990). (5) مسألة العالم الصغير
The famous
Today
paper that everyone cites when they talk about Milgram’s work is: ⋆ Milgram, S. The small world problem.
2, 60-67 (1967).
A better reference, however, is a paper that Milgram published two years later with his graduate student, Jeffrey Travers. It contains considerably more detail than the
article, and although it isn’t quite as fun, it is actually much clearer. ⋆ Travers, J., and Milgram, S. An experimental study of the small world problem.
Sociometry,
32(4), 425-443 (1969).
The very first study of the small-world problem was by Manfred Kochen and Ithiel de Sola Pool, who circulated their results as a working paper almost ten years before Milgram conducted his experiment. In fact, it was this paper that stimulated Milgram’s work in the first place. It was finally published, almost twenty years after its inception, as the first paper in the first volume of the journal
Social Networks . ⋆⋆ Pool, I. de Sola, and Kochen, M. Contacts and influence.
Social Networks,
1(1), 1-51 (1978).
A number of subsequent papers, both theoretical and empirical, as well as the original paper by Kochen and Pool, are available in a collected volume, edited by Manfred Kochen. ⋆⋆ Kochen, M. (ed.).
The Small World (Ablex, Norwood, NJ, 1989).
The play by John Guare that was later made into a movie, and launched the phrase “six degrees of separation” into the pop-culture stratosphere, is: ⋆ Guare, J.
Six Degrees of Separation:
A Play (Vintage Books, New York, 1990).
الفصل الثاني: أصول علم «جديد» (1) نظرية الرسوم البيانية العشوائية
Random-graph theory is not for the faint of heart. As a result, there are not really any readings one might call “accessible.” Nevertheless, here are some important ones. The original results of Erdős and Rényi dealing with the evolution and connectedness of random graphs are contained in the following series of classic papers (none of which are easy to find in your average library): •• Erdős, P., and Rényi, A. On random graphs.
Mathematicae,
6, 290-297 (1959). •• Erdős, P., and Rényi, A. On the evolution of random graphs.
the Mathematical Institute of the Hungarian Academy of Sciences,
5, 17-61 (1960). •• Erdős, P., and Rényi, A. On the strength and connectedness of a random graph.
Acta Mathematica Scientia Hungary,
12, 261-267 (1961).
The standard textbook for the field of random graphs, and one that summarizes the most significant developments since Erdős and Rényi, is: ••
Bollobas, B. Random Graphs,
2d ed. (Academic, New York, 2001).
A slightly more readable (although not as comprehensive) treatment of the subject is: • Alon, N., and Spencer, J. H.
The Probabilistic Method (Wiley-Interscience, New York, 1992). (2) الشبكات الاجتماعية
The standard textbook for social network analysis is: ⋆⋆ Wasserman, S., and Faust, K.
Social Network Analysis: Methods and Applications (Cambridge University Press, Cambridge, 1994).
Two shorter, less comprehensive, but more readable alternatives are: ⋆⋆ Degenne, A., and Forse, M.
Introducing Social Networks (Sage, London, 1999). ⋆⋆ Scott, A.
Social Network Analysis,
2d ed. (Sage, London, 2000).
Finally, a very short collection of classic papers-the ones that introduced some of the central concepts in the field-includes: ⋆⋆ Boorman, S. A., and White, H. C. Social structure from multiple networks. II. Role structures.
American Journal of Sociology,
81(6), 1384-1446 (1976). ⋆⋆ Burt, R. S.
Structural Holes: The Social Structure of Competition (Harvard University Press, Cambridge, MA, 1992). ⋆⋆ Davis, J. A. Structural balance, mechanical solidarity, and interpersonal relations.
American Journal of Sociology,
68(4), 444-462 (1963). ⋆⋆ Freeman, L. C. A set of measures of centrality based on betweenness.
Sociometry,
40, 35-41 (1977). ⋆⋆ Granovetter, M. S. The strength of weak ties.
American Journal of Sociology,
78, 1360-1380 (1973). ⋆⋆ Harary, F. Graph theoretic measures in the management sciences.
Management Science,
5, 387-403 (1959). •• Holland, P. W., and Leinhardt, S. An exponential family of probability distributions for directed graphs.
Journal of the American Statistical Association,
76, 33-65 (1981). ⋆⋆ Lorrain, F., and White, H. C. Structural equivalence of individuals in social networks.
Journal of Mathematical Sociology,
1, 49-80 (1971). •• Pattison, P.
Algebraic Models for Social Networks (Cambridge University Press, Cambridge, 1993). ⋆⋆ White, H. C., Boorman, S. A., and Breiger, R. L. Social structure from multiple networks. I. Blockmodels of roles and positions.
American Journal of Sociology,
81(4), 730-780 (1976). (3) للديناميكيات أهمية
Because the subject of networks and dynamics is such a new one, there is really no text on the subject. One starting place is the following edited volume-a collection of roughly forty papers with introductions written by the editors: •• Newman, M. E. J., Barabási, A. L., and Watts, D. J.
The Structure and Dynamics of Networks (Princeton University Press, Princeton, NJ, 2003).
A great introduction to the field of nonlinear dynamics is: ⋆⋆ Strogatz, S. H.
Nonlinear Dynamics and Chaos with Applications to Physics, Biology, Chemistry, and Engineering (Addison-Wesley, Reading, MA, 1994).
And a discussion of its relevance to networks is: ⋆⋆ Strogatz, S. H. Exploring complex networks.
Nature,
410, 268-275 (2001).
A paper that points out the limitations of centrality as a surrogate for social influence is: ⋆⋆ Mizruchi, M. S., and Potts, B. B. Centrality and power revisited: Actor success in group decision making.
Social Networks,
20, 353-387 (1998).
The story quoting Jon Kleinberg on the connection to Bill Gates is: ⋆ Wildavsky, B. Small world, isn’t it?
U.S. News and World Report, April
1, 2002, p. 68.
And the article that suggested OTPOR as a good example of decentralized action is: ⋆ Cohen, R. Who really brought down Milosevic?
New York Times Magazine,
November 26, 2000, p. 43. (4) الابتعاد عن العشوائية
Over a period of more than a decade, Anatol Rapoport produced a series of papers that laid out the theory of random-biased nets. The central ideas, however, are contained in the following pair of papers: • Solomonoff, R., and Rapoport, A. Connectivity of random nets.
Bulletin of Mathematical Biophysics,
13, 107-117 (1951). • Rapoport, A. A contribution to the theory of random and biased nets.
Bulletin of Mathematical Biophysics,
19, 257-271 (1957).
A summary of the random-biased network approach is given in: • Rapoport, A. Mathematical models of social interaction. In Luce, R. D., Bush, R. R., and Galanter, E. (eds.),
Handbook of Mathematical
vol. 2 (Wiley, New York, 1963), pp. 493-579.
Rapoport’s own account of his life, and his life’s work, is: ⋆ Rapoport, A.
Certainties and Doubts: A Philosophy of Life (Black Rose Press, Montreal, 2000). (5) دور الفيزيائيين
The classic text on the theory of critical phenomena is: • Stanley, H. E.
Introduction to Phase Transitions and Critical
(Oxford University Press, Oxford, 1971).
A more contemporary version is: • Sornette, D.
Critical
(Springer, Berlin, 2000).
A detailed discussion of spin systems and phase transitions is given in: • Palmer, R. Broken ergodicity. In Stein, D. L. (ed.),
Lectures in the Sciences of Complexity,
vol. I, Santa Fe Institute Studies in the Sciences of Complexity (Addison-Wesley, Reading, MA, 1989), pp. 275-300. • Stein, D. L. Disordered systems: Mostly spin systems. In Stein, D. L. (ed.),
Lectures in the Sciences of Complexity,
vol. I, Santa Fe Institute Studies in the Sciences of Complexity (Addison-Wesley, Reading, MA, 1989), pp. 301-354.
If one actually wants to do work in this field, a useful text is: • Newman, M. E. J., and Barkema, G. T.
Monte Carlo Methods for Statistical
(Clarendon Press, Oxford, 1999).
And finally, a very accessible text that uses simple computer models to explain many of the central concepts of nonlinear dynamics and critical phenomena is: ⋆⋆ Flake, G. W.
The Computational Beauty of Nature: Computer Explorations of Fractals, Chaos, Complex Systems, and Adaptation (MIT
الفصل الثالث: عوالم صغيرة
The original account of my work with Steve Strogatz was my
⋆⋆ Watts, D. J.
Small Worlds: The Dynamics of Networks between Order and Randomness (Princeton University Press, Princeton, NJ, 1999). (1) مساعدة بسيطة من الأصدقاء
A discussion of
agency,
as the term is understood by sociologists, is: ⋆ Emirbayer, M., and Mische, A. What is agency?
American Journal of Sociology,
103(4), 962-1023 (1998).
The computer algorithms used to do the relevant calculations are quite standard and can be learned from any good text on algorithms. Two good examples are: ⋆⋆ Aho, A. V., Hopcroft, J. E., and Ullman, J. D.
Data Structures and Algorithms (Addison-Wesley, Reading, MA, 1983). ⋆⋆ Ahuja, R. K., Magnanti, T. L., and Orlin, J. B.
Network Flows: Theory, Algorithms, and Applications (Prentice-Hall, Englewood Cliffs, NJ, 1993). (2) من سكان الكهوف إلى أهالي سولاريا
The two books from Asimov’s
Robot
series that inspired my discussion with Steve are: ⋆ Asimov, I.
The Caves of Steel (Doubleday, Garden City, NY, 1954). ⋆ Asimov, I.
The Naked Sun (Doubleday, Garden City, NY, 1957). (3) عوالم صغيرة
The derivation of the alpha model, and the consequent identification of small-world networks, are presented in: ⋆⋆ Watts, D. J. Networks, dynamics and the small-world phenomenon.
American Journal of Sociology,
105(2), 493-527 (1999).
A simpler, but similar, version of the model was later studied by: • Jin, E. M., Girvan, M., and Newman, M. E. J. The structure of growing networks.
Review E,
64, 046132 (2001). (4) بسيط قدر المستطاع
The beta model and the empirical results about small-world networks were first published in: ⋆⋆ Watts, D. J., and Strogatz, S. H. Collective dynamics of 'small-world’ networks.
Nature,
393, 440-442 (1998).
Subsequent work on the beta model, and even simpler related models, includes: • Barthelemy, M., and Amaral, L. A. N. Small-world networks: Evidence for a crossover picture.
82, 3180-3183 (1999). •• Monasson, R. Diffusion, localization and dispersion relations on 'small-world’ lattices.
European Physical Journal B,
12(4), 555-567 (1999). • Newman, M. E. J., and Watts, D. J. Scaling and percolation in the small-world network model.
7332-7342 (1999). • Newman, M. E. J., and Watts, D. J. Renormalization group analysis of the small-world network model.
263, 341-346 (1999). • Newman, M. E. J., Moore, C., and Watts, D. J. Mean-field solution of the small-world network model.
84, 3201-3204 (2000).
Much of this early work is reviewed in: • Newman, M. E. J. Models of the small world.
Journal of Statistical
101, 819-841 (2000). (5) العالم الواقعي
In addition to exploring the theoretical properties of small-world networks, researchers have identified a wide variety of empirical cases. Some examples are: ⋆⋆ Adamic, L. A. The small world web.
In Lecture Notes in Computer Science,
1696,
the European Conference in Digital Libraries (ECDL) ’99 Conference (Springer, Berlin, 1999), pp. 443-454. ⋆ Davis, G. F., Yoo, M., and Baker, W. E. The small world of corporate elite (working paper, University of Michigan Business School, 2002). ⋆⋆ Ferrer i Cancho, R., Janssen, C., and Solé, R. V. Topology of technology graphs: Small world patterns in electronic circuits.
E,
64, 046119 (2001). ⋆ Kogut, B., and Walker, G. The small world of Germany and the durability of national networks.
American Sociological Review,
66(3), 317-335 (2001). ⋆⋆ Sporns, O., Tononi, G., and Edelman, G. M. Theoretical neuroanatomy: Relating anatomical and functional connectivity in graphs and cortical connection matrices.
Cerebral Cortex,
10, 127-141 (2000). ⋆⋆ Wagner, A., and Fell, D. The small world inside large metabolic networks.
of the Royal Society of London, Series B,
268, 1803-1810 (2001).
الفصل الرابع: ما وراء العالم الصغير (1) الشبكات عديمة المعيار
A highly accessible account of the science of networks that focuses on the development and importance of scale-free networks is: ⋆ Barabási, A. L.
Linked: The New Science of Networks (Perseus Press, Cambridge, MA, 2002).
Some more mathematical treatments of random networks with non-Poisson degree distributions (including power-law distributions) can be found in: •• Aiello, W., Chung, F., and Lu, L. A random graph model for massive graphs. In
Computing (Association for Computing Machinery, New York, 2000), pp. 171-180. •• Molloy, M., and Reed, B. A critical point for random graphs with a given degree sequence.
Random Structures and Algorithms,
6, 161-179 (1995). •• Molloy, M., and Reed, B. The size of the giant component of a random graph with a given degree sequence.
Combinatorics, Probability, and Computing,
7, 295-305 (1998). •• Newman, M. E. J., Strogatz, S. H., and Watts, D. J. Random graphs with arbitrary degree distributions and their applications.
E,
64, 026118 (2001). (2) الأثرياء يزدادون ثراء
The paper by László Barabási and Réka Albert that introduced the idea of scale-free networks, and proposed a preferential attachment model of network growth to account for them, is: ⋆⋆ Barabási, A., and Albert, R. Emergence of scaling in random networks.
Science,
286, 509-512 (1999).
Since Barabási and Albert’s original paper, a great many papers have been written on the subject of scale-free networks. Many of the references and relevant results are summarized in: • Albert, R., and Barabási, A. L. Statistical mechanics of complex networks.
Review of Modern Physics,
74, 47-97 (2002).
Oddly enough, the original discovery of scale-free networks predates László Barabási and Réka Albert’s paper by over thirty years. The empirical observation that networks can have a power-law degree distribution was first presented by Derek de Solla
⋆⋆ Price, D. J. de Solla. Networks of scientific papers.
Science,
149, 510-515 (1965).
Eleven years later, Price proposed a mathematical model that was, in essence, identical to that of Barabási and Albert’s. Given how popular the notion of scale-free networks has become, one might wonder why no one picked up on it at the time. Perhaps the title (and the journal) had something to do with it. ⋆⋆ Price, D. J. de Solla. A general theory of bibliometrics and other cumulative advantage processes.
Journal of the American Society of Information Science,
27, 292-306 (1976).
Continuing on an historical note, Zipf’s law was first proposed in: ⋆⋆ Zipf, G. K.
Human Behavior and the Principle of Least Effort (Addison-Wesley, Cambridge, MA, 1949).
And Herbert Simon first presented the idea of preferential, random growth as an explanation of power-law size distributions like Zipf’s law in: • Simon, H. A. On a class of skew distribution functions.
Biometrika,
42, 425-440 (1955).
The article was reprinted two decades later, along with a significant amount of subsequent and related work, in: • Ijiri, Y., and Simon, H. A.
Skew Distributions and the Sizes of Business Firms (Elsevier/North-Holland, New York, 1977).
Finally, the notion of the Matthew effect in the context of scientific prestige was introduced by Robert K. Merton in: ⋆ Merton, R. K. The Matthew effect in science.
Science,
159, 56-63 (1968). (3) تحقيق الثراء يمكن أن يكون عسيرا
Empirical evidence (mostly) for and (occasionally) against the prevalence of scale-free networks has appeared in a number of places. Some of the more interesting papers are as follows: ⋆⋆ Amaral, L. A. N., Scala, A., Barthelemy, M., and Stanley, H. E. Classes of behavior of small-world networks.
Sciences,
97, 11149-11152 (2000). ⋆⋆ Adamic, L. A., and Huberman, B. A.
Science,
287, 2115a (2000). ⋆⋆ Barabási, A. L., Albert, R., Jeong, H., and Bianconi, G. Power-law distribution of the World Wide Web,
Science,
287, 2115b (2000). ⋆⋆ Faloutsos, M., Faloutsos, P., and Faloutsos, C. On power-law relationships of the Internet topology.
Computer Communication Review,
29, 251-262 (1999). ⋆⋆ Liljeros, F., Edling, C. R., Amaral, L. A. N., Stanley, H. E., and Aberg, Y. The web of human sexual contacts.
Nature,
411, 907-908 (2001). • Rapoport, A. Mathematical models of social interaction. In Luce, R. D., Bush, R. R., and Galanter, E. (eds.),
Handbook of Mathematical
Vol. 2 (Wiley, New York, 1963), pp. 493-579. ⋆⋆ Redner, S. How popular is your paper? An empirical study of the citation distribution.
Europhysics Journal B,
4, 131-134 (1998). (4) إعادة تقديم بنية المجموعات
The paper Harrison presented that triggered our work on affiliation networks is: ⋆ White, H. C. What is the center of the small world? (paper presented at American Association for the Advancement of Science annual symposium, Washington, D.C., February 17-22, 2000).
And two classic references dealing with the importance of groups to the structure of social networks are: ⋆⋆ Nadel, F. S.
Theory of Social Structure (Free Press, Glencoe, IL, 1957). ⋆⋆ Breiger, R. L. The duality of persons and groups.
Social Forces,
53, 181-190 (1974). (5) شبكات الارتباط
A good basic reference for affiliation networks is: ⋆⋆ Wasserman, S., and Faust, K.
Social Network Analysis: Methods and Applications (Cambridge University Press, Cambridge, 1994). (6) المديرون والعلماء
Jerry Davis’s work on interlocking boards of corporate directors is presented in: ⋆ Davis, G. F. The significance of board interlocks for corporate governance.
Corporate Governance,
4(3), 154-159 (1996). ⋆ Davis, G. F., and Greve, H. R. Corporate elite networks and governance changes in the 1980s.
American Journal of Sociology,
103(1), 1-37 (1997).
And Mark Newman’s data on collaboration networks of scientists is: ⋆⋆ Newman, M. E. J. The structure of scientific collaboration networks.
98, 404-409 (2001).
Or in (slightly exhausting) detail: ⋆⋆ Newman, M. E. J. Scientific collaboration networks: I. Network construction and fundamental results.
016131 (2001). ⋆⋆ Newman, M. E. J. Scientific collaboration networks: II. Shortest paths, weighted networks, and centrality.
64,
016132 (2001). (7) تعقيدات
The mathematical machinery used to analyze the affiliation networks is described in: •• Newman, M. E. J., Strogatz, S. H., and Watts, D. J. Random graphs with arbitrary degree distributions and their applications.
E,
64, 026118 (2001).
And a slightly more readable version is: • Newman, M. E. J., Watts, D. J., and Strogatz, S. H. Random graph models of social networks.
99, 2566-2572 (2002).
الفصل الخامس: البحث في الشبكات
A compendium of Milgram’s research over his entire, fascinating career is: ⋆ Milgram, S.
The Individual in a Social World: Essays and Experiments,
2d ed. (McGraw-Hill, New York, 1992).
A detailed description of his obedience experiments is in: ⋆ Milgram, S.
Obedience to Authority: An Experimental View (Harper & Row, New York, 1974). (1) ما الذي أوضحه ميلجرام حقا؟
Judith Kleinfeld’s paper that exams the history and empirical validity of the small-world problem is: ⋆ Kleinfeld, J. S. The small world problem.
Society,
39(2), 61-66 (2002).
The most significant follow-up study to the original experiment is one that Milgram conducted with another student, Charles Korte, in which they attempted to connect a white population of senders in Los Angeles with white and African-American targets in New York: ⋆ Korte, C., and Milgram, S. Acquaintance networks between racial groups-application of the small world method.
Journal of Personality and Social
15(2), 101 (1970). (2) هل الرقم ستة كبير أم صغير؟
The problem of Erdős numbers has been studied extensively by the mathematician Jerry Grossman, who maintains a Web page on the subject at
http://www.oakland.edu/~grossman/erdoshp.html . An early summary of his work is: ⋆⋆ Grossman, J. W., and Ion, P. D. F. On a portion of the well-known collaboration graph.
Congressus Numerantium,
108, 129-131 (1995).
Some more recent work on Erdős numbers is by: ⋆⋆ Batagelj, V., and Mrvar, A. Some analyses of Erdős collaboration graph.
Social Networks,
22(2), 173-186 (2000).
Other evidence that small-world networks can make problem-solving harder, rather than easier, is presented in: • Walsh, T. Search in a small world. In
Conference on Artificial Intelligence (Morgan Kaufmann, San Francisco 1999), pp. 1172-1177. (3) مشكلة البحث في مسألة العالم الصغير
Jon Kleinberg’s groundbreaking paper, which pointed out and then solved the small-world search problem, is available in two versions, long and short, respectively: • Kleinberg, J. The small-world phenomenon: An algorithmic perspective. In
the 32nd Annual ACM Symposium on Theory of Computing (Association of Computing Machinery, New York, 2000), pp. 163-170. ⋆⋆ Kleinberg, J. Navigation in a small world.
Nature,
406, 845 (2000).
Kleinberg later used a similar approach to study the spread of information in networks via what computer scientists call a
gossip protocol: • Kleinberg, J. Small-world phenomena and the dynamics of information. In Dietterich, T. G., Becker, S., and Ghahramani, Z. (eds.),
Advances in Neural Information Processing Systems (NIPS), 14 (MIT Press, Cambridge, MA, 2002). (4) رد علم الاجتماع
The paper that resulted from my collaboration with Mark Newman and Peter Dodds, incorporating notions of social identity and social distance into the small-world search problem, is: ⋆⋆ Watts, D. J., Dodds, P. S., and Newman, M. E. J. Identity and search in social networks.
Science,
296, 1302-1305 (2002).
The findings of the so-called reverse small-world experiment that corroborated some of our theoretical predictions were published in: ⋆⋆ Killworth, P. D., and Bernard, H. R. The reverse small world experiment.
Social Networks,
1, 159-192 (1978). ⋆ Bernard, H. R., Killworth, P. D., Evans, M. J., McCarty, C., and Shelly, G. A. Studying relations cross-culturally.
Ethnology,
27(2), 155-179 (1988). (5) البحث في شبكات الند للند
A discussion of the problems facing peer-to-peer networks like Gnutella is: ⋆⋆ Ritter, J. P. Why Gnutella can’t scale. No really (working paper, available on-line at
http://www.darkridge.com/~jpr5/doc/gnutella.html , 2000).
Two search algorithms that take advantage of Gnutella’s apparent scale-free character are presented in: • Adamic, L. A., Lukose, R. M., Puniyani, A. R., and Huberman, B. A. Search in power-law networks.
64, 046135 (2001). • Kim, B. J., Yoon, C. N., Han, S. K., and Jeong, H. Path finding strategies in scale-free networks.
65, 027103 (2002).
And a discussion of the problems associated with creating easily searchable distributed databases in the context of a multinational consulting firm is: ⋆ Mannville, B. Complex adaptive knowledge management: A case study from McKinsey and Company. In Clippinger, J. H. (ed.),
The Biology of Business: Decoding the Natural Laws of the Enterprise (Jossey-Bass, San Francisco, 1999), chapter 5.
Some other approaches that have been proposed specifically for the purpose of finding information on the World Wide Web are dealt with in the following: ⋆⋆ Brin, S., and Page, L. The anatomy of a large-scale hypertextual web search engine.
Computer Networks,
30, 107-117 (1998). • Gibson, D., Kleinberg, J., and Raghavan, P. Inferring Web communities from link topology. In
and Hypermedia (Association for Computing Machinery, Networks 1998), pp. 225-234. • Kleinberg, J. Authoritative sources in a hyperlinked environment.
Journal of the ACM,
46, 604-632 (1999). ⋆⋆ Lawrence, S., and Giles, C. L. Accessibility of information on the web.
Nature,
400, 107-109 (1999).
الفصل السادس: الأوبئة والأعطال (1) المنطقة الحارة
Richard Preston’s gripping account of the Ebola outbreak in Reston, Virginia, along with a brief history of Ebola, can be found in his book: ⋆ Preston, R.
The Hot Zone (Random House, New York, 1994).
Additional Ebola facts were derived from: ⋆ Harden, B. Dr. Matthew’s passion.
New York Times Magazine,
February 18, 2001, pp. 24-62. (2) فيروسات الإنترنت
The account of the e-mail sent by Claire Swire was taken from a
New York Times
article: ⋆ Lyall, S. Return to sender, please.
New York Times,
December 24, 2000,
Week in Review,
p. 2.
A chronology of the Melissa virus can be found at
http://www.cert.org/ advisories/CA-1999-04.html .
Records of all registered computer viruses and their histories, including time of first detection, known number of computers infected, and first release of antiviral software, can be found at the Virus Bulletin: http://www.virusbtn.com/. Virus alerts, along with other Internet-related security information, are published and maintained by CERT, based in the Software Engineering Institute at Carnegie Mellon University in
http://www.cert.org/ .
A discussion of the relationship between epidemiology and computer viruses in the age of the Internet is contained in the following: • Kephart, J. O., White, S. R., and Chess, D. M. Computer viruses and epidemiology.
IEEE Spectrum,
30(5), 20-26 (1993). ⋆⋆ Kephart, J. O., Sorkin, G. B., Chess, D. M., and White, S. R. Fighting computer viruses.
Scientific American,
277(5), 56-61 (1997). (3) رياضيات الأوبئة
The classic papers of Kermack and McKendrick, on which most of modern mathematical epidemiology is based, are: •• Kermack, W. O., and McKendrick, A. G. A contribution to the mathematical theory of epidemics.
A,
115, 700-721 (1927). •• Kermack, W. O., and McKendrick, A. G. Contributions to the mathematical theory of epidemics. II. The problem of endemicity.
Royal Society of London, Series A,
138, 55-83 (1932). •• Kermack, W. O., and McKendrick, A. G. Contributions to the mathematical theory of epidemics. III. Further studies of the problem of endemicity.
A,
141, 94-122 (1933).
The standard text of mathematical epidemiology, and one that treats the SIR model in considerable detail, is: • Bailey, N. T. J.
The Mathematical Theory of Infectious Diseases and Its Applications (Hafner Press, New York, 1975).
Other good references are: • Bartholomew, D. J.
Stochastic Models for Social Processes (Wiley, New York, 1967). • Anderson, R. M., and May, R. M.
Infectious Diseases of Humans (Oxford University Press, Oxford, 1991). • Murray, J. D.
Mathematical Biology,
2d ed. (Springer, Heidelberg, 1993).
A small but excellent collection of papers dealing with the spread of infectious diseases on networks is: •• Ball, F., Mollison, D., and Scalia-Tomba, G. Epidemics with two levels of mixing.
Annals of Applied Probability,
7(1), 46-89 (1997). ⋆⋆ Hess, G. Disease in metapopulation models: Implications for conservation.
Ecology,
77, 1617-1632 (1996). ⋆⋆ Kareiva, P. Population dynamics in spatially complex environments: Theory and data.
London, Series B,
330, 175-190 (1988). • Kretschmar, M., and Morris, M. Measures of concurrency in networks and the spread of infectious disease.
Mathematical Biosciences,
133, 165-195 (1996). ⋆⋆ Longini, I. M., Jr. A mathematical model for predicting the geographic spread of new infectious agents.
Mathematical Biosciences,
90, 367-383 (1988). • Sattenspiel, L., and Simon, C. P. The spread and persistence of infectious diseases in structured populations.
Mathematical Biosciences,
90, 341-366 (1988). (4) الأوبئة في عالم صغير
The most complete account of the early work on disease spreading on small-world networks is chapter 6 of: ⋆⋆ Watts, D. J.
Small Worlds: The Dynamics of Networks between Order and Randomness (Princeton University Press, Princeton, NJ, 1999).
A number of subsequent results about epidemics on networks have been published in the following papers: • Boots, M., and A. Sasaki. “Small worlds” and the evolution of virulence: Infection occurs locally and at a distance.
London, Series B,
266, 1933-1938 (1999). • Keeling, M. J. The effects of local spatial structure on epidemiological invasions.
B,
266, 859-867 (1999). • Kuperman, M., and Abramson, G. Small world effect in an epidemiological model.
Review Letters,
86, 2909-2912 (2001).
Some excellent works on the foot-and-mouth epidemic, and a fine example of mathematical modeling contributing to policy decisions, are: ⋆⋆ Ferguson, N. M., Donnelly, C. A., and Anderson, R. M. The foot-and-mouth epidemic in Great Britain:
Science,
292, 1155-1160 (2001). ⋆⋆ Ferguson, N. M., Donnelly, C. A., and Anderson, R. M. Transmission intensity and impact of control policies on the foot and mouth epidemic in Great Britain.
Nature,
413, 542-548 (2001). ⋆⋆ Keeling, M. J., Woolhouse, M. E. J., Shaw, D. J., Matthews, L., Chase-Topping, M., Haydon, D. T., Cornell, S. J., Kappey, J., Wilesmith, J., and Grenfell, B. T. Dynamics of the 2001 UK foot and mouth epidemic: Stochastic dispersal in a heterogeneous landscape.
Science,
294, 813-817 (2001).
The discovery that diseases spreading in scale-free networks don’t exhibit an epidemic threshold is reported in: • Pastor-Satorras, R., and Vespignani, A. Epidemic spreading in scale-free networks.
Review Letters,
86, 3200-3203 (2001).
disease spreading in scale-free networks. Their findings are summarized in: • Pastor-Satorras, R., and Vespignani, A. Epidemics and immunization in scale-free networks. In Bornholdt, S., and Schuster, H. G. (eds.),
Handbook of Graphs and Networks: From the Genome to the Internet (Wiley-VCH, Berlin, 2002).
Some empirical support for their assumption of a scale-free e-mail network is reported in: • Ebel, H., Mielsch, L. I., and Bornholdt, S. Scale-free topology of e-mail networks.
66, 035103 (2002).
The public health impact of needle exchange programs is analyzed in a report for the
Journal of the American Medical Association
by the Center for AIDS Prevention Studies, University of California, San Francisco, found at
http://www.ama-assn.org/special/hiv/preventn/prevent3.htm .
An earlier report prepared for the Centers for Disease Control and Prevention can be found at
http://www.caps.ucsf.edu/capsweb/publications/ needlereport.html . (5) نماذج التخلل للأمراض
The best introduction to the subject of percolation is the following (which even manages to be funny in places): • Stauffer, D., and Aharony, A.
Introduction to Percolation Theory (Taylor and Francis, London, 1992).
The details of my work with Mark Newman on a site percolation approach to disease spreading on small-world network are given in: • Newman, M. E. J., and Watts, D. J. Scaling and percolation in the small-world network model.
60, 7332-7342 (1999). (6) الشبكات والفيروسات ومايكروسوفت
Mark Newman and Cris Moore’s work on site and bond percolation is described in the following: • Moore, C., and Newman, M. E. J. Epidemics and percolation in small-world networks.
61, 5678-5682 (2000). •• Moore, C., and Newman, M. E. J. Exact solution of site and bond percolation on small-world networks.
62, 7059-7064 (2000). (7) الأعطال والقوة
The original paper using percolation ideas to quantify network robustness is: ⋆⋆ Albert, R., Jeong, H., and Barabási, A. L. Attack and error tolerance of complex networks.
Nature,
406, 378-382 (2000).
Soon after, a series of papers examined the topic in greater detail. They are: • Callaway, D. S., Newman, M. E. J., Strogatz, S. H., and Watts, D. J. Network robustness and fragility: Percolation on random graphs.
Letters,
85, 5468-5471 (2000). • Cohen, R., Erez, K., ben-Avraham, D., and Havlin, S. Resilience of the Internet to random breakdowns.
85, 4626-4628 (2000). • Cohen, R., Erez, K., ben-Avraham, D., and Havlin, S. Breakdown of the Internet under intentional attack.
86, 3682-3685 (2001).
الفصل السابع: القرارات والأوهام وجنون الجماهير (1) اقتصاديات التيوليب
Charles Mackay’s classic account of mania, financial and otherwise, has been reprinted many times. A relatively recent version is: ⋆ Mackay, C.
Extraordinary
(Harmony Books, New York, 1980).
Some other recent treatises on the same subject are: ⋆ Kindleberger, C. P.
Manias, Panics, and Crashes: A History of Financial Crises,
4th ed. (Wiley, New York, 2000). ⋆ Shiller, R. J. Irrational Exuberance (Princeton University Press, Princeton, NJ, 2000). (2) الخوف والطمع والعقلانية
Adam Smith’s discussion of rationally optimizing agents, including his reference to the invisible hand, is in: ⋆ Smith, A.
The Wealth of Nations,
Vol. 1, Book 4 (University of Chicago Press, Chicago, 1976), chapter 2, p. 477.
The paradox of the efficient market hypothesis is described in: ⋆ Chancellor, E.
Devil Take the Hindmost: A History of Financial Speculation (Farrar, Straus and Giroux, New York, 1999).
And some recent work on constructing a more realistic vision of both investor and financial-market behavior, in which dynamics is a crucial ingredient, is: • Farmer, J. D. Market force, ecology, and evolution.
Industrial and Corporate Change,
forthcoming (2002). • Farmer, J. D., and Joshi, S. The price dynamics of common trading strategies.
Journal of Economic Behavior and Organization,
49(2), 149-171 (2002). ⋆⋆ Farmer, J. D., and Lo, A. Frontiers of finance: Evolution and efficient markets.
96, 9991-9992 (1999). (3) القرارات الجمعية
The technical paper by Natalie Glance and Bernardo Huberman, describing the diner’s dilemma and the conditions under which it can be resolved, is: • Glance, N. S., and Huberman, B. A. The outbreak of cooperation.
Journal of Mathematical Sociology,
17(4), 281-302 (1993).
A more accessible description of the same results is: ⋆ Glance, N. S., and Huberman, B. A. The dynamics of social dilemmas.
Scientific American,
270(3), 76-81 (1994).
The literature on the evolution of cooperation is gigantic and spans several disciplines-evolutionary biology, economics, political science, and sociology in particular. It is impossible even to provide a representative list of publications, but some important contributions are: ⋆⋆ Axelrod, R.
The Evolution of Cooperation (Basic Books, New York, 1984). ⋆⋆ Axelrod, R., and Dion, D. The further evolution of cooperation.
Science,
242, 1385-1390 (1988). • Boorman, S. A., and Levitt, P. R.
The Genetics of Altruism (Academic Press, New York, 1980). ⋆⋆ Boyd, R. S., and Richerson, P. J. The evolution of reciprocity in sizable groups.
Journal of Theoretical Biology,
132, 337-356 (1988). ⋆⋆ Hardin, G. The tragedy of the commons.
Science,
162, 1243-1248 (1968). ⋆⋆ Huberman, B. A., and Lukose, R. M. Social dilemmas and Internet congestion.
Science,
277, 535-537 (1997). ⋆⋆ Nowak, M. A., and May, R. M. Evolutionary games and spatial chaos.
Nature,
359, 826-829 (1992). ⋆⋆ Olson, M.
The Logic of Collective Action: Public Goods and the Theory of Groups (Harvard University Press, Cambridge, MA, 1965). ⋆ Ostrom, E., Burger, J., Field, C. B., Norgaard, R. B., and Policansky, D. Revisiting the commons: Local lessons, global challenges.
Science,
284, 278-282 (1999). (4) سلاسل المعلومات
The literature on information cascades is, again, multidisciplinary and eclectic. Some examples are: ⋆⋆ Aguirre, B. E., Quarantelli, E. L., and Mendoza, J. L. The collective behavior of fads: The characteristics, effects, and career of streaking.
American Sociological Review,
53, 569-584 (1988). • Banerjee, A. V. A simple model of herd behavior.
Quarterly Journal of Economics,
107, 797-817 (1992). • Bikhchandani, S., Hirshleifer, D., and Welch, I. A theory of fads, fashion, custom and cultural change as informational cascades.
Journal of Political Economy,
100(5), 992-1026 (1992). ⋆⋆ Lohmann, S. The dynamics of informational cascades: The Monday demonstrations in Leipzig, East Germany, 1989-91.
World Politics,
47, 42-101 (1994). (5) مؤثرات المعلومات الخارجية
A description of Asch’s original experiment is given in: ⋆ Asch, S. E. Effects of group pressure upon the modification and distortion of judgments. In Cartwright, D., and Zander, A. (eds.),
Group Dynamics: Research and Theory (Row, Peterson, Evanston, IL, 1953), pp. 151-162.
Herbert Simon’s theory of bounded rationality is espoused in: ⋆⋆ Simon, H. A., Egidi, M., and Marris, R. L.
Economics, Bounded Rationality and the Cognitive Revolution (Edward Elgar, Brookfield, VT, 1992). (6) المؤثرات الخارجية القسرية
The spread of crime via a network of peer pressure relationships is considered (in a theoretical manner) in: ⋆⋆ Glaeser, E. L., Sacerdote, B., and Schheinkman, J. A. Crime and social interactions.
Quarterly Journal of Economics,
111, 507-548 (1996).
The paper introducing the concept of a spiral of silence in voting behavior is: ⋆ Noelle-Neumann, E. Turbulences in the climate of opinion: Methodological applications of the spiral of silence theory.
41(2), 143-158 (1977). (7) مؤثرات السوق الخارجية
The principal exponent of what is now called lock-in via increasing returns is the economist Brian Arthur. His groundbreaking paper (which took him many years to find a journal that would publish it) is: • Arthur, W. B. Competing technologies, increasing returns, and lock-in by historical events.
Economic Journal,
99(394), 116-131 (1989).
Another, slightly different, approach to the topic of increasing returns is espoused in: • Romer, P. Increasing returns and long-run growth.
Journal of Political Economy,
94(5), 1002-1034 (1986).
Although the authors do not link it to the subject of network externalities, the importance of complementarities is emphasized in: • Milgrom, P., and Roberts, J. The economics of modern manufacturing: Technology, strategy, and organization.
American Economic Review,
80(3), 511-528 (1990).
Meanwhile, the prevailing economics approach to so-called network externalities is described in: ⋆⋆ Economides, N. The economics of networks.
International Journal of Industrial Organization,
16(4), 673-699 (1996). (8) مؤثرات التنسيق الخارجية
Although neither of these papers uses the term, the relevance of externalities to decisions about cooperation is evident in: • Glance, N. S., and Huberman, B. A. The outbreak of cooperation.
Journal of Mathematical Sociology,
17(4), 281-302 (1993). ⋆⋆ Kim, H., and Bearman, P. The structure and dynamics of movement participation.
American Sociological Review,
62(1), 70-94 (1997). (9) صناعة القرار اجتماعيا
The report on body piercing is: ⋆ Harden, B. Coming to grips with the enduring appeal of body piercing.
New York Times,
February 12, 2002, p. A16.
الفصل الثامن: الحدود والسلاسل وقابلية التنبؤ (1) نماذج حدود القرارات
The earliest use of threshold models as a way of understanding collective decision making is probably: ⋆⋆ Schelling, T. C. A study of binary choices with externalities.
Journal of Conflict Resolution,
17(3), 381-428 (1973).
Another early classic is: ⋆⋆ Granovetter, M. Threshold models of collective behavior.
American Journal of Sociology,
83(6), 1420-1443 (1978).
The actual derivation of a threshold model depends on what kind of decision an individual is making, and what sort of decision externalities pertain. Some examples of quite different derivations, all of which effectively generate threshold rules are: • Arthur, W. B., and Lane, D. A. Information contagion.
Structural Change and Economic Dynamics,
4(1), 81-103 (1993). • Boorman, S. A., and Levitt, P. R.
The Genetics of Altruism (Academic
• Durlauf, S. N. A framework for the study of individual behavior and social interactions.
Sociological Methodology,
31, 47-87 (2001). • Glance, N. S., and Huberman, B. A. The outbreak of cooperation.
Journal of Mathematical Sociology,
17(4), 281-302 (1993). • Morris, S. N. Contagion.
Review of Economic Studies,
67, 57-78 (2000). (3) السلاسل في الشبكات الاجتماعية
Some information about
Ithaca hours
can be found in: ⋆ Glover, P. Grassroots economics.
In Context,
41, 30 (1995). ⋆ Morse, M. Dollars or sense.
Utne Reader,
99 (September-October 1999).
Everett Rogers’ classic reference on the diffusion of innovations, in which much of the still-current terminology was introduced, was first published in 1962. It is now in its fourth edition: ⋆ Rogers, E.
The Diffusion of Innovations,
4th ed. (Free Press, New York, 1995).
A valiant attempt to combine Rogers’ ideas with concepts from social network analysis is by one of Rogers’ students, Thomas Valente: ⋆⋆ Valente, T. W.
Network Models of the Diffusion of Innovations (Hampton Press, Cresskill, NJ, 1995). ⋆ Coleman, J. S., Katz, E., and Menzel, H. The diffusion of an innovation among physicians.
Sociometry,
20(4), 253-270 (1957). (4) السلاسل والتخلل
The paper summarizing the threshold model approach to information cascades on networks is: • Watts, D. J. A simple model of global cascades on random networks.
National Academy of Sciences,
99, 5766-5771 (2002). (5) التحولات الطورية والسلاسل
Malcolm Gladwell’s engaging discussion of social contagion is: ⋆ Gladwell, M.
The Tipping
(Little, Brown, New York, 2000). (6) تجاوز الصدع
Geoffrey Moore’s descriptive account of the “chasm” between early adopters and the early to late majority is given in: ⋆ Moore, G. A.
Crossing the Chasm: Marketing and Selling High-Tech Products to Mainstream Customers (Harper Business, New York, 1999). (7) وجهة نظر غير خطية للتاريخ
The distinction between quality and success is made apparent in Art De Vany’s study of the movie industry: ⋆⋆ De Vany, A., and Lee, C. Quality signals in information cascades and the dynamics of motion picture box office revenues: A computational model.
Journal of Economic Dynamics and Control,
25, 593-614 (2001). • De Vany, A. S., and Walls, W. D. Bose-Einstein dynamics and adaptive contracting in the motion picture industry.
Economic Journal,
106, 1493-1514 (1996). (9) عودة إلى القوة
The related notions of normal accidents and robust-yet-fragile systems are presented in two very different works: ⋆ Perrow, C.
Normal Accidents: Living with High-Risk Technologies (Basic Books, New York, 1984). • Carlson, J. M., and Doyle, J. Highly optimized tolerance: A mechanism for power laws in designed systems.
60(2), 1412-1427 (1999).
الفصل التاسع: الابتكار والتكيف والتعافي (1) أزمة تويوتا-آيسين
The account of the Toyota-Aisin crisis on which my description is based is: ⋆ Nishiguchi, T., and Beaudet, A. Fractal design: Self-organizing links in supply chain management. In Von Krogh, G., Nonaka, I., and Nishiguchi, T. (eds.),
Knowledge Creation: A Source of Value (Macmillan, London, 2000).
Another paper about the remarkable Toyota group that guided our thinking on innovation is: ⋆ Ward, A., Liker, J. K., Cristiano, J. J., and Sobek, D. K. The second Toyota paradox: How delaying decisions can make better cars faster.
Sloan Management Review,
36(3), 43-51 (1995). (2) الأسواق والهياكل الهرمية
The original text-and still one of the greatest-on industrial organization is: ⋆ Smith, A.
The Wealth of Nations (University of Chicago Press, Chicago, 1976).
A precursor to Coase’s theory of transaction costs was Frank Knight’s claim that firms exist to reduce uncertainty: ⋆⋆ Knight, F. H.
Risk, Uncertainty, and Profit (London School of Economics and Political Science, London, 1933).
And Ronald Coase’s original argument of transaction costs as the basis for the firm is explicated in: ⋆ Coase, R. The nature of the firm.
Economica,
n.s., 4 (November 1937).
Several decades later, Coase is still trying to get his ideas accepted by mainstream economics. His latest attempt is: ⋆ Coase, R.
The Nature of the Firm (Oxford University Press, Oxford, 1991).
The chief proponent of the hierarchical structure of firms is Oliver Williamson, whose views are expressed comprehensively in: ⋆⋆ Williamson, O.
E. Markets and Hierarchies (Free Press, New York, 1975).
A shorter version is: ⋆⋆ Williamson, O. E. Transaction cost economics and organization theory. In Smelser, N. J., and Swedberg, R. (eds.),
The Handbook of Economic Sociology (Princeton University Press, Princeton, NJ, 1994), pp. 77-107.
The superiority of the hierarchy has been extensively formalized and developed in recent years by a small group of economists, led by Roy Radner. Some of the principal works of this literature are: • Bolton, P., and Dewatripont, M. The firm as a communication network.
Quarterly Journal of Economics,
109(4), 809-839 (1994). • Radner, R. The organization of decentralized information processing.
Econometrica,
61(5), 1109-1146 (1993). • Radner, R. Bounded rationality, indeterminacy, and the theory of the firm.
Economic Journal,
106, 1360-1373 (1996). • Van Zandt, T. Decentralized information processing in the theory of organizations. In Sertel, M. (ed.),
Contemporary Economic Issues,
vol. 4:
Economic Design and Behavior
p. 125-160 (Macmillan, London, 1999), chapter 7. (3) التقسيمات الصناعية
Michael Piore and Chuck Sabel’s groundbreaking book on the changing nature of the global economy is: ⋆ Piore, M. J., and Sabel, C. F.
The Second Industrial Divide: Possibilities for
(Basic Books, New York, 1984). (4) الغموض
The paper describing Honda’s system for identifying problems in their manufacturing plants is: ⋆ MacDuffie, J. P. The road to “root cause”: Shop-floor problemsolving at three auto assembly plants.
Management Science,
43, 4 (1997).
A variety of approaches to the theory of the internal architecture of the firm have been taken within the economics, sociology, and business communities. It is a vast literature. An eclectic collection of readings, with no claim to being exhaustive or even representative, is as follows: ⋆ Chandler, A. D.
The Visible Hand: The Managerial Revolution in American Business (Belknap Press of Harvard University Press, Cambridge, MA, 1977). ⋆ Clippinger, J. (ed.).
The Biology of Business: Decoding the Natural Laws of the Enterprise (Jossey-Bass, San Francisco, 1999). • Fama, E. F. Agency problems and the theory of the firm.
Journal of Political Economy,
88, 288-307 (1980). ⋆⋆ Hart, O.
Firms, Contracts and Financial Structure (Oxford University
⋆⋆ March, J. G., and Simon, H. A.
Organizations (Blackwell, Oxford, 1993). ⋆⋆ Nelson, R. R., and Winter, S. G.
An Evolutionary Theory of Economic Change (Belknap Press of Harvard University Press, Cambridge, MA, 1982). ⋆⋆ Powell, W., and DiMaggio, P. (eds.).
The New Institutionalism in Organizational Analysis (Chicago, University of Chicago Press, 1991). • Sah, R. K., and Stiglitz, J. E. The architecture of economic systems: Hierarchies and polyarchies.
American Economic Review,
76(4), 716-727 (1986). (5) الطريقة الثالثة
An indication of Chuck’s understanding of the problem at the time we started working together is given in the following: ⋆ Helper, S., MacDuffie, J. P., and Sabel, C. F.
opportunism.
Industrial and Corporate Change,
9(3), 443-488 (2000). ⋆ Sabel, C. F. Diversity, not specialization: The ties that bind the (new) industrial district. In Quadrio Curzio, A., and Fortis, M. (eds.),
Complexity and Industrial Clusters: Dynamics and Models in Theory and Practice (Physica-Verlag, Heidelberg, 2002). (6) التكيف مع الغموض
firms in ambiguous environments, and their need to be both adapted and adaptable, is that by David Stark in his work on
heterarchies : ⋆ Stark, D. C. Recombinant property in East European capitalism.
American Journal of Sociology,
101(4), 993-1027 (1996). ⋆ Stark, D. C. Heterarchy: Distributing authority and organizing diversity. In Clippinger, J. H. (ed.),
The Biology of Business: Decoding the Natural Laws of the Enterprise (Jossey-Bass, San Francisco, 1999), chapter 7. ⋆ Stark, D. C., and Bruszt, L.
(Cambridge University
(7) الشبكات متعددة المستويات
The properties of team-based, multiscale, and core-periphery networks are outlined in: • Dodds, P. S., Watts, D. J., and Sabel, C. F. The structure of optimal redistribution networks. Institute for Social and Economic Research and Policy Working Paper, Columbia University (2002).
الفصل العاشر: نهاية البداية
The use of New York City (or more precisely, the borough of Manhattan) as an example of a complex system was inspired by John Holland’s opening chapter in: ⋆ Holland, J. H.
Hidden Order: How Adaptation Builds Complexity (Perseus, Cambridge, MA, 1996). (1) الحادي عشر من سبتمبر
An excellent and detailed account of the September 11 attacks on the World Trade Center, and the monumental recovery effort that followed its collapse, is given in: ⋆ Langewiesche, W.
American Ground: Unbuilding the World Trade Center (North Point Press, New York, 2002).
The information about the police department’s communications predicament was derived from: ⋆ Rashbaum, W. K. Police officers swiftly show inventiveness during crisis.
New York Times,
September 17, 2001, p. A7.
The story about Cantor Fitzgerald was related by one of the survivors-the director of marketing and communications-who spoke at a roundtable discussion of business leaders at Columbia University on December 5, 2001. The roundtable was organized by David Stark and John Kelly, directors of Columbia’s Center for Organizational Innovation and Interactive Design Lab, respectively, and sponsored by Dr. Susan Gitelson.
The article by Paul Krugman considering the economic consequences of the September 11 attacks in the context of an already faltering economy is: ⋆ Krugman, P. Fear itself.
New York Times Magazine,
September 30, 2001, p. 36. (2) دروس لعصر متشابك
An engaging and insightful account of the 1997 Asian crisis is contained in: ⋆ Friedman, T. L.
The Lexus and the Olive Tree: Understanding Globalization (Farrar, Straus and Giroux, New York, 1999).
Quite a lot of Harry Potter-related information can be found at
http://www.insideharrypotter.com .
And finally, a brief but illuminating account of the problems that beset Long Term Capital Management in the fall of 1998, is: ⋆ MacKenzie, D. Fear in the markets.
London Review of Books,
22(8), 31-32 (2000).
الفصل الحادي عشر: العالم يتضاءل: عام آخر في العصر المتشابك ⋆⋆ Dodds, P. S., Muhamad, R., and Watts, D. J. An experimental study of search in global social networks.
Science,
301, 827-829 (2003). • Dodds, P. S., Watts, D. J., and Sabel, C. F. Information exchange and the robustness of organizational networks.
Sciences,
100, 12516-12521 (2003). •• Kempe, D., Kleinberg, J., and Tardos, E. Maximizing the spread of influence through a social network.
Conference on Knowledge Discovery and Data Mining (2003). •• Newman, M. E. J. The structure and function of complex networks.
SIAM Review,
45, 167-256 (2003).
المراجع
Adamic L. A. The small world web. In
Lecture Notes in Computer Science,
1696,
Libraries (ECDL) ’99 Conference (Springer, Berlin, 1999), pp. 443-454.
Adamic, L. A., and Huberman, B. A. Power-law distribution of the World Wide Web.
Science,
287, 2115a (2000).
Adamic, L. A., Lukose, R. M., Puniyani, A. R., and Huberman, B. A. Search in power-law networks.
E,
64, 046135 (2001).
Aguirre, B. E., Quarantelli, E. L., and Mendoza, J. L. The collective behavior of fads: The characteristics, effects, and career of streaking.
American Sociological Review,
53, 569-584 (1988).
Aho, A. V., Hopcroft, J. E., and Ullman, J. D.
Data Structures and Algorithms (Addison Wesley, Reading, MA, 1983).
Ahuja, R. K., Magnanti, T. L., and Orlin, J. B.
Network Flows: Theory, Algorithms, and Applications (Prentice Hall, Englewood Cliffs, NJ, 1993).
Aiello, W., Chung, F., and Lu, L. A random graph model for massive graphs. In
ACM Symposium on the Theory of Computing (Association for Computing Machinery, New York, 2000), pp. 171-180.
Albert, R., and Barabási, A. L. Statistical mechanics of complex networks.
Review of Modern Physics,
74, 47-97 (2002).
Albert, R., Jeong, H., and Barabási, A. L. Attack and error tolerance of complex networks.
Nature,
406, 378-382 (2000).
Alon, N., and Spencer, J. H.
The
(Wiley-Interscience, New York, 1992).
Amaral, L. A. N., Scala, A., Barthelemy, M., and Stanley, H. E. Classes of behavior of small-world networks.
97, 11149-11152 (2000).
Anderson, P. W. More is different.
Science,
177, 393-396 (1972).
Anderson, R. M., and May, R. M.
Infectious Diseases of Humans (Oxford University Press, Oxford, 1991).
Arthur, W. B. Competing technologies, increasing returns, and lock-in by historical events.
Economic Journal,
99(394), 116-131 (1989).
Arthur, W. B., and Lane, D. A. Information contagion.
Structural Change and Economic Dynamics,
4(1), 81-103 (1993).
Asavathiratham, C.
The Influence Model: A Tractable Representation for the Dynamics of Networked Markov Chains.
Engineering and Computer Science, MIT (MIT, Cambridge, MA, 2000).
Asch, S. E. Effects of group pressure upon the modification and distortion of judgments. In Cartwright, D., and Zander, A. (eds.),
Group Dynamics: Research and Theory (Row,
Asimov, I.
The Caves of Steel (Doubleday, Garden City, NY, 1954). ---.
The Naked Sun (Doubleday, Garden City, NY, 1957). Axelrod, R.
The Evolution of Cooperation (Basic Books, New York, 1984).
Axelrod, R., and Dion, D. The further evolution of cooperation.
Science,
242, 1385-1390 (1988).
Bailey, N. T. J.
The Mathematical Theory of Infectious Diseases and Its Applications (Hafner Press, New York, 1975).
Ball, F., Mollison, D., and Scalia-Tomba, G. Epidemics with two levels of mixing.
Annals of Applied
7(1), 46-89 (1997).
Banerjee, A. V. A simple model of herd behavior.
Quarterly Journal of Economics,
107, 797-817 (1992).
Barabási, A., and Albert, R. Emergence of scaling in random networks.
Science,
286, 509-512 (1999).
Barabási, A. L.
Linked: The New Science of Networks (Perseus Press, Cambridge, MA, 2002).
Barabási, A. L., Albert, R., Jeong, H., and Bianconi, G.
Science,
287, 2115b (2000).
Barthelemy, M., and Amaral, L. A. N. Small-world networks: Evidence for a crossover picture.
Letters,
82, 3180-3183 (1999).
Bartholomew, D. J.
Stochastic Models for Social Processes (Wiley, New York, 1967).
Batagelj, V., and Mrvar, A. Some analyses of Erdős collaboration graph.
Social Networks,
22(2), 173-186 (2000).
Bernard, H. R., Killworth, P. D., Evans, M. J., McCarty, C., and Shelly, G. A. Studying relations cross-culturally.
Ethnology,
27(2), 155-179 (1988).
Bickhchandani, S., Hirshleifer, D., and Welch, I. A theory of fads, fashion, custom and cultural change as informational cascades.
Journal of Political Economy,
100(5), 992-1026 (1992).
Bollobas, B.
Random Graphs,
2nd ed. (Academic, New York, 2001).
Bolton, P., and Dewatripont, M. The firm as a communication network.
Quarterly Journal of Economics,
109(4), 809-839 (1994).
Boorman, S. A., and Levitt, P. R.
The Genetics of Altruism (Academic Press, New York, 1980).
Boorman, S. A., and White, H. C. Social structure from multiple networks. II. Role structures.
American Journal of Sociology,
81(6), 1384-1446 (1976).
Boots, M., and A. Sasaki. “Small worlds” and the evolution of virulence: Infection occurs locally and at a distance.
B,
266, 1933-1938 (1999).
Boyd, R. S., and Richerson, P. J. The evolution of reciprocity in sizable groups.
Journal of Theoretical Biology,
132, 337-356 (1988).
Breiger, R. L. The duality of persons and groups.
Social Forces,
53, 181-190 (1974).
Brin, S., and Page, L. The anatomy of a large-scale hypertextual web search engine.
Computer Networks,
30, 107-117 (1998).
Burt, R. S.
Structural Holes: The Social Structure of Competition (Harvard University Press, Cambridge, MA, 1992).
Callaway, D. S., Newman, M. E. J., Strogatz, S. H., and Watts, D. J. Network robustness and fragility: Percolation on random graphs.
85, 5468-5471 (2000).
Carlson, J. M., and Doyle, J. Highly optimized tolerance: A mechanism for power laws in designed systems.
60(2), 1412-1427 (1999).
Casti, J. L.
Reality Rules I & II:
Frontier (Wiley-Interscience, New York, 1997).
Chancellor, E.
Devil Take the Hindmost: A History of Financial Speculation (Farrar, Straus and Giroux, New York, 1999).
Chandler, A. D.
The Visible Hand: The Managerial Revolution in American Business (Belknap Press of Harvard University Press, Cambridge, MA, 1977).
Clippinger, J. (ed.)
The Biology of Business: Decoding the Natural Laws of the Enterprise (Jossey-Bass, San Francisco, 1999).
Coase, R. The nature of the firm.
Economica,
n.s., 4 (November 1937). ---.
The Nature of the Firm (Oxford University Press, Oxford 1991).
Cohen, R. Who really brought down Milosevic?
New York Times Magazine,
November 26, 2000, p. 43.
Cohen, R., Erez, K., ben-Avraham, D., and Havlin, S. Resilience of the Internet to random breakdowns.
Review Letters,
85, 4626-4628 (2000). ---. Breakdown of the Internet under intentional attack.
86, 3682-3685 (2001).
Coleman, J. S., Katz, E., and Menzel, H. The diffusion of an innovation among physicians.
Sociometry,
20, 253-270 (1957).
Davis, J. A. Structural balance, mechanical solidarity, and interpersonal relations.
American Journal of Sociology,
68(4), 444-462 (1963).
Davis, G. F. The significance of board interlocks for corporate governance.
Corporate Governance,
4(3), 154-159 (1996).
Davis, G. F., and Greve, H. R. Corporate elite networks and governance changes in the 1980s.
American Journal of Sociology,
103(1), 1-37 (1997).
Davis, G. F., Yoo, M., and Baker, W. E. The small world of corporate elite (working paper, University of Michigan Business School, 2002).
Degenne, A., and Forse, M.
Introducing Social Networks (Sage, London, 1999).
De Vany, A., and Lee, C. Quality signals in information cascades and the dynamics of motion picture box office revenues: A computational model.
Journal of Economic Dynamics and Control,
25, 593-614 (2001).
De Vany, A. S., and Walls, W. D. Bose-Einstein dynamics and adaptive contracting in the motion picture industry.
Economic Journal,
106, 1493-1514 (1996).
Dodds, P. S., Watts, D. J., and Sabel, C F. The structure of optimal redistribution networks. Institute for Social and Economic Research and Policy Working Paper, Columbia University, (2002).
Durlauf, S. N. A framework for the study of individual behavior and social interactions.
Sociological Methodology,
31, 47-87 (2001).
Ebel, H., Mielsch, L. I., and Bornholdt, S. Scale-free topology of e-mail networks.
cond-mat/0201476. (2002). Available on-line at http://xxx.lanl.gov/abs/cond-mat/0201476.
Economides, N. The economics of networks.
International Journal of Industrial Organization,
16(4), 673-699 (1996).
Emirbayer, M., and Mische, A. What is agency?
American Journal of Sociology,
103(4), 962-1023 (1998).
Erdős, P., and Rényi, A. On random graphs.
6, 290-297 (1959). ---. On the evolution of random graphs.
Sciences,
5, 17-61 (1960). ---. On the strength and connectedness of a random graph.
Acta Mathematica Scientia Hungary,
12, 261-267 (1961).
Faloutsos, M., Faloutsos, P., and Faloutsos, C. On power-law relationships of the Internet topology.
Computer Communication Review,
29, 251-262 (1999).
Fama, E. F. Agency problems and the theory of the firm.
Journal of Political Economy,
88, 288-307 (1980).
Farmer, J. D. Market force, ecology, and evolution.
Industrial and Corporate Change,
forthcoming (2002).
Farmer, J. D., and Joshi, S. The price dynamics of common trading strategies.
Journal of Economic Behavior and Organization,
49(2), 149-171 (2002).
Farmer, J. D., and Lo, A. Frontiers of finance: Evolution and efficient markets.
Academy of Sciences,
96, 9991-9992 (1999).
Ferguson, N. M., Donnelly, C. A., and Anderson, R. M. The foot-and-mouth epidemic in Great Britain: Pattern of spread and impact of interventions.
Science,
292, 1155-1160 (2001). ---.Transmission intensity and impact of control policies on the foot and mouth epidemic in Great Britain.
Nature,
413, 542-548 (2001).
Ferrer i Cancho, R., Janssen, C., and Solé, R. V. Topology of technology graphs: Small world patterns in electronic circuits.
64, 046119 (2001).
Flake, G. W.
The Computational Beauty of Nature: Computer
Explorations of Fractals,
Chaos, Complex Systems, and Adaptation (MIT Press, Cambridge, MA, 1998).
Freeman, L. C. A set of measures of centrality based on betweenness.
Sociometry,
40, 35-41 (1977).
Friedman, T. L.
The Lexus and the Olive Tree: Understanding Globalization (Farrar, Straus and Giroux, New York, 1999).
Gell-Mann, M.
The Quark and the Jaguar: Adventures in the Simple and the Complex (W. H. Freeman, New York, 1994).
Gibson, D., Kleinberg, J., and Raghavan, P. Inferring Web communities from link topology. In
the 9th ACM Conference on Hypertext and Hypermedia (Association for Computing Machinery, New York 1998), pp. 225-234.
Gladwell, M.
The Tipping Point: How Little Things Can Make a Big Difference (Little, Brown, New York, 2000).
Glaeser E. L., Sacerdote, B., and Schheinkman, J. A. Crime and social interactions.
Quarterly Journal of Economics,
111, 507-548 (1996).
Glance, N. S., and Huberman, B. A. The outbreak of cooperation.
Journal of Mathematical Sociology,
17(4), 281-302 (1993). ---. The dynamics of social dilemmas.
Scientific American,
270(3), 76-81 (1994).
Glover, P. Grassroots economics.
In Context,
41, 30 (1995).
Granovetter, M. Threshold models of collective behavior.
American Journal of Sociology,
83(6), 1420-1443 (1978).
Granovetter, M. S. The strength of weak ties.
American Journal of Sociology,
78, 1360-1380 (1973).
Grossman, J. W., and Ion, P. D. F. On a portion of the well-known collaboration graph.
Congressus Numerantium,
108, 129-131 (1995).
Guare, J.
Six Degrees of Separation: A
(Vintage Books, New York, 1990).
Harary, F. Graph theoretic measures in the management sciences.
Management Science,
387-403 (1959).
Harden, B. Dr. Matthew’s passion.
New York Times Magazine,
February 18, 2001, pp. 24-62. ---. Coming to grips with the enduring appeal of body piercing.
New York Times,
February 12, 2002, p. A16.
Hardin, G. The tragedy of the commons.
Science,
162, 1243-1248 (1968).
Hart, O.
Firms, Contracts and Financial Structure (Oxford University Press, New York, 1995).
Hauer, J. F., and Dagel, J. E.
White
Department of Energy (1999). Available on-line at
http://www.eren.doe.gov/der/transmission/pdfs/reliability/events.pdt .
Helper, S., MacDuffie, J. P., and Sabel, C. F. Pragmatic collaborations: Advancing knowledge while controlling opportunism.
Corporate Change,
9, 3 (2000).
Hess, G. Disease in metapopulation models: Implications for conservation.
Ecology,
77, 1617-1632 (1996).
Holland, J. H.
Hidden Order: How Adaptation Builds Complexity (Perseus, Cambridge, MA, 1996).
Holland, P. W., and Leinhardt, S. An exponential family of probability distributions for directed graphs.
Journal of the American Statistical Association,
76, 33-65 (1981).
Huberman, B. A., and Lukose, R. M. Social dilemmas and internet congestion.
Science,
277, 535-537 (1997).
Ijiri, Y., and Simon, H. A.
Skew Distributions and the Sizes of Business Firms (Elsevier/North-Holland, New York, 1977).
Jin, E. M., Girvan, M., and Newman, M. E. J. The structure of growing networks.
64, 046132 (2001).
Kareiva, P. Population dynamics in spatially complex environments: Theory and data.
Transactions of the Royal Society of London, Series B,
330, 175-190 (1988).
Keeling, M. J. The effects of local spatial structure on epidemiological invasions.
Society of London, Series B,
266, 859-867 (1999).
Keeling, M. J., Woolhouse, M. E. J., Shaw, D. J., Matthews, L., Chase-Topping, M., Haydon, D. T., Cornell, S. J., Kappey, J., Wilesmith, J., and Grenfell, B. T. Dynamics of the 2001 UK foot and mouth epidemic: Stochastic dispersal in a heterogeneous landscape.
Science,
294, 813-817 (2001).
Kephart, J. O., Sorkin, G. B., Chess, D. M., and White, S. R. Fighting computer viruses.
Scientific American,
277(5), 56-61 (1997).
Kephart, J. O., White, S. R., and Chess, D. M. Computer viruses and epidemiology.
IEEE Spectrum,
30(5), 20-26 (1993).
Kermack, W. O., and McKendrick, A. G. A contribution to the mathematical theory of epidemics.
Royal Society of London, Series A,
115, 700-721 (1927). ---. Contributions to the mathematical theory of epidemics. II. The problem of endemicity.
Society of London, Series A,
138, 55-83 (1932). ---. Contributions to the mathematical theory of epidemics. III. Further studies of the problem of endemicity.
141, 94-122 (1933).
Killworth, P. D., and Bernard, H. R. The reverse small world experiment.
Social Networks,
1, 159-192 (1978).
Kim, B. J., Yoon, C. N., Han, S. K., and Jeong, H. Path finding strategies in scale-free networks.
E,
65, 027103 (2002).
Kim, H., and Bearman, P. The structure and dynamics of movement participation.
American Sociological Review,
62(1), 70-94 (1997).
Kindleberger, C. P.
Manias, Panics, and Crashes: A History of Financial Crises,
4th ed. (Wiley, New York, 2000).
Kleinberg, J. Authoritative sources in a hyperlinked environment
Journal of the ACM,
46, 604-632 (1999). ---. The small-world phenomenon: An algorithmic perspective. In
Theory of Computing (Association of Computing Machinery, New York, 2000), pp. 163-170. ---. Navigation in a small world.
Nature,
406, 845 (2000). ---. Small-world phenomena and the dynamics of information. In Dietterich, T. G., Becker, S., and Ghahramani, Z. (eds.),
Advances in Neural Information Processing Systems, (NIPS),
14 (MIT Press, Cambridge, MA, 2002).
Kleinberg, J., and Lawrence, S. The structure of the web.
Science,
294, 1849 (2001).
Kleinfeld, J. S. The small-world problem.
Society,
39(2), 61-66 (2002).
Knight, F. H.
Risk, Uncertainty, and
(London School of Economics and Political Science, London, 1933).
Kochen, M. (ed.).
The Small World (Ablex, Norwood, NJ, 1989).
Kogut, B., and Walker G. The small world of Germany and the durability of national networks.
American Sociological Review,
66(3), 317-335 (2001).
Korte, C., and Milgram, S. Acquaintance networks between racial groups-application of the small world method.
Journal of Personality and Social Psychology,
15(2), 101 (1970).
Kosterev, D. N., Taylor, C. W., and Mittelstadt, W. A. Model validation for the August 10, 1996 WSCC system outage.
IEEE Transactions on Power Systems,
14(3), 967-979 (1999).
Kretschmar, M., and Morris, M. Measures of concurrency in networks and the spread of infectious disease.
Mathematical Biosciences,
133, 165-195 (1996).
Krugman, P. Fear itself.
New York Times Magazine,
September 30, 2001, p. 36.
Kuperman, M., and Abramson, G. Small world effect in an epidemiological model.
86, 2909-2912 (2001).
Langewiescher, W.
American Ground: Unbuliding the World Trade Center (North Point Press, New York, 2002).
Lawrence, S., and Giles, C. L. Accessibility of information on the web.
Nature,
400, 107-109 (1999).
Liljeros, F., Edling, C. R., Amaral, L. A. N., Stanley, H. E., and Aberg, Y. The web of human sexual contacts.
Nature,
411, 907-908 (2001).
Lohmann, S. The dynamics of informational cascades: The Monday demonstrations in Leipzig, East Germany, 1989-91.
World Politics,
47, 42-101 (1994).
Longini, I. M., Jr. A mathematical model for predicting the geographic spread of new infectious agents.
Mathematical Biosciences,
90, 367-383 (1988).
Lorrain, F., and White, H. C. Structural equivalence of individuals in social networks.
Journal of Mathematical Sociology,
1, 49-80 (1971).
Lyall, S. Return to sender, please.
New York Times,
December 24, 2000,
Week in Review,
p. 2.
Lynch, N. A.
Distributed Algorithms (Morgan Kauffman, San Francisco, 1997).
MacDuffie, J. P. The road to “root cause”: Shop-floor problem-solving at three auto assembly plants.
Management Science,
43, 4 (1997).
MacKenzie, D. Fear in the markets.
London Review of Books,
22(8), 31-32 (2000).
Mackay, C.
Extraordinary Popular Delusions and the Madness of Crowds (Harmony Books, New York, 1980).
Mannville, B. Complex adaptive knowledge management: A case study from McKinsey and Company. In Clippinger, J. H. (ed.),
The Biology of Business: Decoding the Natural Laws of the Enterprise (Jossey-Bass, San Francisco, 1999), chapter 5.
March, J. G., and Simon, H. A.
Organizations (Blackwell, Oxford, 1993).
Merton, R. K. The Matthew effect in science.
Science,
159, 56-63 (1968).
Milgram, S. The small world problem.
2, 60-67 (1967). ---.
Obedience to Authority: An Experimental View (Harper & Row, New York, 1974). ---.
The Individual in a Social World: Essays and Experiments,
2nd ed. (McGraw-Hill, New York, 1992).
Milgrom, P., and Roberts, J. The economics of modern manufacturing: Technology, strategy, and organization.
American Economic Review,
80(3), 511-528 (1990).
Mizruchi, M. S., and Potts, B. B. Centrality and power revisited: Actor success in group decision making.
Social Networks,
20, 353-387 (1998).
Molloy, M., and Reed, B. A critical point for random graphs with a given degree sequence.
Random Structures and Algorithms,
6, 161-179 (1995). ---. The size of the giant component of a random graph with a given degree sequence.
Combinatorics, Probability, and Computing,
7, 295-305 (1998).
Monasson, R. Diffusion, localization and dispersion relations on 'small-world’ lattices.
European Physical Journal B,
12(4), 555-567 (1999).
Moore, C., and Newman, M. E. J. Epidemics and percolation in small-world networks.
61, 5678-5682 (2000). ---. Exact solution of site and bond percolation on small-world networks.
62, 7059-7064 (2000).
Moore, G. A.
Crossing the Chasm: Marketing and Selling High-Tech Products to Mainstream Customers (Harper Business, New York, 1999).
Morris, S. N. Contagion.
Review of Economic Studies,
67, 57-78 (2000).
Morse, M. Dollars or sense.
Utne Reader,
99 (September-October 1999).
Murray, J. D.
Mathematical Biology,
2nd ed. (Springer, Heidelberg, 1993).
Nadel, F. S.
Theory of Social Structure (Free Press, Glencoe, IL, 1957).
Nagurney, A.
Network Economics: A Variational Inequality Approach (Kluwer Academic, Boston, 1993).
Nelson, R. R., and Winter, S. G.
An Evolutionary Theory of Economic Change (Belknap Press of Harvard University Press, Cambridge, MA, 1982).
Newman, M. E. J. Models of the small world.
Journal of Statistical Physics,
101, 819-841 (2000). ---. The structure of scientific collaboration networks.
Sciences,
98, 404-409 (2001). ---. Scientific collaboration networks: I. Network construction and fundamental results.
E,
64 016131 (2001). ---. Scientific collaboration networks: II. Shortest paths, weighted networks, and centrality.
E,
64, 016132 (2001).
Newman, M. E. J., Barabási, A. L., and Watts, D. J.
The Structure and Dynamics of Networks (Princeton University Press, Princeton, 2003).
Newman, M. E. J., and Barkema, G. T.
Monte Carlo Methods for Statistical Physics (Clarendon
Newman, M. E. J., Moore, C., and Watts, D. J. Mean-field solution of the small-world network model.
Letters,
84, 3201-3204 (2000).
Newman, M. E. J., Strogatz, S. H., and Watts, D. J. Random graphs with arbitrary degree distributions and their applications.
64, 026118 (2001).
Newman, M. E. J., and Watts, D. J. Scaling and percolation in the small-world network model.
60, 7332-7342 (1999). ---. Renormalization group analysis of the small-world network model.
263, 341-346 (1999).
Newman, M. E. J., Watts, D. J., and Strogatz, S. H. Random graph models of social networks.
National Academy of Sciences,
99, 2566-2572 (2002).
Nishiguchi, T., and Beaudet, A. Fractal design: Self-organizing links in supply chain management. In Von Krogh, G., Nonaka, I., and Nishiguchi, T. (eds.)
Knowledge Creation: A New Source of Value (Macmillan, London, 2000).
Noelle-Neumann, E. Turbulences in the climate of opinion: Methodological applications of the spiral of silence theory.
41(2), 143-158 (1977).
Nowak, M. A., and May, R. M. Evolutionary games and spatial chaos.
Nature,
359, 826-829 (1992).
Olson, M.
The Logic of Collective Action:
(Harvard University
Ostrom, E., Burger, J., Field, C. B., Norgaard, R. B., and
Science,
284, 278-282 (1999).
Lectures in the Sciences of Complexity,
vol. I, Santa Fe Institute Studies in the Sciences of Complexity (Addison- Wesley, Reading, MA, 1989), pp. 275-300.
scale-free networks.
86, 3200-3203 (2001). ---. Epidemics and immunization in scale-free networks. In Bornholdt, S., and Schuster, H. G. (eds.),
Handbook of Graphs and Networks: From the Genome to the Internet (Wiley-VCH, Berlin, 2002).
Algebraic Models for Social Networks (Cambridge University Press, Cambridge, 1993).
Normal Accidents: Living with High-Risk Technologies (Basic Books, New York, 1984).
The Second Industrial Divide: Possibilities for Prosperity (Basic Books, New York, 1984).
Social Networks,
1(r), 1-51 (1978).
The New Institutionalism in Organizational Analysis (Chicago, University of Chicago Press, 1991).
The Hot Zone (Random House, New York, 1994).
Science,
149, 510-515 (1965). ---. A general theory of bibliometrics and other cumulative advantage processes.
Journal of the American Society of Information Science,
27, 292-306 (1980).
Radner, R. The organization of decentralized information processing.
Econometrica,
61(5), 1109-1146 (1993). ---. Bounded rationality, indeterminacy, and the theory of the firm.
Economic Journal,
106, 1360-1373 (1996).
Rapoport, A. A contribution to the theory of random and biased nets.
Bulletin of Mathematical Biophysics,
19, 257-271 (1957). ---. Mathematical models of social interaction. In Luce, R. D., Bush, R. R., and Galanter, E. (eds.),
Handbook of Mathematical Psychology,
vol. 2 (Wiley, New York, 1963), pp. 493-579. ---.
Certainties and Doubts: A Philosophy of Life (Black Rose Press, Montreal, 2000).
Rashbaum, W. K. Police officers swiftly show inventiveness during crisis.
New York Times,
September 17, 2001, p. A7.
Redner, S. How popular is your paper? An empirical study of the citation distribution.
Europhysics Journal
B, 4, 131-134 (1998).
Ritter, J. P. Why Gnutella can’t scale. No, really (working paper, available on-line
http://www.darkridge.com/~jpr5/doc/gnutella.html , 2000).
Rogers, E.
The Diffusion of Innovations,
4th ed. (Free Press, New York, 1995).
Romer, P. Increasing returns and long-run growth.
Journal of Political Economy,
94(5), 1002-1034 (1986).
Sabel, C. F. Diversity, not specialization: The ties that bind the (new) industrial district. In Quadrio Curzio, A., and Fortis, M. (eds.),
Complexity and Industrial Clusters Dynamics Models in Theory and Practice (Physica-Verlag, Heidelberg, 2002).
Sachtjen, M. L., Carreras, B. A., and Lynch, V. E. Disturbances in a power transmission system.
E,
61(5), 4877-4882 (2000).
Sah, R. K., and Stiglitz, J. E. The architecture of economic systems: Hierarchies and polyarchies.
American Economic Review,
76(4), 716-727 (1986).
Sattenspiel, L., and Simon, C. P. The spread and persistence of infectious diseases in structured populations.
Mathematical Biosciences,
90, 341-366 (1988).
Schelling, T. C. A study of binary choices with externalities.
Journal of Conflict Resolution,
17(3), 381-428 (1973). ---.
Micromotives and Macrobehavior (Norton, New York, 1978).
Scott, A.
Social Network Analysis,
2nd ed. (Sage, London, 2000).
Shiller, R. J.
Irrational Exuberance (Princeton University Press, Princeton, NJ, 2000).
Simon, H. A. On a class of skew distribution functions.
Biometrika,
42, 425-440 (1955).
Simon, H. A., Egidi, M., and Marris, R. L.
Economics, Bounded Rationality and the Cognitive Revolution (Edward Elgar, Brookfield, VT, 1992).
Smith, A.
The Wealth of Nations (University of Chicago Press, Chicago, 1976).
Solomonoff, R., and Rapoport, A. Connectivity of random nets.
Bulletin of Mathematical Biophysics,
13, 107-117 (1951).
Sornette, D.
Critical Phenomena in Natural Sciences (Springer, Berlin, 2000).
Sporns, O., Tononi, G., and Edelman, G. M. Theoretical neuroanatomy: Relating anatomical and functional connectivity in graphs and cortical connection matrices.
Cerebral Cortex,
10, 127-141 (2000).
Stanley, H. E.
Introduction to Phase Transitions and Critical Phenomena (Oxford University Press, Oxford, 1971).
Stark, D. C. Recombinant property in East European capitalism.
American Journal of Sociology,
101(4), 993-1027 (1996). ---. Heterarchy: Distributing authority and organizing diversity. In Clippinger, J. H. (ed.),
The Biology of Business: Decoding the Natural Laws of the Enterprise (Jossey-Bass, San Francisco, 1999), chapter 7.
Stark, D. C., and Bruszt, L.
Central Europe (Cambridge University Press, Cambridge, 1998).
Stauffer, D., and Aharony, A.
Introduction to Percolation Theory (Taylor and Francis, London, 1992).
Stein, D. L. Disordered systems: Mostly spin systems. In Stein, D. L. (ed.),
Lectures in the Sciences of Complexity,
vol. I, Santa Fe Institute Studies in the Sciences of Complexity (Addison-Wesley, Reading, MA, 1989), pp. 301-354.
Strogatz, S. H.
Nonlinear Dynamics and Chaos with Applications to Physics, Biology, Chemistry, and Engineering (Addison-Wesley, Reading, MA, 1994). ---. Norbert Wiener’s brain waves. In Levin, S. A. (ed.),
Frontiers in Mathematical Biology, Lecture Notes in Biomathematics, 100 (Springer, New York, 1994), pp. 122-138. ---. Exploring complex networks.
Nature,
410, 268-275 (2001). ---.
Sync: The Emerging Science of Spontaneous Order (Hyperion, Los Angeles, 2003).
Strogatz, S. H., and Stewart, I. Coupled oscillators and biological synchronization.
Scientific American,
269(6), 102-109 (1993).
Travers, J., and Milgram, S. An experimental study of the small world problem.
Sociometry,
32(4), 425-443 (1969).
Valente, T. W.
Network Models of the Diffusion of Innovations (Hampton Press, Cresskill, NJ, 1995).
Van Zandt, T. Decentralized information processing in the theory of organizations. In Sertel, M. (ed.),
Contemporary Economic Issues,
vol. 4:
Economic Design and Behavior (Macmillan, London, 1999), chapter 7.
Wagner, A., and Fell, D. The small world inside large metabolic networks.
London, Series B,
268, 1803-1810 (2001).
Waldrop, M. M.
Complexity: The Emerging Science at the Edge of Order and Chaos (Touchstone, New York, 1992).
Walsh, T. Search in a small world.
Intelligence (Morgan Kaufmann, San Francisco, 1999), pp. 1172-1177.
Ward, A., Liker, J. K., Cristiano, J. J., and Sobek, D. K. The second Toyota paradox: How delaying decisions can make better cars faster.
Sloan Management Review,
36(3), 43-51 (1995).
Wasserman, S., and Faust, K.
Social Network Analysis: Methods and Applications (Cambridge University Press, Cambridge, 1994).
Watts, D. J. Networks, dynamics and the small-world phenomenon.
American Journal of Sociology,
105(2), 493-527 (1999). ---.
Small Worlds: The Dynamics of Networks between Order and Randomness (Princeton University
---. A simple model of global cascades on random networks.
Sciences,
99, 5766-5771 (2002).
Watts, D. J., Dodds, P. S., and Newman, M. E. J. Identity and search in social networks.
Science,
296, 1302-1305 (2002).
Watts, D. J., and Strogatz, S. H. Collective dynamics of 'small-world’ networks.
Nature,
393, 440-442 (1998).
West, D. B.
Introduction to Graph Theory (Prentice-Hall, Upper Saddle River, NJ, 1996).
White, H. C. What is the center of the small world? (paper presented at American Association for the Advancement of Science annual symposium, Washington, D.C., February 17-22, 2000).
White, H. C., Boorman, S. A., and Breiger, R. L. Social structure from multiple networks. I. Blockmodels of roles and positions.
American Journal of Sociology,
81(4), 730-780 (1976).
Wildavsky, B. Small world, isn’t it?
U. S. News and World Report,
April 1, 2002, p. 68.
Williamson, O. E.
Markets and Hierarchies (Free Press, New York, 1975). ---. Transaction cost economics and organization theory. In Smelser, N. J., and Swedberg, R. (eds.),
The Handbook of Economic Sociology (Princeton University Press,
Winfree, A. T. Biological rhythms and the behavior of populations of coupled oscillators.
Journal of Theoretical Biology,
16, 15-42 (1967). ---.
The Geometry of Biological Time (Springer, Berlin, 1990).
WSCC Operations Committee.
Western Systems Coordinating Council Disturbance Report, August 10, 1996 (October 18, 1996). Available on-line at http://www.wscc.com/outages.htm.
Zipf, G. K.
Human Behavior and the
(Addison-Wesley, Cambridge, MA, 1949).
Página desconocida