غَلَبَ.؟ وإِن أَرسلَ الخذلانَ في صفِّ النفسِ، غَلَبَ، وأَوجَب لصاحبه الويلَ والحربَ.
فنقول حينئذٍ: قد ثَبتَ مِن رأيِ المعتزلة أنّ رعاية مصالح العباد واجبٌ على الله سبحانه ﷻ. ولا فرق في استحقاق مُسمَّى "الذمّ" و"القبح"، عقلًا عندكم، وشرعًا عندنا، بين مَن أَوجَد سببَ القبيحِ والمعاصي، وبين مَن أَعدَم، أو مَنَع، سببَ الحَسَنِ والطاعات. حتى قال بعضُ علماءِ الشريعة: "لا فرق بين من أَوقَع إِنسانًا في هَلَكةٍ، فهَلك، وبين من رَأى إِنسانًا في هَلَكةٍ، وهو قادرٌ على إِنقاذه منها، فلم يَفعَل، حتى هَلَك، في أنَه يَأثم ويضمن.
وحينئذٍ نقول: سواءٌ كان إِصلالُ الكافِر بإرسال الخذلانِ عليه، أو بقطع التوفيقِ عنه، وسواءٌ كان معنى "إضلاله له" بتوفيقه للمعصية، أو بمنعِ توفيقه للطاعة؛ كلّ ذلك منسوبٌ إِلى الله. فنحن إِن جَعَلنا الإِضلالَ بمعنى خلقِ الداعي الموجِب للضلالِ، فقد دَلَّت عليه الأدلّةُ، وسبق تقريره. لكنّا نَفتقِر فيه إِلى الاعتصام بقوله: ﴿لا يسأل عما يفعل﴾. وإِن جعلناه بمعنى قطعِ التوفيق عن الهداية، قّرب مأخذَ مذهبنا من جهة العقل. لكنّه يَقُرب من مذهبهم؛ إِذ يَلزَم منه أن تكون القدرةُ الحادثة هي المؤثِّرة في إِيجاد الفعلِ. وإِنما الحاصل من الله سبحانه في ذلك هو منعُ التوفيقِ لتركِ المعصية.
والتحقيق عندي في القدر أنّه اضطراراٌ إِلهيِّ كوني للعبد إِلى مواقَعةِ المقدور، وجريانِ ما كَتَب عليه من الأمور، بأسبابٍ حادةٍ وصوارفَ رادةٍ. وله من المشاهَدات أمثلةٌ.
منها القنطرة على البحر. فإِنّ الماء مِن جانبيه تَضطرُّ العبدَ إِلى الجواز عليها. فكذلك القدر قنطرةُ القدرةِ، والأسباب والصوارِف من جانبيه تَضطرُّ العبدَ إِلى المرور عليه.
ومنها فخُّ الصيّادِ للصيدِ. فإِنّ الصيّاد يجعَل الطُعمَ في الفخِّ؛ ثمّ يجعل إِليه طريقًا للصيد بين حائطين شاخِصَين، مِن حجارةٍ أو غيرها. أوّل ذلك الطريقِ واسعٌ. وكلّما جاء إِلى ضيقٍ ليَسعى الصيدُ إِلى الفخّ فيه، ويمنعه الحائطان عن العدول عنه يمنةً أو يسرةً. فلا جرم إِن لم يُلهَم الإِبكارَ، فيعتصِم بالفرار، وَقَعَ في الفخِّ، ثمّ صار إِلى النار.