بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
لـ ﴿ابن علان الصديقى﴾
نبذة عن الشارح
محمد علي بن محمد علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي: مفسر، عالم بالحديث، من أهل مكة. له مصنفات ورسائل كثيرة، منها " ضياء السبيل" في التفسير، و" الطيف الطائف بتاريخ وَجّ والطائف - خ" و" شرح قصيدة ابن المليق وقصيدة أبي مَديَن - ط" و" الفتح المستجاد لبغداد" " المنهل العذب المفرد في الفتح العثماني لمصر ومن ولي نيابة ذلك البلد" وثلاثة تواريخ في " بناء الكعبة" و" دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - ط" ثمانية أجزاء، في شرح " رياض الصالحين" للنووي، و" المواهب الفتحية على الطريقة المحمدية - خ" في التصوف، و" التلطف في الوصول إلى التعرف - خ" في الأصول، و"الفتوحات الربانية على الأذكار النووية - ط" و" رفع الخصائص - خ" و" مثير شوق الأنام إلى حج بيت الله الحرام - خ" و" إتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير الفاعل - ط" لغة.
Página desconocida
مقدمة الشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل ذكره رياض الصالحين، ومناجاته غذاء أرواح الفالحين والخضوع بين يديه والتضرع إليه عزّ العارفين، والتخلق بالأخلاق المحمدية والأخلاق النبوية شأن العالمين العاملين. أحمده سبحانه على نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ القاصد من فضله سؤله وأمله، وتنيله من بحر جوده ما قصده وأمله، ويعطيه بها من أنوار العرفان ما أشرق قلبه ونوره وكمله. وأشهد أن سيدنا ونبينا ووسيلتنا إلى ربنا محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وحبيبه، وخليله، المؤيد بأنواع المعجزات الباهرة، المكرم بالمكرمات الباطنة والظاهرة، الذي لا تحصى نعوته الشريفة ومناقبه، ولا تعدّ ولا تحصر آياته المنيفة ومواهبه.
فإن فضل رسول الله ليس له ... حدّ فيعرب عنه ناطق بفم
ﷺ، وزاده فضلًا وشرفًا لديه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ووارثيه العلماء العاملين وأحزابه، صلاة وسلامًا دائمين متلازمين دائبين بدوام ملك الله تعالى وأمداده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، كلما ذكره ذاكر، وغفل عن ذكره غافل، أداء لبعض حقوق سيد عباده. آمين.
وبعد: فهذا ما دعت إليه الحاجة من وضع تعليق لطيف، على نهج منيف، على كتاب «رياض الصالحين» تأليف شيخ الإسلام، علم الأئمة الأعلام، أوحد العلماء العاملين، والأولياء الصالحين، عين المحققين، وملاذ الفقهاء والمحدثين، وشيخ الحفاظ، وإمام أرباب الضبط المتقنين، شيخ الإسلام والمسلمين، الشيخ أبي زكريا يحيى محيي الدين بن شرف النووي الشافعي، تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوح جنته، وأعاد عليّ وعلى المسلمين من بركته، لما أنه قد جمع ما يحتاج إليه السالك في سائر الأحوال، واشتمل على ما ينبغي التخلق به من الأخلاق والتمسك به من الأقوال والأفعال. مغترفًا له من عباب الكتاب والسنة النبوية، ناقلًا لتلك الجواهر من تلك المعادن السنية. ولم أقف على كتابة عليه،
1 / 23
تكون كالدليل للسالك إليه، فاستخرت الله تعالى بالروضة الشريفة النبوية، عند سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام الخلائق أجمعين وزاده فضلًا وشرفًا لديه، في وضع هذا التعليق عليه، ليكون كالرامز إليه. والمسؤول من الله سبحانه أن يعين على إتمامه. والسداد في تحرير أحكامه، وأن يجعله مصونًا من الخطأ والخطل، محفوظًا من الزيغ والزلل، خالصًا لوجهه الكريم، ذخيرة معدة عند سيدنا ونبينا وشفيعنا سيد المرسلين، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهو المعين، وبه أستعين، وسميته:
دليل الفالحين: لطرق رياض الصالحين
قال المصنف رحمه الله تعالى:
1 / 24
(بسم الله الرحمن الرحيم) أي أؤلف، والاسم: مأخوذ من السمو، وهو العلو، وا علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، والرحمن الرحيم، صفتان بنيتا للمبالغة من رحم كعلم، بعد نقله إلى فعل كشرف، أو تنزيله منزلة اللازم، والمراد من الرحمة في حقه تعالى، لاستحالة قيام حقيقتها به من الميل النفساني غايتها، وهو إرادة الإحسان والتفضل، أو نفس الإحسان مجازًا مرسلًا، من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، فعلى الأول تكون صفة ذات، وعلى الثاني تكون صفة فعل.
(الحمد) الحمد اللفظي لغة: الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التعظيم. وعرفًا: فعل ينبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعمًا على الحامد أو غيره، فبينهما عموم وخصوص وجهي، وجملة الحمد خبرية لفظًا، إنشائية معنى. وقيل: خبرية لفظًا ومعنى. وقيل: يجوز أن تكون موضوعة شرعًا لإنشاء الحمد، وهي مفيدة لاختصاصه با تعالى، سواء أجعلت أل فيه للاستغراق كما عليه الجمهور، أم للجنس كما عليه الزمخشري، أم للعهد كما أجازه بعضهم، واللام في للاختصاص. وبدأ بالبسملة ثم بالحمدلة اقتداء بالكتاب العزيز، وعملًا بمقتضى خبر «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم» وفي رواية: «بالحمد، فهو أبتر»، وإشارة إلى أنه لا تعارض بين الابتداءين، إذ الابتداء حقيقي وهو ما لم يسبق بشيء البتة، وإضافي وهو ما سبق بغير ما التصنيف بصدده. أو يقال: الابتداء أمر عرفي يعتبر ممتدًا إلى الشروع في المقصود، فيسع أمرين فأكثر (الواحد) أي ذاتًا وصفة وفعلًا، فلا شريك له في شيء منها (القهار) أي: الذي قهر الخلائق وقسرهم بقدرته الأزلية، فلا يكون سوى مراده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن بوجه من الوجوه (العزيز) أي الذي لا يغالب في حكمه، ولا يدافع في أمره، ولا يمانع في مراده (الغفار) أي الستار على ذنوب العصاة بعدم المؤاخذة بها، وفي التصدير بهذه الأسماء إيماء إلى أنه ينبغي أن
1 / 25
يكون الرجاء والخوف للإنسان أي حال الصحة بمثابة جناحي الطائر، وذلك أنه أشار إلى مقام الخوف بذكر الأسماء الثلاثة، والرجاء بالاسم الأخير والحكمة في المبالغة في المقام الأول أن من شأن النفس - لا سيما عند عدم رياضتها - الميل إلى المخالفات والمنهيات، فصدّر بذكر ما يدل على مقام الخوف، والتحذير من بطشه سبحانه ليكون قائدًا للعبد إلى أبواب مولاه وإحسانه وسببًا للانزجار عن المخالفات (مكور الليل على النهار) قال الواحدي في «الوسيط»: أي يدخل هذا على هذا، والتكوير:
طرح الشيء على الشيء، واكتفى بذكر تكوير الليل عن ذكر مقابله وإنما اقتصر عليه لشرفه، لأنه موسم الخيرات للسالكين ومحل الاشتغال بالذكر والصلاة والمناجاة مع رب العالمين (تذكرة) مفعول له علة للتكوير أو حال منه (لذوي القلوب) أي لأصحاب القلوب العظيمة (والأبصار) في مفردات الراغب: البصر يقال للجارية الناظرة وللقوة التي فيها ولقوة القلب المدركة، ويقال لها بالمعنى الأخير بصيرة أيضًا اهـ. وعلى كل فالعاطف هنا من عطف المغاير: أما على الأولين فواضح، وأما على الأخير فإن البصر والبصيرة اسمان لقوة القلب المدركة لا للقلب، وأتى به دون البصائر ليكون اللفظ شاملًا لكل ذلك بناء على مذهب إمامنا الشافعي ﵁، من جواز استعمال المشترك في معانيه ومراعاة للسجع المستلذ في السمع (وتبصرة) هو كالتبصير مصدر لبصر المضاعف كقدم تقدمة وتقديمًا (لذوي الألباب) جمع لب: أي العقول ويجمع على ألب كبؤس على أبؤس، ونعم على أنعم. قال في «القاموس»: ويجمع على ألبب. (والاعتبار) والمراد منهم الذين يتفكرون في الآلاء ويعرفون أنها لم تخلق عبثًا وأن له سبحانه في كل مغنى معنى، وما أحسن قول من قال:
لا تقل دارها بشرقي نجد
كل دار للعامرية دار
ولها منزل على كل ماء
وعلى كل دمنة آثار
فيستدلون بالآثار على عظيم الاقتدار، ويعرفون بما يرد عليهم من الأحوال أنه لهم بذلك متعرف (الذي أيقظ) أي نبه من سنة الغفلة، ففيه استعارة مكنية يتبعها استعارة تخييلية شبه الغفلة بالنوم بجامع انتفاء الكمال في كل منهما، وقد ورد في الحديث: «مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله مثل الحي والميت» .
والتشبيه المضمر في النفس استعارة مكنية وإثبات الإيقاظ الذي هو من لوازم المشبه به استعارة تخييلية (من خلقه) أي:
1 / 26
مخلوقاته، وهو بيان لمن في قوله: (من اصطفاه) من الصفوة بتثليث الصاد وهو الخلوص: أي اختاره (فزهدهم في هذه الدار) أي في الدنيا يعني: لما أيقظهم أدركوا حقيقة الدنيا وأنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء فزهدوا فيها وأعرضوا عن زهراتها، وأخذوا منها قدر الضرورة، وجعلوا ما وصل إليهم من ذلك من غير تطلع إليه مقدمًا بين أيديهم وعند مولاهم ذخيرة (وشغلهم) بتخفيف الغين المعجمة وتشديدها للمبالغة (بمراقبته) أي بدوام نظر أنه ﷾ ناظر لأعمالهم محيط بأقوالهم وأفعالهم فأقبلوا على إحسان العمل، وحفظوا أنفسهم من الزيغ والزلل، إذ لا يقع العصيان إلا مع الغفلة المعترية للإنسان (ومداومة) وفي نسخة وإدامة (الافتكار) أي: التفكر في مصنوعاته والاستدلال بذلك على ألوهيته وعظيم قدرته، قال تعالى: ﴿إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض﴾ (آل عمران: ١٩٠ - ١٩١) - الآية. وفي الحديث: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله» وجاء بلفظ: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره» وفي الحديث أيضًا مرفوعًا كما في «الكشاف»: «بينما رجل مستلق في فراشه إذ رفع رأسه إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لك ربًا وخالقًا، اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له» . فقال: «لا عبادة كالتفكر» وقيل: الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع والنبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة» .
وقد روي: «أن يونس ﵇ كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض» قالوا: وإنما كان ذلك للتفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب، لأن أحدًا لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض. انتهى ما في «الكشاف» . قال ابن عباس وأبو الدرداء: فكرة ساعة خير من قيام ليلة. قال السريّ السقطي: ساعة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الجنة، كذا في شرح رسالة ابن أبي زيد لداود: (وملازمة الاتعاظ) أصله الإيتعاظ بياء تحتية ساكنة بعد الهمزة المكسورة وبعدها تاء الافتعال فقلبت الياء تاء فوقية وأدغمت في تاء الافتعال على القاعدة في ذلك: أي: أنهم كلما نزل بهم فقد شيء من مال أو إنسان اتعظوا بذلك ونظروا إلى أن مآل الجمع الفناء، وأن ما نزل بأخيك كأنه قد نزل بك. فالسعيد من اتعظ بغيره وأقبل على ما فيه في المعاد أنواع خيره (و) ملازمة (الادكار)
1 / 27
بالمعجمة والمهملة وأصله اذتكار بمعجمة ثم فوقية، فأبدلت الفوقية لما في التلفظ بها بعد الذال المعجمة من الثقل ذالًا معجمة أو مهملة وأدغم فيها فاء الفعل، والاذكار هو الذكر بعد النسيان والتنبه بعد سنة الغفلة (ووفقهم) من التوفيق، وهو خلق القدرة على الطاعة في العبد، وهو عزيز ولذا لم يذكر في القرآن إلا في قوله تعالى: ﴿وما توفيقي إلا با﴾ (هود: ٨٨) وأما قوله تعالى: ﴿إن أردنا إلاّ إحسانًا وتوفيقًا﴾ (النساء: ٦٢) وقوله تعالى: ﴿يوفق الله بينهما﴾ (النساء: ٣٥) فمن مادة الوفاق (للدءوب) أي: المداومة والاجتهاد (في) مزاولة (طاعته والتأهب) أي: الاستعداد (لدار القرار) أي: الدار الآخرة (والحذر) بالجر عطفًا على الدءوب أو على التأهب قولان في مثله، الراجح منهما الأوّل، ما لم تقم قرينة على خلافه (مما يسخطه) أي يكون سببًا لسخطه سبحانه من المخالفات والعصيان. وفي «مفردات الراغب»: السخط من الله تعالى إنزال العقوبة اهـ. وهو بيان للمراد منه إذا وصف به الباري سبحانه:
(ويوجب دار البوار) كالمفسر للسخط، ثم الذي يوجب النار هو الموت على الكفر والعياذ با تعالى، وفي نسبة الإيجاب إليه تجوّز في الإسناد، إذ الموجب لذلك بذلك هو الله ﷾: أما في العصيان فالصغائر المتصلة بحقوق الله تعالى مكفرة بصالح العمل ومنه اجتناب الكبائر، والمتعلقة بحق العباد لا بد من إرضاء مستحقها، والكبائر لا يكفرها إلا التوبة أو فضل الله سبحانه (و) وفقهم لـ (لمحافظة على ذلك) أي: المذكور من الدءوب في الطاعة والحذر مما يوجب السخط (مع تغاير الأحوال) أي: اختلافها، ظرف وقع حالًا من المحافظة، يعني: أن تغاير الأحوال: أي اختلافها بالخصب والجدب والرخاء والشدة والفراغ والشغل بالتجارة ونحوها من مزاولة أعمال النفس والعيال لم يؤثر في سلوكهم وإقبالهم على عبودية مولاهم من امتثال أوامره واجتناب زواجره إجلالًا له سبحانه، قال الله تعالى: ﴿رجال
1 / 28
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر ا﴾ (النور: ٣٧) وقال: «ليذكرنّ الله قوم على الفرش الممهدة» . وقال الشاعر:
فلو قطعتني إربًا فإربا
لما حن الفؤاد إلى سواكا
والأحوال جمع حال يجوز تذكير لفظها وتأنيثه بأن يقال: حالة وتذكير معناها وتأنيثه، والأرجح تأنيث معناها فيقال: حال حسنة. قال الراغب في «مفرداته»: الحال ما يختص به الإنسان وغيره من أموره المتغيرة في نفسه وجسمه وشأنه والحول: ماله من القوة في أحد هذه الأصول الثلاثة (و) تغاير (الأطوار) أي: الاختلاف في الخلق والخلق كما يفهم من مفردات الراغب (أحمده) أي: أصفه بجميع صفاته إذ كل منها جميل، ورعاية جميعها أبلغ في التعظيم، قيل: وهو أبلغ من الأول لأنه حمد بجميع الصفات برعاية الأبلغية وذاك بواحد منها وهي المالكية وإن لم تراع الأبلغية بأن يراد الثناء ببعض الصفات فذلك البعض أعم من هذه الواحدة لصدقه بها وبغيرها على الكثير، فالثناء بهذا أبلغ في الجملة أيضًا، نعم الثناء بالأول من حيث تفصيله: أي تعيينه أوقع في النفس من هذا، وقيل: بل التحقيق أن الحمد بالأول أبلغ وأفضل ومن ثم قدم، بل أخذ البلقيني من إيثار القرآنـ الحمد ربّ العالمينـ بالابتداء به أنه أبلغ صيغ الحمد. وعلى الأول فآثر القرآن الجملة الإسمية لأن الحمد فيه لمقام التعليم، والتعيين فيه أولى، وجمع بين الحمد بالجملتين تأسيًا بحديث: «إن الحمد نحمده» وليجمع بين ما يدل على دوام الحمد واستمراره وهو الأول وعلى تجدده وحدوثه وهو الثاني (أبلغ حمد) أي: أنهاه من حيث الإجمال لا التفصيل لعجز الخلق عنه حتى الرسل حتى أكملهم نبينا حيث قال: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (وأزكاه، وأشمله) أعمه (وأنماه) أكمله (وأشهد) أي: أعلم وأبين (أن لا إله) أي: لا معبود بحق (إلا ا) بالرفع وجوّز فيها النصب، وقد بسطت الكلام في ذلك في باب فضل الذكر من شرح الأذكار للمصنف رحمه الله تعالى، وأتى بها الحديث أبي داود والترمذي الصحيح «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» أي: القليلة البركة (البر) بفتح الموحدة.
قال في «النهاية»: هو العطوف
1 / 29
على عباده ببرّه ولطفه، والبرّ والبار بمعنى واحد، وإنما جاء في اسم الله تعالى البرّ دون البارّ (الكريم) .
قال البيضاوي: هو من صفات الذات، وا تعالى لم يزل ولا يزال كريمًا، ومعناه تقدسه عن النقائص والصفات المذمومة، والنفيس يقال له: كريم، ومنه كرائم الأموال. وقيل: الكريم الدائم البقاء، الجليل الذات الجميل الصفات. وقيل: هو من صفات الأفعال، وعليه فقيل: هو من ينعم قبل السؤال ولا يحوجك إلى وسيلة ولا يبالي من أعطى ولا ما أعطى، وقيل غير ذلك مما ذكرت بعضه ثمة (الرؤوف الرحيم) الرأفة شدة الرحمة فهو أبلغ من الرحيم وأخرـ والقياس يقتضي الترقي من الأدنى للأعلى - مراعاة للسجع، وقيل: الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة إحسان مبدؤه شفقة المحسن والرحمة إحسان مبدؤه فاقة المحسن إليه، ثم الرحمة لكونها عطفًا نفسانيًا يستحيل قيامها به تعالى المراد بها غايتها كما تقدم قريبًا.
قال ابن حجر الهيتمي: وهو مرادي إذا أطلقت لفظ ابن حجر في «شرح المشكاة»: الرأفة باطن الرحمة، والرحمة من أخص أوصاف الإرادة بناء على أنها صفة ذات: أي: إرادة الإنعام، ومنه كشف الضرّ ودفع السوء بنوع من اللطف، والرأفة بزيادة رفق ولطف، وفي الإتيان بهذه الأسماء في هذا المقام إيماء إلى أن التوفيق إلى سلوك مقام العبودية والخروج عن أوصاف البشرية من محض عطاء وكرم البرّ الكريم، ورأفة ورحمة الرؤوف الرحيم قال تعالى: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن الله يزكي من يشاء﴾ (النور: ٢١) وقال من قال: لولا تعرّفهم ما كنت تعرفهم (وأشهد أن سيدنا محمدًا) علم منقول من اسم المفعول المضعف، سمي به نبينا - مع أنه لم يؤلف قبل أوان ظهوره بإلهام من الله لجدّه عبد المطلب، إشارة إلى كثرة خصاله المحمودة، ورجاء أن يحمده أهل الأرض والسماء وقد حقق الله تعالى رجاءه. يميل وكما اشتملت ذاته على كمال سائر الأنبياء والمرسلين اشتمل اسمه الشريف بحساب الجمل على عدة الرسل بناء على أنهم ثلاثمائة وأربعة عشر (عبده) قدم لأنه أسنى أوصافه، ومن ثم ذكر في أفخم مقاماتهـ أسرى بعبده. نزل الفرقان على عبده. فأوحى إلى عبدهـ قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي: لا أفتخر بالسيادة، إنما فخري بعبوديته ﷾، ذكره العارف أبو العباس المرسي (ورسوله) هو من البشر، ذكر
1 / 30
أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه، فإن لم يؤمر فنبي فحسب، وهو أفضل من النبيّ إجماعًا لتمييزه بالرسالة التي هي على الأصح خلافًا لابن عبد السلامـ أفضل من النبوّة فيه.
وزعم تعلقها بالحق يرده إلى أن الرسالة فيها ذلك مع التعلق بالخلق فهو زيادة كمال فيها (وحبيبه) الأكبر كما يشهد به حديث: «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر» إذ محبة الله للعبد المستفادة من قوله تعالى: ﴿يحبهم ويحبونه﴾ على حسب معرفته به، وأعرف الناس با تعالى نبينا، فهو أحبهم له وأخصهم باسم الحبيب، وسيأتي الكلام على المحبة إن شاء الله تعالى في قوله في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: «ومن عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب﴾، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه» الحديث. وحبيب فعيل بمعنى مفعول من أحبه فهو محب أو من حبه يحبه بكسر الحاء فهو محبوب (وخليله) الأعظم كما يؤذن به حديث: «لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا» وهو فعيل بمعنى مفعول أيضًا، من الخلة بالفتح: وهي الحاجة، أو بالضم، وهي تخلل المودة في القلب لا تدع فيه خلاء إلا ملأته، وقد خالل قلبه من أسرار الهيبة ومكنون الغيوب والمعرفة والاصطفاء ما لم يدع أن يطرق قلبه نظر لغيره. هكذا قال ابن حجر. ثم اقتصاده على كون فعيل فيه بمعنى مفعول لعله لكونه أنسب بمقام الأدب وأشرف، لكونه المختار للخلة التي هي غاية الأرب، وإلا ففي «النهاية»: الخليل الصديق فعيل بمعنى فاعل، وقد يكون بمعنى مفعول من الخلة بضم أوله الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت في خلاله أي باطنه. وقيل: هي تخلل المودة في القلب بحيث لا تدع فيه خلاء إلا ملأته، أو من الخلة بالفتح: وهي الحاجة والفقر اهـ. ثم الذي رجحه جمع متأخرون كالبدر الزركشي وغيره أن الخلة أرفع لأنها نهاية المحبة وغايتها.
قال ابن القيم: وظن أن المحبة أرفع من الخلة وأن إبراهيم خليل ومحمدًا حبيب غلط وجهل، وما احتج به لأن المحبة أرفع من الخلة من نحو حديث البيهقي أنه تعالى قال له ليلة الإسراء: «يا محمد سل تعط فقال: يا ربّ إنك اتخذت إبراهيم خليلًا، فقال: ألم أعطك خيرًا من هذا؟» إلى قوله: «واتخذتك حبيبًا» وإن الحبيب يصل بلا واسطة بخلاف الخليل، قال تعالى في نبينا: ﴿فكان قاب قوسين أو أدنى﴾ (النجم: ٩) وفي إبراهيم: ﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض﴾ (الأنعام: ٧٥) والخليل
1 / 31
قال: ﴿لا تخزني﴾ (الشعراء: ٨٧) والحبيب قيل له: ﴿يوم لا يخزي الله النبيّ﴾ (التحريم: ٨) وغير ذلك إنما يقتضي تفضيل ذات محمد ﵌ على ذات إبراهيم ﵇ مع قطع النظر عن وصفي المحبة والخلة، وهذا لا نزاع فيه، وإنما النزاع في الأفضلية المستندة إلى أحد الوصفين، والذي قامت عليه الأدلة أن استنادها إلى وصف الخلة الموجودة في كل من الخليلين أفضل، فخلة كل منهما أفضل من محبته، واختصا بها لتوفر معناها السابق فيهما أكثر من بقية الأنبياء ولكون هذا التوفر في نبينا أكثر منه في إبراهيم كانت خلته أرفع من خلة إبراهيم صلى الله عليهما وسلم اهـ.
(الهادي) أي: الدالّ (إلى صراط) قال الراغب: الصراط الطريق المستقيم اهـ، فيكون قوله: (مستقيم) إما إطنابًا أو جرّد لفظ الصراط وأريد منه مطلق الطريق، وفيه اقتباس من قوله تعالى: ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ (الشوى: ٥٢) وليس شرط الاقتباس إيراد اللفظ القرآني من غير تغيير، بل يحصل وإن وجد التغيير. نقله الحافظ السيوطي في أوائل حاشيته على «تفسير البيضاوي» . وقوله: (والداعي إلى دين قويم) هي الشريعة الحنيفية السمحة التي جاء بها إلى أمته أشرف الأمم إطناب لأن ما قبله بمعناه، أو من عطف العام على الخاص، لأن الهداية الدلالة بلطف والدعوة تشمل ذلك وغيره (صلوات الله وسلامه عليه) الصلاة منه تعالى رحمة مقرونة بتعظيم ولفظها مختص بالمعصوم من نبي وملك تعظيمًا لهم وتمييزًا لمراتبهم عن غيرهم، والسلام هو تسليمه إياه من كل آفة ونقص والجملة خبرية لفظًا إنشائية معنى، وأتى بالصلاة بعد الحمد لحبر «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة عليّ فهو أقطع أبتر ممحوق من كل بركة» وسنده ضعيف لكنه في الفضائل وهي يعمل فيها بذلك، وخبر «من صلى على رسول الله ﷺ في كتاب صلت عليه الملائكة غدوة ورواحًا ما دام اسم رسول الله ﷺ في ذلك الكتاب» نازع ابن القيم في رفعه، قال: والأشبه أنه من كلام جعفر بن محمد لا مرفوع (وعلى سائر) أي: باقي من السؤر بالهمز بقية نحو الطعام (النبيين) من تعريف النبيّ وأنه أعم من الرسول (وآل كل) أي كل واحد من النبيين فحذف المضاف إليه لدلالة السياق عليه،
1 / 32
وأصل آل أول بفتح الواو تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا. وقيل: أهل لتصغيره على أهيل. والصحيح جواز إضافته إلى الضمير. وآل نبينا عند الشافعي مؤمنو بني هاشم والمطلب، هذا بالنسبة لنحو الزكاة دون مقام الدعاء، ومن ثم اختار الأزهري وغيره من المحققين أنهم هنا كل مؤمن تقي لحديث فيه: «وآل إبراهيم»: إسماعيل وإسحاق
وغيرهما من المسلمين من ذريته (وسائر الصالحين) وهم القائمون بحققوق الله وحقوق في العباد، فدخل الصحابة كلهم لثبوت وصف الصلاح والعدالة لجميعهم، ودخل غيرهم ممن اصنف بذلك جعلنا الله منهم.
(أما بعد) كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، وأتى به تأسيًا به فإنه كان يأتي بها في خطبه ونحوها كما يصح عنه بل رواها عنه اثنان وثلاثون صحابيًا والمبتدىء بها قيل داود ﵇، فهي فصل الخطاب الذي أوتيه لأنها تفصيل بين المقدمات والمقاصد والخطب والمواعظ.
قال العلقمي في حاشيته «الجامع الصغير»: وبهذا قال كثير من المفسرين وقيل: قس بن ساعدة، وقيل كعب بن لؤي، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: سحبان بن وائل وعليها ففصل خطاب داود هو: «البينة على المدعى، واليمين على من أنكر» وقال المحققون فصل الخطاب: الفصل بين الحق والباطل. ويجوز في دالها الضم والفتح. منوّنًا وغير منوّن ووجوه ذلك لا تخفى. لكنها منوّنا تكون على لغة من يقف على المنوّن المنصوب بالسكون وهم ربيعة، ولكون «أما» نابت عن اسم شرط هو مهما أجيبت بالفاء، إذ التقدير: مهما يكن من شيء بعد ما تقدم من الحمد والصلاة والسلام: (فقد قال الله تعالى): عما لا يليق بشأنه، وهي جملة في محل الحال اللازمة إن أبقيت على خبريتها، وإلا فاستئنافية مسوقة لإنشاء الثناء عليه سبحانه ﴿وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون﴾ .
قال الكواشي في «تفسيره الكبير»: أومأ تعالى إلى أنه لم يخلق ولم يرسل رسله عبثًا، وإنما خلقهم لأمر عظيم هو توحيده وطاعته مع غناه عن ذلك تفضيلًا لهم وتشريفًا، ثم هذا خاص بأهل الطاعة من الفريقين، ويؤيده أنه قرىء: ﴿وما خلقت الجنّ والإنس من المؤمنين﴾ وقيل: عام معناه ما خلقتهم إلا لآمرهم بالعبادة لقوله: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾ (البينة: ٥) وقيل المعنى: ما خلقت السعداء
1 / 33
من الفريقين إلا لعبادتي والأشقياء منهما إلا لمعصيتي. وقيل إلا ليعبدون: ليعرفون، لأنه لو لم يخلقهم لم يعرفوا وجوده كقوله: ﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ ا﴾ وأصل العبادة الخضوع والتذلل، والمعنى: إلا ليخضعوا ويتذللوا، وكل مخلوق خاضع ذليل لقضاء الله تعالى، وقيل: إلا ليعبدون: ليوحدون، فالمؤمن يوحده في كل حال والكافر يوحده في الضراء لقوله تعالى: ﴿فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين﴾ (العنكبوت: ٦٥) وقال بعضهم: إلا ليعرفون ويعبدون على بساط المعرفة ليتبرّءوا من الرياء والسمعة.
وقال ابن عطاء: إلا ليعرفون، وما يعرفه حقيقة من وصفه بما لا يليق به اهـ. وللزمخشري في «كشافه» في هذه الآية رمز إلى دسيسة اعتزالية نبهت عليها في «شرح الأذكار» ولما كلفهم خدمته أخبرهم أنه قد كفاهم مؤنة ما يحتاجون إليه فقال تعالى: ﴿ما أريد منهم من رزق﴾ أي: ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أحدًا من خلقي «وما أريد أن يطعمون» يعني: أنفسهم ولا أحدًا من خلقي، ونسب الإطعام إلى الله لأن الخلق عياله سبحانه، ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه (وهذا) أي القول المدلول عليه بقوله: قال الله تعالى: (تصريح بأنهم خلقوا للعبادة) أي: فقط كما يفيده الاستثناء: أي خلقوا لذلك لا لجمع الدنيا والأرزاق ونحوها مما يحتاج إليه، فإن الله تعالى قد كفاهم مؤنة ذلك، ولذا عقب هذه الآية بقوله كما تقدم: ﴿ما أريد منهم من رزق﴾ ﴿فحق﴾ أي: وجب وفي نسخة بتنوينه أي فواجب فيكون خبرًا لقوله الاعتناء ﴿عليهم الاعتناء بما خلقوا له﴾ والاعتناء توجيه العناية إلى ما خلقوا له من معرفة الله تعالى وأداء حق العبودية ﴿والإعراض﴾ أي التولي، يقال: أعرض عن كذا ولي مبديًا عرضه، قال
1 / 34
تعالى: ﴿وأعرض عن الجاهلين﴾ (الأعراف: ١٩٩) كذا في «مفردات الراغب» (عن حظوظ الدنيا) أي: الترفهات المعتادة الزائدة على ما به القوام من دار تكنه وثوب يستر عورته وجريش الخبز والماء، قال: «لا حقّ لابن آدم إلا في ثلاثة: طعام يقيم به صلبه وثوب يواري به عورته، وبيت يكنه، فما زاد فهو حساب» أورده الغزالي في «الإحياء» .
وقال العراقي في تخريج أحاديثه: رواه الترمذي، وقال: وجلف الخبز والماء بدل قوله: طعام يقوم به صلبه، وقال: صحيح. أما حقوق الدنيا مما ذكر فالإعراض عنه ليس بمطلوب، لكن من غير أن يشغله ذلك عن القيام بفريضة الوقت (بالزهادة) مصدر كالزهد وسيأتي تعريفه (فإنها) أي: الدنيا (دار نفاد) أي: فناء، قال الله تعالى: ﴿إن هذا لرزقنا ما له من نفاد﴾ (ص: ٥٤) (لا محل إخلاد) عدل إليه عن خلود للسجع (ومركب عبور لا منزل حبور) أي: إنها مركب يتوصل بها إلى الدار الآخرة، وليست منزل الفرح والسرور. قال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وأخرج الترمذي وغيره حديثًا فيه أنه قال: «ما لي وللدنيا/ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها» (ومشرع انفصام) أي: انقطاع، (لا موطن دوام) ولا يخفى ما في عبارته من الاستعارات، وذلك أنه شبه الدنيا أولًا بالمركب الذي يتوصل به إلى المكان المراد بجامع أن كلًا منهما يتوصل لما بعده، فالدنيا لا يوصل بها إلى الآخرة إلا بالعبور فيها والمرور منها لسبقها عليها، والبلد المراد لا يوصل إليه إلا بركوب نحو الدابة. وثانيًا بالمشرع: أي محل الماء بجامع الورود لكل، وأطلق عليها اسم المشبه به ففيه تشبيه بليغ (فلهذا) أي: ما ذكر (كان الأيقاظ) جمع يقظ بكسر القاف. في «النهاية»: رجل فطن ويقظ
1 / 35
ويقظان: إذا كان فيه معرفة وفطنة اهـ. (من أهلها) أي: الدنيا (هم العباد) وأعلاهم فيها أرباب العرفان با (وأعقل الناس فيها هم الزهاد) قال الدميري في «منظومة رموز الكنوز»:
وأكيس الناس وأعقل الورى
هم الذين زهدوا فيما ترى
إذ نبذوا الدنيا لعلمهم بها
ورغبوا في أختها لقربها
(قال الله تعالى): مبينًا حال الدنيا في زوالها وسرعة تحولها وانتقالها ﴿إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به﴾ أي اختلط بسبب المطر ﴿نبات الأرض﴾ واشتبك بعضه في بعض. ومحل ﴿مما يأكل الناس والأنعام﴾ حال من نبات أو صفة له ﴿حتى إذا أخذت الأرض زخرفها﴾ زينتها وحسنها وظهر الزهري ﴿وازينت﴾ بالزهر والنبات. وقرىء ﴿وأزينت﴾ مخففة «وازيانت» كابياضت ﴿وظن أهلها أنهم قادرون عليها﴾ متمكنون من تحصيل ثمارها ﴿أتاها أمرنا﴾ قضاؤنا ﴿ليلًا أو نهارًا﴾ أي في أحدهما ﴿فجعلناها﴾ أي فجعلنا زرعها ﴿حصيدًا﴾ أي محصودًا ﴿كأن لم تغن﴾ لم تقم ﴿بالأمس﴾ بالزمان الماضي لا اليوم الذي قبل يومك فقط، وقرىء «يغن» بالتحتية ذكره الكواشي في «التفسير الصغير» ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون﴾ .
قال البيضاوي: الآية في الأصل العلامة الظاهرة، وتقال للمصنوعات من حيث إنها تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته، ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل، واشتقاقها من أي لأنها تبين أيًا من أي، أو من أوى إليه وأصلها أية أو أوية كتمرة فأبدلت عينها على غير قياس، أو أيية أو أوية كرمكة
1 / 36
فأعلت، أو آئية كقاتلة فحذفت الهمزة تخفيفًا اهـ. (والآيات في هذا المعنى كثيرة) منها قوله تعالى: ﴿واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيمًا تذروه الرياح﴾ (الكهف: ٤٥) (ولقد أحسن القائل) في بيان سرعة فناء الدنيا (إن عبادًا) عظمين كما يؤذن به التنوين (فطنا) بضم الفاء وفتح الطاء المهملة جمع فطن: من له عقل ونظر في العواقب (طلقوا الدنيا) كناية عن الزهد فيها وترك الاشتغال بشأنها (وخافوا الفتنا) بكسر الفاء وفتح الفوقية جمع فتنة: وهي الامتحان والاختبار كما في «النهاية» . وفي «مفردات الراغب»: الفتنة تستعمل في إدخال الإنسان النار أو فيما يحصل عنه العذاب وفي الاختبار جعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يعتري الإنسان من شدة ورخاء، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالًا اهـ.
والحاصل أن الفتن المترتبة على الاشتغال بالدنيا ومخالطتها كثيرة كالشره وجمع المال من غير اعتبار حله والضنة به ومنع الحق الواجب فيه والتكبر والعجب (نظروا فيها) أي: نظروا في الدنيا يعين البصيرة فعرفوا سرعة زوالها وتحولها وانتقالها «كأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل» (فلما علموا) بجلاء البصيرة أي شهدوا ذلك وصار لهم حالًا ومذاقًا، وإلا فكل عاقل يعلم أن الدنيا دار زوال وانتقال، لكن حجبت بصائرهم غشاوة الغفلة، فمالوا إلى لذاتها مع علمهم بحقيقة ذاتها (أنها ليست لحي وطنًا) أي: دارًا يتوطن فيها على الأبد، لأن الإنسان في هذه الدار كالمسافر المرتحل، وقد سبق حديث: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وقال الشاعر في المعنى:
ألا إنما الدنيا كمنزل راكب
أقام عشيًا وهو بالصبح رائح
والوطن الحقيقي هو الدار الآخرة التي لا نهاية لآخرها بإرادة الله تعالى وقدرته كما جاء في الحديث «يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت» . قال بعضهم: هذا هو المراد من حديث «حبّ الوطن من الإيمان» أي: فينبغي لكامل الإيمان أن يعمر وطنه
1 / 37
بالعمل الصالح والإحسان (جعلوها لجة) في «النهاية»: لجة البحر معظمه، والمراد أنهم جعلوها بمثابة البحر الذي يتوصل بالعبور فيه إلى المقصد، ففي العبارة تشبيه بحذف الأداة (واتخذوا صالح الأعمال) من إضافة الصفة لموصوفها (فيها) أي في اللجة (سفنا) فيه أن العمل الصالح بمثابة المركب الذي بعبر به لجة البحر، وقد جاء في الحديث أن صاحب العمل الصالح يركبه يوم القيامة قال تعالى: ﴿يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا﴾ (مريم: ٨٥) كما أن العمل السيء يركب صاحبه قال تعالى ﴿وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم﴾ (الأنعام: ٣١) (فإذا كان حالها ما وصفته) من الزوال وسرعة التحول والانتقال (وحالنا وما خلقنا له) عطف تفسير لما قبله. وفي نسخة بحذف العاطف قبل ما، فيكون حالنا مبتدأ أولًا. وما موصولًا اسميًا مبتدأ ثانيًا، وقوله (ما قدمته) خبرًا عنه وهو وما قبله خبر الأول، أو يكون «ما» تابعًا لحالنا وما بعده خبرًا عما قبله، والمراد من قوله ما قدمته: أي من القيام بأعباء العبادة (فحق) أي: واجب بناء على تنوينه، وهو كذلك بالقلم بضبط محدث اليمن الشيخ «سليمان العلوي» أو فحق أي وجب وثبت (على المكلف) البالغ العاقل، سمي بذلك لأنه مأمور بما فيه كلفة (أن يذهب بنفسه مذهب الأخيار) وأن ومدخولها خبر أو فاعل حق، والأخيار: هم القائمون بما أمروا به والتاركون لما نهوا عنه جمع خير أو خير على الحذف للتخفيف كأموات جمع ميت أو ميت، كذا في إعراب «الهمداني» المسمى بـ «العقد الفريد» (ويسلك مسلك أولى) أي: أصحاب لا واحد له من لفظه بل من معناه وهو ذو، وكتبت الواو بعد همزته حال النصب والجرّ فرقًا بينه وبين إلى
الجارة وحملت حالة الرفع عليهما (النهى) بضم النون جمع نهية بالضم: أي العقول والألباب، سميت بذلك لأنها تنهي صاحبها عن القبيح (والأبصار) جمع بصر بمعنى البصيرة: أي القلب. في «مفردات الراغب» يقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر نحوـ
﴿فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ (ق: ٢٢) - وجمع البصر أبصار وجمع البصيرة بصائر، ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة (ويتأهب) من الأهبة (لما أشرت إليه) من أداء العبودية، والإعراض عن أعراض الدنيا
1 / 38
الدينية (ويهتم) أي يعتني بهمته (لما نبهت عليه) من الذهاب مذهب الأخيار، وسلوك مسلك أُولي النهى والأبصار، (وأصوب طريق له في ذلك) أي: في تحصيل ذلك، وفيه رمز إلى أن طرق المشايخ وإن كان فيها بعض محدثات كالخلوات وبعض الأعمال هي صواب أيضًا لما فيها من رياضة النفوس ومجاهدتها حتى تدخل زمام العبودية وللوسائل حكم المقاصد (وأرشد ما يسلكه من المسالك) جمع مسلك مكان السلوك (والتأدّب بما صح عن نبينا) لو قال بما جاء لكان أعم، لأن الحديث الحسن كالصحيح في «الأحكام» وغيرها، والضعيف يتأدب به في فضائل الأعمال ويأخذ به في «الترغيب والترهيب» .
ويمكن أن يقال ما ذكر من الضعيف وإن عمل به فيما ذكر أن العمل بما صح أصوب وأرشد. وتظهر ثمرة ذلك عند تعارض صحيح وضعيف، فالتعبد بالصحيح هو الأصوب والأرشد، والضعيف فيما يعمل به فيه من الصواب والرشاد. والحسن داخل فيما صح بأن يراد به ما يقابل الضعيف. والأدب. قال الحافظ السيوطي في «التوشيح»: هو استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا. وقيل الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل الوقوف مع المستحسنات، وقيل تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك يقال إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي به لأنه يدعى إليه اهـ. والحديث الصحيح بالمعنى الشامل للحسن: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط له عن مثله وسلم من العلة والشذوذ، أو بنقل المغفل أو كثير الخطإ وجاء من طرق أخرى (سيد الأوّلين) حتى جميع الأنبياء والمرسلين (و) سيد (الآخرين وأكرم السابقين) من الخلق (واللاحقين) منهم: أي: أجمعهم لأنواع الخير والشرف والفضائل، فهو سيد الخلائق وأكرمهم كلهم بشهادة قوله: «أنا سيد الناس يوم القيامة» رواه البخاري، وقوله: «أنا سيد العالمين» رواه البيهقي. والعالمون وإن اختص بالعقلاء على الأصح فهم أفضل سائر الأنواع من المخلوقات، فإذا فضل هذا النوع فقد فضل سائر الأنواع بالضرورة، وقوله: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ آدم فمن دونه إلا تحت لوائي» رواه الترمذي. ومن آخر هذا وصدر الأولين علمت أفضليته على آدم فقوله: «أنا سيد ولد آدم» إما للتأدب مع آدم أو لأنه علم فضل بعض بنيه عليه كإبراهيم ﵇، فإذا
1 / 39
فضل نبينا الأفضل من آدم فقد فضل آدم بالأولى، ولا ينافي التفضيل بين الأنبياء قوله تعالى: ﴿لا تفرّق بين أحد من رسله﴾ (البقرة: ٢٨٥) ولا ما في الأحاديث الصحيحة من قوله: «لا تفضلوني» . وفي رواية «لا تخيروني على الأنبياء» . وفي أخرى «لا تخيروا بين الأنبياء» ولا تفضيل نبينا عليهم قوله في الحديث المتفق عليه: «من قال أنا
خير من يونس بن متى فقد كذب» وذلك لأن عدم التفرقة بينهم إنما هي في الإيمان بهم وبما جاءوا به.
وأما النهي فإما عن تفضيل في ذات النبوّة أو الرسالة لأنهم فيها سواء، أو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص بعضهم أو إلى خصومة أو على التواضع منه أو قبل علمه بتفضيله عليهم وإن استبعد بأن رواية أبو هريرة وما أسلم إلا سنة سبع فيبعد أنه لم يعلمه إلا بعد هذا. وأجاب جمع كمالك وإمام الحرمين عن خبر يونس بما حاصله: إن تفضيل نبينا بالأمور الحسية كالشفاعة الكبرى وكونه تحت لوائه سائر الأنبياء والإسراء به إلى فوق سبع سموات مع النزول بيونس إلى قعر البحر معلوم بالضرورة، فلم يبق إلا النهي بالنسبة إلى القرب من الله تعالى لتوهم التفاوت فيه بين من هو فوق السموات ومن في قعر البحر، فبين أنهما حينئذٍ بالنسبة إلى القرب من الله تعالى على حد سواء لتعاليه تعالى عن الجهة والمكان علوًّا كبيرًا ففيه أبلغ ردّ على الجمهوية والمجسمة. واعلم أن في حديث «أنا سيد العالمين» أبلغ رد على المعتزلة وإن وافقهم الباقلاني والحليمي في تفضيلهم الملائكة على الأنبياء، واستدلوا بما هو مردود. ومعنى تفضيل البشر عليهم أن خواصهم وهو الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وهم جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل وحملة العرش والمقربون والكروبيون والروحانيون، وخواصهم أفضل من عوام البشر إجماعًا بل ضرورة، وعوام البشر وهم الصلحاء دون الفسقة كما قال البيهقي وغيره أفضل من عوامهم، وقوله: (صلوات الله وسلامه عليه
1 / 40
وعلى سائر النبيين) فيه الصلاة على سائر الأنبياء لقوله: «صلوا على أنبياء الله ورسله فإنهم بعثوا كما بعثت» رواه الطبراني وقد قال الله تعالى: ﴿وتعاونوا على البر﴾ (المائدة: ٢) اتباع الأمر ﴿والتقوى﴾ اجتناب النهي قاله الكواشي (وصح عن رسول الله ﷺ أنه قال) أي: من جملة حديث رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا وأخرجه الترمذي
والنسائي وابن ماجه وابن حبان في «صحيحه» وغيرهم، وما اعترض به على الحديث بأن في سنده من هو مردود غير مقبول: (وا في عون العبد ما كان) العبد أي مدة كونه (في عون أخيه) بقلبه أو بدنه أو ماله أو غيرها.
قيل: وهذا إجمالًا لا تسع بيانه الطروس، فإنه مطلق في سائر الأحوال والأزمان، وفيه أن العبد إذا عزم على معاونة أخيه فينبغي ألا يجبن عن إنفاذ قوله وصدعه بالحق إيمانًا بأن الله في عونه، وأن يأمل الإعانة بدوام هذه الإعانة، فإنه لم يقيدها بحالة خاصة، بل أخبر بأنها دائمة بدوام كون العبد في عون أخيه (و) صح أيضًا (أنه) (قال: من دل على خير فله مثل أجر فاعله) شك بعض رواته فقال: أو قال عامله.p رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي مسعود البدري وابن حبان في «صحيحه» من حديث ابن مسعود. ورواه البزار من حديث أنس مختصرًا بلفظ: الدالّ على الخير كفاعله، وا يحب إغاثة اللهفان. ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (و) صح أيضًا (أنه) قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة كما في «الجامع الصغير» للسيوطي، وفي «مصباح الزجاجة» له أيضًا.
قال البيضاوي: أفعال العباد وإن كانت غير موجبة ولا مقتضية للثواب والعقاب بذواتها إلا أن الله تعالى أجرى عادته الإلهية بربط الثواب والعقاب بها ارتباط المسببات بالأسباب، وليس للعبد تأثير في صدور الفعل عنه بوجه. فكما يترتبان على ما يباشره ويزاوله بترتب كل منهما أيضًا على ما هو سبب في فعله كالإرشاد إليه والحث عليه. ولما كانت الجهة التي بها استوجب المتسبب الأجر والجزاء غير الجهة التي استوجب بها المباشر لم ينقص أجره من أجره شيئًا. وقال الطيبي: الهدى في الحديث ما يهتدى به من الأعمال، وهو بحسب التنكير مطلق شائع في جنس ما يقال له هدى يطلق على القليل والكثير، فأعظمه هدى من دعا إلى الله وأدناه هدى من دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المسلمين،
1 / 41