ولا نستطيع أن ننسى أن لهذه القصة بالذات مزية انفردت بها عن سائر المسرحيات الأخرى التي كتبها الشاعر؛ وهي أنها من أولها إلى آخرها إيطالية، وأدنى ما تكون من روح النهضة أو البعث الأدبي الذي ظهر في الغرب بعد القرون الوسطى، حتى لتجد كل أشخاصها يتكلمون من «الكتب»، وهم جميعا قراء حتى النساء منهم، أو على الأقل «بياتريس» فهي قد قرأت «المائة نادرة»، وبنيديك فهو يتحدث عن «لياندر»، و«ترويلاس»، وينظم شعرا. وكلوديو شاعر كذلك، فهو يعد مرثية ليعلقها على قبر الفتاة المسكينة التي قتلها بقسوة تهمته.
ولم يكن مفر لشكسبير، وقد أبرز روح تلك النهضة من جانبها الماجن من اقتباس الغدر الإيطالي، فجاءنا بشخصية «دون جون» والمكيدة التي دبرها للفتاة، ولقد ألف شكسبير تكرار نفسه في رواياته، فهو يردد أشياء في هذه، كان قد جاء بمثلها في تلك، مع تنويع جميل ينفي الملالة، ويحفظ الجدة؛ فلا يمكن أن يقال إن هذا التكرار منه دليل نقص في الخيال، أو عوز إلى الابتكار، ولكنه في الواقع مظهر ثروة، أو مراجعة حساب، وهو لا يأنف أن يستعير حادثة من أي مكان، أو أي إنسان، كأنما يقول «أعطوني» قصة إيطالية ، أو صفحة من أفلوطرخس، أو نادرة من أساطير الهند، وأنا أصطنع لكم منها «مكبث»، أو «هملت»، أو «روميو وچولييت».
وهكذا نرى هذه القصة ملأى بالأصدية، ونشهد أصديتها مترددة في آفاق غيرها من قصصه، فليست شخصيتا بياتريس وبنيديك سوى صورة أخرى من «بيراون وروزاليند»، كأنما قد مضى الشاعر يقترض من كيس نقوده، ويأخذ من حر ماله، ويهب منه أبطاله، ويعتز فيه بخياله، ويتقدم إلى الخلود مؤمنا بأنه الجدير به، الظافر من البشر بإعجاب باق على الزمان ...
حياة شكسبير
كتب خلق كثير عن حياة شكسبير، واختلف الرواة فيها أيما اختلاف، ولست أريد أن أعرض لهذا كله، أو أتقصاه من جميع جهاته، ولكني سأجتزئ هنا بالوقائع الثابتة، والأحداث المحققة، فلا أتحدث عن آبائه الأولين، فإن هذا الاسم «شكسبير» كان شائعا في القرون الوسطى، مدونا في عدة أقاليم من الجزيرة البريطانية، وكان قومه من الفلاحين، فهو فلاح من سلالة زراع وحراث يعملون في الأرض، والظاهر أن أباه «جون شكسبير» كان أخا نعماء - وصاحب شأن، في استراتفورد، وتزوج «بماري أردن» وهي فتاة ورثت عن أبويها أرضا ودورا ولكنها لم تتلق شيئا من العلم، وقد شوهدت بصمتها في عدة وثائق، ولم يثبت أنها كانت توقع باسمها. وكان «وليم» ثالث ابن رزقاه، وأكبر الأحياء من أولادهما بعد وفاة أخويه الأولين، وكان مولده في شهر أبريل عام 1564 بقرية «استراتفورد» القائمة على ضفاف نهر إيفون.
وكان أبوه يومئذ في أحسن حال، وأرغد عيش، ولم تكد تنقضي على مولد «وليم» ثلاثة أشهر أو نحوها، حتى تفشى الطاعون في القرية، وأخذ يحصد أهل الفاقة من بينها حصدا، فأقبل أبوه على إنقاذ الناس من هذا الشر المستطير كريما سمحا غير ضنين، ولكنه بعد بضع سنين غرق في الديون، وأحاطت به المتاعب، فاضطر إلى رهن عقار زوجته، وانصرف عن الاشتغال بالشئون البلدية والقروية في إقليمه.
طفولته وشبابه
وما لبث أن واجهته نفقات تعليم أولاده (وهم خمسة)، ثلاثة صبيان، وابنتان أصغر سنا من وليم، وكان الصبية يستحقون التعليم في المدرسة الأولية بغير نفقة فأدخلوا فيها، وبدءوا يتلقون مبادئ في اللاتينية، والنحو والصرف، والأدب وتواتى لوليم فيما بعد شيء من علم الفرنسية، فانتفع به في روايته التاريخية «هنري الخامس»، ولكنه لم يقض وقتا طويلا في المدرسة، لتدهور أحوال أبيه، وحين بلغ الثالثة عشرة، بدأ يشتغل «قصابا» وهي الحرفة التي أصبح أبوه يعتمد عليها في كسب قوته.
زواجه
وكانت تقوم على مقربة من استراتفورد دار ريفية معروشة السقوف، لا تزال تعرف باسم «كوخ آن هاتاواي»، وكان يقيم فيها آل هاتاواي، إلى عام 1838، وكان ريتشارد هاتاواي والد «آن» غنيا، فلما قضى نحبه، ترك ضيعة ورثها عن آبائه الأولين، فتولت رعايتها من بعده أرملته وأكبر بنيه، وكان نصيب كل بنت من بناته لا يتجاوز ستة جنيهات وثلاثة عشر شلنا وأربعة بنسات، وهو ما يساوي نحو مائة وستين جنيها في أيامنا هذه.
Página desconocida