واشتهر جمال المركيزة، وتحدث به الناس، فقصدها الرسام مينار أشهر مصوري زمانه، وطلب منها أن تسمح له بأن يصورها فسمحت، ولا تزال الصورة باقية ممثلة لهذا الجمال بعد أن فني هيكله.
وحيث إن هذه الصورة ليست حاضرة أمام عيون القراء، فسنجتهد في استحضارها لذهنهم بنقل أوصاف المركيزة كما جاءت في رسالة طبعت في روان عام 1667، وعنها نقل المؤلف أغلب الحوادث التي رواها في هذه القصة، قال الواصف:
كانت المركيزة ذات بياض ناصع مشرب بحمرة، وقد امتزج اللونان على بشرتها امتزاجا لا يتمكن أمهر مصور أن يؤديه على جماله الطبيعي، وكان بياض محياها يزيده بهاء ونورا سواد شعورها، وقد كللت جبينا كأنه اللجين. أما عيناها فكانتا نجلاوين وكأنهما شقتا في مرمر، وكانتا في لون شعورها، وينبعث منهما بريق لطيف يخترق القلوب؛ فلا يتمكن الناظر أن يطيل فيهما النظر. وقد أبى الله أن يخلق لفمها مثيلا؛ إذ دق الفم فكان كالخاتم، وارتسم الحسن بكل معانيه على شفتيها، فإذا ابتسمت انجلت الشفتان عن عقدين من اللؤلؤ. وكان أنفها جميلا، وقد صوره الباري فصور فيه معاني الرفعة والعظمة والشمم. وكان وجهها مستديرا كأنه البدر في ليلة تمامه، وقد تمثلت فيه الحياة والصحة والشباب بأجمل تمثيل، وأراد الله أن يكملها بالحسن، فجعل في كل حركة من حركاتها ونظرة من نظراتها ما يستميل أنفر القلوب وأبعدها عن التصديق بآية الحب. وكانت قامتها متممة بجمالها لجمال محياها. أما يداها وساعداها ووقفتها ومشيتها فما كانت إلا لتزيد جمالها جمالا، فلا يلبث رائيها أن يقر بقدرة الباري عز وجل؛ لإبداعه في شخص هذه المركيزة، أجمل مخلوقة في أكمل صفات الجمال.
ولا يخفى أن امرأة حباها الله من الحسن ما حبا هذه المركيزة، لا تسلم من ألسنة الوشاة وأقوال الحساد في حاشية أحزابها تدبرها النساء، وللنساء فيها الكلمة الكبرى والقول المسموع، ولكن لم يبلغ الوشاة في المركيزة غرضا؛ لأنها كانت في جميع أحوالها، وخصوصا عند غياب بعلها عنها، حريصة على شرفها، أمينة على عرضها، محتشمة في أقوالها وأفعالها رغما عن رقة ألفاظها ولطيف نكاتها أو رشاقة حركاتها، ولما عجز الوشاة عن إصابتها في عرضها تعرضوا لصفاتها، فقالوا: إن جمالها غير جذاب، فكأنها صنم من الأصنام؛ وجه من مرمر، وقلب من رخام.
ولكن أبى الله إلا أن تخسر الوشاة، وتسود وجوههم؛ إذا أقبلت المركيزة على مجلس هم فيه، فتراهم سكنوا في حضرتها، وكذبت أقوالها وأفكارها مفترياتهم في وجوههم، فيقبل عليها الحضور يمتعون العين بجمال مرآها، والأذن برقة حديثها ورخامة صوتها، والقلب بعذوبة ألفاظها ودقة معانيها؛ فتستهوي القلوب وتجتذب الأفئدة، فيعترف كل من لم يكن رآها قبل ذلك أنه لم ير مخلوقا قربه الله من الكمال في كل شيء مثلها.
ولبثت المركيزة في قومها محبوبة محترمة الجانب، لا تصل إليها ألسنة الواشين، ولا يبلغ فيها كيد الكائدين، حتى بلغ القوم خبر غرق المدرعات الملوكية في مياه صقلية، وموت المركيز ده قسطلان أميرها وقائدها.
وما أثر هذا المصاب على ما امتازت به المركيزة من صفات التقوى؛ فظهرت في الناس صبورة على أحكام الدهر، راضخة لما قدر الله. وكان قد مضى على زواجها بالمركيز سبع سنين لم يتمتع بقربها فيها إلا قليلا، فلم يتعلق قلبها به تعلقا يورثها اليأس من بعده أو يفقدها الرشد لفقده، إلا أنها اعتزلت المحافل والمآدب عقب هذا المصاب، كما تقضي به الآداب، وآوت إلى زوجة أبيها مدام دمبوس، فأقامت لديها.
وأقامت المركيزة عند مدام دمبوس ستة شهور؛ فأرسل لها جدها المسيو يوانيس يستقدمها إليه بأفينيون لتمضي لديه أيام حدادها. وكان للجد منزلة ومحبة ثابتة في قلب حفيدته؛ لأنه رباها صغيرة وعني بأمرها كبيرة، فلهذا أسرعت في تلبية دعوته، وتجهزت للرحيل إلى بلدته.
وكانت ظهرت في تلك الأثناء فوازين الساحرة وشاع أمرها؛ فتحدث الناس بعلمها، وذهبت سيدات من صاحبات المركيزة إلى تلك الساحرة لتكشف لهن خفايا المقدور، فتكهنت لبعضهن تكهنا أظهرت الأيام صدقه، ولا ندري أخدمتها الصدف وساعدتها المقادير في صحة تكهنها، أم تمكنت بفراستها ومهارتها من تبين الغيب من صفات قاصديها لاستشارتها.
ودفع المركيزة حب الاطلاع إلى زيارة هذه الساحرة؛ لما سمعته عن علمها وقدرتها، فقصدتها كما رأينا في الفصل السالف، وكان ذلك قبل سفرها إلى أفينيون بأيام قلائل، وقد علمنا الإجابة التي أرسلتها لها الساحرة طي الخطاب.
Página desconocida