الإهداء‏

كلمات خالدة لأرسطو‏

تقديم1‏

دعوة للفلسفة‏

تعليقات وشروح‏

الإهداء‏

كلمات خالدة لأرسطو‏

تقديم1‏

دعوة للفلسفة‏

تعليقات وشروح‏

دعوة للفلسفة

دعوة للفلسفة

كتاب مفقود لأرسطو

تأليف

عبد الغفار مكاوي

الإهداء

إلى زوجتي ...

كلمات خالدة لأرسطو

إن البشر جميعا يسعون إلى المعرفة بحكم طبيعتهم. (أرسطو، ما بعد الطبيعة، الألفا، 980أ 21-28)

ما صنع الإله ولا الطبيعة شيئا باطلا. (السماء، 1-4، 271أ 33)

القانون وحده هو الحاكم والسيد، هذا القانون الذي يعبر منطوقه عن حكمة وبصيرة، ومن ذا الذي يمكنه أن يمثل لنا المعيار الدقيق ويكون لنا بمثابة الدليل الهادي إلى الخير غير الإنسان الحكيم؟ (بروتريبتيقوس، ب38-39)

المثل القائل: لا تعط السكين لطفل، يعني ألا تضع القوة في أيدي الأوغاد. (ب4)

الباحث بأقصى جهده عن الحقيقة هو الذي ينفرد بأكمل حياة ممكنة. (ب85، 86)

إن الحياة الخالية من التأمل والنظر لحياة لا تليق بالإنسان. ((ب42) دفاع سقراط (الأبولوجيا) 38أ)

تقديم1

كتاب مفقود لأرسطو! ضاع مع ما ضاع من المحاورات التي كتبها في شبابه ولم يبق منها غير أسمائها وبعض شذرات متفرقة منها. صحيح أن بعض المؤلفين القدامى قد عرفوا عنوانه الأصلي «بروتريبتيقوس»،

2

وأن عددا منهم وضع كتبا أخرى تحمل نفس العنوان الذي يفيد الحث على التفلسف وبيان ضرورته للحياة السعيدة، وصحيح أيضا أنهم اقتبسوا منه عبارة ذاعت شهرتها في كتب الفلسفة حتى يومنا الحاضر؛ ألا وهي العبارة التي تقول: «إما أن التفلسف ضروري، ولا بد عندئذ من التفلسف، وإما أنه غير ضروري، ولا بد أيضا من التفلسف لإثبات عدم ضرورته، وفي الحالين ينبغي التفلسف.»

3

ولكن الكتاب ظل أكثر من ثلاثة وعشرين قرنا في عداد المفقودات، وبقي الأمر على هذه الحال منذ النصف الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين نشر عالم ألماني كتابا عن محاورات أرسطو طرح فيه السؤال عن مضمون الكتاب الضائع وهدفه، وانطلق البحث من هذا السؤال الحائر ودارت عجلته مائة سنة كاملة حتى أعيد بناء الكتاب المفقود الذي تجده بين يديك. •••

لو صرفنا النظر عن الفهارس القديمة التي أحصت مؤلفات المعلم الأول

4

لوجدنا نصين اثنين من العصور القديمة يذكر فيها «البروتريبتيقوس» الضائع ذكرا صريحا؛ فالإسكندر الإفروديسي (حوالي سنة مائتين بعد الميلاد)، أكبر شراح أرسطو يقول:

5

إن أرسطو يطرح فيه السؤال عن ضرورة التفلسف لبلوغ السعادة والحياة الأخلاقية الطيبة أو عدم ضرورته، ويؤكد الإسكندر أنه قدم الدليل على ضرورته عندما بين أن من يحتج على الفلسفة إنما يثبت بهذه الحجة نفسه أنه يتفلسف، ولقد كان هم أرسطو أن يدافع عن صحة العبارة التي ذكرها أفلاطون في محاورة «الدفاع» على لسان سقراط:

6 «إن الحياة الخالية من البحث والتأمل حياة لا تليق بالإنسان، وأن يؤديها بحجج أخرى استمدها من تجربته في الحياة ورؤيته لها.» أما النص الآخر الذي يرد فيه ذكر الكتاب فيرجع إلى زينون مؤسس الرواقية (من حوالي 336 إلى 264ق.م) الذي يروي

7

عن معلمه الكلبي «كراتيس» (أو أقراطيس تلميذ ديوجينيس الكلبي) أنه كان يجلس يوما في دكان صديقه الإسكافي «فليسكوس»، وأخذ كراتيس يقرأ عليه من كتاب أرسطو «البروتريبتيقوس» الذي أهداه لثيميسون ملك قبرص وقال له فيه: «ما من أحد مثلك أهلته الظروف ليهب حياته للفلسفة؛ فأنت ثري، ويمكنك أن تنفق المال اللازم لتحصيلها، وأنت مرموق المكانة.» كان الإسكافي يستمع لما يقرؤه صديقه عليه دون أن يكف عن مواصلة عمله، فقال له كراتيس: «أعتقد يا عزيزي فليسكوس أنني سأهديك كتابا بنفس العنوان، فإنك في رأيي أهل للحياة الفلسفية أكثر من ذلك الذي أهداه أرسطو كتابه.»

وسواء أكانت حكاية الفيلسوف الكلبي صادقة أم من نسج خياله، فإن مغزاها لا يخفى على القارئ. لقد أراد هذا الشحاذ البائس - الذي عرفت العصور القديمة جولاته في القرى ومواعظه للفقراء بالزهد والعودة إلى حياة الطبيعة - أراد أن يقول: إن الإسكافي المسكين أقدر على الحياة الفلسفية من الملك صاحب السلطة والجاه والثراء. والأهم من ذلك أنه لم يكن ليروي الحكاية ولم يكن زينون ليرددها بعده لو لم يكن «بروتريبتيقوس» أرسطو معروفا بين الناس في النصف الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد.

مهما يكن الأمر فنحن لا نملك غير هذين النصين اللذين يذكر فيهما كتاب أرسطو ، وكلاهما لا يفيدنا بشيء عما يقوله فيه، ولقد مرت القرون وتوالت الأجيال منذ ذلك الحين إلى أن طرح العالم الألماني ج. برنايس (في كتاب صدر له في برلين سنة 1863 عن محاورات أرسطو) مشكلة هذا الكتاب وتساءل عن هدفه ومضمونه، وبدأت عيون الباحثين تقتفي آثار الكتاب وتتلمس صداه في نصوص أرسطو الباقية من كتبه الضائعة، أو في نصوص القدماء الذين أخذوا عنوان كتابه وحاولوا تقليد أسلوبه وأفكاره، وظل الأمر في أخذ ورد حتى بدد العالم الإنجليزي بايووتر

8

الظلام المحيط به وأثبت أن كتابا بنفس العنوان ليامبلخيوس (أحد أتباع الأفلاطونية المحدثة 270-330م) يضم جزءا كبيرا أخذ بنصه الحرفي من كتاب أرسطو، وتوالت محاولات العلماء من مختلف بلاد العالم لتفسير النص وتحقيق أسلوبه ومفرداته ومحتواه والتأكد من صحة نسبته لأرسطو، ويطول بنا القول لو حاولنا تتبع أسمائهم وتفاصيل الاختلافات التي دارت ولا تزال دائرة بينهم

9

إذ يكفينا في هذا التقديم أن نتناول الجوانب التاريخية العامة ونعرض لتحليل الكتاب ونشأته ومضمونه. •••

أهدى أرسطو كتابه إلى أمير قبرصي مجهول هو «ثيميسون»، ويبدو أنه وجه بهذا الإهداء ضربة بارعة إلى خصومه وأثبت لهم أنه قد نزل إلى ساحة الميدان الذي ظل وقفا عليهم. ومع أن الظروف والأحوال السياسية في ذلك الحين ليس لها علاقة مباشرة بمضمون الكتاب، فإن الهدف الحقيقي من ورائه هو رد سهام هؤلاء الخصوم (وبخاصة إيزوقراطيس

10

صاحب خطبة «الأنتيدروزيس» التي انتقد فيها منهج التعليم والتربية في الأكاديمية، ورئيس إحدى المدرستين الفلسفيتين المتنافستين في أثينا) الذين هاجموا المعرفة النظرية، وأوحوا إلى الشباب أن الفلسفة - بوصفها معرفة خالصة - لا ضرورة لها ولا فائدة منها في الحياة العملية، وأن السعادة تكمن في استقامة السلوك والعمل الطيب وحده.

ولهذا فإن الدعوة البليغة التي يحملها الكتاب إلى التفلسف دعوة موجهة في الواقع إلى الشباب الأثيني المتزاحم على أبواب المدرستين المتنافستين، وهي حث له على حياة التأمل التي هي وحدها الحياة الخليقة بالإنسان. •••

يبدأ أرسطو دعوته بالإشارة إلى أهمية الفلسفة والتساؤل عن الفضيلة والخير، ويبين أن كليهما لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق معرفة مطابقة له، فبغير هذه المعرفة يصبح امتلاك الخيرات الخارجية من ثروة وقوة وجاه خطرا يهدد الإنسان ويضره أكثر مما ينفعه. هذه المعرفة هي التي تضفي على تلك الخيرات قيمتها، وهي في الحقيقة تفوقها في القيمة؛ لأنها لم توجد لأجلها فحسب، وإنما هي قيمة في ذاتها، بل هي القيمة العليا التي تجعل لكل ما عداها قيمة؛ وبذلك ينتهي الغرض الأول بإثبات أن الفلسفة ممكنة.

ثم يشتبك المعلم الأول في مجادلة الخصوم الذين يشكون في هذه النتيجة ويروجون بين الشباب أن الفلسفة لا ضرورة لها في الحياة العملية ولا جدوى منها، ويرد على هذا الاعتراض القديم المتجدد أبدا بأن الفلسفة جديرة بالسعي إليها لذاتها؛ لأنها أسمى خير يمكن أن يبلغه الإنسان، ولما كانت الغاية الطبيعية للإنسان هي ممارسة العقل فإن الحياة العقلية المكرسة للتأمل والنظر هي مهمته الحقيقية وواجبه الأول، وبها يبلغ كماله ويجد سعادته، وإذا كان البعض يتهم هذه الحياة بأنها غير نافعة، فإن أرسطو يبين أنه لا يصح التقليل من قيمتها بالنسبة للمشرع والسياسي، وبهذا يثبت أن الفلسفة «نافعة».

ويتابع أرسطو طريقته في الحجاج دفاعا عن الفلسفة فيبين أن السعادة البشرية تقوم على فاعلية العقل، وأن التفلسف هو غاية الحياة الإنسانية بحكم طبيعتها نفسها، وأن هذه الحياة التي يهبها صاحبها للعقل هي أسمى لذة وأنقى فرح ممكن؛ لأن فاعلية العقل هي الخير الوحيد الذي لا يتوقف على غيره ولا يتطلب أي شروط خارجية، وهكذا تنتهي هذه الحجج إلى الفقرة الأخيرة (ب110) التي ترتفع فيها موجة التحمس حتى تبلغ أسمى قمة، إن الفلسفة تعلو بالإنسان فوق الأرض وفوق الفناء، وتتيح له المشاركة في الخلود والألوهية، بل تجعله أشبه بإله بين بقية مخلوقات الله. •••

هذه هي جملة الأفكار الأساسية في الكتاب، وهي تعبر بغير شك عن دفاع مخلص عن الفلسفة، يوشك في مفهومنا الحديث أن يكون نوعا من الدعاية الأدبية الفلسفية، ولا بد أن القارئ قد أحس نغمته الخطابية التي تعلو في أجزائه (وخصوصا في الفقرتين ب43، 44) إلى حد الصخب الذي يخفت صوت المنطق! ولكن هذا الصوت المرتفع في بعض الأحيان لا يستطيع أن يخفي دفء العاطفة التي تسري فيه، وتجعل منه شهادة اعتراف صادقة سجل فيها الفيلسوف مثله الأعلى في الحياة، ومع أن أسلوب الكتاب يشف عن روح الشباب ويختلف اختلافا واضحا عن أسلوب الكتب التعليمية المتأخرة التي يتميز بالموضوعية والجفاف، فإنه مع ذلك يعكس تفكير رجل ناضج ويدل على خبرته بالحياة والناس وقدرته على الحجاج والإقناع، ولعل التحليل المتأني لمضمون الكتاب أن يؤكد هذا الإحساس ويمهد للإجابة عن السؤال الذي يطوف في أذهاننا عن زمن تأليفه وموقعه من كتابات المعلم الأول وتطوره العقلي والروحي.

دعوة للفلسفة

تحليل (1)

يستهل أرسطو كتابه بالإهداء الذي عرفنا قصته، ثم يعرض أول قضية أساسية فيه: إن السعادة في الحياة تقوم على الحالة النفسية الطيبة (وهي كما أشرنا قضية سبق أن عبر عنها أفلاطون على لسان سقراط في محاورة الدفاع، كما يرجع إليها أرسطو في فقرات تالية)،

1

كما أن امتلاك الخيرات الخارجية بغير مبادئ أخلاقية هو الشر بعينه. (2)

يتحدث أرسطو عن «التفلسف» فيقول إنه يعني أمرين؛ فهو من ناحية سؤال يطرح عما إذا كان ينبغي على الإنسان أن يتفلسف. وهو من ناحية أخرى تكريس الحياة للفلسفة، ويتناول القضية الأساسية الثانية فيبين ضرورة التفلسف وقيمته في الحياة السياسية والعملية.

2

فإذا كان أصحاب الصنائع وأرباب المهن اليدوية يكتشفون أفضل الأدوات عن طريق ملاحظة الطبيعة فيتحتم على السياسي ورجل الدولة أن تكون لديه معايير يستمدها من الطبيعة ومن الحقيقة، ويحكم بها على كل ما هو عادل وجميل ونافع.

ولا سبيل لمن لم يهب حياته للفلسفة ولم يعرف الحقيقة أن يتوصل إلى هذه المعايير المستمدة من المعرفة النظرية بالمبادئ والعلل الأولى، إلا أنها هي التي تسمح لنا بتصريف جميع أعمالنا.

ويستطرد أرسطو في تقديم الأمثلة من الحياة العملية والمادية ليؤكد أنها جميعا لا تستغني عن المعرفة النظرية، فالأشياء الجسمية مجرد أدوات، وعلينا أن نطلب المعرفة التي تساعدنا على حسن استخدامها.

وتسير الحجة التي يسوقها لإثبات هذه القضية في خطوات؛ فالأشياء تنشأ عن طريق الصنعة والطبيعة أو عن طريق الصدفة والحظ،

3

وعملية النشوء تمضي في خط لا يعكس من كون إلى نمو إلى تحقيق غاية إلى تحلل ففساد،

4

وهي عملية تعبر عن حقيقة «الغائية» التي تطبع بخاتمها مذهب أرسطو كله، والطبيعة نفسها هي منبع كل خير وجمال، وتكون مظاهر إبداعها جميلة بقدر ما تسير العملية الطبيعية السابقة في طريقها السوي، كما تكون منتجات الفن والصنعة البشرية جميلة بقدر ما تحاكي الطبيعة وتكمل ما تركته ناقصا.

ويأتي الحديث عن سلم التطور الطبيعي الحي؛ فالطبيعة نفسها تقضي بأن يكون الهدف الأسمى للإنسان هو تحقيق ملكة العقل التي نسميها الحكمة أو الفطنة (ب11-21)، وبحكم الطبيعة نفسها توجد مستويات مختلفة لملكة العقل والقدرة على التفكير، هذه المستويات تؤلف سلما من القيم يتربع على قمته الفكر الذي تتم فاعليته ويختار كذلك لذاته، والطبيعة يسودها النظام والترتيب وتراعي الحد ولا تتعداه، فهي عاقلة ولا تعمل شيئا بالصدفة (ب22-30، وهي فكرة تمثل نواة الفلسفة الأرسطية وتتردد في معظم كتابات معلم البشرية). هل يستعصي على الناس بلوغ هذه الغاية الرفيعة؟ إن أرسطو يؤكد أن الحياة الفلسفية أو الموقف الفلسفي من الحياة ليس هدفا مستحيلا على الإطلاق، بل إن صعوبة تحصيل الفلسفة تقل في رأيه بكثير عن الفائدة التي تتيحها والفرح الذي نجنيه منها (ب31)، وهناك في الواقع علم بالعدل والعدالة كما أن هناك علما بالطبيعة وبكل ما هو موجود على الحقيقة ونحن قادرون على تحصيلهما سواء بسواء (وهما علم الأخلاق وعلم الطبيعة بالمعنى الأرسطي)، والمسألة في النهاية مسألة نظر وعلم نظري بالمبادئ والأصول.

5

هذا العلم الخالص يسبق كل علم لاحق بالأشياء والأدوات والأجسام، كما تسبق العلة المعلول ويتقدم الشرط على ما يتقدم به ويعتمد عليه، فمعرفة الأولي والبسيط في الطبيعة أسهل وأبسط من المعرفة بأي شيء آخر؛ لأن كل ما عداهما يتكون من هذه العناصر ويبنى منها، ثم إن كل ما هو خير فهو كذلك محدد ومنظم، والمهم بعد كل شيء هو العلم بالأسباب والعوامل والعناصر الأولية، أو هو - كما نقول اليوم - معرفة «البنية» الأساسية بحيث تكون الأولوية دائما للبسيط على المركب، وبحيث تسبق المبادئ ما يترتب عليها.

وبجانب فروع العلم الأخرى يوجد علم بفضيلة النفس (أو كفاءتها وصلاحها ب32-37)، وامتلاك القدرة على التفكير وملكة العقل وفقا لمبدأ الغاية هو أسمى الخيرات التي يتاح للإنسان امتلاكها، ومن ذا الذي يمكنه أن يجسد لنا المعيار الدقيق للخير والدليل الهادي إليه غير البصير الحكيم؟ لا بد للإنسان من التمييز بين ما هو خير وما هو ضروري، وحتى لو ثبت له أن امتلاك الحكمة وملكة العقل والتفكير لا ينفعه في الحياة العملية (بل ربما جنى عليه في معظم الأحيان كما تؤكد لنا تجربة الحياة اليومية)، فإن هذا لا يمنع أن التفكير يحمل قيمته في ذاته، وأنه جدير بالاختيار والتفضيل في كل الأحوال (ب38-44)، ويرجع أرسطو في ختام هذا الجزء من كتابه إلى الحجة التي انطلق منها (ب11)، وهي غائية الطبيعة التي تميل بها إلى تحقيق الأقيم والأجمل والأرفع (ب45). (3)

ومع كل هذه المحاذير فإن النظر العقلي في أصول الأشياء ومبادئها أمر نافع للحياة العملية؛

6

فالسياسي يتحتم عليه كما سبق أن يلم ببعض المعالم والمعايير التي يستمدها من الطبيعة ومن الحقيقة، ويستعين بها في الحكم على ما هو عدل وحق وجمال (ب46-51)، غير أن معرفة المعايير لا تكفي، فواقعية أرسطو وخبرته بالعالم والناس تجعله يفلسف للعمل كما يفلسف للنظر؛ ولهذا يقول صراحة إن من الواجب تحويل المعايير إلى أفعال، وتجسيد النظر في ثوب العمل؛ فالفلسفة عنده تحصيل للحكمة وتطبيقها (ب52-53)، والنظر في حقيقته فعل لا مجرد تأمل، إنه معرفة منتجة للتحقيق والإنجاز، صحيح أن الإنسان الذي يوقف حياته على النظر ويهبها للفلسفة لا يتلقى من الناس أجرا ولا جزاء، ولكنها تستولي عليه ويجد سعادته الكبرى في الاشتغال بها والعكوف عليها (ب55-57). (4)

ويتساءل أرسطو: ما هي مهمة الفلسفة؟ ولماذا كان بلوغ الحكمة هو غايتنا القصوى؟ ويبدأ في الإجابة على هذا التساؤل بالحديث عن العلاقة بين الجسم والنفس، ففي داخل النفس يكون الأعلى هو الجزء الحائز على العقل وملكة التفكير، هذا الجزء الصغير (كما يصفه أفلاطون في الجمهورية 442ج) هو العقل (نوس)، وهو يعبر وحده أو في المقام الأول عن ذاتنا الحقيقية (ب59-62)، أما عن المهمة الأساسية للفكر فهي التوصل للحقيقة (ب63-66)، ونحن نسعى في طلبها عن طريق التأمل الفلسفي، ونبلغ أسمى درجة في هذا التأمل عندما نطلبها لذاتها (ب66-69)، ثم يستطرد أرسطو إلى الكلام عن العلاقة بين العلم والرأي؛ فالعلم والمعرفة الدقيقة أجدر بالاختيار من الرأي الصادق، وأجدر شيء بالاختيار عند الإنسان هو التبصر الفلسفي؛ ولهذا يسعى الناس جميعا في طلب المعرفة (كما تقول العبارة المشهورة في مقالة الألفا من كتاب الميتافيزيقيا 1، 980أ 21)، ويمتد هذا القسم من الكتاب من الفقرة (ب70) إلى الفقرة (ب77). (5)

والحياة العقلية بجانب هذا كله حياة غنية بالفرح، والعقلاء من الناس ينشدونها ويجدون في طلبها للاستمتاع بالأفراح الحقة والمسرات النبيلة (ب78-92)، وهنا يجد المعلم الأول فرصة مواتية للحديث عن فكرته الرئيسية المعروفة عن القوة والفعل، ويعرضها عرضا مبسطا يتقبله القارئ العادي، فيميز بين المستيقظ والنائم، بين المبصر بالفعل والقادر على الإبصار، بين العارف بالإمكان ومن يستخدم معرفته ويطبقها، لينتهي من ذلك إلى القول بإن الفعل أعلى قيمة من الانفعال، وإن أسمى أفعال النفس هو التفكير، وأعلى درجات التفكير هو التفلسف؛ ولهذا تكون الحياة الكاملة من نصيب أصحاب الفعل الخالص، أي من نصيب المتفلسفين، وهؤلاء هم الذين يبلغون الغاية؛ لأنهم هم الذين يقومون بالفعل الفلسفي - على أساس العلم المتناهي في الدقة لا على أي وجه كان! - ويجدون في طلب الحقيقة في حياة النظر والعمل على السواء. (ب79-86) ولما كانت هذه الفاعلية القصوى المطلقة من كل قيد هي التي توفر الفرح فمن الواضح أن المتفلسف هو الذي يحيا أكمل حياة ويتمتع بأعمق الأفراح.

عند هذه القمة من الدفاع البليغ عن الفلسفة تبرز قمة أخرى مضادة، إذ يقول أرسطو ما معناه: لكن الناس للأسف لا يدركون مصلحتهم ويجشمون أنفسهم الجهد والمشقة في سبيل أشياء عقيمة وعاطلة من كل قيمة (ب87-92). (6)

هكذا تكون الحياة الفاعلية على الوجه الصحيح - أي الحياة العقلية - هي الشرط اللازم لبلوغ السعادة، وهنا يهيب أرسطو بإجماع الناس على طلب السعادة ليؤكد من جديد أن التفلسف هو الحياة السعيدة الكاملة، أو هو على الأقل أنجح الوسائل المؤدية إليها (ب97-102). (7)

ويسوق أرسطو حجة بلاغية جديدة يبدأ بها نغمة سوداء لا تقارن بالنغمة السابقة المتألقة بالبهجة والفرح؛ فهو يوازن بين الحياة العاقلة وبين حياة الناس الذين يقصرون همهم على مجرد الحياة وبأي ثمن، وتفاجئنا نظرة النسر الحزين الذي يطل على وادي الأشباح، فالأشياء التي تبدو في أعين الناس عظيمة ليست في حقيقتها إلا ألعاب ظلال.

وتتصل خاتمة اللحن المكتئب فتقتبس من الحكماء والشعراء القدماء مؤكدة أن حياة البشر تكفير عن ذنب كبير جنيناه، لتبلغ في النهاية قلب القتامة نفسها وترسم لوحة لا تنسى عن المساجين الذي تقيد جثث الموتى بأجسادهم بحيث يواجه الوجه بالوجه، ويلتصق العضو بالعضو

7 (ب105-107).

هل أراد المعلم الأول أن ينفرنا من حياتنا العادية المشغولة بالنهم إلى الثروة والغنى والشهرة وغيرها من الخيرات الظاهرية الخادعة لنحقق العلو فوقها على جناح التفلسف، أم غلبته تجربته أو قراءاته فانساق إلى هذه الصور الأليمة؟ مهما يكن الجواب فإن الكلمات الختامية هي أبلغ دفاع يمكن تصوره عن الفلسفة؛ فليس ثمة شيء إلهي في الإنسان إلا شيء واحد يستحق وحده عناء الجهد، ذلك هو العقل والتبصر الحكيم (أو التفلسف)، وإن حياة تخلو من التأمل لهي حياة تخلو من كل قيمة ولا تليق بإنسان (ب108-110).

متى وضع أرسطو هذا الكتاب؟ أهو من كتابات الشباب «المنشورة» أم من مؤلفات الرجولة «المستورة»؟ ألدينا أي دليل على زمن التأليف أم لا نملك إلا الترجيح؟ هل كان عند تأليفه تلميذا مخلصا لأفلاطون أم استطاع أن يتحرر من سطوته وبدأ يفكر لنفسه ويعلي بناء مذهبه؟ أكان شابا لا يزال أم رجلا يرفل في إهاب الرجولة الناضجة؟

أسئلة يبدو أننا لن نعثر في شأنها على اليقين، أقصى ما نملكه أن نعرض آراء العلماء وهي لا تزال إلى اليوم تتأرجح على حافة الرأي والترجيح والتخمين. •••

كان الرأي بين معظم الباحثين منذ ألف العالم الألماني «ييجر» كتابه المشهور عن أرسطو وتطوره الفكري سنة 1923 - أن أرسطو ظل طوال الفترة التي قضاها طالبا ومعلما في الأكاديمية الأفلاطونية وقاربت العشرين عاما - ظل طوال هذه الفترة وحتى موت أفلاطون تلميذا مخلصا لأستاذه، تأثر به في كل ما كتب في ذلك الحين، وشارك في نشر أفكاره وتعاليمه - غير أن كل ما كتبه أثناء حياته في الأكاديمية قد ضاع، لم يبق من أشعاره ومحاورات شبابه سوى بضع شذرات متفرقة من أهمها ما بقي من «أويديموس» و«عن الفلسفة». وهذه المحاورة التي نتحدث عنها الآن: «بروتريبتيقوس»،

8

وقد زعم «ييجر» أن الكتاب الأخير كان بمثابة برنامج دراسي للأكاديمية، ودعوة إلى المثل الأعلى الذي بشر به أفلاطون وحث على السير على طريقه. ومع ذلك فإن «البروتريبتيقوس» يسجل التحول الذي أصاب نفوس الجيل الجديد من شباب الأكاديمية وغير من نظرتهم إلى الحياة العقلية. لقد حرص أفلاطون على تحقيق المثل الفلسفي الأعلى في الحياة، ولكنه أراد بفلسفته كلها أن يصلح الواقع وينقذه من الفساد، وينقل إلى ظلام الحياة العملية قبسا من نور المثل والحقائق الخالدة. أما الجيل الشاب فوجد قيمة الحياة في تأمل الباطن، في بهجة الرؤية والنظر الخالص، بهذا تحولت مثل الإصلاح السياسي والأخلاقي عند أفلاطون إلى التأمل العقلي المتشرب بالروح الدينية. ولقد أكد «ييجر» أن أرسطو كان يقف في هذا الكتاب على أرض ميتافيزيقية مختلفة عما نجده في كتاباته التعليمية المتأخرة، وأن الأفكار الأساسية فيه أفكار أفلاطونية تحمل طابع معلمه الكبير، سواء في لغتها أو موضوعاتها، بل إن الكتاب يردد في زعمه نظرية المثل ويذكر رأي أفلاطون المتأخر في أنها أعداد، ويقتبس منهج أفلاطون في عرض الأخلاق على طريقة أصحاب الهندسة. وكل هذا يؤكد في رأيه أن أرسطو ظل في هذا الكتاب وفي سائر محاوراته الضائعة وفيا لأفلاطون، وأنه لم يصبح «أرسططاليا» إلا بعد أن مات أستاذه ومر في حياته بأزمة باطنية حادة.

بيد أن النظرة إلى فلسفة أرسطو قد تغيرت بعد إعلان «ييجر» عن هذه الآراء، وأثبت بعض العلماء - ومنهم الأستاذ «انجمار ديرنج» الذي ألف كتابا ضخما عن تفكير أرسطو ونشر النص الذي نعتمد عليه وحققه - أن هذه الآراء التي ذهب إليها «ييجر» لا تستند إلى كتابات أرسطو ولا إلى التراث القديم من مؤلفات المؤرخين وكتاب السير، أضف إلى هذا أن لغة أرسطو ومصطلحاته الأساسية لم تكد تتغير منذ أن كتب «الطوبيقا» أو المواضع الجدلية التي ثبت أنها تسبق الكتاب الذي بين أيدينا بحوالي عشر سنوات،

9

والأهم من هذا كله أنهم قدموا الأدلة اللغوية والموضوعية على أن «البروتريبتيقوس» ليس من كتابات الشباب لأرسطو، وأنه كان قد قضى عند كتابته أكثر من خمسة عشر عاما في البحث والتعليم في الأكاديمية، وأن الكتاب نفسه قد وضع حوالي سنة 350-351ق.م، أي عندما كان أرسطو في الرابعة والثلاثين أو الخامسة والثلاثين من عمره وفي أوج تفكيره ونشاطه العقلي، وفي نفس الوقت الذي كتب فيه أفلاطون رسالته السابعة.

10

وإذا كان من المستحيل إثبات هذا التاريخ بالدليل القاطع، فهو في رأي «ديرنج» أقرب إلى الصواب من غيره، والمهم على كل حال أن الكتاب يعطينا فكرة طيبة عن تفكير أرسطو في هذه المرحلة من حياته الخصبة الجادة، لا سيما إذا تذكرنا أنه لم يعد النظر فيه على عكس ما كان يفعل مع كتاباته التعليمية الأخرى، وأننا لا نملك كتابا آخر من كتبه يحمل نفس الدعوة التي يحملها هذا الكتاب أو يوحي بها، وأن محاورة «السياسي» التي يظن أن «يامبليخوس» قد نقل عنها أيضا قد ضاعت ولم تبق منها سوى شذرة ضئيلة لا تثبت شيئا.

لا يزال العلماء - كما قلت - مختلفين حول تفسير «البروتريبتيقوس» وترتيب أجزائه، وذلك منذ أن بدأ «ييجر» محاولاتهم المستمرة حتى اليوم، ولكنهم لا يختلفون في أصل النص الذي وردت أجزاء كبيرة منه عند «يامبليخوس» (في كتاب اختار له نفس الاسم) والمؤرخ اليوناني «ستوبايوس». وكذلك في إحدى برديات «أوكسيرنكوس » تحت رقم 666-4.

11

ولقد مضى أكثر من قرن على الفرض السابق الذكر الذي قدمه «بايووتر» مع نصوص الكتاب التي وجدها عند يامبليخوس ورجح نسبتها لأرسطو. واتصلت المناقشات حول هذا الفرض طوال هذا الزمن قبل أن يفكر أحد في نقد النص منهجيا أو يشرع في تحليل كلماته وأسلوبه ومضمون معانيه وتطابقها مع نظائرها في سائر كتبه البعيدة عن الشك، ولا نريد أن ندخل في دقائق هذه التحليلات اللغوية والنقدية المضنية للأسباب التي ذكرناها من قبل، ولكننا نكتفي بالإشارة الموجزة إلى أهم هذه المحاولات لعلها تقدم لنا لمحة عن عمق البحث العلمي الذي نكتفي في العالم العربي بالوقوف عند سطحه أو نهب زبده ورذاذه!

ربما كان الأستاذ السويدي «انجمار ديرنج» هو أهم هؤلاء الباحثين الذين عكفوا على هذا الكتاب؛ فقد نشر [ثلاثة أبحاث كبيرة]

12

عن الكتاب نفسه وعن أرسطو وعرض تفكيره وتفسيره، وقدم النص اليوناني وحلل كلماته وأسلوبه وقابله بكلمات الكتب الأرسطية المعتمدة وأسلوبها وأفكارها الأساسية كما قدم معه ترجمة ألمانية للنص المختلف عليه، والنص الذي قدمه وأعاد بناءه يضم 6400 كلمة وضع فهرسا لسبعمائة كلمة مختلفة منها ثبت له أن اثني عشرة كلمة منها فقط لا وجود لها في كتب أرسطو الأصيلة، وإن كانت من الكلمات المألوفة عند أفلاطون أو عند كتاب العصر، والأهم من هذا أنه قدم الأدلة الكافية على أن أسلوب الكتاب في أدق تفاصيله أسلوب أرسطي لا غبار عليه، وحتى المواضع التي يعمد فيها «يامبليخوس» إلى اختصار النص الأصلي أو التعبير عنه بأسلوبه إلى حد الخروج في بعض الأحيان عن أسلوب المعلم الأول وأفكاره؛ إنما تدل جميعها على أن هذا الأفلاطوني الجديد قد نقل عن أرسطو في معظم الأحوال فقرات طويلة نقلا حرفيا لا شك فيه، سواء من كتابه المذكور أو من بعض كتاباته الأخرى التي تولى نشرها بنفسه (وهي الكتب المنشورة أو غير العلمية بالمعنى الدقيق التي كان يقصد بها عامة المثقفين؛ تمييزا لهم عن الكتب «المستورة» أو الفلسفية البحتة التي كانت تدرس في اللوقيون). ولقد رجح الباحث السويدي أيضا أن هذا الاختصار والترتيب من جانب يامبليخوس لم يغره مع ذلك بتزييف النص أو خلطه بنصوص أفلاطونية أو غير أفلاطونية غريبة عليه؛ ولهذا يبقى احتمال أصالة النص أكبر من عدم احتماله؛ إذ يستحيل كما قدمنا أن يقطع في أمره على وجه اليقين،

13

كما أن المحاولات المختلفة لترتيب النص ستظل محاولات لا تختلف بعضها عن بعض إلا بقدر ما يقدم كل منها من الأدلة العلمية والنقدية، وبقدر ما تعتمد على الحجة والبرهان، وهي كلها دليل متجدد على أن العلم نفسه محاولة، وسيبقى محاولة بشرية لا يفسدها إلا الكذب والتسرع وادعاء اليقين المطلق.

تلك - باختصار - هي محاولة «ديرنج» التي انتهى منها إلى أن الذي أعاد ترتيبه وتحقيقه نص أرسطي أصيل، وأننا نملك الجزء الأكبر من الكتاب أو المحاورة المفقودة، بل إننا نستطيع أن نحدد بدايته ونهايته بما يشبه اليقين، كما نستطيع أن نضع أسلوبه وأفكاره ومنهجه في إقامة الحجة

14

والاستشهاد بأمثلة من الحكمة الشعبية ... إلخ في سياق الفلسفة الأرسطية على وجه الإجمال. •••

بقي أن نشير إلى محاولتين أخريين في بناء النص وتحقيقه قام بهما الأستاذان أ. ه. كروست، وج. شنفيس، أما الأول فقد تابع «ديرنج» صراحة في تحقيقه للنص وتفسيره له وأضاف إليه بعض التعديلات التي لا تستحق الذكر،

15

وأما الثاني فقد اكتفى بنشر النص اليوناني كما تراءى له بغير ترجمة حديثة ولا تعليقات، وذلك في رسالة للدكتوراه قدمها في سنة 1966 إلى جامعة ميونخ.

16

ويختلف ترتيب النص في هذا البحث اختلافا كبيرا عن طبعة «ديرنج»؛ فالمؤلف يعتمد - بجانب النص المأثور عن يامبليخوس - على مواضع مختلفة من نصوص أرسطو المعروفة في كتبه التعليمية (كالأخلاق الأويديمية، والأخلاق النيقوماخية والسياسة، ومقالة الألفا من كتاب الميتافيزيقا)، بل يضيف إليها نصوصا أخرى من كتب مؤلفين مختلفين - مثل «بروتريبتيقوس» المنسوب لإيزوقراطيس (المعاصر لأرسطو) والمهدى إلى دومينيقوس - بجانب نصوص من كتابات سترابو

17

وجالينوس،

18

وديوجينيس لائيرتوس،

19

وسينزيوس، وستوبايوس. ويضم الباحث كل هذه النصوص إلى نص يامبليخوس وبردية أكسيرنكوس اللذين اعتمد عليهما «ديرنج» و«فلاشار»، وذلك دون أدنى مبرر مقنع يسوغ ضمها إليه أو بالأحرى حشرها فيه؛ فقد تكون نصوصا قريبة من أفكار الكتاب الأصلي، ولكن وضعها فيه أمر يثير التساؤل ولا يساعد على مزيد من الفهم والاقتناع.

ولا شك أن الحكم على مثل هذه المحاولات وترجيح إحداها على الأخرى أمر يستلزم إتقان اللغة الأصلية التي كتب بها أرسطو، والاطلاع الدقيق على تفاصيل مذهبه والمعرفة الحقيقية بتطور تفكيره، وهي أمور - لا أمر واحد! - لا يستطيع كاتب السطور أن يدعيها لنفسه. إن محاولته تقديم هذه الدعوة الملحة إلى الفلسفة لقارئه العربي ستظل أضعف هذه المحاولات وأكثرها تواضعا، وإن كانت هي كل ما استطاع تقديمه في حدود علمه وجهده، وندرة المراجع التي بين يديه! •••

وأخيرا فلا بد منذ ذكر بعض الملاحظات عن أسلوبي في تعريب النص والتعقيب عليه في الهوامش والتعليقات الملحقة به، والزيادات التي رأيت إضافتها إلى النص نفسه رغبة في المزيد من الوضوح.

لقد قرأت النص فأذهلتني الكنوز التي ينطوي عليها، وأعدت قراءته مرات قبل أن يتحرك في نفسي الدافع الملح لنقله إلى العربية. كنت في البداية أستبعد الفكرة لإشفاقي مما ستسببه من عناء، ولعلمي بأن معرفتي المتواضعة باللغة اليونانية لا تسمح لي بمواجهة النص ومشكلاته وتحدياته (وكنت قد تعلمت هذه اللغة قبل عشرين سنة ثم طحنتها مرارة الأيام!) ولكن حبي للنص وإعجابي بعظمة صاحبه لم يتركا لي فرصة للتردد، رحت أنقله وأراجع كل كلمة وكل سطر على الترجمة الألمانية الحديثة المواجهة له في الطبعة التي بين يدي، وإذا كان من حقي أن أقول بأنني استوعبت النص الأصلي - باستثناء عبارات قليلة أشرت إليها في الهامش - فإن من واجب الأمانة أن اعترف بأنه لولا الترجمة الألمانية التي قام بها الأستاذ «ديرنج» ما تأكدت من صحة عبارة واحدة نقلتها، ولا تجرأت أصلا على هذه المحاولة، ولهذا يطيب لي أن أسجل شكري وعرفاني بجهود هذا العالم الجليل؛ ففضله علي وعلى هذا الكتاب الذي بين يديك لا يمكن أن يجد الكلمات التي تفيه حقه.

وقد اعتمدت على شروح محقق النص وناشره، واستعنت بها على كتابة الهوامش والتعليقات، ولم أشأ أن أثقل على القارئ العربي بكلمات يونانية لم أجد داعيا للإكثار منها، فاكتفيت بالإشارة في الهامش لما وجدته ضروريا لا غنى عنه في التعرف على المصطلحات الأرسطية الأساسية، ولكني لم أستطع في نفس الوقت أن أهمل حاجة الباحث المتخصص في الفكر اليوناني عموما والفكر الأرسطي بوجه خاص إلى مزيد من التفاصيل، فأضفت التعليقات التي تجدها ملحقة بالنص، واعتمدت في جانبها الأكبر على تعليقات الناشر نفسه، مع إضافات يسيرة لا تقلل - بل تزيد - من امتناني له وعرفاني بفضله، وقد كان الإغراء بالمزيد من التفصيلات كبيرا، وكان من الممكن الرجوع إلى المصادر المشار إليها (وخصوصا محاورات أفلاطون وبالأخص الجمهورية) رغبة في المزيد من التعمق في جذور الفلسفة الأرسطية والتعرف إلى «الآباء» الذين ينحدر منهم نص هذا الكتاب وكثير من عباراته، ولكنني اقتصرت على التوسع - المحدود - في بعض الجوانب الهامة عن فلسفة أرسطو، حتى يخرج القارئ بتصور مجمل عن جذور شجرته وثمارها، ويرتبط هذا الكتاب في ذهنه بقدر الإمكان بالسياق العام لتفكير المعلم الأول وتطوره.

وقد دفعتني الرغبة في الوضوح والتيسير على القارئ أن أضع بين قوسين كلمات تربط بين عبارات أرسطو المعروفة بالتركيز المرهق والإيجاز الشديد، كما التزمت بالترقيم العلمي الذي وضعه الناشر المحقق لفقرات الكتاب، وهو تقليد متبع في سائر الطبعات المعتمدة لأرسطو وغيره من الكتاب الكلاسيكيين. ويهمني قبل كل شيء وبعد كل شيء أن يجد القارئ في هذا الكتاب - بجانب الفائدة العلمية الخالصة - شيئا من المتعة والبهجة العقلية التي أشاد بها المعلم الأول وأوشك أن يجعلها غاية الحياة على هذه الأرض، وأملي أن يخرج منه القارئ العربي وهو أقدر على التفلسف، أي على التفكير الكلي الحر الذي اشتدت حاجتنا إليه مع توالي المحن والآلام.

بداية كتاب دعوة للفلسفة

إن تطلعك للمعرفة، أي عزيزي ثيميسون،

20

وسعيك إلى الرفعة والحياة السعيدة أمور أعلمها عن طريق السماع، وإني لمقتنع (ب1) بأنه ما من أحد يملك أنسب مما تملك من ملكات

21

تعينك على الإقبال على الفلسفة؛ فأنت غني بحيث يمكنك أن تنفق على تعلمها،

22

وأنت كذلك تحتل مكانة مرموقة، ويعتقد معظم الناس أن الحياة السعيدة تعتمد على امتلاك الخيرات الخارجية، وهم «لا يذهبون إلى هذا الرأي» بغير مبرر؛ فنحن نلاحظ أن بعض الناس يوفقون في جميع شئونهم ويبلغون النجاح على الرغم من حمقهم، ولا شك أنك صادفت في حياتك حالات أخرى حدث فيها العكس، وقد يمكنك، من معرفتك بالماضي أو من تجربتك الخاصة، أن تتذكر عددا من الوقائع التي كان فيها الغرور سببا للسقوط.

23

لقد عرفت رجالا أسرفوا في الثقة بالثروة والحظ والقوة ولهذا قضي عليهم بالانحدار «إلى هاوية» الشقاء، وعلى قدر تفوقهم السابق في النجاح يشتد عمق إحساسهم بالإخفاق وسوء الحظ، ويشعرون بالخجل من أن وضعهم الحاضر (ب2) لا يحفزهم على النهوض بما يرونه واجبا (مفروضا) عليهم.

ولما كنا نلمس

24

نكد الطالع الذي يلم بهؤلاء الناس، فإن علينا أن نتحاشى مثل هذا القدر ونعلم أن السعادة في الحياة لا تقوم على امتلاك الثروة الكبيرة، وإنما تعتمد على الحالة النفسية الطيبة.

25

وكذلك الأمر فيما يتعلق بالجسم؛ فلن يصف إنسان أحدا من الناس بأنه «مبارك الحظ من الآلهة» لمجرد أنه يرتدي ثيابا فخمة، بل سيخلع هذه الصفة على من وهب الصحة وتمتع بالمزاج الصحيح، حتى ولو لم يكن له أدنى نصيب من الزخرف الخارجي.

26

وبالمثل لا يصف المرء نفسا بأنها سعيدة إلا إذا كانت نفسا مثقفة، ولا إنسانا بالسعادة إلا إذا كان مهذبا، ولكننا نمنع هذه الصفة عمن يتحلى بمظاهر الزينة الفخمة دون أن يكون له أية قيمة في ذاته، ويصدق هذا أيضا على الحصان؛ فمهما يكن من لجامه الذهبي وحلاه الثمينة فلن نضفي عليه أي قيمة ما دام لا يصلح لشيء غير ذلك، وسنفضل عليه حصانا آخر «نتوسم فيه» الصفات الطيبة.

27 (ب3) ثم إن من عادة المنحطين من الناس

28

إذا حصلوا على ثروة طائلة أن يقدروا قيمة هذه الثروة تقديرا يفوق تقديرهم لخبرات النفس، وهذا هو أحقر شيء (يمكن تصوره). ولو ظهر سيد في مظهر من هو أقل شأنا من خدمه لأصبح عرضة للسخرية والاستهزاء، وكذلك يتحتم علينا أن نحشر في زمرة التعساء

29

أولئك الذين يجعلون لاكتساب الثروة أهمية تفوق «العناية» بطباعهم وأخلاقهم. (ب4) والواقع أن هذه هي الحقيقة؛ فالتخمة - كما يقول المثل السائر - تلد الغطرسة، وإذا ما اقترن النقص في التربية

30

بالقوة والسلطة تولد عن ذلك الجنون، وأولئك الذين ساءت نفوسهم لن ينفعهم الثراء ولا القوة ولا الجمال شيئا، بل كلما توافرت هذه الأمور ازداد ضررها على صاحبها عمقا وتنوعا، وذلك إن لم تقترن بالتبصر (والحكمة).

31

إن المثل القائل: «لا تعط السكين للطفل» يعني ألا تضع القوة في أيدي الرعاع.

32 (ب5) إن التبصر الفلسفي

33 - وهذا ما سوف يوافقنا عليه الجميع - هو ثمرة الجهد الجاد والبحث عن الأشياء التي تؤهلنا الفلسفة للبحث عنها؛ لهذا يتحتم علينا - دون لجوء إلى مماحكات لفظية - أن نتفلسف. (ب6) إن كلمة «التفلسف» تدل من ناحية على السؤال عما إذا كان من واجب الإنسان أن يتفلسف، كما تدل من ناحية أخرى على أن نهب أنفسنا للفلسفة. (ب7) لما كنا نتوجه بحديثنا إلى أناس من البشر لا إلى أولئك الذين لهم حياة ذات طبيعة إلهية، فلا بد أن نضيف إلى تلك التنبيهات

34 (السابقة) تنبيهات أخرى نافعة في الحياة الاجتماعية والعلمية.

وفي هذا الصدد نقول: (ب8) إن ما يقع تحت تصرفنا لتيسير شئون الحياة، كالجسد وما يخدم الجسد، إنما يقع تحت تصرفنا كنوع من الأداة، واستخدام هذه الأدوات مقرون بالخطر؛ فهي تؤدي إلى عكس نتيجتها «على يد» أولئك الذين لا يحسنون استعمالها؛ ولهذا يجب علينا أن نسعى إلى معرفة تعيننا على استخدام كل هذه الأدوات على الوجه الصحيح، كما يجب علينا أن نسعى إلى تحصيل هذه المعرفة وتطبيقها بطريقة ملائمة، يجب علينا أن نصبح فلاسفة إذا أردنا أن نصرف شئون الدولة بصورة صحيحة، ونشكل حياتنا الخاصة بطريقة نافعة. (ب9) بيد أن المعرفة على أنواع مختلفة، فهناك المعرفة التي تنتج خيرات الحياة، وهناك المعرفة التي تستخدمها، وثمة تقسيم آخر؛ فهناك أنواع المعرفة التي تخدم وتطيع، وهناك الأنواع التي تأمر، والأنواع الأخيرة أعلى درجة، وفيها يكمن الخير بمعناه الحقيقي. ولما كان هذا النوع الوحيد من المعرفة الذي يتوصل للحكم الصحيح ويستخدم العقل ويضع الخير في مجموعه نصب عينيه - ونعني به الفلسفة - هو الذي يستطيع الانتفاع بسائر أنواع المعرفة وتوجيهها وفق قوانين الطبيعة،

35

فإن هذا دليل آخر على ضرورة التفلسف.

ذلك أن الفلسفة وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصر المعصوم (من الخطأ)

36

الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي علينا أن نأتي من الأفعال وأن ندع. (ب10) دعنا الآن نتعمق سؤالنا ونتأمله من وجهات النظر الغائية لكي نصل إلى نفس التنبيه (السابق).

37 (ب11) من بين الأشياء التي تنشأ «وتكون» ما يدين «وجود» بعضه للتدبير «العقلي» والمقدرة «البشرية على الصنعة»

38 - كما هو الحال في البيت والسفينة اللذين يشترطان المقدرة والتدبير - في حين أن بعضها الآخر لا ينشأ عن طريق المقدرة البشرية «على الصنعة»، بل بواسطة الطبيعة، إن الطبيعة هي الأصل

39

في الحيوانات والنباتات، وكل نشوء من هذا النوع يتم وفقا للطبيعة، ولكن هناك أيضا أشياء تنشأ عن طريق الصدفة، ونحن نقول عن معظم الأشياء التي لا تنشأ عن طريق الصنعة ولا الطبيعة ولا الضرورة (نقول): إنها تنشأ عن طريق الصدفة، (ب12) وليس فيما ينشأ عن الصدفة شيء له هدف أو غاية

40 (من كونه ونشوئه). أما الأشياء التي تنشأ عن المقدرة البشرية (على الصنعة) فلها غاية وهدف؛ «لأن من يملك المقدرة سيبين لك دائما لماذا كتب ولأي هدف»، وهذا الهدف (نفسه) أفضل من الشيء الذي نشأ من أجله.

41

وأنا أتكلم عن الأشياء التي تكون العلة فيها هي المقدرة في ذاتها لا بطريقة عرضية فحسب، فإن الشفاء هو بالتأكيد علة الصحة قبل أن يكون علة المرض، وفن البناء هو علة «تشييد» البيت لا علة الهدم؛

42

فكل ما ينشأ عن طريق المقدرة البشرية إنما ينشأ من أجل «تحقيق» هدف معين، وهذه هي غايته وأفضل شيء «بالنسبة له». أما ما ينشأ عن طريق الصدفة فلا ينشأ لهدف، ومع ذلك فقد يتفق أن يتولد عن الصدفة بعض الخير، غير أنه لا يكون خيرا من خلال الصدفة ومن حيث نشأته عن طريق الصدفة؛ لأن ما ينشأ عن طريقها يكون دائما غير محدد. (ب13) إن ما ينشأ وفقا للطبيعة إنما ينشأ لأجل هدف بحيث يكون النتاج الطبيعي دائما أكثر ملاءمة للهدف من النتاج الفني؛ فليست الطبيعة هي التي تحاكي الصنعة «البشرية»، بل هذه هي التي تحاكي الطبيعة، كما أن المقدرة البشرية (على الصنعة) قد وجدت لمساندة الطبيعة وإكمال ما تركته ناقصا؛

43

ذلك لأن من بين الموجودات ما يبدو أن الطبيعة وحدها قادرة على إتمامه بنفسها دون حاجة إلى مساعدة، ومن بينها الآخر ما لا تتمكن «من إكماله» إلا بالجهد أو تعجز عنه عجزا تاما، ويتضح هذا لدى نشوء الكائنات الحية؛ فبعض البذور تتفتح دون أدنى «قدر من» الرعاية، أيا كانت الأرض التي تسقط عليها، أما بعضها الآخر فيحتاج إلى فن الزراعة، وكذلك تستطيع بعض الكائنات الحية أن تنمو بنفسها نموا كاملا وأن تبلغ النضج، على العكس من الإنسان الذي يحتاج إلى عدد كبير من المهارات الضرورية للمحافظة «على حياته»، وهو يحتاج إليها في البداية بعد ولادته مباشرة، ثم يحتاج إليها بعد ذلك لتغذيته؛ (ب14) فإذا كانت القدرة البشرية (على الصنعة) تحاكي الطبيعة، فمن الواضح أن غائية منتجات القدرة البشرية أمر يعتمد على الطبيعة، ويصح لنا أن نقول: إن كل ما ينشا نشأة سليمة إنما ينشا من أجل هدف (معين)؛ فكل ما يؤدي إلى شيء جميل قد نشأ نشأة صحيحة، وكل ما ينشأ أو قد تم نشؤه بالفعل ينتج شيئا جميلا حتى تتم العملية الطبيعية بصورة سوية، أما ما يشذ عن الطبيعة فهو رديء ومضاد لما يوافق الطبيعة، وهكذا تتم النشأة

44

السوية المطابقة للطبيعة لأجل تحقيق هدف معين، (ب15) ويمكننا أن نتبين هذا «من ملاحظة» كل جزء من أجزاء جسمنا على حدة، فإذا تأملت الجفن مثلا وجدت أنه لم يتكون «عبثا» ولغير هدف، وإنما وجد لحماية العينين وتوفير الراحة لهما والحيلولة دون نفاذ شيء من الخارج إليهما، ونحن نقصد نفس الشيء عندما نقول: إن الأشياء الطبيعية قد تكونت

45

لتحقيق هدف معين، أو عندما نقول: إن الأشياء المصنوعة

46

قد أنتجت لغرض ما، فعندما يتم بناء سفينة لنقل البضائع عن طريق البحر يكون الهدف المقصود من بنائها قد قدم بالفعل. (ب16) إن جميع الكائنات الحية أو (على الأقل) أفضلها وأرفعها قدرا قد نشأ عن الطبيعة وفي تطابق مع الطبيعة، ولا معنى للاعتراض على هذا بأن أغلب الحيوانات قد نشأ ضد الطبيعة، أي للإفساد وإلحاق الأذى والضرر. إن أسمى الكائنات الحية (التي تعيش على الأرض) هو الإنسان، وهذا يدل بوضوح على أنه قد نشأ نشأة طبيعية وفي تطابق مع الطبيعة؛ (ب17) فإذا كان الهدف دائما أفضل من الشيء (إذ إن كل شيء يكون - أو ينشأ - من أجل الهدف، كما أن ال «لماذا»

47

هي الأفضل على الدوام بل تفوق جميع الأشياء في الفضل)، وإذا كان الهدف المطابق للطبيعة هو آخر ما يتوصل إليه في مجرى الكون الطبيعي

48

عندما يسير هذا سيرا متصلا نحو الكمال،

49

وإذا سلمنا إلى جانب هذا بأن الجسد هو أول ما يبلغ الكمال عند الإنسان، ثم يأتي بعده ما يتعلق بالنفس، وإن كمال الأفضل بالنسبة للكون (النشوء) إنما يأتي على نحو من الأنحاء دائما فيما بعد، وإذا سلمنا بعد هذا بأن النفس تنشأ متأخرة عن الجسم،

50

وأن آخر ما ينشأ من «ملكات» النفس هو ملكة العقل؛

51 «إذ إننا نلاحظ أن هذه الملكة هي بطبيعتها آخر ما يتكون عند الإنسان؛ ولهذا كانت هي الخير الوحيد الذي تطمح الشيخوخة إلى امتلاكه.» إذا سلمنا بهذا كله تبين لنا أن ملكة العقل بحسب طبيعتها هي هدفنا، وأن استخدامها هو الغاية الأخيرة التي من أجلها نشأنا، وإذا صح القول بأننا قد وجدنا

52

وفقا للطبيعة، فقد اتضح أننا نعيش أيضا لكي نفكر في شيء ولكي نتعلم. (ب18) دعنا نسأل الآن لأي موضوع من موضوعات الفكر (القائمة) قد أوجدنا الله؟ عندما سئل فيثاغورس عن هذا أجاب بقوله: «لكي أتأمل السماء»،

53

وقد تعود أن يصف نفسه بأنه «إنسان » يتأمل السماء وأنه إنما جاء إلى الحياة من أجل هذا الغرض. (ب19) ويروى أيضا عن أنكساجوراس أنه سئل عن الهدف الذي يمكن أن يبتغيه الإنسان من مولده وحياته فأجاب، بقوله: لكي يتأمل السماء والنجوم «الطالعة» فيها والقمر والشمس، وكأن كل ما عدا ذلك لا يستحق عناء الجهد.

54 (ب20) هكذا يكون فيثاغورس قد زعم بحق

55

أن كل إنسان قد أوجده الإله لكي يعرف وينظر ويتأمل، وسواء أكان موضوع هذه المعرفة هو «نظام» الكون أم أي طبيعة أخرى، فذلك أمر قد نفحصه فيما بعد، ويكفي الآن ما قلناه ليكون أساسا نعتمد عليه، وما دامت الغاية - بمقتضى الطبيعة - هي ملكة التعقل، فإن أفضل الأشياء هو استخدامها «في التدبر والتفكير»؛ (ب21) لهذا يجب على المرء أن يعلم سائر الأشياء من أجل الخير الكامن في الإنسان نفسه، ومن «مجموع» هذا الخير «يقوم» بالأمور الجسيمة من أجل «الأمور» النفسية، «ويؤثر» الفضيلة من أجل ملكة التعقل؛ لأن هذه هي أسمى الأشياء جميعا. (ب22) وتقودنا الفكرة التالية إلى نفس الهدف (وهو أن من يريد أن يكون سعيدا فلا بد له أن يتفلسف). (ب23) لما كان النظام يسود الطبيعة كلها، فإنها لا تفعل شيئا بالصدفة، وإنما توجه كل شيء نحو هدف محدد، وهي حين تستبعد الصدفة (والاتفاق)

56

تحرص على تحقيق الهدف (أو الغاية) بقدر يفوق كل فن بشري؛ إذ إن الصنعة البشرية،

57

كما نعلم، محاكاة للطبيعة. ولما كان الإنسان يتألف بحسب طبيعته من نفس وجسد، وكانت النفس أعلى قيمة من الجسد، كما كان الأقل شأنا يندرج دائما تحت الأفضل في سبيل تحقيق هدف معين، فإن وجود الجسد إنما يكون من أجل وجود النفس، ونحن نعلم أن النفس تكون في جزء منها عاقلة، وفي جزء آخر غير عاقلة، وأن الجزء غير العاقل منها أقل قيمة (من العاقل). ونستنتج من هذا أن الجزء غير العاقل يوجد من أجل الجزء العاقل، والجزء العاقل يحتوي على العقل،

58

وهكذا يسوقنا البرهان ضرورة إلى «القول» بأن كل شيء يوجد من أجل العقل. (ب24) إن فاعلية العقل هي التفكير،

59

والتفكير يقوم على النظر في موضوعات الفكر،

60

على نحو ما تكون فاعلية «عضو» الإبصار هي رؤية المرئيات، هكذا يجعل الفكر والعقل كل شيء جديرا بأن يسعى إليه بنو الإنسان؛

61

إذ تكون بقية الأشياء جديرة بالسعي إليها من أجل النفس، والعقل هو أرفع الأمور قيمة في مجال النفس، ومن أجله (وحده) يكون كل شيء آخر، (ب25) وتكون بعض الأفعال العقلية حرة حرية كاملة، وهي الأفعال التي تتحقق لذاتها،

62

أما الأفعال العقلية التي تنتج المعارف لأجل أي شيء آخر فهي تشبه الخدم. إن كل ما يتم فعله لذاته يفوق دائما في قيمته ما يكون «فعله» وسيلة لشيء آخر، وكذلك يكون الحر أعلى قدرا من غير الحر. (ب26) ونحن عندما نستعين في سلوكنا بالتفكير

63

فإنما نهتدي بهديه حتى ولو وضع المتفكر مصلحته الخاصة نصب عينيه وحدد أسلوب فعله وسلوكه من خلال وجهة النظر هذه، إنه ليستخدم جسده (عندئذ) كما يستخدم الخادم، بل إنه ليضطر إلى إفساح مجال كبير للصدفة، وهو على العموم يقبل على تلك الأفعال التي يقوم فيها التفكير (العقل) بدور أساسي، حتى لو استلزم الأمر منه في أغلب أعماله أن يستخدم الجسد استخدام الأداة.

64 (ب27) وهكذا نرى أن التفكير المحض الخالص من الهدف أشرف وأقيم من التفكير الذي يكون «مجرد» خادم «يتوسل به» لبلوغ شيء آخر. إن التفكير الخالص يستمد شرفه من ذاته، وحكمة «العقل» هي الشيء الذي يستحق «من الإنسان» أن يسعى لطلبه منه، كما أن الفطنة العملية في الحياة

65

جديرة بالسعي إليها من أجل الفعل (أو السلوك)، وإذن فالخير والشرف ملازمان للتفكير الفلسفي قبل كل شيء آخر، وإن لم يلازما بطبيعة الحال أي نوع من هذا التفكير كيفما اتفق؛ إذ ليس كل تصور بوجه عام مقرونا بالشرف، وإنما نتوقع من تفكير المعلم الحكيم وحده

66 - عندما يتجه هذا التفكير إلى المبدأ السائد في الكون - أن يكون قريبا من الحكمة وأن يكون حكمة بالمعنى الحقيقي.

67 (ب28) إن الإنسان إذا حرم الإدراك الحسي والعقل فقد صار شبيها بالنبات، وإذا حرم العقل وحده تحول إلى حيوان، أما إذا تحرر من غير المعقول

68

وتمسك بالعقل فقد صار شبيها بالإله؛ (ب29) ذلك أن العقل، الذي نتميز به عن سائر الكائنات الحية، لا يتحقق بصورة كاملة

69

إلا في ذلك الشكل «من أشكال» الحياة الذي لا يعترف بالاتفاق (والصدفة)

70

ولا بما هو عديم القيمة، صحيح أن لدى الحيوانات ومضات ضئيلة من الفطنة والعقل، غير أنها لا تتمتع بأدنى نصيب من الحكمة النظرية،

71

فهذه الحكمة لا يوصف بها غير الآلهة ولا تنسب إلا للعقل الإنساني،

72

ومن جهة أخرى يتفوق كثير من الحيوان تفوقا بعيدا على الإنسان في حدة الإحساس وفي الغرائز الطبيعية.

73 (ب30) والحقيقة أن الحياة العقلية هي «الشيء» الوحيد الذي لا يمكن فصله عن الخير، ومن المعترف به بوجه عام أنها متضمنة في تصور الخير، ذلك أن الرجل «النابه» الرفيع القدر الذي يتبع في حياته «طريق» العقل هو الذي لا يقع ضحية للصدفة، بل يعرف أكثر من غيره من الناس كيف يحرر نفسه من «كل» ما يخضع لها، فإذا استطعت أن تهب نفسك دائما لهذه الحياة

74

عن اقتناع كامل أمكنك أن تحيا حياة آمنة مطمئنة. (ب31) نحن جميعا نختار ما يكون في نفس الوقت ميسورا ونافعا،

75

ومن ثم يجب الاعتراف بأن الفلسفة

76

تملك هاتين الصفتين، وأن صعوبة تحصيلها أقل من النفع الذي تتيحه؛ ذلك أننا جميعا نهتم بأسهل «الأمور» وأيسرها، (ب32) ومن السهل إثبات قدرتنا على اكتساب العلم بما هو عادل ومفيد، كذلك على تحصيل المعرفة بالطبيعة وبالموجودات الحقيقية الأخرى.

77 (ب33) إن الأولي والبسيط يكون على الدوام أكثر من الثانوي والمركب،

78

وكذلك يكون الأعلى في سلم الأولويات الطبيعي معروفا أكثر من الأدنى، والمعرفة تنصرف «إلى الاهتمام» بما هو محدد ومنظم من الناحية المنطقية أكثر مما تهتم بضده، كما تنصرف إلى «العلل» والمكونات الأساسية أكثر مما يترتب على هذه «العلل أو المكونات».

79

والأشياء الطيبة تتفوق في تحددها وتنظيمها على الأشياء السيئة

80

على نحو ما يتفوق الإنسان المترفع

81

على الإنسان الوضيع، ومثل هذه الأضداد يتحتم أن تحمل نفس الصفات؛

82

فالأولي يحمل طابع العلة أكثر من الثانوي، فإذا انتفى ذلك فقد انتفى معه ما تلقى عنه وجوده، وهكذا تنتفي الخطوط عندما تنتفي الأعداد، كما تنتفي السطوح بانتفاء الخطوط والأجسام بانتفاء السطوح، وكذلك الأمر مع الكلمة عندما ينتفي المقطع، ومع المقطع عندما ينتفي الحرف. (ب34) ولما كانت النفس أعلى قيمة من الجسد (لأنها بحسب طبيعتها هي المسيطرة)، وكانت توجد فيما يتعلق بالجسد صنعة «بشرية»

83

وعلم، كالطب والرياضة البدنية (اللذين نصفهما بأنهما فرعان من فروع المعرفة ونؤكد أن هناك نفرا من الناس يتقنونهما) فمن الواضح أن الضرورة تقتضي وجود نوع من الرعاية ومن الصنعة التي تتعلق بالنفس وفضيلتها، كما تستلزم أن نكون قادرين على تحصيلهما؛ إذ إننا نملك القدرة على «اكتساب» معرفة بأمور يكون جهلنا بها أكبر كما تكون معرفتنا بها أشق وأصعب، (ب35) ويصدق هذا على معرفة الطبيعة؛ فالتبصر بالعوامل الأساسية

84

في الطبيعة وبأبسط عناصرها يكون منذ البداية أكثر ضرورة من التبصر بما قد نشأ عنها (بصورة ثانوية لاحقة)؛ إذ إن هذا الأخير لا ينتمي للأشياء الأولى من الناحية المبدئية،

85

كما أن الأولي لا يستمد منه وجود، بل إن من الواضح أن سائر الأشياء تنشأ عن ذلك الأولي وعن طريقه توجد. (ب36) ومهما تكن النار والهواء والعدد أو أي «طبائع» أخرى هي العوامل الأساسية،

86

ومهما تكن هي الأولية بالنسبة «للموجودات» الأخرى، فمن المستبعد في كل الأحوال أن نعرف أي شيء عن هذه ما لم نعرف تلك،

87

إذ كيف يتسنى لأحد أن يفهم الكلمات المنطوقة إذا كان لا يعرف المقاطع، أو كيف يمكنه أن يفهم المقاطع إذا كان لا يعرف شيئا عن الحروف؟ (ب37) ليكن هذا هو «صفوة» القول عن وجود علم بالحقيقة

88

وعلم بفضيلة النفس وعن قدرتنا على تحصيلها. (ب38) أما أن هذا «التبصر بالمبادئ» هو أعظم الخيرات وأنه أنفع من كل ما عداه، فلذلك ما سيتضح مما سنقوله بعد، إننا جميعا متفقون «في الرأي» على أن أرفع الرجال خلقا وأشدهم بطبيعته قوة هو الذي ينبغي أن يتولى الحكم،

89

كما أننا متفقون على أن القانون وحده هو الحاكم والسيد، ذلك القانون الذي يعبر منطوقه عن حكمة وبصيرة، (ب39) ومن ذا الذي يمكنه أن يمثل لنا المعيار الدقيق ويكون لنا بمثابة الدليل «الهادي» إلى الخير غير الإنسان الحكيم

90 (في خلقه وسلوكه). إن الأمر الذي يختاره، حين يتم اختياره على أساس من الروية والعلم هو الخير، أما الضد (المخالف له) فهو الشر. (ب40) إن جميع الناس يميلون إلى اختيار ما يلائم طباعهم؛ فالعادل يختار الحياة العادلة، والشجاع حياة الشجاعة، والبصير العاقل حياة التبصر والعقل، ومن هذا يتضح كذلك أن الإنسان الذي وهب ملكة العقل

91

سيختار الفلسفة؛ لأن التفلسف هو مهمة هذه الملكة، ومن هذا الحكم الصادر بأقصى درجة من اليقين يتبين أن ملكة التعقل

92

هي أسمى الخيرات جميعا، (ب41) ويتضح صدق هذه القضية مما سيأتي قوله. إن التأمل والمعرفة جديران بأن يسعى إليهما الإنسان؛ إذ بغيرهما يستحيل على المرء أن يحيا الحياة التي تليق بإنسانيته، ولكنهما كذلك نافعان للحياة العملية، فما من شيء «يمكن أن» يبدو لنا خيرا إن لم تتحقق الغاية منه عن طريق التدبر والنشاط العاقل الحكيم.

93

وسواء أكانت الحياة السعيدة تكمن في البهجة والهناء أم في الفضيلة (والسمو الخلقي) أم في التعقل (وممارسة العقل)، فلا بد للإنسان في كل هذه الأحوال من أن يتفلسف؛ لأننا لا نتوصل إلى الرأي الواضح في كل هذه الأمور إلا عن طريق التفلسف.

94 (ب42) إن من يبحث في كل علم عن نتيجة مختلفة عنه ويتطلب من كل معرفة أن تكون نافعة

95

إنما يجهل تمام الجهل مدى الفارق الأساسي بين ما هو خير وما هو ضروري، وإنه في الواقع لفارق عظيم؛ ذلك أن تلك الأشياء التي نحبها من أجل شيء آخر ولا نستطيع أن نعيش بغيرها، هي الأشياء التي نصفها بأنها ضرورية وعلل مصاحبة، أما «الأشياء» التي نحبها لذاتها، حتى ولو لم ينتج عنها شيء آخر، فهي التي نصفها بأنها خيرات بالمعنى الصحيح لأن الواحد «منها» ليس جديرا بالاختيار من أجل شيء آخر ، وهلم جرا إلى ما لا نهاية؛ إذ لا بد من التوقف في موضع ما، والحق أنه لمن السخرية أن نبحث في كل شيء عن منفعة مختلفة عن الموضوع نفسه، ومن المضحك أن نسأل «فيم ينفعنا هذا؟» و«لأي غرض يمكننا أن نستخدم هذا؟» فالذي يتكلم على هذا النحو لا يمكن بأي حال من الأحوال - كما هي عادتي في القول

96 - أن يشبه بذلك الذي يعرف النبل والخير ويستطيع التفرقة بين العلة والعلة المصاحبة. (ب43) وربما كانت «أفضل وسيلة» لمعرفة حقيقة قولي أن ينقلنا أحد عن طريق الفكر

97

إلى جزر السعداء، هنالك لن نشعر بأننا في حاجة إلى شيء،

98

ولن يتيح لنا أي شيء من الأشياء الأخرى أية منفعة، ولن يتبقى (لنا) إلا شيء واحد هو التفكير والتفلسف،

99

أي هذا الذي نصفه الآن بالحياة الحرة، وإذا صح هذا،

100

فكم يحق للواحد منا أن يخجل من نفسه إذا ما أتيحت له فرصة

101

الإقامة في جزر السعداء، «فأقعده» العجز والتقصير عن اغتنامها؛ ولهذا فإن الجزاء

102

الذي تمنحه المعرفة للإنسان لا يدعو أبدا للاحتقار، كما أن الخير الذي يتمخض عنه غير قليل، وكما أننا نحصد ثمار العدالة في «هاديس»

103 - على نحو ما يقول الحكماء من الشعراء - كذلك يجوز لنا أن نأمل في «حصد» ثمرات الفلسفة من جزر السعداء؛

104 (ب44) ولهذا لا يصح أن نبتئس إذا بدا لنا أن التفلسف غير نافع أو مفيد؛

105

لأننا لا نؤكد أنه مفيد وإنما «نؤكد» أنه خير، وأن ليس على الإنسان أن يختاره من أجل شيء آخر، بل عليه أن يختاره لذاته، وكما أننا نسافر إلى «أوليمبيا» لمشاهدة التمثيل نفسه، حتى ولو لم نحصل منه على مكسب آخر (إذ إن المشاهدة في ذاتها أكبر قيمة من المال الكثير)، وكما أننا لا نتفرج على الاحتفالات المسرحية في الأعياد الديونيزية

106

لكي نأخذ شيئا من الممثلين - فنحن في الواقع ننفق عليها من مالنا - وكما أننا نقدر الكثير من المشاهد التمثيلية الأخرى تقديرا يفوق ثروة وفيرة من المال، فسوف يقدر المرء تأمل الكون تقديرا يفوق (في قيمته) كل تلك الأشياء التي تعد في نظر الرأي العام «أشياء» نافعة.

107

وليس يصح بغير شك أن يبذل الإنسان الكثير من الجهد في السفر إلى أناس يظهرون (على المسرح) في صورة نساء وعبيد، أو يتنافسون (في الألعاب الأوليمبية) على المبارزة والسباق (في العدو)، ثم يذهب من ناحية أخرى إلى أن الإنسان لا ينبغي عليه أن يتأمل طبيعة الأشياء «أو يتأمل» الحقيقة بغير مقابل (مادي). (ب45) وهكذا نكون الآن قد تقدمنا (على طريق بحثنا) من غائية الطبيعة بوصفها المنطلق (الذي نبدأ منه ) للتنبيه إلى «ضرورة» التفلسف، مقتنعين بأن التفلسف خير وأنه إذا أخذ في ذاته جدير بالشرف والتكريم، حتى ولو لم يترتب عليه شيء نافع في الحياة العملية.

108 (ب46) أما أن نشاط الفكر يتيح في الواقع للحياة اليومية (للبشر) أعظم الفائدة، فذلك ما سوف نتبينه بسهولة «من النظر» في المهن والصنائع، إن جميع الأطباء الحاذقين ومعظم معلمي الألعاب الرياضية مجمعون على أن الذي يريد أن يكون طبيبا أو معلما بارعا (للألعاب الرياضية) يتحتم عليه أن يعرف الطبيعة معرفة وثيقة،

109

والأمر كذلك مع المشرعين المبرزين

110

الذين يجب عليهم أن يعرفوا الطبيعة معرفة دقيقة، بل أن تفوق خبرتهم بها خبرة أولئك؛ لأن أولئك يظهرون حذقهم في المهنة بتنمية كفاءة

111

الجسد، أما هؤلاء فينصرفون إلى فضيلة النفس ويسعون لتوجيه الناس

112

إلى السبل المؤدية لسعادة المجتمع أو شقائه؛ ولهذا تزيد حاجتهم إلى الفلسفة. (ب47) وفي المهن اليدوية الأخرى تكتشف أفضل الأدوات عن طريق ملاحظة الطبيعة؛ ففي النجارة مثلا «يكتشف» الفادن

113

والمسطار والأداة التي ترسم بها الدائرة،

114

وفي بعض الأدوات تكون ملاحظة الناء هي النموذج (الذي نحاكيه)، وفي بعضها الآخر «نحتذي» بأشعة الشمس التي تلتقطها، وبمساعدة هذه الأدوات نتثبت مما هو مستقيم ومستو بحيث يلائم الإدراك الحسي بدرجة كافية، وبهذه الطريقة نفسها يتحتم على رجل الدولة

115

أن تكون لديه معايير معينة يستمدها من الطبيعة نفسها ومن الحقيقة ويستعين بها في الحكم على ما هو عادل وجميل ونافع. فكما يمتاز النوع المذكور من الأدوات في الأعمال اليدوية عن كل ما عداه، كذلك يكون هذا المعيار هو أفضل المعايير إذا توفر له أكبر قدر ممكن من التوافق مع الطبيعة. (ب48) ولا سبيل لإنسان لم يهب حياته للفلسفة ولم يعرف الحقيقة أن يتوصل إلى هذا «المعيار».

116

والواقع أن الناس لا يتوصلون في الصنائع (والمهن) الأخرى إلى الأدوات وأدق الحسابات عن طريق المبادئ الأولى، بل يستمدون «معرفتهم بها» من مبادئ من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة مشتقة عنها؛

117

ولهذا يكون علمهم تقريبيا كما يقيمون أحكامهم على الخبرة. إن الفيلسوف وحده هو الذي يحاكي الأشياء الدقيقة نفسها لأنه هو الذي يتأمل الأشياء ذاتها لا الصورة المقلدة لها.

118 (ب49) وكما يمتنع على المهندس الذي لا يستخدم المسطار وما شابهه من الأدوات - بل يعمد ببساطة إلى محاكاة البيوت الأخرى - أن يصبح مهندسا جيدا، كذلك يصعب على من يشرع القوانين للمجتمع أو يباشر العمل السياسي (في الدولة) بمجرد النظر إلى الأعمال الأخرى أو المجتمعات الأخرى ومحاكاتها - كمجتمعات الإسبرطيين والكريتيين - (يصعب عليه) أن يصبح مشرعا جيدا أو رجلا ممتازا؛

119

ذلك لأن محاكاة شيء غير جميل لا يمكن أن تكون جميلة، ولا يمكن أن تصبح محاكاة شيء هو بطبيعته غير إلهي ولا دائم خالدة أو دائمة. إن الفيلسوف وحده من بين العاملين جميعا هو الذي يتصف بثبات قوانينه ونبلها؛ (ب50) ذلك لأنه هو الوحيد الذي يحيا وبصره مثبت على الطبيعة وعلى «كل ما هو» إلهي، إنه يشبه الملاح الجيد الذي يرسي «سفينة» حياته عند ما هو أبدي ودائم، وهناك يلقي مرساته ويحيا سيد نفسه. (ب51) إن هذه المعرفة في ذاتها معرفة نظرية، ولكنها تسمح لنا بتصريف جميع أعمالنا وفقا لها، وكما أن «قوة» الإبصار لا تخلق شيئا أو توجد شيئا؛ لأن مهمتها الوحيدة هي تمييز كل شيء من الأشياء المرئية على حدة وتوضيحه، وإن كانت تمكننا من عمل كل شيء وتساعدنا عند العمل أكبر مساعدة (إذ لولاها لأصبحنا عاجزين كل العجز عن الحركة)؛ فإن من الواضح أيضا أننا نستطيع عن طريق هذه المعرفة، على الرغم من أنها نظرية، تحقيق حد لا يحصى من الأعمال، كما نستعين بها في تقرير الأخذ بشيء أو تجنب شيء آخر، وعلى الجملة فنحن نكتسب عن طريق هذه المعرفة كل ما هو خير. (ب52) من شاء أن يضطلع بمهمة فحص ما قلناه، فيجب عليه أن يتبين بوضوح أن كل ما هو خير للإنسان ونافع للحياة يكمن في الفعل والممارسة لا في مجرد المعرفة بالخير؛ فنحن لا نبقى أصحاء عن طريق معرفتنا بالأشياء التي تفيد صحتنا، بل عن طريق تزويد الجسم بها، ولا نكون أثرياء عن طريق المعرفة «بماهية» الثروة، بل عن طريق اكتساب ثروة كبيرة، والأهم من هذا كله أننا لا نحيا حياة جميلة ونبيلة من خلال معرفتنا ببعض «الحقائق» عن الموجود، بل من خلال عملنا الخير؛

120

لأن هذه هي الحياة السعيدة بحق. يلزم عن هذا أن الفلسفة بدورها - إذا صح ما نقوله من أنها نافعة - إما أن تكون ممارسة للأفعال الطيبة، أو أن تكون مفيدة

121

في القيام بمثل هذه الأفعال. (ب53) وهكذا ينبغي على الإنسان أن لا يهرب من الفلسفة، إن كانت

122 - كما أعتقد - هي اكتساب الحكمة وتطبيقها وكانت الحكمة نفسها من أعظم الخيرات، وإذا كان الإنسان يجشم نفسه عناء السفر إلى أعمدة هرقل ويعرضها للأخطار الكثيرة في سبيل المال، فلماذا لا يشق على نفسه ويتكلف الجهد في سبيل الفلسفة؟

123

الواقع أن من طبع الرجل العادي أن يسعى إلى الحياة لا إلى الحياة الخيرة، وأن يتبع آراء الجمهور بدلا من أن ينتظر منهم الاستجابة لرأيه، وأن يبحث عن المال ولا يكترث على الإطلاق بما هو نبيل. (ب54) يبدو لي الآن أنه قد تمت البرهنة على فائدة الموضوع وأهميته برهنة كافية، أما أن «تحصيل المعرفة الفلسفية» أسهل بكثير من تحصيل أي خير آخر، فذلك أمر يمكن الاقتناع «بصحته» مما يأتي: (ب55) إن أولئك الذين يهبون حياتهم للفلسفة لا يتلقون من الناس أجرا يمكن أن يحفزهم على مثل هذا الجهد، ومهما يبلغ الجهد الذي بذلوه في «تحصيل» مهارات أخرى

124

فإنهم يتمكنون في وقت قصير من إحراز تقدم سريع نحو المعرفة الدقيقة، وهذا في رأيي دليل على سهولة تحصيل المعرفة الفلسفية. (ب56) وثمة حجة أخرى «تقول» إن جميع الناس يأنسون للفلسفة ويريدون عن طيب خاطر أن يتفرغوا لها ويتركوا كل ما عداها، وهذا أيضا دليل لا يستهان به على أن الاشتغال بها متعة، ولو كانت مجرد جهد وعناء لما فكر أحد في أن يشقي نفسه بها وقتا طويلا،

125

أضف إلى هذا أن النشاط الفلسفي ميزة كبيرة عن كل ما عداه من ألوان النشاط فلا يحتاج المرء في ممارسته إلى أي أدوات أو أمكنة خاصة، بل حيثما وجد على الأرض إنسان يهتم «بأن ينصرف» إلى التفكير، فقد وجدت لديه كذلك القدرة على الإمساك

126

بالحقيقة كأنها حاضرة (بين يديه). (ب57) هكذا نكون قد أثبتنا أن في الإمكان أن يهب الإنسان حياته للفلسفة وأنها أعظم الخيرات جميعا، وأن من السهل تحصيلها واكتسابها ولهذه الأسباب تستحق الإقبال عليها بهمة وحماس. (ب58) نأتي الآن إلى السؤال عن المهمة الحقيقية للمعرفة الفلسفية، وعن السبب الذي يجعلنا نسعى إليها، وهذا ما أريد الآن أن أشرحه من وجهة نظر جديدة. (ب59) نحن البشر نتألف من نفس وجسم، جزء منها يسيطر والجزء الآخر يسيطر عليه،

127

أحدهما يستخدم والآخر يوجد وجود الأداة وتطبيق الجزء الذي تتم السيطرة عليه، أي الأداة، يكون دائما على علاقة محددة بالجزء الذي يقوم بالسيطرة والاستخدام. (ب60) في النفس يوجد العقل من ناحية، وهو الذي يسيطر ويسود بحكم طبيعته ويقرر شئوننا،

128

كما يوجد من ناحية أخرى ذلك الذي يخضع (ويطيع) ويقبل السيطرة عليه، ويكون كل شيء في حالة طيبة عندما يحقق كل جزء من أجزاء النفس الفضيلة

129

التي يختص بها بطبعه، وبلوغ هذه الغاية هو الخير. (ب61) ويسود النظام الكامل قبل كل شيء عندما «يتمكن» أفضل جزئي النفس وأكثرهما وأجدرهما بالشرف

130

من تحقيق فضيلته، وكلما كان الشيء بحكم طبيعته أكثر امتيازا وتفوقا تميزت فضيلته الملائمة لطبيعته وازداد تفوقها. وتزداد قيمة الشيء عندما يكون بحسب طبيعته متفوقا في سيادته وقيادته ، كما هي حال الإنسان مثلا بالقياس إلى الحيوانات، كذلك تزيد النفس في قيمتها على الجسد (لأنها أعلى منه درجة في السيادة والسيطرة)، وفي داخل النفس يكون الأعلى هو الذي يملك الفعل وملكة التفكير.

131

ومن هذا النوع ذلك الذي يأمر وينهى ويخبر بما ينبغي عمله أو تجنبه. (ب62) وأيا ما كانت فضيلة هذا الجزء من أجزاء النفس، فلا بد أن يكون الأجدر بالاختيار بالنسبة للجميع على وجه الإجمال وبالنسبة لنا، إذ يصح، فيما أرى، أن نقول: إن هذا الجزء، سواء وحده أو بالدرجة الأولى، هو ذاتنا الحقيقية. (ب63) وفضلا عن هذا لا يصح أن نصف عملا بأنه خير

132

إذا حقق شيء (من الأشياء) مهمته

133

الملائمة لطبيعته على أحسن صورة ممكنة (بحيث لا يتم ذلك بطريقة عرضية، بل من حيث هو في ذاته).

134

والفضيلة التي تمكن الشيء من إنجاز هذا هي التي نصفها بأنها أسمى فضائله، «كما نعتبرها» فضيلته الحقة. (ب64) إن الشيء المركب (من أجزاء) والقابل للتجزئة له أنواع من الفاعلية متعددة ومختلفة، أما ما يكون بسيطا بحكم طبيعته ولا يمكن وجوده في مجرد علاقته بشيء آخر فيلزم بالضرورة أن تكون له فضيلة واحدة تميز ماهيته. (ب65) ولما كان الإنسان

135

كائنا حيا بسيطا وكانت تحدد طبيعته

136

بالفكر والعقل

137

فليست له سوى مهمة واحدة هي بلوغ الحقيقة المتناهية في الدقة، أي المعرفة الحقة بالموجودات. أما إذا كانت له قدرات عديدة تميزه، فإن أقيم فعل «تحققه» هذه القدرات هو الذي يساعده على تحقيق أعظم فعل ممكن؛ فالصحة مثلا هي فعل الطبيب، والسفر المأمون هو فعل ربان السفينة، ولا يسعني أن أصف أقيم أفعال الفكر أو الجزء المفكر من النفس إلا أنه البحث عن الحقيقة. والحقيقة هي أسمى فعل يقوم به هذا الجزء من النفس، (ب66) هذا الفعل يحققه الجزء المفكر عن طريق تحصيل العلم، بحيث يكون تحققه على أفضل وجه كلما ازدادت قيمة العلم، وإن أسمى غاية للعلم لهي المعرفة الفلسفية؛

138

لأنه إذا وجد شيئان وكان أحدهما جديرا بالاختيار بسبب الآخر، فإن الأقيم والأجدر بالاختيار هو الذي بسببه وقع الاختيار على الآخر، على نحو ما يكون الأمر مع اللذة بالنسبة لما ينتج اللذة مع الصحة بالقياس إلى ما يسبب الصحة؛ إذ إننا نقول إن ذلك قد نتج عن هذا. (ب67) وليس ثمة شيء أجدر بالاختيار من البصيرة الفلسفية

139

التي نصفها بأنها هي قدرة أسمى وظائفنا النفسية؛

140

وذلك إذا قارنا بين وظائف النفس المختلفة، لأن الجزء العارف من النفس هو بذاته وحده أو بالاتحاد مع الأجزاء الأخرى أكثر قيمة من بقية النفس مجتمعة، وفضيلته هي العلم؛ (ب68) ولهذا لم تكن أية فضيلة من الفضائل التي يتكلم عنها الناس بوجه عام

141

من فعل البصيرة الفلسفية؛ لأنها أسمى منها جميعا.

142

فالغاية التي يتم بلوغها تكون دائما أعلى شأنا من العلم الذي نبلغها عن طريقه. ومع ذلك فليست كل فضيلة «من فضائل» النفس نتيجة مترتبة على البصيرة الفلسفية، ولا كذلك الحياة السعيدة؛ إذ لو كانت البصيرة الفلسفية

143

فاعلة لأنتجت شيئا آخر مختلفا عنها هي نفسها، على نحو ما ينتج فن البناء بيتا دون أن يكون هو نفسه جزءا من البيت.

144

أما البصيرة الفلسفية فهي على العكس من ذلك جزء من فضيلة «النفس» ومن الحياة السعيدة؛ لأنني أزعم أن الحياة السعيدة إما أن تنشأ عنها أو أنها (أي البصيرة الفلسفية) هي نفسها الحياة السعيدة.

145 (ب69) على أساس هذه الحجة

146

يستحيل على البصيرة الفلسفية أن تكون علما منتجا؛ إذ يتحتم أن تسمو الغاية على الطريق المؤدي إليها، ولكن ليس هناك ما هو أسمى من الحياة الفلسفية، إلا أن يكون أحد الأشياء التي ذكرناها قبل قليل (أي فضيلة النفس والحياة السعيدة)، وليس فعلهما شيئا آخر غير الحياة الفلسفية.

147

وإذن فلا بد من التمسك بأن العلم الذي نتكلم عنه علم نظري؛ لأن من المستحيل أن تكون الغاية منه إنتاجا (أو إنجازا عمليا). (ب70) هكذا تكون المعرفة والنظر الفلسفي

148

هما المهمتان الحقيقيتان للنفس، إنهما لأجدر الأشياء جميعا باختيارنا نحن البشر، حتى يمكن - في رأيي - أن نقارنهما بقوة الإبصار التي تظل خليقة بالتقدير ولو لم ينتج عنها إلا الإبصار نفسه. (ب71) يمكننا أن نثبت هذا على النحو التالي:

149

إذا اتفق لأحد أن يحب شيئا بسبب شيء آخر يكون بمثابة صفة مضافة إليه، فمن الواضح أنه سيزداد حبا لذلك الشيء الذي تتوافر فيه هذه الصفة بدرجة أعلى، فلو أحب إنسان التنزه

150 - على سبيل المثال - لأنه صحي، فسوف يؤثر العدو عليه إذا تبين له أنه أصح منه

151

وكان هو نفسه قادرا عليه، بل لقد كان من المحتمل أن يؤثره لو عرف ذلك من قبل. «وثمة حجة أخرى» فعندما يكون الرأي الصادق

152

شبيها بالمعرفة العلمية (إذ إننا نقر بقيمة الرأي الصادق بقدر ما يكون مضمون الحقيقة الذي ينطوي عليه شبيها بالمعرفة العلمية)، وعندما يتعلق مضمون الحقيقة هذا بوجه خاص بالمعرفة العلمية،

153

عندئذ تصبح المعرفة أجدر بالاختيار من الرأي الصادق. (ب72) وإذا كنا نحب قوة الإبصار لذاتها، فإن هذا دليل كاف على أن الناس جميعا يحبون التفكير والمعرفة إلى أقصى حد ممكن؛

154 (ب73) ذلك لأنهم يحبون الحياة كما يحبون معها التفكير والمعرفة، وليست الحياة (في نظرهم) جديرة بالتكريم إلا بسبب الإدراك الحسي وبالأخص «بسبب» الإبصار، والظاهر أنهم يقدرون هذه الملكة فوق كل حد لأنها في علاقتها بسائر الإدراكات الحسية تكاد أن تكون نوعا من المعرفة،

155 (ب74) بيد أن الحياة تفترق عن عدم الحياة عن طريق الإدراك.

156

ونحن نحدد الحياة «بوجود» الإدراك والقدرة، فإذا انتزعت هذه القدرة لم تعد الحياة تستحق العيش، ويبدو الأمر في هذه الحالة وكأن الحياة - ومعها الإدراك - قد قضي عليها. (ب75) وتتميز قوة

157

الإبصار عن سائر أعضاء الحس؛ لأنها أشدها حدة؛ ولهذا أيضا نقدرها تقديرا يفوق «كل ما عداها». إن كل إدراك هو القدرة على معرفة شيء عن طريق الجسم، كما يدرك السمع الأنغام عن طريق الأذنين؛ (ب76) فإذا كانت الحياة جديرة بالاختيار بسبب الإدراك، وكان الإدراك نوعا من المعرفة، وإذا كنا نفضل الحياة لأن النفس تستطيع أن تتوصل إلى المعرفة عن طريق الإدراك، (ب77) ثم إذا كان الأحق بالاختيار بين شيئين هو دائما - كما قلت منذ قليل - ذلك (الشيء) الذي يتصف بنفس الصفة (المرغوبة). «إذا صح ما سبق» لزم أن يكون الإبصار أجدر الإدراكات الحسية

158

بالاختيار وأشرفها جميعا، وأن تكون المعرفة الفلسفية أولى بالاختيار من هذه الحاسة ومن سائر الإدراكات الحسية، (بل) ومن الحياة نفسها؛ لأنها (أي المعرفة الفلسفية) هي سيدة الحقيقة، وهذا هو السبب «الذي يدفع» الناس جميعا على السعي إلى المعرفة وتفضيلها على أي شيء آخر. (ب78) أما أن أولئك الذين يختارون الحياة العقلية

159

قادرون على أن يعيشوا أهنأ حياة ممكنة، فذلك ما سيتضح مما يأتي بعد. (ب79) يبدو أن من الممكن الكلام عن الحياة بمعنيين؛ «فنحن نتكلم عنها» من جهة القوة كما نتكلم عنها من جهة الفعل، ونحن نصف جميع الكائنات الحية التي لها أعين وولدت قادرة على الإبصار بأنها (كائنات) مبصرة، سواء أغمضت عيونها عرضا أو استخدمت قدرتها على الرؤية وأبصرت شيئا، ويصدق الشيء نفسه على العلم والمعرفة، فنصف أحدهما بأنه الاستخدام والنظر الفعلي

160

ونصف الآخر بأنه امتلاك المقدرة والحصول على العلم. (ب80) إذا كنا نميز الحياة من عدم الحياة على أساس امتلاك القدرة على الإدراك الحسي أو عدم امتلاكها، وكنا نتكلم عن الإدراك بمعنيين؛ بالمعنى اللغوي المعتاد من الاستخدام الفعلي للإدراك، وكذلك بمعنى إمكان الإدراك

161 (ويبدو أن هذا هو السبب في قولنا أن النائم أيضا يدرك)؛ فقد تبين من هذا أننا نتكلم عن الحياة كذلك بمعنيين؛ فنحن نقول عن المستيقظ إنه يحيا بالمعنى الحقيقي والكامل للحياة، ونقول عن النائم إنه حي لأنه يملك القوة على الانتقال إلى النشاط الفعلي

162

الذي يعد علامة على اليقظة وعلى الإدراك الفعلي للأشياء؛ على هذا الأساس وبالنظر إلى هذه التفرقة (بين القوة والفعل) يحق لنا أن نقول إن النائم حي. (ب81) وما دمنا إذن نستخدم نفس الكلمة بمعنيين، هما الفعل من ناحية والانفعال من ناحية أخرى،

163

فسوف نقول: إن الأول يعبر عن المعنى الحقيقي للكلمة أوفى تعبير،

164 «فيعرف» على سبيل المثال تعني أن امرءا يستخدم معرفته أو يمتلكها، «ويرى» تعني أنه يبصر شيئا أو أنه يملك القدرة على الإبصار، وفي الحالين يعبر المعنى الأول عن قيمة أعلى؛ (ب82) فعندما نكون بصدد أشياء تنطبق عليها نفس الكلمة المنطوقة، لا نتكلم عن «الأعلى» بمعنى «الأكثر» فقط، وإنما نتكلم عنه كذلك بمعنى الأولى والأسبق (من الناحية المنطقية).

165

وهكذا نقول على سبيل المثال إن الصحة خير أعلى درجة مما يسبب الصحة، وأن «الشيء» الذي يكون بحكم طبيعته وفي ذاته جديرا بالاختيار هو خير يفوق ذلك «الشيء» الذي ينتج خيرا، بيد أننا نلاحظ أن نفس الكلمة «الخير» تقال على الاثنين معا، وإن كانت لا تقال بنفس المعنى؛ لأننا نطلق صفة الخير على الأشياء النافعة كما نطلقها على الفضيلة؛ (ب83) ولهذا يجوز لنا أن نقول إن المستيقظ يحيا حياة أعلى درجة من «حياة» النائم، وأن الفاعل بنفسه

166 «يحيا كذلك حياة » أعلى درجة ممن يمتلك النفس فحسب. ولو وضعنا الأولوية المنطقية نصب أعيننا لأمكننا أن نقول إن الأخير يحيا لأن الأول حي؛ ذلك أنه في حال تسمح له بأن يعيش حياة الفعل أو الانفعال.

167 (ب84) إن الفاعلية تعني في كل الأحوال ما يلي: إذا توفرت لأحد الناس القدرة على القيام بفعل ومارسه في الواقع، «فإننا نقول عنه إنه فاعل»، وإذا كان يمتلك عددا من القدرات، قلنا إنه فاعل لو قام بممارسة أفضل هذه القدرات وأكبرها قيمة، كأن يقوم عازف الناي مثلا بالعزف على ناي مزدوج، فإذا كان يعزف الناي فهو إما أن يكون فاعلا على وجه الجملة أو فاعلا على درجة عالية (أي يعزف عزفا جميلا)، وكذلك يكون الأمر في حالات أخرى (عندما نستخدم كلمة فاعل). يلزم إذن أن نقول إن من يفعل «الفعل» على وجهه الصحيح إنما يبلغ في فعله أعلى درجة؛ ذلك أن الذي يقوم بممارسة فعل من الأفعال بصورة جميلة ودقيقة إنما يضع هدفا (وهو الخير) نصب عينيه ويؤدي عمله بطريقة طبيعية (أي يفعل ما أملته عليه الطبيعة). (ب85) إن فاعلية النفس، كما سبق أن قلت، تقوم - بصورة تامة أو على نحو التفضيل - على التفكير والتأمل العقلي ؛ ولهذا يسهل علينا أن نرى، كما يسهل على كل إنسان أن يستنتج أن الذي يفكر تفكيرا صحيحا يحيا أقيم حياة، وأن الذي يبذل أقصى جهده من أجل الحقيقة هو الذي يتفرد من دون الناس بأفضل حياة ممكنة.

168

وهذا ما يفعله الإنسان الذي يفكر ويتفلسف على أساس العلم المتناهي في الدقة،

169

وتتوفر الحياة الكاملة لأولئك الذين يمتلكون المعرفة الفلسفية عندما يتفلسفون. (ب86) ولما كانت الحياة عند كل كائن حي مساوية للوجود، فمن الواضح أن الفيلسوف

170

من دون الناس جميعا هو الذي يبلغ أقصى درجات الوجود بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة،

171

وخصوصا عندما يمارس أفعاله ممارسة فلسفية ويوجه فكره إلى أقرب الموجودات إلى المعرفة.

172 (ب87) أضف إلى هذا أن الفاعلية الكاملة التي لا يعوقها عائق تنطوي في ذاتها على الفرح؛ ولهذا كانت الفاعلية الفلسفية

173

أكثر الأفعال بعثا على الفرح، (ب88) بيد أن الفرح تتفاوت علاقته بالفاعلية؛ فالشرب بفرح والإقبال على الشرب بفرح ليس نفس الشيء؛

174

إذ لا شيء يمنع من أن يشرب إنسان دون أن يشعر بالعطش، فيتناول شرابا لا يوفر له متعة، «ولا شيء يمنع» أن يحس مع ذلك بالفرح لا بتناول الشراب بل لأنه يتفق له «عرضا»، أثناء جلوسه في مكان ما، أن يتأمل شيئا أو يكون هو نفسه موضع التأمل، سوف نقول عنه (في هذه الحالة) إنه يشعر بالفرح ويشرب بفرح، ولكن فرحه لا يأتي من الشراب، كما أنه لا يفرح بالشرب، وبنفس الطريقة نصف كذلك المشي، والجلوس والتعلم وكل نوع «من أنواع» الحركة بأنه مفرح أو مؤلم، لا لأننا نشعر عرضا بالفرح أو الألم أثناء قيامنا بهذا الفعل، بل لأننا جميعا نحس عن طريق هذا الفعل نفسه بالفرح أو الألم، (ب89) وكذلك نطلق صفة الفرح على تلك الحياة المفرحة التي يكون حضورها مفرحا بالنسبة لمن يعيشونها، ولا نتكلم عن حياة مفرحة بالنسبة لمن يكون فرحهم بالحياة متعلقا بشيء ما، بل بالنسبة للذين تكون الحياة نفسها مصدر فرحتهم والذين يسعدون بالحياة ذاتها. (ب90) وبالنظر إلى هذه الاعتبارات نقول إن حياة المستيقظ أعلى درجة من حياة النائم وأن العاقل يحيا حياة أعلى درجة من الخالي من العقل، كما نزعم أن الفرح بالحياة يأتي من استخدام الإنسان للنفس؛ ففاعلية النفس هي الحياة الحقة. (ب91) يمكن أن تكون فاعلية النفس على أنحاء مختلفة، ولكن أهمها جميعا هو أن يفكر «الإنسان» أعمق تفكير ممكن؛ فمن الثابت إذن أن الفرح الذي يصدر عن التفكير الفلسفي هو وحده - أو هو على وجه التفضيل - الفرح بالحياة، وهكذا تكون الحياة في فرح، «ويكون» الإحساس الحقيقي بالفرح أمرا يختص به الفلاسفة وحدهم أو يتعلق بهم على وجه التفضيل؛ ذلك أن فاعلية أصدق أفكارنا التي تتغذى على أسمى مبادئ الموجود وتصر دائما على الاحتفاظ بالكمال الملازم لها، هذه الفاعلية هي التي تتفوق على كل ما عداها من ألوان الفاعلية في خلق الفرح بالحياة؛ (ب92) ولهذا ينبغي على العقلاء أن يتفلسفوا لكي يستمتعوا بالأفراح الحقيقية الطيبة.

175 (ب93) «هل الحياة العقلية تجعل الإنسان سعيدا؟» يمكننا أن نصل إلى نفس النتيجة، لا عن طريق النظر في الجزئيات التي تقوم عليها الحياة السعيدة فحسب، بل كذلك عن طريق تعمق المشكلة وتأمل السعادة

176

من حيث هي كل، فلنؤكد بوضوح أنه كما تكون علاقة الحياة العقلية

177

بالسعادة، كذلك تكون علاقتها بنا تبعا لما طبعنا عليه من رفعة أو ضعة؛

178

ذلك أن جميع الناس يجدون أن الشيء الجدير بالاختيار هو الذي يؤدي إلى السعادة أو الذي يكون نتيجة مترتبة عليها، أضف إلى هذا أن الأشياء التي تجعلنا سعداء يكون بعضها ضروريا وبعضها الآخر مفرحا. (ب94) إننا نعرف السعادة إما بأنها ملكة عقلية

179

ونوع من الحكمة، أو بأنها فضيلة «أخلاقية»، أو أعظم قدر ممكن من الفرح، أو بأنها تعني كل هذه الأمور مجتمعة. (ب95) إذا كانت السعادة هي القدرة على التفكير فمن الواضح أن الحياة السعيدة ستكون من نصيب الفلاسفة وحدهم، وإذا كانت هي فضيلة النفس أو هي الحياة الغنية بالفرح، فستكون أيضا من نصيب هؤلاء، سواء اقتصرت عليهم وحدهم أو كانوا أحق بها من الجميع، لكن الفضيلة هي المسيطرة على دخيلتنا،

180

وإذا شئنا أن نقارن شيئا بغيره كانت ملكة التفكير هي أقدر «الأشياء جميعا» على بعث الفرح والسرور، وحتى لو زعم أحد أن كل هذه الأمور تجلب السعادة (في الحياة)، لوجب تعريفها (أي السعادة) بأنها هي القدرة على التفكير؛

181 (ب96) لهذا يجب التفلسف على كل القادرين عليه؛ لأنه إما أن يكون هو الحياة الكاملة نفسها، أو هو - إن شئنا أن نذكر حالة واحدة - أنجح الوسائل التي تقود النفس إليها.

182 (ب97) لعل من المناسب الآن أن نسلط الضوء على موضوعنا بذكر بعض الآراء المعترف بها بوجه عام. (ب98) من الأمور الواضحة للجميع أنه ما من إنسان يمكن أن يختار حياة قد تكون مزودة بأعظم قدر من الثروة والغنى، بينما يكون هو نفسه محروما من القدرة على التفكير ومصابا بالجنون، وهو لن يقدم أيضا على ذلك لو أتيح له أن يتمتع بأروع اللذات في الوقت الذي يعيش فيه كما يعيش بعض المجانين، ولا مراء في أن الناس تفر من البلاهة

183

أكثر مما تفر من أي شيء آخر، ويبدو أن البلاهة مضادة للقدرة على التفكير، والمرء يتجنب أحد هذين الضدين ويختار الآخر؛ (ب99) ذلك أننا حين نتحاشى المرض فإنما نفعل ذلك لأننا نؤثر عليه الصحة، وعلى أساس هذه الحجة يبدو أيضا أن القدرة على التفكير هي أقدر الأشياء جميعا بالاختيار، «مع العلم بأن هذا الاختيار» لا يرجع في الواقع إلى أي نتيجة مترتبة عليها،

184 (وهذا أمر تؤيده شهادة الرأي العام)،

185

فحتى لو امتلك امرؤ كل شيء، وظل مع ذلك مريضا في نفسه المفكرة مرضا لا شفاء منه، فسوف تكون الحياة بالنسبة إليه شيئا غير جدير بالاختيار؛ لأن سائر مزاياه لن تغني كذلك عنه شيئا، (ب100) من أجل هذا يرى جميع الناس - بقدر ما يتصلون بالفلسفة وتواتيهم القدرة على تذوق شيء منها - أن بقية الأشياء «تعد بجانبها» عديمة القيمة، ولهذا السبب لن يحتمل أحد منا أن يبقى حتى نهاية حياته في حال السكر أو في حالة الطفولة؛

186 (ب101) ولهذا السبب نفسه قد يكون النوم في الواقع ممتعا غاية الإمتاع، غير أنه لا يمكن أبدا أن يفضل «على اليقظة»، حتى ولو سلمنا بأن النائم يتنعم بكل اللذات

187

الممكنة؛ ذلك أن التصورات

188 «التي ترد» في النوم كاذبة، أما تصورات اليقظة، فهي على العكس من ذلك صادقة. والحق أن النوم واليقظة لا يختلفان إلا في أن النفس غالبا ما تعرف الحقيقة وهي في «حال» اليقظة، أما في النوم فهي تخدع على الدوام؛ لأن جميع الأحلام إنما هي صور وأوهام.

189 (ب102) وكذلك فإن كون الرجل العادي

190

يهاب الموت تدليلا على رغبة النفس في التعلم والمعرفة، إنها تهرب مما لا تعرفه، من الغامض والمجهول، وتسعى بطبعها إلى الواضح

191

والمعروف؛ ولهذا السبب قبل كل شيء نقول إن أولئك الذين ندين لهم برؤية الشمس والنور هم أجدر الناس منا بالتكريم، وأن علينا أن نشعر نحو الأب والأم بالخشوع (والإجلال)؛ لأنهما السبب «فيما ننعم به» من أعظم الخيرات، إنهما - كما يبدو لي - على معرفتنا بالشيء ورؤيته. ولهذا السبب نفسه نسعد بالموضوعات التي اعتدنا عليها وبالناس الذين ألفناهم ونصف هؤلاء الناس الذي نعرفهم بأنهم أصدقاء.

192

كل هذا يبين بجلاء أننا نحب المعروف والمرئي والواضح، وإذا كنا نحب المعروف والواضح، فنحن بالمثل نحب المعرفة والتفكير. (ب103) وكما أن الأمر من وجهة نظر التملك «يقتضي» أن لا تكون الأشياء التي يحصل عليها الناس لمجرد العيش هي نفس الأشياء التي يحصلون عليها ليعيشوا سعداء، فكذلك الأمر بالنسبة لملكة التفكير. إن التفكير الذي نحتاج إليه لمجرد الحياة ليس - في رأيي - هو نفس التفكير الذي نحتاج إليه للحياة الكاملة،

193

ولا بد أن نلتمس العذر للرجل العادي إذا قصر جهده على الجانب الأول. صحيح أنه يصلي من أجل «الحصول على» السعادة «في الحياة»، ولكنه يشعر بالابتهاج إذا تمكن من مجرد العيش. وإذا وجد إنسان يرفض أن يرضى بالحياة بأي ثمن، فإن من المضحك حقا أن لا يتحمل كل جهد ويشق على نفسه بكل وسيلة لكي يحصل على ملكة التفكير التي تمكنه من معرفة الحقيقة، (ب104) وفي وسعنا أن نعرف نفس الشيء مما سيأتي بعد إذا استطعنا أن ننظر إلى الحياة البشرية نظرة خالصة، عندئذ سنكتشف أن جميع تلك الأشياء التي تبدو للناس عظيمة ليست سوى لعب بالظلال؛ ولهذا يقال أيضا بحق أن الإنسان عدم،

194

وألا شيء يخص الإنسان له ثبات (أو دوام)؛ فالقوة والعظمة والجمال أشياء مضحكة ولا قيمة لها، وهي لا تبدو لنا على هذه الصورة

195

إلا لعجزنا عن رؤية أي شيء رؤية دقيقة. (ب105) ولو استطاع أحد أن يبلغ من حدة البصر مبلغ لينكويس

196 - الذي يروى عنه أنه كان ينفذ ببصره خلال الجدران والأشجار - فهل كان في مقدوره أن يحتمل رؤية رجل «مثل ألكيباديس المحتفى به»

197

إذا رأى معه كل البؤس الذي ركب منه؟ إن الشرف والشهرة،

198

اللذين اعتاد الناس على السعي وراءهما أكثر من أي شيء آخر، يطفحان (في الواقع) بحمق لا يوصف؛ لأن من رأى شيئا من الأمور الأبدية سيجد من السذاجة أن يبذل جهدا في سبيل هذه الأشياء، وأي شأن من شئون الإنسان دائم أو طويل العمر؟ إن ضعفنا وقصر حياتنا هما - في رأيي - اللذان يجعلان هذا الشيء يبدو لنا عظيما، (ب106) لو أخذنا هذا في الاعتبار فمن ذا الذي يملك أن يزعم بأنه سعيد ومبارك؟ من منا نحن الذين نشأنا سواء بحكم الطبيعة منذ البداية (كما يقال عندما يسمح لأحد الناس بالانتماء إلى عبادة الأسرار) وكأن علينا أن نكفر عن ذنب جنيناه؟

199

ألا إنها لحكمة إلهية من القدماء عندما قالوا إن على النفس أن تقدم الكفارة، وإن حياتنا عقاب لنا على ذنوب كبيرة ارتكبناها. (ب107) وإن الصورة التالية لتوضح في رأيي ارتباط النفس بالجسم توضيحا تاما؛ فكما يروى عن الثوريين من أنهم كثيرا ما كانوا يلجئون إلى تعذيب المساجين بربط الأحياء (منهم) بجثث الموتى بحيث يجعلون الوجه في مواجهة الوجه ويقيدون العضو بالعضو، فكذلك يبدو أن النفس منتشرة في الجسد وملتصقة بكل أعضائه الحاسة،

200 (ب108) وإذن فليس عند البشر ما هو إلهي أو مبارك سوى هذا الشيء الواحد الذي يستحق وحده أن يبذلوا الجهد «من أجله»، وأقصد به ما يوجد فينا من العقل وملكة التفكير، ويبدو أنه وحده الخالد، وهو وحده الإلهي من كل ما ينطوي عليه كياننا.

201 (ب109) وإن حياتنا، على الرغم من أنها بطبيعتها شقية ومضنية قد نظمت بفضل قدرتنا على المشاركة في هذه الملكة - تنظيما بلغ من الروعة حدا يجعل الإنسان يبدو إلهيا بالقياس إلى سائر الكائنات الحية؛ (ب110) ذلك أن الشعراء يقولون بحق: «إن العقل هو الإله «الكامن» فينا،

202

كما يقولون إن حياة الإنسان (الغائية) تنطوي على جزء من الإله.» هكذا ينبغي على الإنسان إما أن يتفلسف أو يودع الحياة ويمضي من هنا؛

203

إذ يبدو أن كل ما عدا ذلك إنما هو ثرثرة حمقاء ولغو فارغ.

تعليقات وشروح

(ب2-5) تقوم الفكرة الأساسية في هذه الفقرات من النص على أن سمو الخلق في ظل الفقر أفضل من الجاه والغنى مع الشر والانحطاط، وأن السعادة لا تتوقف على امتلاك الخيرات والمظاهر الخارجية بل على الحالة النفسية الطيبة . وقد انطلق أرسطو من أفكار مشابهة وردت في محاورات أوريثيديموس (278ه/282د) والدفاع (29د ه) والقوانين (661أ ب) لأفلاطون، أما في الفكرة التي ترد في الفقرة (ب3) عن التعساء الذين يقدرون الثروة أكثر مما يقدرون خيرات النفس فيمكن الرجوع فيها إلى جمهورية أفلاطون (7-1، 1323أ 23-35) والأخلاق الأويديمية (8-3، 1248 ب27-37). (ب6) يعتمد النص في هذه الفقرة على عبارة الإسكندر الأفروديسي (في شرحه لطوبيقا أرسطو)، والتي يذكر فيها كلام أرسطو عن ضرورة التفلسف أو عدم ضرورته في كتابه الحالي (البروتريبتيقوس)، أما العبارة المشهورة التي تحدثنا عنها في المقدمة عن ضرورة التفلسف في كل الأحوال فلم ترد في هذا الكتاب بنفس الصيغة المأثورة، وإن كانت الفقرة الأخيرة منه (ب110) تعبر عن معناها تعبيرا واضحا. (ب7-9) يبدو أن «يامبليخوس» تدخل في هذا النص بالاختصار والتعديل الشديدين، ولعل أرسطو كان يعبر في الأصل عن الأفكار التالية التي نقدمها بترتيب الفقرات: (1)

نريد أن نتناول بالبحث دور الفلسفة في الحياة العملية، وخصوصا أهميتها بالنسبة للسياسي أو رجل الدولة. (2)

إن الجسد والأشياء المادية مجرد أدوات، وسوء استخدام هذه الأدوات مضر، وضررها يصيب من يسيء استخدامها أكثر مما يصيب غيره؛ ولهذا ينبغي علينا تحصيل العلم بطريقة استخدام الأدوات، وتشتد ضرورة هذا التحصيل عند السياسي لأنه أحوج الناس إليه. (3)

ربما يكون أرسطو قد تعرض ضمنا لتفرقة أفلاطون الحاسمة بين التفكير والإدراك الحسي. فالموضوعات التي يحققها الفكر هي المثل المتعالية. ولهذا يتحرك الفكر الخالص في عالم آخر هو عالم المعقولات المجردة، ومن هنا يختلف العلم عنده اختلافا حاسما عن الرأي أو الظن ولا يتطابقان بحال. وإذا تتبعنا النزعة الحسية عند أرسطو كما عرضها في كتاباته عن النفس وجدنا أن صور المخيلة هي التي تحقق الملكة الموجودة في العقل بالقوة تحقيقا فعليا، أي أنها تتحقق في العقل الذي يمكن أن يعد في هذه الحالة مرحلة راقية من ملكة التصور والتخيل. بهذا يكون الفرق عنده بين العلم والرأي فرقا في الدرجة فحسب (إذ لا يحتاج العلم أن يكون مختلفا عن مجرد الرأي، بشرط أن يقوم هذا الأخير على أساس متين، قارن الطوبيقا 6-2، 139 ب33، والتحليلات الثانية 1-2، 72 ب3). والملاحظ على كل حال في هذا الموضع وفي الكتاب كله أن أفكار أرسطو تبدأ من التجربة لتنتهي إلى النظر الخالص، وذلك على العكس من أفلاطون الذي يبدأ عادة من النظر - ليصل أو لا يصل - إلى عالم التجربة.

وهذا في الواقع تعبير عن التعارض الأساسي بين تفكير الرجلين ومنهجهما في البحث، أما عن العبارة التي تبدأ بها هذه الفقرات من النص «لما كنا نتوجه بحديثنا إلى أناس من البشر لا إلى أولئك الذين لهم حياة ذات طبيعة إلهية ... إلخ» فهي تذكرنا بعبارة مشابهة لأفلاطون تقول: إن علينا أن نتكلم عن البشر لا عن الآلهة (القوانين 732ه). فهل يحق لنا أن نسأل: أكان أرسطو متأثرا بأفلاطون، أم تأثر أفلاطون بأرسطو؟! (ب10-17) تلمس هذه الفقرات فكرة أرسطو عن «الغائية». وهي الفكرة التي تتوج مذهبه وتطبعه بخاتمها. ولقد هوجمت فلسفته ولا تزال تهاجم بسبب هذه الفكرة، وأدينت ولا تزال تدان بتهمة تعويق تطور العلم الطبيعي الذي لا يبحث ولا ينبغي له أن يبحث عن الغاية، وإنما يدرس أسباب الظواهر وعلاقاتها ببعضها البعض ليصوغها في النهاية في صورة رياضية وإحصائية تمثل قانونا عاما يحتمل التعديل. والحق أن فكرة الغائية عند أرسطو ليست فكرة تأملية مجردة كما يتصور بعض الباحثين، وإنما تقوم على وقائع تجريبية وتلخص عددا من أفكاره الأساسية، والعبارة التالية من «الكون والفساد» (2-10) تمثل رأيه فيها: «إن الكون والفساد دورة خالدة (أزلية أبدية)، ولهذا الاستمرار سبب لا غبار عليه، وأقصد به انتظام الطبيعة (قانونيتها) وأنها تسعى دائما إلى الأفضل.» وتلتقي في الغائية بعض تصوراته الرئيسية: حضور العام أو «الصورة» (الأيدوس)

1

في حياة الطبيعة المبدعة؛ الخشوع والإجلال لدورة السماء ذات النجوم - وهي الدورة التي تخضع لقوانين يستطيع العقل البشري أن يعرفها ويحسبها - الجمال الرائع الذي يتجلى في كل كائن حي ناضج مزدهر، سواء أكان هذا الكائن الحي نباتا أم حيوانا أم إنسانا (مصداقا لقوله في «أجزاء الحيوان»: إن الغاية النهائية التي من أجلها ينشأ شيء أو يكون قد نشأ، هذه الغاية حلت محل الجميل (1-5، 645أ 25))، وأخيرا الحقيقة الثابتة التي تؤكد أنه من بذرة واحدة ينشا فرد من نفس نوع الفرد الذي تولدت عنه تلك البذرة، ومن ثم يلد الإنسان الإنسان، كما تقول عبارته التي يكررها في كثير من كتاباته. والغائية - شأنها شأن أغلب أفكار أرسطو الرئيسية - مستلهمة عن نبع أفلاطون الجياش وإن كانت تأخذ على يديه صورة أخرى مختلفة عن صورتها عند أستاذه (قارن دورة الكون والفساد بالدورة الحيوية كما ترد على لسان ديوتيما في خطبتها المشهورة في محاورة المأدبة). ويعبر كلام أرسطو في الفقرة (ب14) عن نواة فكرته عن الغائية، فإذا كانت الصنعة البشرية - التي تتجه بطبيعتها إلى تحقيق هدف أو غاية - تحاكي الطبيعة، فلا بد أن يكون النظام الطبيعي نفسه غائيا، بل إن الفيلسوف الذي يرتفع فوق العمال اليدويين وأرباب الحرف العاديين يقتبس نماذجه من تأمل «الطبيعة نفسها»، والسمو والرفعة المذكوران في الفقرة (ب16) يبرزان غائية أرسطو في أوضح صورة، فالسامي هنا مرادف للكامل والإلهي (انظر الأخلاق النيقوماخية 1-12). وكل ما أبدعته الطبيعة في رأيه إلهي (أجزاء الحيوان 1-5، 645أ 15-20). أما الحيوانات الدنيا فهي ناقصة أو غير سامية، وربما يرد أرسطو بهذا على كاتب آخر أراد أن يفسر الغاية الطيبة التي تقصد إليها الطبيعة فتصور أن كل الحيوانات ضارة ومؤذية. أما العبارة الأخيرة في (ب17) «إننا نعيش لكي نفكر في شيء ونتعلم.» فهي متفقة مع عبارتين أخريين وردت الأولى أثناء كلامه عن فيثاغورس وتأكيده أن الإله أوجد الإنسان لكي يعرف وينظر (ب20)، وجاءت الثانية في معرض كلامه عن فاعلية النفس وأنها هي التفكير والنظر. (ب18-21) لا تزال هذه الفقرات من النص موضع اختلاف كبير بين العلماء؛ إذ يشك البعض في صحة نسبتها إلى الكتاب الحالي، والعبارتان المنسوبتان إلى فيثاغورس وأنكساجوراس مذكورتان في (الأخلاق الأويديمية 1-5، 1216أ 11)، ويلاحظ من النص أن أرسطو يصف الطبيعة بأنها إلهية ويجعلها في كثير من الأحيان مرادفة للإله (انظر ب50 من النص) ومن المعروف أن إله أرسطو هو المحرك الأول الذي لا يتحرك كما أن «الإلهي» يشمل الطبيعة كلها (انظر كتاب الميتافيزيقا، مقالة اللام 9، 1074أ 38 ب14، وكذلك 7، 1072 ب29) وعبارته المشهورة التي يقول فيها: «إن الإله والطبيعة لا يصنعان شيئا عبثا أو باطلا» (عن السماء 1-4، 271أ 33) تؤكد أن الإله عنده هو الطبيعة نفسها (انظر كذلك المؤلفات المجموع تحت اسم أبقراط، وكذلك مسرحية الطرواديات ليوريبيدز، البيت 886). أما ما يقوله في (ب20) عن نظام الكون أو أي طبيعة أخرى فلعله يشير إلى الطرفين المتقابلين؛ دراسة الطبيعة والبحث فيها على طريقة الفلاسفة الطبيعيين أو الأيونيين وعلى طريقته هو نفسه من ناحية، وتراث البحث الذي يبدأ من ناحية أخرى بالإيليين ويبلغ ذروته في نظرية أفلاطون عن المثل ومبادئ الوجود.

ويرجح الأستاذ «ديرنج» سقوط أجزاء من النص كانت تقع بين الفقرتين 20، 21 وهو أمر يدعو للأسف؛ لأن الفقرة الأخيرة توحي بأن أرسطو كان يمهد لفقرة لم تصل إلينا عن الصلة بين التبصر الخلقي والتبصر النظري، بين استخدام العقل في التفكير لتحقيق الغاية من وجود الإنسان، وواجبه أن يعمل كل شيء من أجل الخير الكامن في نفسه. ولا غرابة في أن نتوقع إضافات مفقودة؛ لأن هذا الجمع بين «النظر والخير» هو أساس التراث المتصل من سقراط وأفلاطون حتى أرسطو الذي تقوم عليه النزعة الإنسانية القديمة بأكملها.

ومع ذلك فالإشارة السابقة كافية لمعرفة موقف المعلم الأول الذي يتردد بوضوح في مواضع أخرى من هذا الكتاب وفي الأخلاق إلى نيقوماخس، ويكفي أيضا لتعزيز هذا الموقف أن نراجع العبارات التالية المتناثرة في تضاعيف الكتاب: «ويشعرون بالخجل من أن وضعهم الحاضر لا يحفزهم على النهوض بما يرونه واجبا عليهم» (ب2)، «نحن جميعا نختار ما يكون في نفس الوقت ميسورا ونافعا، ومن ثم يجب الاعتراف بأن الفلسفة تملك هاتين الصفتين» (ب31)، «ومن ذا الذي يمكنه أن يمثل لنا المعيار الدقيق ويكون لنا بمثابة الدليل الهادي إلى الخير غير الإنسان الحكيم؟ إن اختياره يتم على أساس العلم» (ب39)، «ما من شيء يمكن أن يبدو لنا خيرا إن لم تتحقق الغاية منه عن طريق النشاط العقلي» (ب41) ... «وبهذه الطريقة نفسها يتحتم على السياسي أن تكون لديه معايير معينة يستمدها من الطبيعة نفسها ومن الحقيقة ويستعين بها في الحكم على ما هو عادل» (ب47)، «إن سلوك الفيلسوف وحده هو السلوك (أو الفعل) الصحيح» (ب49)، «وعلى الجملة فنحن نكتسب عن طريق هذه المعرفة كل ما هو خير» (ب51)، «... إن كل ما هو خير للإنسان ونافع للحياة إنما يكمن في الفعل والممارسة لا في مجرد المعرفة (النظرية) بالخير»، «إننا لا نحيا حياة طيبة (جميلة ونبيلة) عن طريق معرفتنا ببعض الحقائق عن الموجود، بل من خلال عملنا الطيب» (ب52)، أضف إلى هذا كله ما يقوله شيشرون: «لقد ولد الإنسان، كما قال أرسطو، لأمرين؛ ليعقل ويعمل، وهو لهذا أشبه بإله فان.» وكل هذه النصوص تؤكد اقتران الفكر بالعمل عند أرسطو، كما تؤكد ما يقوله بعض المحدثين والمعاصرين (ماركس وفيتجنشتين مثلا) من أن التفلسف في صميمه فعل، مهما اختلفوا في مفهوم هذا الفعل، يبقى أن نقول إن أضعف نقطة ينفذ منها الناقد إلى النظرية الغائية هي هذه: فأعلى أشكال المعرفة عند أرسطو هو معرفة الغاية وال «لماذا»، ولكن ما الذي يضمن أن ينصرف المتفلسف «الذي يثبت بصره على الطبيعة نفسها» ويستخدم عقله استخداما صحيحا، ما الذي يضمن أنه سينصرف إلى فعل الخير أو يفكر في القيام به أو يجده إن حاول طلبه؟ ألا يقدم تاريخ العالم القديم والحديث ألف دليل ودليل على أن أبشع الشرور لم تأت إلا من الذين يسمون بالعقلاء ويبلغون من «العلم» درجات ودرجات؟! ألا يزيد العقل من شرور من لا يكون خيرا بطبعه؟! وكيف نفسر نحن العرب نظالم الاستعمار وفظائع الصهيونية ومظاهر العدوان والتعذيب والقهر في أوطاننا وفي عالمنا المعاصر؟! (ب22-30) يبدو أنه لن يمكننا أن نقطع بأن هذه الفقرات مأخوذة عن كتاب أرسطو الأصلي (البروتريبتيقوس)، صحيح أنها تشير إلى بعض الأفكار التي يتناولها أرسطو بالتفصيل في مواضع أخرى من الكتاب ولكنها تتضمن أفكارا ووجهات نظر أخرى لا ترد في الشذرات الباقية منه، ولعل الأرجح أن تكون مقتطفة من كتاب آخر من كتب أرسطو المفقودة، ونستطيع على كل حال أن نقسم نصوص هذه الفقرات إلى ثلاثة أقسام: (1)

فالقسم الأول (من 22 إلى 24) أرسططالي بحت وإن كان يامليخوس قد غير فيه تغييرات طفيفة، والعبارة الأولى في الفقرة (23) تقول: لما كان النظام (أو العقل) يسود الطبيعة كلها ... إلخ، والكلمات الأصلية تفيد أن الطبيعة تملك العقل، وعبارات أرسطو واستعاراته التي يتحدث فيها عن الطبيعة التي تحيا وتعمل الخير وتريده ... إلخ تدل على انتظام سير الأحداث الطبيعية وخضوعها لقانون يحكمها، والملاحظ في هذه الفقرة نفسها أن أرسطو لا يكاد يقدم فكرته عن اتجاه الطبيعة نحو الهدف (ب23) حتى يفاجئنا بكلام جديد عن تقسيم الإنسان إلى نفس وجسد، ثم تقسيم النفس إلى جزء غير عاقل وآخر عاقل يبلغ ذروته في العقل (النوس)، فهل يؤكد هذا أن الناقل قد أسقط أجزاء من كتابه أو أقحم عليه أجزاء أخرى من كتاب لا نعلمه؟ (2)

القسم الثاني (من 24 إلى 28) يقوم على التفرقة المعروفة بين الغاية وبين ما يكون وسيلة لغاية، ويؤكد أن الفعل العقلي الذي يمارس لذاته أعلى قدرا وأكبر شرفا من أي فعل آخر يتوسل به لغاية غريبة عنه، وقد سبق أفلاطون إلى الفكرة نفسها (انظر مثلا محاورة جورجياس 467د) كما وردت عند أرسطو لأول مرة في الجدل أو الطوبيقا (2-3، 110 ب18) قبل أن تصبح حجة يلجأ إليها باستمرار. (3)

والقسم الثالث (من 28 إلى 30) قد أصابه تعديل كبير على يد يامبليخوس، ولعله لم ينقله عن كتاب أرسطو الضائع، بل عن مصدر آخر يرجح الأستاذ «فلاشار» أنه كتاب بنفس العنوان لفرفوريوس (تلميذ أفلوطين وكاتب سيرته)؛ ولهذا نجد في النص تأثيرات رواقية وأفلاطونية محدثة وفيثاغورية جديدة، ومع ذلك لا يمكننا أن نجرد النص تماما من الروح الأفلاطونية والأرسطية؛ فتقسيم وظائف النفس والحياة عموما إلى نامية أو غاذية (نباتية) وحاسة (حيوانية) وناطقة تقسيم أرسطي معروف، والقول بأن العقل (نوس) هو العنصر الإلهي في الإنسان يرد بوضوح في الفقرة الأخيرة من الكتاب الذي بين أيدينا (ب110) كما يعبر عنه في الأخلاق النيقوماخية (المقالة العاشرة، 7، 1177ب و1178أ 8) وكذلك عند أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس (176ب). (ب31-37) يلاحظ أن تعبير الأيسر والأنفع لا يقصد به التقييم الأخلاقي، وإنما يقصد به الأولوية وتقديم المبدئي على الثانوي والأصل على الفرع، وهي حجة يلجأ إليها أفلاطون وأرسطو، والمعنى في (33) واضح: إن العناصر (أو العوامل ) البسيطة أوضح وأقرب إلى المعرفة من الأشكال المتنوعة التي تتجلى بها في عالم الظواهر ونتصور عادة أنها أيسر منها في المعرفة؛ فالحروف البسيطة أسهل في المعرفة من المقاطع ... إلخ، ولهذا يحتل الحرف في سلم الأولويات مكانا أعلى من المقاطع والكلمات لأنه هو الشرط اللازم لوجودها، وتساق الحجة لإثبات أن تحصيل المعرفة الفلسفية ممكن ونافع وميسور، وهو تعبير عن الدعوة إلى التفلسف والحث عليه وتأكيد لصحة نسبته لكتاب أرسطو الذي يشغلنا.

وترد كلمة أيتيا

2 (العلل) في سياق هذه الفقرة خصوصا بعد الكلام عن قيمة التنظيم والتحديد في تيسير المعرفة، وحديث أرسطو عن العلل الأربع المشهورة تحديد لفلسفته عن الغاية وتوجيهه إليها، وهو كذلك تعبير عن تفكيره في أصول المعرفة وترابط الموجودات في نظام على أن «العلة» تجيب على سؤالين، فنحن نجيب على السؤال «عن أي طريق»؟ بذكر السبب أو العلة، مصداقا لقوله في كتاب الطبيعة (2-3، 194 ب19): «ولكننا لا نبلغ المعرفة قبل أن ندرك السبب في كل موضوع.»

أما السؤال: مم يتكون شيء؟ فنجيب عنه بذكر المادة والصورة «فالحروف هي علة المقاطع، والعناصر علة الأجسام»، وتحدد الصورة بذكر «التعريف، والكل أو التركيب والشكل» (الطبيعة، 2-3، 195أ 20)، وكل هذا يدل على أن تعليم الفلسفة في أكاديمية أفلاطون (التي عاش فيها أرسطو كما ذكرنا طالبا ومعلما وقضى فيها ثلث حياته) كانت تلتقي فيه نظرية المعرفة والمنطق ونظرية الوجود (الأنطولوجيا) في نسيج واحد، ويصور لنا أرسطو العلل الأربع المشهورة على هذا النحو: (أ)

ما يتكون عنه الشيء كالتمثال المكون من البرونز. (ب)

الشكل أو النموذج، أي تفسير ما يكون أساسيا بالنسبة للشيء أو لوجوده، وأنا أقصد بذلك النوع أو حدود التعريف (الطبيعة، 2-3، 194 ب26). (ج)

بداية التحول أو الحركة، كالناصح أو الأب بالنسبة للطفل، وبالجملة ما يحدث أثر أو نتيجة فعلية. (د)

الهدف والغاية أو ال «لماذا»، كالصحة بالنسبة للتنزه.

ويلاحظ القارئ أن العلة الثالثة هي وحدها العلة أو السبب بمعناه الحقيقي، أما العلتان الأوليان فهما «مبادئ» الكون والنشوء، وأما الرابعة التي تعبر عن المبدأ والغاية في نفس الوقت فقد شرحها في محاورته «عن الفلسفة»، والمهم أن العلل الأربع كانت عند أرسطو بمثابة أداة للعمل في يد الباحث، أو بمثابة الخطة والمنهج الذي يطبقه على بحوثه المختلفة. وفي نص الفقرة (36) يذكر أرسطو في معرض كلامه عن العلل والعوامل الأولية الهواء والنار (عند الفلاسفة السابقين على سقراط) والعدد (عند الفيثاغوريين) والطبائع أو الموجودات الأخرى (كالمثل عند أفلاطون، وقد ذكرها أيضا في مقالة «الثيتا» من كتاب الميتافيزيقيا 8، 1050 ب34)، وهو بهذا كله إنما يؤكد حجته عن أسبقية المبدأ والأصل على ما يترتب عليه وينتج عنه عن طريق الأمثلة التي يستمدها عادة من التراث الفلسفي السابق عليه. أما كلمة «الطبيعي» فيريد بها الشيء الذي يكون وجوده متفقا مع الطبيعة وملائما لها. (ب38-42) هذه الفقرات موجهة بصفة خاصة إلى معاصره «إيزوقراطيس»

3 (436-338ق.م) الذي انتقد منهج التعليم في الأكاديمية نقدا قاسيا وإن كان مهذبا (انظر مجموعة خطبه المعروفة «أنتيدوزيس» من 84 وكذلك 285) مؤكدا فيها «أهمية المنفعة» في توجيه الشباب، وقد سبق لأفلاطون نفسه في محاورة فايدروس أن وصف منهج إيزوقراط في التربية (دون أن يذكر اسمه) بأنه «تلقين» على حين أن منهجه هو نفسه يقوم على تحويل النفس بكليتها «أي تغيير اتجاهها من الظلام إلى النور، من الظن والتخمين والمعرفة الحسية إلى المعرفة بالمعقولات والمثل ذاتها» (الجمهورية، 518ج، 521ج، 525ج، 532ج). والملاحظ في النص ورود كلمة «الفعل»

4

أو التحقق التي تعبر عن فكرة أساسية في فلسفة أرسطو التي أشرنا مرارا إلى أنها فلسفة فعل (وهو في النهاية فكرة استمدها من أفلاطون)، فغاية الشيء عنده (التيلوس)

5

هي تحقيق فعله الخاص به، وكل شيء في الطبيعة يتجه نحو تحقيق هذا الفعل المتسق المنظم الذي يتعلق بالشيء ويلائم طبيعته. (ب43-45) يغلب الأسلوب البلاغي والخطابي على هذه الفقرات، ولعل الهدف منه هو تصوير الحجة المنطقية الواردة في الفقرة السابقة عليها، ويلاحظ أن أرسطو (في الفقرة 44) يلعب بالمعنيين المفهومين من كلمة النظر (ثيوريا) وهما التأمل الفلسفي من ناحية، ومشاهدة التمثيل والتفرج عليه من ناحية أخرى، وهي إشارة تفيدنا في البحث عن اشتقاق الكلمات والنظر في معانيها الأصلية التي كانت تدل عليها في السياق الاجتماعي والحضاري وحياة الناس العملية والحسية. (ب46-51) هذه الفقرات من النص هي أكثر فقرات الكتاب إثارة للخلاف بين العلماء، وقد استند «ييجر» (في كتابه المشهور عن أرسطو، برلين، 1923، ص91) إلى مثل هذه العبارات «من الطبيعة نفسها، من المبادئ الأولى ذاتها» استند إليها لتأييد رأيه في أن أرسطو يقف في كتابه هذا «البروتريبتيقوس» على أرض النظرية الأفلاطونية المعروفة عن المثل. ولعله قد استوحى نموذج المشرع - الذي يستمد معاييره وقوانينه الثابتة من الطبيعة نفسها والحقيقة من محاورة السياسي لأفلاطون (296ه-297أ)، حيث يتكلم هذا عن المعيار الدقيق لسياسة المدينة وإدارتها ويستخدم استعارة الملاح ، ولعل أرسطو أيضا قد تناول نفس الموضوع في إحدى محاورات شبابه بعنوان «السياسي»، وإن كنا لن نتحقق من ذلك أبدا بسبب ضياع هذه المحاورة التي لم يبق منها سوى شذرات ضئيلة. مهما يكن الأمر فإن أرسطو ينطلق من عبارته المشهورة «الفن محاكاة للطبيعة» ثم يرتقي معها سلم الحجج البلاغية والخطابية؛ فالمشرع أو رجل الدولة والسياسة يختلف عن أرباب المهن والصنائع في أن هؤلاء يحاكون الطبيعة، أما هو فيتلقى نماذجه من الطبيعة نفسها، أي من المشاهدة المباشرة للأحداث الطبيعية. ومن المبادئ الأولى ذاتها، أي من البدايات التي ينطلق منها الفكر، والمبادئ أو البدايات الأولى

6

مصطلح مألوف في لغة أرسطو، حدده في الطوبيقا (1-1، 100 ب18)، كما أن تعبيره «من الحقيقة ذاتها»

7

وارد في كتاب الطبيعة (1-5، 188ب، 29)، وأجزاء الحيوان (1-1، 642أ 19)، و«الخير ذاته»

8

في الأخلاق الأويديمية (1-8، 1218 ب8) ومقالة الألفا من الميتافيزيقيا (4، 945أ 10). إن أرباب المهن وأصحاب الصنائع يقفون عند محاكاة الطبيعة، ويقلدون صورا منها من الدرجة الثانية أو الثالثة (كما تقول جمهورية أفلاطون 599د)، أما الفيلسوف فهو وحده الذي يتأمل الموجود ذاته على حدة (كما يقول أفلاطون في السياسي 476د، 507ب) وهو وحده الذي يحاكي المبادئ الأولى (ب48 من هذا الكتاب).

هل معنى هذا أن أرسطو يحاكي بدوره أفلاطون؟! الواقع أن الأمر على خلاف هذا، فبينما يحاكي الفيلسوف عند أرسطو المبادئ الأولى كما ذكرنا، نجد عند أفلاطون أن السفسطائي - لا الفيلسوف - هو الذي يحاكي الموجودات (السفسطائي 235أ)، وربما استوحى أرسطو عبارته المشهورة «الفن يحاكي الطبيعة» من قول أفلاطون في محاورة السياسي (274د): إن الصنائع التي تخدم الإنسان وتحافظ على بقائه تعمل على غرار الكون كله وتحاكي نموذج النظام السائد فيه. أما الصورة الجميلة التي يعبر بها أرسطو عن المشرع الفيلسوف ويقول فيها «إنه هو وحده الذي يحيا وبصره مثبت على الطبيعة» فقد أخذها عن نص مشهور في محاورة الجمهورية لأفلاطون (500ج د). وأما استعارته الجميلة التي يشبهه فيها بالملاح فقد استمدها كما يرى ييجر (في كتابه المعروف بإيدايا، الجزء الثالث ص24) من الكتابات الطبية في عصره، وهي التي دونت في رأي بعض العلماء حوالي سنة 350ق.م ونقل عنها أرسطو كثيرا من صوره واستعاراته وتشبيهاته. والفقرة الأخيرة (ب51) تشير إلى نظرية أرسطو المعروفة عن أن الإنسان نفسه هو الذي يخلق أعماله، وهو الأصل الذي يتولد عنه سلوكه الخلقي، وغير الخلقي. وهذا دليل على أن مثل هذا السلوك يسبقه الاختيار الحر،

9

كما أن الهدف من الفعل تحدده المعرفة بالخير؛ ولهذا يربط أرسطو بين المعرفة النظرية والأخلاقية في سياق متكامل ويؤكد العمل كما يؤكد النظر في وقت واحد. (ب52-57) الفقرة الأولى مأخوذة من كتاب ليامبليخوس (غير شذرات نصوصه التي تحمل نفس عنوان كتابنا الحالي)، وهو كتابه عن العلم الرياضي بالإجمال، 79 (طبعة ن، فستا، تويبنر 1891) ولهذا يستبعد بعض العلماء (مثل ديرنج وشنيفايس) أن تكون مقتطفة من كتابه الحالي «الحث على الفلسفة» وإن كانا مع ذلك يدمجانها في النص لقربها من لغة أرسطو ومن الفقرة السابقة عليها مباشرة. والملاحظ أن أرسطو يعتمد على حجته عن سهولة التفلسف لتأييد دعوته إليه وحث القارئ عليه، بل إن الكلمات التي يختم بها الفقرة (56) لتشهد على إيمانه القوي بإمكان التوصل إلى الحقيقة ذاتها كما تعبر عن ذلك أيضا بعض كتبه التعليمية (قارن أجزاء الحيوان 1-1، 642أ 18 والطبيعة 1-5، 188 ب29). والغريب حقا أنه يثني على الفلسفة ويؤكد سهولتها بكلمات وحجج ليست سهلة على الإطلاق! (كما ترى مثلا في الفقرتين 55، 103) ويلجأ في هذه الحجج كما أشرنا مرارا إلى أسلوب المبالغة الخطابية الذي كثيرا ما تتصادم فيه الأدلة وتتعارض وتتناقض. (ب58-77) يتردد في هذه الفقرات أكثر من تعبير عن أداء الفعل وعن الواجب وما ينبغي عمله، وكلها أفكار أفلاطونية نجدها في محاورتي جورجياس (503ه) والجمهورية (346ه) حيث يتحدث أفلاطون عن أصحاب الحرف والصنائع الذين يضعون عملهم نصب أعينهم، وتقوم نفس الفكرة بدور كبير في فلسفة أرسطو، ويكفي أن يطبقها على الطبيعة في عبارته المشهورة التي سبق ذكرها أكثر من مرة: إن الطبيعة لا تصنع شيئا عبثا، والموضوع هنا هو العمل الذي يقوم به العقل، ويبدو من بداية النص المفاجئة أنه كان مسبوقا بجزء مفقود، والمهم أن الفقرات (59-61) تنتهي إلى أن العقل هو الجزء المتحكم في النفس، وأنه هو وحده - أو في المقام الأول - ذاتنا الحقيقية، هذا الانسجام بين الانفعال والعقل وبين العاطفة والمنطق، ركن أساسي في الأخلاق الأرسطية. بل إنه (على حد تعبير الأستاذ دير لماير في تعليقه على كتاب الأخلاق الكبرى، دار مشتات وبرلين 1958، ص412-419) هو التحول الكوبرنيقي أو الثورة الكوبرنيقية في فلسفة الأخلاق (نسبة إلى كوبرنيقوس الذي قال بمركزية الشمس؛ وبذلك بدأ التحول التاريخي في النظرة الكونية والحضارية الذي نقل الإنسان من العصر الوسيط إلى عصر النهضة والعصر الحديث)، وسواء أكانت فكرة هذا التجانس ذات أصل أفلاطوني (كما يرى ديرلماير) أم فكرة أرسطية خالصة، فإنها علامة هامة على النزعة الإنسانية في الأخلاق.

وكلام أرسطو عن جزء النفس الذي يحقق فضيلته الخاصة به أو عمله الخاص به (ب60 وكذلك 65، 70) يقوم على الفلسفة التي صاغها أفلاطون في الجمهورية (352أ-353ه)، أما كلامه اللاحق (ب61، 62) عن الارتباط بين فضيلة هذا الجزء العاقل من النفس وبين الشرف والقيمة فهو يعبر عن تفكير أرسطو ووجهة نظره الخاصة التي تؤكد أن الرقي على سلم الغايات ملازم للتصاعد في سلم القيم، وهو أمر لا ينفصل عن فلسفته الغائية بوجه عام، وبقية الكلام الذي يؤكد أن الجزء المذكور هو ذاتنا الحقيقية يأخذ تعبير «الجزء الصغير» من جمهورية أفلاطون (442ج)، ولكنه يترجم بعد ذلك عن أفكار أرسطية أصيلة تجد ما يشبهها في كتاب الميتافيزيقا، مقالة الإيتا (3-1042 ب2)، ومقالة الزيتا (10، 1036أ 17). وهذا الجزء نفسه - وهو الجزء العارف الذي يعد وحده أو مع أجزاء النفس الأخرى أكثر قيمة من بقية النفس مجتمعة - يذكرنا أيضا بمحاورة السياسي لأفلاطون (258-260)، ومع أنه لم يرد في سائر كتابات أرسطو بهذه الصيغة، فهو مرادف عنده للعقل (نوس)، ولما كان النظر عند أرسطو لا ينفصل كما قلنا عن العمل، فإننا نجده يذكر «المعرفة المنتجة» (في الفقرة 69)، وقد كان تقسيمه للمعرفة إلى معرفة نظرية وأخرى عملية مثارا لسوء الفهم الطويل، وربما أوحى أرسطو نفسه بذلك في بعض الأحيان عند حديثه عن المعرفة النظرية حديثا يفهم منه أنها رؤية سلبية، مع أن الحياة الفلسفية في رأيه وبكلماته نفسها «فعل مستمر» (قارن الأخلاق النيقوماخية 10-12047 ب25-32) وليست نوعا من التهدئة أو الراحة من متاعب الحياة؛ فلقد كان أرسطو نفسه رجل عمل، ومن الطبيعي أن يكون العمل شعاره في الحياة، وكلامه عن الحياة النظرية لا يراد به الحياة الموهوبة للتأمل الخالص (كما تصور ييجر وجوتييه في كتاب الأول عن أرسطو وكتاب الثاني عن الأخلاق النيقوماخية - لوفان 1958-1959) وإنما يراد به حياة الدرس والبحث العلمي التي لا تنفصل عن حياة الفعل والعمل، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان هنالك معنى لربطه بعد ذلك بين الحياة الفلسفية التي تتسم بالحكمة والتبصر وبين الفضيلة والسعادة، ولما استطعنا أن نجد في أنفسنا هذا التعاطف الشديد مع الفقرة الختامية من الكتاب.

ويحتمل أن يكون يامبليخوس قد تدخل بالتغيير أو الحذف في الفقرات السبع الأخيرة (من ب70 إلى ب77) التي تعرض حجة متسقة متماسكة، ويلاحظ التقارب الشديد بين الفكرة الواردة في العبارة التي تبدأ مع الفقرة (71) وبين الفكرة التي جاءت في جمهورية أفلاطون (7-1، 1323ب 13-16). ويقارن «ييجر» في كتابه عن أرسطو (ص69) بين الفقرة (72) وبين نص في مقالة الألفا من كتاب الميتافيزيقا (ألفا 1-980أ 21-28) ويقول: إن العبارة المشهورة التي يبدأ بها هذا الكتاب الأخير «إن البشر جميعا يسعون بطبيعتهم إلى المعرفة» تعد صورة مكررة من العبارة «الكلاسيكية» الواردة في هذه الفقرة من «البروتريبتيقوس»، وإذا كانت هذه الملاحظة توحي بأن مقالة الألفا قد كتبت قبل كتابنا هذا فإن الأستاذ «ديرنج» يرجح أن يكون الاثنان قد دونا في نفس الوقت .

وترد في الفقرة (74) عبارة تتكرر بعد ذلك بقليل: «إن الحياة تحدد ب «القدرة» على الإحساس.» ويمكن التوسع بالنظر إلى كتاب أجزاء الحيوان (3-4، 666أ 35). ولعل تعريفه للإحساس في الفقرة التالية (75) بأنه القدرة على معرفة شيء عن طريق الجسم لعله كان تعريفا شائعا في الأكاديمية (قارن الفقرة (ب24) من هذا الكتاب، وكذلك الجمهورية 532أ). أما أن الناس جميعا يسعون في طلب المعرفة ويفضلونها على كل شيء آخر (ب77) فهي عبارة أساسية يدور حولها أرسطو في كتابنا هذا، ولعله قد استوحاها من محاورة أفلاطون «أويثيديموس» (278ج-282ح)، لا سيما أن الحجة هنا وهناك متطابقة (كما أثبت الأستاذ ديالماير في تعليقه على الأخلاق الكبرى 1-3، 1883أ 3-14 ص192). (ب79-87) في هذه الفقرات عرض مبسط ودقيق لنظرية أرسطو المشهورة عن الإمكان والتحقق أو الوجود بالقوة والوجود بالفعل، وقد كان أرسطو أول من استخدم كلمة الفعل «أنيرجايا»

10 (التي لا نجدها في الكتابات الطبية المجموعة تحت اسم أبقراط). ويمكن تتبع هذين المفهومين المتقابلين - اللذين يعبران عن تصور أساسي في تفكير أرسطو - تتبعا يلمس جذورهما في مؤلفات أفلاطون وأرسطو نفسه؛ ففي محاورة أفلاطون «أويثيديموس» نجد كلمتين متقابلتين تفيد إحداهما تحصيل المعرفة أو اكتسابها وتملكها،

11

وتعني الأخرى استخدامها والانتفاع بها.

12

وفي محاورة ثيايتيتوس نجد كلمتين متقاربتين تدلان على التملك والاستعمال (197ب، 199أ) ويرد التصوران السابقان (الحصول والاستخدام أو الملك والاستعمال) لأول مرة في الطوبيقا (5-2، 129 ب34) ثم نجدهما في كتابنا هذا (البروتريبتيقوس أو الدعوة للفلسفة) في الفقرات الآتية: (ب53، 79، 81) كما نجد في الفقرة (83) تنويعا على الكلمة الثانية له أهميته؛ إذ تحل كلمة «الفعل» محل كلمة «الاستخدام»، كما نجد في الفقرة نفسها تشبيه الملك والعمل بالنوم واليقظة على الترتيب، وهي استعارة يتوسع فيها أرسطو في الأخلاق الأويديمية (2-1، 1219أ 9-38). أما التقابل الأساسي بين القوة والفعل فنجده لأول مرة في «الطوبيقا» (4-4، 124أ 32) كما نلتقي به كذلك في كتابنا هذا في الفقرة (79). والواقع أن أرسطو يذكر نظريته الخاصة بالقوة والفعل في كتب الطبيعة (1-8)؛ إذ يقول إن القوة أو الإمكان (الديناميس) هو اللاوجود الذي يمكن أن ينشأ عنه وجود معين هنا والآن، غير أنه لم يتناولها بالتفصيل إلا في مقالة «الثيتا» (من كتاب الميتافيزيقا 6-9) التي تعد متأخرة نسبيا في سياق تطوره الفكري، ومهما يكن الأمر فإننا نراه يعرض أساس نظريته الهامة في الفقرة (81) مبينا أن الفعل أشرف وأعلى قيمة من القوة، وأن الفعل يسمو على الانفعال سمو اليقظة على النوم، وهو يعود إلى تأكيد أفضلية الفعل على القوة في المقالة السابقة من الميتافيزيقا (الثيتا 9، 1051أ 4) حيث يقول إن من الواضح أنه - أي الفعل - أفضل وأشرف من القوة، كما يزيده تأكيدا في كتاب النفس (3-5، 430أ 18)؛ حيث نجد هذه العبارة الحاسمة: «إن الفعل دائما أشرف من الانفعال.»

أما في الفقرتين (ب83-84) فنجد أرسطو يتحدث عن فعل النفس وحياتها، وهو شيء ربما يبدو لنا أشبه بتحصيل الحاصل. ولو تذكرنا ما قاله أفلاطون عن «فاعلية النفس» لاكتشفنا وراءه فلسفة عميقة (الجمهورية 352د-354أ)، ولو نظرنا في بعض كتب أرسطو الأخرى لوجدنا نفس الأفكار تتردد بصورة أو بأخرى (الأخلاق الكبرى 1-4، 1184ب، 22-85أ 1، والأخلاق الأويديمية 2-1، 1219أ 23-35 والأخلاق النيقوماخية 1-7، 1098أ 7-17). وأهم ما يلفت النظر في هاتين الفقرتين وفي سائر أجزاء الكتاب أن فاعلية النفس أو أفضل طريقة لاستخدام أعلى قدراتها هو تأمل الموجودات والنظر الخالص في أصولها ومبادئها؛ لأن هذا في رأي أرسطو (سواء في هذا الكتاب أو في سائر كتبه الأخرى وخصوصا الميتافيزيقا والأخلاق) هو أسمى أنواع الفعل (انظر أيضا الفقرتين ب66، 91)، وهذا يتفق مع فلسفته عن الغاية (التيلوس) أتم اتفاق، أضف إليه أننا نجد التسلسل والتدرج المتصاعد نحو الأعلى والأشرف في عالم التفكير؛ فهناك الفطنة عند بعض الحيوانات الذكية (كالنحل والعناكب وعصافير الجنة)، وهناك القدرة المتزايدة على التفكير عند الطفل والعبد والمرأة، حتى الرجل الحر الناضج الذي يبلغ ذروة التفكير حين يصبح فيلسوفا يطرح المنفعة الأنانية وراء ظهره ويوجه بصره إلى التأمل والبحث الخالص (وهذا هو الجانب النظري) فيغدو أسعد الناس وأفضلهم وأكملهم (وهذا هو الجانب العملي)، ونجد أفكارا مشابهة عن شتى مستويات التفوق الأخلاقي لدى العبيد والأحرار والرعية والحكام في كتاب السياسة (1-13)، وفي نص فقرتنا هذه (ب84) نجد أرسطو يؤكد سلم الأفعال المتدرجة في قيمتها، ثم يبلغ ذروة حجته المسهبة في الفقرة التالية عندما يتكلم عن حياة الحائزين على المعرفة الفلسفية ولا يترك هذه الذروة بعد ذلك أبدا، وليست هذه الذروة العالية غير الحياة الفلسفية التي هي عنده الحياة الحقيقية ومصدر الفرح الحقيقي. ويلاحظ القارئ أنه يجمع الخيوط التي بسطها في الفقرة (ب33) وأحكم نسجها في الفقرات التي نحن بصددها، ثم شدها في نسيج بهيج رائع في الفقرة (ب91) والفقرات الختامية من النص. ولعل شيشرون (في كتابه عن الغايات

13

2-13، 40) قد استلهم كتاب الدعوة للفلسفة وهذه الأجزاء من النص بوجه خاص عندما قال: «وكذا يكون الإنسان - كما قال أرسطو - قد ولد لأمرين هما التعقل والفعل، وكأنما هو أشبه بإله فان.» (ب87-92) تتضمن هذه الفقرات نظرات أرسطية حول اللذة والسعادة يختلف الباحثون في تفسيرها، وهي تقوم في هذا الموضع من النص على الإشادة بالفاعلية التي لا يعوقها عائق ولا تتعلق بشيء ولا بهدف تسعى إليه غير الفعل نفسه، فتكون فاعلية منطوية على الفرح والسعادة أو تكون هي نفسها الفرح والسعادة. والواقع أن الفكرة التي تذهب إلى أن كل ما هو جسمي، كل ما يراه الإنسان ويسمعه، وكل ألم أو لذة إنما يعوق فاعلية الإنسان الحقة التي هي مصدر سعادته، هذه الفكرة ترجع لأفلاطون الذي يعرضها عرضا مؤثرا في محاورة «فايدون» بوجه خاص (65ج-66ج). وربما كان أرسطو - في الفقرة (ب88) التي لا تخلو من غموض - يحاول أن يصف الحياة السعيدة التي لا يعوقها عائق خارجي أو قيد عرضي، وهي في النهاية حياة التفلسف (انظر كذلك الأخلاق النيقوماخية 7-13، 1153أ 15)، ويرى بعض الباحثين أن أرسطو في هذا الكتاب يعادي اللذة، ولكن لو قرأنا نص الفقرات التي نحن بصددها قراءة متأنية ووضعناها كذلك في سياق الكتاب كله لوجدنا أنه يقف في صف اللذة التي يمكن أن نصفها - إن جاز هذا الوصف - بأنها لذة نبيلة، ولا بد لتبرير هذا الرأي من الرجوع إلى الفقرة (ب77) التي تبلغ فيها حجة أرسطو في الدعوة للتفلسف ذروتها؛ إذ يصل به الحماس إلى حد القول بأن المعرفة الفلسفية أولى باختيار الإنسان من حاسة البصر، بل أولى من الحياة نفسها؛ لأنها هي «سيدة الحقيقة» ولا بد من تتبع حجته في هذا الكتاب في سلم القيم؛ فهو يعرض هذا التدرج في سلم الموجودات الطبيعية في الفقرات (ب11-21)، ثم نعرف من الفقرات (ب22 حتى 30) أن النظر الخالص هو أعلى شكل من أشكال التفكير، وبعد أن يثبت أن هذا التفكير هو الشرط الذي لا غنى عنه للفعل الأخلاقي «حتى ولو لم يترتب عليه في الظاهر أية منفعة عملية» (من 58 إلى 69) نجده يؤكده أنه يبعث على الفرح (56، 91)، ويصل أخيرا إلى هدفه وصول القائد المنتصر فيؤكد (في الفقرة 77) أن الناس جميعا تسعى إلى المعرفة وتفضلها على أي شيء آخر. وهنا نلاحظ التقارب الشديد بين صيغة هذه العبارة وبين عبارتين أخريين، وردت أولاهما في الأخلاق النيقوماخية (7-14، 1153 ب30) وهي «أن الجميع يطلبون اللذة»، وذكرت ثانيتهما - كما أسلفنا - في مدخل مقالة «الألفا» من كتاب الميتافيزيقا: «إن البشر جميعا يسعون بطبيعتهم إلى المعرفة.» فهل نستنتج من هذا كله أن لأرسطو رأيا واحدا في اللذة أو السعادة وأنها مساوية عنده للنظر والتأمل الخالص، أم أنه غير وجهة نظره بتغير مراحل تطوره الفكري؟ يبدو أننا لن نستطيع القطع برأي واحد في هذه المسألة، وربما كان أرسطو نفسه هو المسئول عن هذا؛ فهو يناقش مشكلة اللذة كما يناقش مشكلة السعادة من زوايا متعددة، ويقدم - على عادته في استعراض الآراء المختلفة في كل مسألة يبحثها - أجوبة وتفسيرات شتى أتعبت علماء العصور القديمة والحديثة! وقد ذهب «ييجر» إلى أن أرسطو غير رأيه في اللذة بعد موت أفلاطون؛

14

وذلك استنادا إلى اعتقاده بأنه (أي أرسطو) لم يستقل بفلسفته إلا بعد موت أستاذه. بيد أن آراء «ييجر» قد تعرضت للنقد والتعديل من جانب علماء عديدين، ويتفق معظمهم الآن على أن رأي أرسطو في اللذة بقي على ما هو عليه؛ فالنصوص التي بين أيدينا تدل على أنه كان متفقا مع رأي معاصره «أويدوكسوس»

15

في أن اللذة خير إيجابي، وأنه حاول خلال مراحل تطوره التي لا تنكر أن يؤيد قول معاصره هذا بأنها خير طبيعي أو حيوي وأن يلائم بينه وبين نزعته المثالية التي تميل إلى وجود تسلسل أو تدرج في اللذات. ولا ننسى أن كتابنا هذا ليس عرضا منهجيا لطبيعة اللذة، كما أنه يخرج بطبيعته عن التصدي للمشكلات وفحص المعضلات، إنه كما سميناه «دعوة للتفلسف» وهي دعوة ملحة، والدعوات بطبيعتها تنفر من التعقيد وتغري الضيوف والمدعوين بكل سبيل، ولهذا غلب عليه - كما رأينا - الأسلوب البلاغي والخطابي. وربما صح رأي بعض الباحثين في أن المعلم الأول لم يكلف نفسه عناء كتابته، بل أملاه على بعض تلاميذه ارتجالا. ويمكن على كل حال أن نلخص رأيه في اللذة كما عرضه في الفقرات المشار إليها (من 87 إلى 92) على النحو التالي: هناك أشياء مرذولة توصف بأنها لذات ولكن هناك أيضا لذات طيبة وحقيقية، ولهذا تنطوي أكمل أشكال الحياة على اللذة الكاملة؛ فالمستيقظ يحيا حياة تفوق في قيمتها حياة النائم، والمفكر يحيا حياة أكمل من حياة العاطل من التفكير (بسبب تخلفه أو عدم نضجه). والفرح والسعادة اللذان ينبعان من الفكر الفلسفي هما أصدق فرح وأكمل سعادة، ويكفي أن نتأمل العبارة الأخيرة في الفقرة (91) لنرى كيف يتحد كمال الصياغة الفنية واللغوية مع كمال الفرح والسعادة بالحياة! (ب97-103) تعبر الحجة التي يسوقها أرسطو في هذه الفقرات عن طابع تفكيره؛ فقد بدأ بتبرير حجته تبريرا نظريا واتخذ منها برهانا يثبت به ما يقول، وهذه الحجة هي إجماع الناس في كل الشعوب والعصور

16

على وجود الله وعلى طلب السعادة، وهي حجة كانت لها شهرتها في العصور القديمة وعصر آباء الكنيسة، وما زالت معيارا للحقيقة في ميدان فلسفة الدين، ولعلها تكمن وراء الدليل «الأنطولوجي» المشهور منذ القديس «أنسيلم» حتى ديكارت وناقديه، والمهم أن حجة أرسطو تتضمن العناصر الآتية: (أ)

الحياة المفتقرة للقدرة على التفكير حياة لا قيمة لها. (ب)

القدرة على التفكير والتفلسف لا يقاس بها شيء آخر، وكل ما عداها لا يساوي شيئا إذا قورن بها. (ج)

النوم شيء ممتع ومحبب إلى النفس، ولكن من المستحيل تفضيله على اليقظة، أي على الفكر الإيجابي الفعال. (د)

إننا نحب كل ما هو واضح ومضيء؛ ولهذا نحب التفكير والمعرفة. (ه )

وأخيرا فإن القدرة على التفكير والتفلسف شرط ضروري لقيام الحياة السعيدة الكاملة.

ونرى في الفقرة (98) كيف يلجأ أرسطو - كما كان يفعل أستاذه - إلى الحجة التي تقوم على المقابلة بين الأضداد

17 - وقد كان كلاهما يستعين كثيرا بهذا الأسلوب من الحجاج - فيزيد بذلك من الإحكام والدقة اللذين يميزان هذا الكتاب، ويبلغ بعقلانيته أقصى حد ممكن، أما أن معظم حججه - كما أشرنا مرارا - حجج بلاغية وخطابية وبراهين ظاهرية ترد في أغلب الأحوال إلى تحصيل الحاصل، فذلك أمر آخر ...

ترد في الفقرة (101) عبارات تدل على رأي أرسطو القاطع في تكذيب الأحلام واعتبار الرؤى والتخيلات التي تطوف بنا في النوم نوعا من الخداع الذي لا نصيب له من الحقيقة. وإذا كان أفلاطون في مناقشته المشهورة لموضوع الأحلام (الجمهورية 571-572) قد ذهب إلى أن «الرجل الحكيم» يمكن أن يقترب من الحقيقة في أحلامه بحيث لا تبتعد رؤاه وتخيلاته عن الواقع المألوف أدنى بعد، فإن أرسطو ينفي في كتابنا هذا وفي مواضع أخرى من كتبه أن يكون للأحلام أي نصيب من الحقيقة والصدق، وإن كانت تعبر عن نوع من الإدراك أو الإحساس الذي ليس من السهل احتقاره ولا الاقتناع به (كما يقول في مقالته عن النوم 462 ب12 انظر كذلك الميتافيزيقا، مقالة الدلتا 29، وكذلك الفقرة التي نحن بصددها من هذا الكتاب).

أما كلامه في الفقرة التالية عن الهروب من الغامض والمجهول والسعي إلى الواضح والمعروف فلعله أن يكون متأثرا برأي أفلاطون في أن مثال الخير - وهو أسمى المثل وأرفعها قدرا - يفيض النور والوجود والمعرفة على الأشياء الموجودة في عالم الحس (الجمهورية 509أ). وإذا كان الفكر الفلسفي اليوناني يوجد بوجه عام بين النظر العقلي والنظر بالعين، بحيث يمكن القول أن التأمل عنده مقترن بالمشاهدة والرؤية الجمالية (خصوصا عند أفلاطون!) فليس غريبا أن تتردد عند أرسطو وعند غيره من مفكري اليونان صور العقل والنور والبصر (انظر مثلا الخطابة 3-10، 1411 ب12، والطوبيقا 1-17، 108أ 11، والأخلاق النيقوماخية 1-4، 1096 ب29). (ب104-110) يبدو من روح هذه الفقرات الأخيرة والتشاؤم الغالب عليها (والمتأصل في الروح الإغريقية جنبا إلى جنب مع التفاؤل العقلي، وهذا هو وجه المفارقة النادرة فيها!) أنها مستوحاة بوجه خاص من محاورة فايدون لأفلاطون (64أ -70ب) التي تعرض نفس الفكرة تقريبا على النحو التالي: «إن التفلسف معناه تحرير النفس من الجسم،

18

صحيح أن الرجل العادي يرى أن الحياة بغير لذة الحواس لا قيمة لها (65أ) ولكن هذه اللذة عديمة القيمة؛ فالعقل

19

يفكر أوضح تفكير عندما يسعى في طلب الموجود. إن الفيلسوف يتوصل للحكمة

20

والحقيقة عندما يبحث بالفكر الخالص عن الطبيعة الحقة للأشياء، ولكنه لا يستطيع بلوغ المعرفة الصادقة بالوجود الحقيقي طالما بقيت نفسه مطروحة مع جسده السيئ؛

21

لهذا ينبغي علينا أن نسعى إلى تحرير النفس من الجسد (67ج) حتى تتمكن من التركيز على الفاعلية الباطنة، «وتكون» حرة من أغلال الجسد. إنك إذا تأملت عامة الناس وجدت كل سعيهم باطلا، «ولاحظت» أنه في معظم الأحوال نوع من المهادنة لاجتناب شر معين. إنهم يعيشون في قلق دائم ولا يفهمون أن الحكمة وحدها هي العملة الأصيلة التي يمكننا أن نشتري بها فضيلة النفس، وليست الحياة الخالية من الحكمة إلا لعبا أو رسما بالظلال (69ب)، وهي في الواقع حياة الاستعباد.»

والتقارب بين هذا النص وبين عبارات الفقرات التي نحن بصددها أوضح من أن نشير إليه، صحيح أنه تقارب في الشكل أكثر منه في المضمون ولكنه ينطق في الحالين بأن الحياة العاطلة من التبصر والحكمة حياة باطلة لا تستحق أن تسمى حياة، وأن القيم التي يحتفل بها الناس لا تبدو لهم كذلك إلا بسبب ضعفهم الذي يزينها في أعينهم، مع أنها لا تعدو أن تكون ظلالا سخيفة وأشباحا عارية من كل حقيقة. غير أن التقارب الشكلي بين الفيلسوفين لا ينفي عن أرسطو أصالته، فليس ما يقوله مجرد محاكاة لأستاذه، وصوره ليست مجرد ظلال باهتة لذلك الأثر المشهور. ويتضح هذا بوجه خاص إذا تأملنا الاستنتاج الذي يخرج به أرسطو من كلامه المصبوغ بالقتامة؛ فهو في الحقيقة يبتعد عن كلام أفلاطون بقدر ما يقترب من «دفاع» سقراط. إنه ينكر إمكان التوصل إلى المعرفة الحقيقية في هذا العالم، ولا يرجح هذا الإمكان في عالم آخر بعد الموت، وإنما يؤكد أن الحياة بغير تفلسف لا تستحق أن تكون حياة. وإليك عبارات أفلاطون التي توضح الفارق الشديد بينه وبين تلميذه الناضج المستقل برأيه: «إذا كان من المستحيل إذن التوصل إلى المعرفة الحقيقية ما بقيت النفس مرتبطة بالجسد، فليس «أمام الإنسان» إلا أحد أمرين ممكنين؛ إما أن يكون اكتساب المعرفة الحقيقية مستحيلا على الإنسان، وإما أن يكون محتملا بعد الحياة الحاضرة» (فايدون، 66د). لا شك أن الفقرات الأخيرة توحي للوهلة الأولى بتشاؤم أرسطو، مما جعل «ييجر» (أرسطو، أسس تاريخ تطوره، برلين، 1923، 1955، ص100) يقول إنه كان في كتابيه (ويقصد بهما الأخلاق الأويديمية وهذا الكتاب) مفعم النفس بالتشاؤم من هذا العالم الأرضي ومن خيرات الدنيا، وتابعه في ذلك بعض الباحثين الإيطاليين (مثل باريجاتسي وبنيونه وتلاميذه) الذين أسرفوا في تأكيد تشاؤم أرسطو في شبابه ورجولته إلى حد القول بأنه دعا في كتابيه السابقين إلى ترك الأرض التي لا يتاح فيها للإنسان أن يحيا الحياة الحقة! والواقع أن هذا الزعم مبالغ فيه أو مغلوط من أساسه؛ فأرسطو لم يتخل أبدا عن نزعته العقلية المتفائلة، ولا تخلى أبدا عن واقعيته التي تنفذ ببصرها الحاد إلى كل مجالات الواقع في الطبيعة والعقل والحضارة. وإذا كان عقله الأرستقراطي يطل كالنسر من عليائه ويرصد جوانب الضعف والشقاء الإنساني، فما ذلك إلا لأن عين الفيلسوف تنظر إلى الواقع - كما يعبر اسبينوزا - ومن وجهة نظر أبدية أزلية فترى كل ما نتصوره خيرا مجرد مظهر خداع وشبح زائل، وتعرف أن القيم التي نهتم بها في حياتنا اليومية عديمة القيمة. وإذا كان الرجل العادي مثلنا يمر بهذه التجربة في بعض المواقف «الحدية» والأزمات الطارئة، فهل نستكثر على الفيلسوف أن تكون هذه هي تجربته الأصلية؟ وهل يمنع التعاطف مع الشقاء البشري من التفاؤل بقدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة والإيمان بقدرة الإنسان على أن يحيا الحياة الجديرة به؟ لقد كان أرسطو في صميمه إنسانا واقعيا، وهذه الواقعية «اليونانية» هي التي جعلته يرصد ضعف الإنسان ويعرف أن شقاء البشر أمر واضح للعيان (السياسة 2-7، 1207 ب1). وقد كان ضعف الإنسان بالقياس إلى الآلهة موضوعا أثيرا طرقه مفكرو اليونان وكتابهم وشعراؤهم منذ هوميروس حتى عهده؛ ولهذا اقترن به كذلك موضوع آخر ظلوا يعبرون عنه منذ عهد الحكماء السبعة في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وهو ضرورة التزام الحد وتجنب الغطرسة والسعي إلى معرفة النفس، أي معرفة الإنسان بأنه حيوان عاقل فان.

أما أن العقل هو وحده الخالد وأنه هو وحده الإلهي من كل ما ينطوي عليه كياننا، فهي فكرة لم ترد عند أرسطو وحده، وإنما هي قديمة في الفكر اليوناني. نجدها في شذرات باقية من ديوجينيس الأبوللوني (من القرن الخامس قبل الميلاد) (64أ 19) وعند ثيوفراسط

22 (من حوالي 371-370 إلى 288-287ق.م) الذي يقول في كتابه عن الإحساس (42): إن العقل (نوس) هو جزء صغير من الله، كما قال بها أفلاطون في شيء من الحذر (في القوانين 875ج) ووردت عند أرسطو نفسه (في كتابه أجزاء الحيوان 4-10، 686أ 28-29) حيث يقول: إن العقل أو التبصر هو أكثر الأعمال حظا من الألوهية، ومن الطبيعي أن يستخلص أرسطو النتيجة المترتبة على هذا القول فيذهب في الفقرة قبل الأخيرة (109) إلى أن الإنسان يبدو بفضل العقل إلها بالقياس إلى سائر الكائنات الحية. وقد ردد شيشرون هذا القول الأخير كما رأينا من قبل (في رسالته عن الغايات 2، 13، 40) فوصف الإنسان بأنه أشبه بإله فان، وصاغه أبيقور (341-370ق.م) بصورة أخرى حين قال: إن الإله يحيا في الإنسان (وذلك في خطابه إلى مينوكيوس

Ep. ad Men

وهو في الأخلاق واللاهوت ويعارض في بعض أجزائه كتاب أرسطو هذا).

وفي النهاية ترتفع هذه النغمة الرائعة لتتوج اللحن الختامي في الفقرة الأخيرة، فنسمع أن حياة الإنسان الفانية تنطوي على جزء من الإله، وهو قول تتردد فيه عبارة اقتبسها أرسطو - كما اقتبسها غيره - من مسرحية «ميديا» للشاعر المسرحي يوريبيدز (ميديا، البيت رقم 770).

وتأتي العبارة الأخيرة في الكتاب لتعزز إيمان أرسطو بما قاله سقراط في خطبة الدفاع (38أ)، وتؤكد أنه (أي أرسطو) أقرب إلى هذا الحكيم - الذي جرؤ على السؤال

23 - من أفلاطون نفسه «إن الحياة الخالية من التأمل والنظر لحياة لا تليق بالإنسان .» وربما أمكننا أن نضيف: والحياة الخالية من الحرية لا تسمح بتأمل ولا نظر ولا عمل، بل ليست في الحقيقة حياة. (تم بحمد الله وتوفيقه.)

Página desconocida