أما بعد: فكن في سفرك مرتادا، وهيء عدة وزادا، قد خرجت من روح الدنيا، إلى ضيق اللحد وخشونة المتكأ، فتيقظ من نومة الغافلين، وانتبه من وسنة الجاهلين، وانظر بعينك إلى مصارع المغترين، ومضاجع المستكبرين، أليس ديارهم خالية ( وأجسادهم بالية، ومساكنهم مقفرة، وعظامهم نخرة، وعروقهم بالية ) وأيامهم فانية ؟!
أما بعد: فإنك لو رأيت يسير ما بقي من عمرك وأجلك، لزهدت في طول ما ترجو من أملك، ورغبت في الزيادة من عملك، فإنك إنما تلقى غدا في حفرتك، وتخلى في وهدتك، ويتبرأ منك القريب، ويتسلى منك الحبيب، فلا أنت إلى أهلك راجع ، ولا في عملك زايد شارع، فاعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة.
أما بعد: فلا يمل بك الأمل الكاذب، ولاتكن كالشاهد الغائب، فإنك والقوم على بساط واحد، والموت يأتي على كل صادر ووارد، فلا يذهبن قولي عنك صفحا، فإني لم آلك حظا ونصحا، فإن تقبل نصيحتي فأنت بذلك أسعد، وبها أعلى غنيى وأرشد، وعن قليل يأتيك الخبر، فالحذر الحذر، فإنه يأتي أسرع من لمح البصر.
أما بعد: فإن الدنيا بحر عميق، ولنيرانها لهب وحريق، ولطرقها مفاوز ومضيق، فالحذر إذا لبعد مفاوزها ومضيقها، فأعد عدة سير تزحزح به عن لهبها وحريقها، واتخذ سفينة تنجو بها من عميقها، وقرب عليك الأجل لا تخدعنك بآمالها ومكرها، وقد عرفتك نفسها، وأوضحت لك لبسها، فلا تعم وأنت بصير، ولا تأمن وأنت بتحذير، فإن الذي بقي من عمرك قليل، فإما الثواب الجزيل وإما البلاء الطويل، فكن بعملك منتفعا، وللموت متوقعا، فإنك لا تدري على أي حال يأتيك، وفي أي وقت يفاجيك، فعجبا لك يا مكنون الأجل، كيف تغتر بطول الأمل، فابك على نفسك إن كنت باكيا، وتيقظ من غفلتك إن كنت لاهيا .
Página 341