وكذلك التمسك ببعض الدنيا ومقتها، دليل ممن فعله على إكرام الآخرة ومحبتها، وعلى قدر يقين أولياء الله بما عظم من أمر الآخرة وأمورها، زهدوا في الدنيا فاستقلوا جهدهم من متاع غرورها، فتبلغوا إلى الله بالعلق، واكتفوا من نعيمها باللعق، إكبارا لما وجدوه فيها إجلالا لله من السخط، ولما عليه العباد فيها من الإعراض عن أمر الله والفرط، ولما رأوا الباطل يسمو علوا، وحق الله فيها معطلا مجفوا، صحبوا أيام حياتهم بالحرق والزفرات، وهجروا ما أحل الله لهم فيها من الطيبات، وأعرضوا من الدنيا عما أعطاهم، ولم يعطه من أهل الدنيا بتحليله له سواهم، ولم يجعله حلالا فيها إلا لمن اهتدى إلى الله فيه هداهم، وأيقن فيها بالله يقينهم، ودانه في إيثار الحق دينهم، فحقيق بذلك منهم لسخطهم فيها على من أسخط ذا الجلال والإكرام، أولا تعلم أغناك الله أن من أسخط لنفسه الآدميين ليشتغل عن كثير من المطعم والمشرب والكلام، لما هو فيه من الشغل بحرقه وأسفه وسخطه، حتى ربما ذهب سخط بعضهم في ذلك بعقله لفرطه، فكيف بمن سخط وغضب لرب الأرباب ومغاضبه ؟ أليس ذلك أولى بالقليل في تنعمه ومطاعمه ومشاربه ؟ بلى إنه لأولى بذلك، وأحق ممن كان كذلك، ولذلك أزكى عند الله وأرضى، وأوجب في الفرض لو كان من الله فرضا، ولكنه سبحانه لرحمته بالمؤمنين وإحسانه إليهم، ورأفته بهم وتحننه عليهم، جعل ذلك لهم سبحانه تطوعا ونافلة، وفيما بينهم وبينه فضائل لهم كاملة، فقال جل ثناؤه :{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [المائدة: 87]. وقال سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وآله :{ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} [الأعراف: 32]. فجعلها لهم في الدنيا وأخلصها لهم في الآخرة، ولم يجعل معهم فيها حظا للكفرة ولا للفجرة .
Página 352