بسم الله الرحمن الرحيم
(قال) الشيخ الإمام العلامة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن أبى بكر المخزومي رحمه الله تعالى ورضى عنه: الحمد لله الذي شرح صدورنا لسلوك عروض الإسلام، وجعل أفكارنا قافيةً لآثار العلماء الأعلام، تمسكًا من محبتهم بأوثق الأسباب، وتبركا بفضلهم الوافر الذي لا يعقله إلا العالمون أولو الألباب، أحمده حمد من ذللت له الصعاب فنجا من مهالكها، وظفر بكنوزها، ورامت المشكلات أن تتحجب عنه فاطلع على خباياها وكشف له عن رموزها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الذي نهى عما شان، وأمر بما زان، فقال وقوله الحق (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الخليل الأعظم، والسيد الذي لم تنزل مناقبه في أبيات الشرف تحل، وفي أسلاك السؤدد تنظم، الذي أفاض على أهل البسيطة مديد فضله وبسيطه، ونهك المشركين حتى أصبحت دائرة السوء بهم محيطة:
يالهُ من رسولِ حقٍ كريمٍ ... للعدى والهدَى مُبيدٍ مُفيدٍ
إنْ أكنْ بالمديح أشعُر فيه ... فاعترافى بالعجز بيتُ القصيدِ
صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ذوى الشيم التي هي فاعلات لكل جميل وكافلات للظفر من مراقبة الحق بغاية التأميل، الذين أتقنوا تأسيس الدين، وأحسنوا توجيه النفوس إلى مكارم الأخلاق، وقيدوا الأوقات على هذا الصنع الجميل وما جرى مجراه فشكر لهم ذلك التقييد على الإطلاق.
ووالى الصلاة وسلم وشرف ومجد وكرم.
أما بعد، فلا يخفى أن العروض صناعة تقيم لبضاعة الشعر في سوق المحاسن وزنًا، وتجعل تعاطيه بالقسطاس المستقيم سهلًا بعد أن كان حزنا. وقد كنت في زمن الصبا مشغوفا بالنظر إلى محاسن هذا الفن، مولعًا بالتنقير عن مباحثه التي طن على أذنى منها ما طن، أطيل الوقوف بمعاهده، وأتردد إلى بيوت شواهده، وأسبح في بحاره سبحا طويلا، وأجد التعلق بسببه خفيفا، وإن كان الجاهل يراه سببًا ثقيلا، إلى أن ظفرت في أثناء تصفحي لكتب هذا بالقصيدة المقصورة المسماة بالرامزة، نظم الشيخ الإمام البارع ضياء الدين أبى محمد عبد الله بن محمد الخزرجى نور الله ضريحه، وأمد بمدد الرحمة روحه، فوجدتها بديعة المثال بعيدة المنال، ورمت أن أذوق حلاوة فهمها فإذا الناس صيام، وحاولت أن أفترع أبكار نعانيها فإذا هي من المقصورات في الخيام.
وطمعت منها في لين الانقياد فأبدت إباءً وعزا، وسامتها الأفهام أن تفصح عن المراد فأبت أن تكلم الناس إلا رمزًا، فطفقت أطلق النوم لمراجعتها وأنازل السهر لمطالتعها، مع أنى لا أجد شيخا أتطفل بقدرى الحقير على فضله الجليل، ولا أرى خليلًا أشاركه في الفن، وهيهات عدم في هذا الفن الخليل.
ولم أزل على ذلك إلى أن حصلت على حل معقودها، وتحرير نقودها، وسددت سهام البحث إليها، وعطرت المحافل بنفحات الثناء عليها، فقتلتها خبرًا وأحييت لها بين الطلبة ذكرا، وعلقت عليها شرحًا مختصرًا يضرب في هذا الفن بسهم مصيب، ويقسم للطالب من المطلوب أوفى وأوفر نصيب.
ثم قدم علينا بعض طلبة الأندلس بشرح على هذه المقصورة للإمام العلامة قاضي الجماعة بغرناطة، السيد الشريف أبى عبد الله محمد بن أحمد الحسيني السبتى، ﵀ عليه ورضوانه، فإذا هو شرح بديع لم يسبق إليه، ومؤلف نفيس ملأه من بدائع الحل بما يستحليه ذوق الواقف عليه، ووجدته قد سبقني إلى ابتكار ما ظننت أنى أبو عذرته، وتقدمني إلى الاحتكام في كثير مما خلت أنى مالك إمرته، فحمدت الله إذ وفقني لموافقة عالم متقدم، وشكرته على ما أنعم به من ذلك، ولم أكن على ما فات من السبق بمنتدم، لكنني أعرضت عما كنت كتيته، وطرحته في زوايا الإهمال واجتنبته، إلى أن حركت الأقدار عزمي في هذا الوقت إلى كتابة شرح وسيط، فوق الوجيز ودون البسيط، جمعت فيه بين ما سبق إليه من المعنى الشريف، وما سنح بعده للفكر من تالد وطريف، وبعض ما وقفت عليه لأئمة هذا الشآن، متحربًا لمازان متحربًا عما شان، معترفا بعجز الفكر وقصوره، وكلال الذهن وفتوره.
ولما حوى هذا الشرح عيونا من النكت تطيل على خفايا المقصورة غمزها، وتكشف للأفهام حجبها المستورة وتظهر رمزها، سميته (بالعيون الغامزة على خبايا الرامزة) والله أسأل أن ينفع به ويصل أسباب الخير بسببه، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
1 / 1