ـ[عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير]ـ
المؤلف: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، ابن سيد الناس، اليعمري الربعي، أبو الفتح، فتح الدين (المتوفى: ٧٣٤هـ)
تعليق: إبراهيم محمد رمضان
الناشر: دار القلم - بيروت
الطبعة: الأولى، ١٤١٤/١٩٩٣.
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Página desconocida
[المجلد الاول]
ترجمة المؤلف ٦٧١ هـ- ٧٣٤ هـ-
اسمه ونسبه:
هو فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يحيى بن سيد الناس الشافعي الإمام الحافظ اليعمري الأندلسي الأشبيلي المصري.
المعروف بابن سيد الناس.
ولادته:
ولد بالقاهرة في ذي القعدة- وقيل في ذي الحجة- سنة إحدى وسبعين وستمائة.
علومه وسيرته:
سمع من الجم الغفير، وتفقه على مذهب الشافعي، وأخذ علم الحديث عن والده وابن دقيق العبد ولازمه سنين كثيرة، وتخرج عليه، وقرا عليه أصول الفقه، وقرأ النحو على ابن النحاس.
حياته:
ولي دار الحديث بجامع الصالح، وخطب بجامع الخندق.
مصنفاته:
صنف كتبا نفسية منها: السيرة الكبرى، سماها عيون الأثر في مجلدين- وهو كتابه هذا- واختصره في كراريس وسماه (نور العيون) وشرح قطعة من كتاب الترمذي إلى كتاب الصلاة في مجلدين، وصنف في منع بيع أمهات الأولاد مجلدا ضخما
1 / 5
يدل على علم كثير، وذكره في معجمه المختص قال: أحد أئمة هذا الشأن، كتب بخطه المليح كثيرا، وخرج وصنف وصحح وعلل وفرع وأصل، وقال الشعر البديع، وكان حلو النادرة حسن المحاضرة، جالسته وسمعت قراءته وأجاز لي مروياته، عليه مآخذ في دينه وهديه فالله يصلحه وإيانا.
قال ابن كثير: اشتغل بالعلم فبرع وساد أقرانه في علوم شتى من الحديث والفقه والنحو وعلوم السير والتاريخ وغير ذلك، وقد جمع سيرة حسنة في مجلدين، وقد حرر وحبر وأفاد، ولم يسلم عن بعض الانتقاد، وله الشعر والنثر الفائق، وحسن التصنيف والترصيف والتعبير وجودة البديهة وحسن الطوية والعقيدة السلفية والاقتداء بالأحاديث النبوية، وتذكر عنه شؤون أخر، الله يتولاه فيها. ولم يكن بمصر في مجموعه مثله في حفظ الأسانيد والمتون والعلل والفقه والملح والأشعار والحكايات.
قال صاحب البدر السافر: وخالط أهل السفه وشراب المدام، فوقع في الملام ورشق بسهام الكلام، والناس معادن، والقرين يكرم ويهين باعتبار المقارن. قال:
ولم يخلف بعده في القاهرة ومصر من يقوم بفنونه مقامه، ولا من يبلغ في ذلك مرامه، أعقبه الله السلامة في دار الإقامة.
قال ابن ناصر الدين: كان إماما حافظا عجيبا مصنفا بارعا شاعرا أريبا، دخل عليه واحد من الأخوان يوم السبت حادي عشر شعبان، فقام لدخوله من قامته، فلقف ثلاث لقفات ومات من ساعته ودفن عند ابن أبي جمرة رحمهما الله.
وكانت وفاته سنة أربع وثلاثين وسبعمائة للهجرة.
1 / 6
تقديم
الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستهديه واستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا فضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، من بعثه الله رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الهداة المهديين.
أما بعد:
فإن بعثة النبي الكريم كان لها الأثر الجلي الواضح في تغيير مسار التاريخ، فنقلت البشرية من البؤس والجهل، إلى رحاب السعادة والعلم، فأنقذ الله ﷿ ببعثته ﷺ الناس من الظلام إلى النور، وسار بهم إلى رضوان الله ﷿، فمن اقتدى بهديه فقد أفلح ورشد، ومن ابتعد عن سبيله فقد ضل وغوى.
وإن هذا الكتاب القيم لابن سيد الناس، هو من الكتب المعتبرة الجامعة لفوائد السير، ابلى فيه الإمام أبي الفتح محمد بن محمد المعروف بفتح الدين ابن سيد الناس الأندلسي البلاء الحسن، فابتعد عن الإطالة المملة، أو الاختصار الذي يذهب بالفائدة، فجمع ﵁ المتفرقات، وسلك ما اقتضاه التاريخ من ذكر الوقائع مرتبة واحدة بعد أخرى. فكان معتدلا وسطا بين كتب السير، فجزى الله مصنفه خير الجزاء، وأسكنه فسيح الرضوان.
وبعد:
فإننا إذا نقدم هذا الكتاب النفيس إلى القارئ الكريم، في حلته هذه، نود
1 / 7
الإشارة إلى أننا عملنا على ضبط المؤلف بالعودة إلى المراجع التي استقى منها أخباره، وشرحنا ما اقتضى شرحه من كلمات. وعلقنا على الأخبار التي تقتضي التعليق، آملين أن نكون قد ساهمنا في إبراز هذا الكتاب القيم، وتقديمه للقارئ الكريم بمتناول سهل. وأخيرا لا بد لنا من الإشارة إلى ما بذلته دار القلم في بيروت لصاحبها ومديرها الأستاذ أحمد أكرم الطباع الذي بذل جهده المستطاع في سبيل إخراج هذا الكتاب بشكله النهائي.
نسأل المولى تعالى أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يجعل عملنا خالصا له وحده، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
الراجي عفو ربه الشيخ إبراهيم محمد رمضان دار الفتوى- بيروت
1 / 8
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله محلى محاسن السنة المحمدية بدرر أخبارها، ومجلي ميامن السيرة النبوية عن غرر آثارها، ومؤيد من اقتبس نور هدايته من مشكاة أنوارها، ومسدد من التمس عن حمايته من أزرق سنانها [١] وأبي بتارها، ومسهل طريق الجنة لمن اتبع مستقيم صراطها، واهتدى بضياء منارها، ومذلل سبيل الهداية لمن اقتفى سرائر سيرها وسير أسرارها ... أحمده على ما أولى من نعم قعد لسان الشكر عن القيام بمقدارها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغنا من ميادين القبول غاية مضمارها، وتسوغنا من مشارع الرحمة أصفى مواردها، وأعذب أنهارها.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ابتعثه وقد طمت بحار الكفر بتيارها [٢]، وطغت شياطين الضلال بعنادها وإصرارها، وعتت طائفة الأوثان وعبدة الأصنام على خالقها وجبارها، فقام بأمره حتى تجلت غياهب [٣] ظلمها عن سنا أبدارها، وجاهد في الله حق جهاده حتى أسفر ليل جهلها عن صباح نهارها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازت نفوسهم الأبية من مراضيه غاية أوطارها [٤]، وفازت من سماع مقاله ورواية أحواله ورؤية جلاله بملء مسامعها وأفواهها وأبصارها، وسلم تسليما كثيرا.
_________
[(١)] السنان: نصل الرمح.
[(٢)] يقال: طما الشيء طموا أي ارتفع، ويقال: طما الماء أي ارتفع وملأ النهر.
[(٣)] الغيهب: الظلمة.
[(٤)] الوطر: الحاجة فيها مأرب وهمة، وجمعها: أوطار، يقال: قضى منه وطره أي نال منه بغيته.
1 / 9
وبعد:
فلما وقفت على ما جمعه الناس قديما وحديثا، من المجاميع في سير النبي ﷺ ومغازيه وأيامه، إلى غير ذلك مما يتصل به، لم أر إلا مطيلا مملا، أو مقصرا بأكثر المقاصد مخلا، والمطيل إما معتن بالأسماء والأنساب والأشعار والآداب، أو آخر يأخذ كل مأخذ في جمع الطرق والروايات، ويصرف إلى ذلك ما تصل إليه القدرة من العنايات، والمقصر لا يعدو المنهج الواحد، ومع ذلك فلا بد وأن يترك كثيرا مما فيه من الفوائد، وإن كانوا ﵏ هم القدوة في ذلك، ومما جمعوه يستمد من أراد ما هنالك، فليس لي في هذه المجموع إلا حسن الإختيار من كلامهم، والتبرك بالدخول في نظامهم، غير أن التصنيف يكون في عشرة أنواع كما ذكره بعض العلماء، فأحدها جمع المتفرقات، وهو ما نحن فيه، فإني أرجو أن الناظر في كتابي هذا لا يجد ما ضمنته إياه في مكان ولا مكانين ولا ثلاثة ولا أكثر من ذلك، إلا بزيادة كثيرة تتعب القاصد، وتتعذر بها على أكثر الناس المقاصد، فاقتضى ذلك أن جمعت هذه الأوراق، وضمنتها كثيرا مما انتهى إليّ من نسب سَيِّدُنَا وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ومولده، ورضاعه، وفصاله [١]، وإقامته في بني سعد، وما عرض له هنالك من شق الصدر وغيره، ومنشأه، وكفالة عبد المطلب جده إياه إلى أن مات، وانتقاله إلى كفالة عمه أبي طالب بعد ذلك، وسفره إلى الشام، ورجوعه منه، وما وقع له في ذلك السفر من إظلال الغمامة إياه، وأخبار الكهان والرهبان عن نبوته، وتزويجه خديجة ﵍، ومبدأ البعث والنبوة، ونزول الوحي، وذكر قوم من السابقين الأولين في الدخول في الإسلام، وما كان من الهجرتين إلى أرض الحبشة، وانشقاق القمر، وما عرض له بمكة من الحصار بالشعب، وأمر الصحيفة، وخروجه إلى الطائف، ورجوعه بعد ذلك إلى مكة، وذكر العقبة، وبدء إسلام الأنصار، والإسراء والمعراج، وفرض الصلاة، وأخبار الهجرة إلى المدينة، ودخوله ﵇ المدينة ونزوله حيث نزل، وبناء المسجد، واتخاذ المنبر، وحنين الجذع، ومغازيه وسيره وبعوثه، وما نزل من الوحي في ذلك، وعمره، وكتبه إلى الملوك، وإسلام الوفود، وحجة الوداع، ووفاته ﷺ، وغير ذلك، ثم أتبعت ذلك بذكر أعمامه وعماته، وأزواجه وأولاده، وحليته
_________
[(١)] الفصال: فطام المولود، قال ﷿: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا.
1 / 10
وشمائله، وعبيده وإمائه ومواليه، وخيله وسلاحه، وما يتصل بذلك مما ذكره العلماء في ذلك على سبيل الاختصار والإيجاز، سالكا في ذلك ما اقتضاه التاريخ من إيراد واقعة بعد أخرى، لا ما اقتضاه الترتيب من ضم الشيء إلى شكله ومثله، حاشا ذكر أزواجه وأولاده ﵇، فإني لم أسق ذكرهم على ما اقتضاه التاريخ، بل دخل ذلك كله فيما اتبعت به باب المغازي والسير، من باب الحلي والشمائل، ولم أستثن من ذلك إلا ذكر تزويجه ﵇ خديجة ﵍ بما وقع في أمرها من أعلام النبوة.
وقد أتحفت الناظر في هذا الكتاب من طرف الأشعار بما يقف الإختيار عنده، ومن نتف الأنساب بما لا يعدو التعريف حده، ومن عوالي الأسانيد بما يستعذب الناهل ورده، ويستنجح الناقل قصده، وأرحته من الإطالة بتكرار ما يتكرر منها، وذلك أني عمدت إلى ما يتكرر النقل منه من كتب الأحاديث والسنن والمصنفات، على الأبواب والمسانيد وكتب المغازي والسير، وغير ذلك مما يتكرر ذكره، فأذكر ما أذكره من ذلك بأسانيدهم إلى منتهى ما في مواضعه، وأذكر أسانيدي إلى مصنفي تلك الكتب في مكان واحد عند انتهاء الغرض من هذا المجموع، وأما ما لا يتكرر النقل منه إلا قليلا، أو ما لا يتكرر منه نقل، فما حصل من الفوائد الملتقطة، والأجزاء المتفرقة، فإني أذكر تلك الأسانيد عند ذكر ما أورده بها، ليحصل بذلك الغرض من الاختصار، وذكر الأسانيد مع عدم التكرار، فأما الأنساب فمن ذكرته استوعبت نسبه إلى أن يصل إلى فخذه أو بطنه المشهور، أو أبعد من ذلك من شعبه أو قبيلته، بحسب ما يقتضيه الحال إن وجدته، فإن تكرر ذكره لم أرفع في نسبه، واكتفيت بما سلف من ذلك، غير أني أنبه على المكان الذي سبق فيه نسبه مرفوعا بعلامة أرسمها بالحمرة، فمن ذكر في السابقين الأولين أعلمت له (٣) وللمهاجرين الأولين إلى أرض الحبشة (ها) وللثانية (هب) ولمهاجرة المدينة (هـ-) ولأهل العقبة الأولى (عا) والثانية (عب) وللمذكورين في النقباء (ق) ولأهل العقبة الثالثة (عج) وللبدريين (ب) ولأهل أحد (أ) .
وعمدتنا فيما نورده من ذلك على محمد بن إسحق إذ هو العمدة في هذا الباب لنا ولغيرنا، غير أني قد أجد الخبر عند مرسلا، وهو عند غيره مسندا، فأذكره من حيث هو مسند، ترجيحا لمحل الإسناد. وإن كانت في مرسل ابن إسحق زيادة أتبعته بها
1 / 11
ولم أتتبع إسناد مراسيله، وإنما كتبت ذلك بحسب ما وقع لي، وكثيرا ما أنقل عن الواقدي من طريق محمد بن سعد وغيره أخبارا، ولعل كثيرا منها لا يوجد عند غيره، فإلى محمد بن عمر انتهى علم ذلك أيضا في زمانه، وإن كان وقع لأهل العلم كلام في محمد بن إسحق، وكلام في محمد بن عمر الواقدي أشد منه، فسنذكر نبذة مما انتهى إليّ من الكلام فيهما جرحا وتعديلا، فإذا انتهى ما أنقله من ذلك أخذت في الأجوبة عن الجرح فصلا فصلا، بحسب ما يقتضيه النظر ويؤدي إليه الاجتهاد، والله الموفق.
فأما ابن إسحق فهو: محمد بن إسحق بن يسار بن خيار، ويقال: ابن يسار بن كوثان المديني، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله رأى أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، وسمع القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وأبان بن عثمان بن عفان، ومحمد بن علي بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ونافعا مولى ابن عمر، والزهري وغيرهم، وحدث عنه أئمة العلماء، منهم: يحيى بن سعيد الأنصاري، وسفيان الثوري، وابن جريج، وشعبة، والحمادان، وإبراهيم بن سعد، وشريك بن عبد الله النخعي، وسفيان بن عيينة ومن بعدهم.
ذكر ابن المديني عن سفيان بن عيينة أنه سمع ابن شهاب يقول: لا يزال بالمدينة علم ما بقي هذا (يعني ابن إسحق) . وروى ابن أبي ذئب عن الزهري أنه رآه مقبلا فقال: لا يزال بالحجاز علم كثير ما بقي هذا الأحول بين أظهرهم، وقال ابن علية: سمعت شعبة يقول: محمد بن إسحق صدوق في الحديث، من رواية يونس بن بكير عن شعبة: محمد بن إسحق أمير المحدثين، وقيل: لم؟ قال: لحفظه.
وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا ابن المنذر عن ابن عيينة أنه قال: ما يقول أصحابك في محمد بن إسحق؟ قال: قلت: يقولون أنه كذاب، قال: لا تقل ذلك، قال ابن المديني: سمعت سفيان بن عيينة سئل عن محمد بن إسحق، فقيل له: ولم يرو أهل المدينة عنه؟ قال: جالسته منذ بضع وسبعين سنة، وما يتهمه أحد من أهل المدينة، ولا يقولون فيه شيئا، وسئل أبو زرعة عنه فقال: من تكلم في محمد بن إسحق! هو صدوق. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن المديني: مدار حديث
1 / 12
رسول الله ﷺ على ستة، فذكرهم ثم قال: وصار علم الستة عند اثني عشر أحدهم ابن إسحق. وسئل ابن شهاب عن المغازي فقال: هذا أعلم الناس بها (يعني ابن إسحق) .
وقال الشافعي: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحق، وقال أحمد بن زهير: سألت يحيى بن معين عنه فقال: قال عاصم بن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما عاش محمد بن إسحق، وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف قال: سمعت أبا معاوية يقول: كان ابن إسحق من أحفظ الناس، فكان إذا كان عند الرجل خمسة أحاديث أو أكثر جاء فأستودعها محمد بن إسحق، فقال:
أحفظها عليّ، فإن نسيتها كنت قد حفظتها على.
وروى الخطيب بإسناد له إلى ابن نفيل: ثنا عبد الله بن فائد قال: كنا إذا جلسنا إلى محمد بن إسحق فأخذ في فن من العلم قضى مجلسه في ذلك الفن. وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري: محمد بن إسحق قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، منهم: سفيان، وشعبة، وابن عيينة، والحمادان، وابن المبارك، وإبراهيم بن سعد، وروى عنه من الأكابر: يزيد بن أبي حبيب.
وقد اختبره أهل الحديث فرأوا صدقا وخيرا مع محمدة ابن شهاب له. وقد ذاكرت دحيما قول مالك (يعني فيه) فرأى أن ذلك ليس للحديث، إنّما هو لأنه اتهمه بالقدر، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: الناس يشتهون حديثه، وكان يرمى بغير نوع من البدع. وقال ابن نمير: كان يرمى بالقدر، وكان أبعد الناس منه.
وقال البخاري: ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد بها لا يشاركه فيها أحد.
وقال علي بن المديني عن سفيان: ما رأيت أحدا يتهم محمد بن إسحاق. وقال أبو سعيد الجعفي: كان ابن إدريس معجبا بابن إسحق، كثير الذكر له، ينسبه إلى العلم والمعرفة والحفظ، وقال إبراهيم الحربي: حدثني مصعب قال: كانوا يطعنون عليه بشيء من غير جنس الحديث. وقال يزيد بن هارون: ولو سود أحد في الحديث لسود محمد بن إسحق. وقال شعبة فيه: أمير المؤمنين في الحديث. وروى يحيى بن آدم:
ثنا أبو شهاب قال: قال لي شعبة بن الحجاج: عليك بالحجاج بن أرطاة، وبمحمد بن إسحق، وقال ابن علية: قال شعبة: أما محمد بن إسحق وجابر الجعفي فصدوقان.
1 / 13
وقال يعقوب بن شيبة: سألت ابن المديني: كيف حديث محمد بن إسحق، صحيح؟
قال: نعم، حديثه عندي صحيح، قلت له: فكلام مالك فيه، قال: لم يجالسه ولم يعرفه، ثم قال علي بن إسحق: أي شيء حدث بالمدينة قلت له، فهشام بن عروة قد تكلم فيه قال علي: الذي قال هشام ليس بحجة، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها، وسمعت عليا يقول: إن حديث محمد بن إسحق ليتبين فيه الصدق، يروى مرة: حدثني أبو الزناد، ومرة ذكر أبو الزناد، وروى عن رجل عن من سمع منه يقول: حدثني سفيان بن سعيد عن سالم أبي النضر عن عمر «صوم يوم عرفة» وهو من أروى الناس عن أبي النضر، ويقول: حدثني الحسن بن دينار، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب في «سلف وبيع» وهو من أروى الناس عن عمرو بن شعيب.
وقال علي: لم أجد لابن إسحق إلا حديثين منكرين: نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة [١]» والزهري عن عروة عن زيد بن خالد «إذا مس أحدكم فرجه [٢]»
هذين لم يروهما عن أحد، والباقون يقول: ذكر فلان، ولكن هذا فيه ثنا، وقال مرة: وقع إليّ من حديثه شيء، فما أنكرت منه إلا أربعة أحاديث، ظننت أن بعضه منه وبعضه ليس منه، وقال البخاري: رأيت علي بن المديني يحتج بحديثه وقال لي:
نظرت في كتابه فما وجدت عليه إلا حديثين ويمكن أن يكونا صحيحين، وقال العجلي: ثقة، وروى المفضل بن غسان عن يحيى بن معين: ثبت في الحديث، وقال يعقوب بن شيبة: سألت يحيى بن معين عنه: في نفسك شيء من صدقه؟ قال:
لا، هو صدوق. وروى ابن أبي خيثمة عن يحيى: ليس به بأس. وقال ابن المديني:
قلت لسفيان: كان ابن إسحق جالس فاطمة بنت المنذر فقال: أخبرني أنها حدثته وأنه دخل عليها، فاطمة هذه هي زوج هشام بن عروة، وكان هشام ينكر على ابن إسحق روايته عنها ويقول: لقد دخلت بها وهي بنت تسع سنين، وما رآها مخلوق حتى لحقت بالله، وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: هو حسن الحديث.
_________
[(١)] انظر سنن أبي داود رقم ١١١٩ وسنن الترمذي رقم ٥٢٦ وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[(٢)] انظر سنن أبي داود رقم ١٦٣ وسنن ابن ماجة رقم ٤٧٩ وسنن الترمذي رقم ٤٧٩ وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
1 / 14
ذكر الكلام في محمد بن إسحاق والطعن عليه
روينا عن يعقوب بن شيبة قال: سمعت محمد بن عبد الله بن نمير وذكر ابن إسحق، فقال: إذا حدث عمن سمع منه من المعروفين فهو حسن الحديث صدوق، وإنما أتى من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة. وقال أبو موسى محمد بن المثنى: ما سمعت يحيى بن القطان يحدث عن ابن إسحاق شيئا قط، وقال الميموني: ثنا أبو عبد الله أحمد بن حنبل بحديث استحسنه عن محمد بن إسحق، وقلت: له: يا أبا عبد الله، ما أحسن هذه القصص التي يجيء بها ابن إسحق، فتبسم إليّ متعجبا، وروى ابن معين عن يحيى بن القطان أنّه كان لا يرضى محمد بن إسحق ولا يحدث عنه، وقال عبد الله بن أحمد وسأله رجل عن محمد بن إسحق فقال: كان أبي يتتبع حديثه، ويكتبه كثيرا بالعلو والنزول، ويخرجه في المسند، وما رأيته اتقى حديثه قط، قيل له: يحتج به؟ قال: لم يكن يحتج به في السنن، وقيل لأحمد: يا أبا عبد الله، إذا تفرد بحديث تقبله؟ قال: لا والله، إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا. وقال ابن المديني مرة: هو صالح وسط. وروى الميموني عن ابن معين: ضعيف. وروى عنه غيره ليس كذلك، وروى الدوري عنه: ثقة ولكنه ليس بحجة، وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو:
قلت ليحيى بن معين وذكرت له الحجة فقلت: محمد بن إسحق منهم؟ فقال: كان ثقة، إنما الحجة عبيد الله بن عمر، ومالك بن أنس وذكر قوما آخرين، وقال أحمد بن زهير: سئل يحيى عنه مرة فقال: ليس بذاك ضعيف، قال: وسمعته مرة أخرى يقول: هو عندي سقيم ليس بالقوي. وقال النسائي: ليس بالقوي وقال البرقاني:
سألت الدارقطني عن محمد بن إسحق بن يسار عن أبيه فقال: جميعا لا يحتج بهما، وإنما يعتبر بهما، وقال علي: قلت ليحيى بن سعيد: كان ابن إسحاق بالكوفة وأنت
1 / 15
بها قال: نعم، قلت: تركته متعمدا؟ قال: نعم، ولم أكتب عنه حديثا قط، وروى أبو داود عن حماد بن سلمة قال: لولا الاضطرار ما حدثت عن محمد بن إسحق، وقال أحمد: قال مالك: وذكر فقال: دجال من الدجاجلة، وروى الهيثم بن خلف الدوري: ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا أبو داود صاحب الطيالسة قال: حدثني من سمع هشام بن عروة وقيل له: إن ابن إسحق يحدث بكذا وكذا عن فاطمة، فقال: كذب الخبيث، وروى القطان عن هشام أنه ذكره فقال: العدو لله الكذاب يروى عن امراتي: من أين رآها؟ وقال عبد الله بن أحمد: فحدثت أبي بذلك فقال: وما ينكره لعله جاء فاستأذن عليها فأذنت له، أحسبه قال: ولم يعلم، وقال مالك: كذاب، وقال ابن إدريس: قلت لمالك وذكر المغازي: فقلت له، قال: ابن إسحق أنا بيطارها، فقال: نحن نفيناه عن المدينة، وقال مكي بن إبراهيم: جلست إلى محمد بن إسحق وكان يخضب بالسواد، فذكر أحاديث في الصفة فنفرت منها فلم أعد إليه. وقال مرة:
تركت حديثه وقد سمعت منه بالري عشرين مجلسا. وروى الساجي عن المفضل بن غسان [قال] [١]: حضرت يزيد بن هارون وهو يحدث بالبقيع وعنده ناس من أهل المدينة يسمعون منه، حتى حدثهم عن محمد بن إسحق فأمسكوا قالوا: لا تحدثنا عنه، نحن أعلم به، فذهب يزيد يحاولهم فلم يقبلوا، فأمسك يزيد، وقال أبو داود:
سمعت أحمد بن حنبل ذكره فقال: كان رجلا يشتهي الحديث، فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه، وسئل أبو عبد الله: أيما أحب إليك موسى بن عبيدة البرذي أو محمد بن إسحق؟ قال: لا، محمد بن إسحق. وقال أحمد كان يدلس [٢]، إلا أن كتاب إبراهيم بن سعد إذا كان سماعا قال: حدثني، وإذا لم يكن قال: قال، وقال أبو عبد الله: قدم محمد بن إسحق إلى بغداد، فكان لا يبالي عمن يحكي عن الكلبي وغيره وقال: ليس بحجة، وقال الفلاس: كنا عند وهب بن جرير، فانصرفنا من عنده، فمررنا بيحيى القطان فقال: أين كنتم؟ فقلنا: كنا عند وهب بن جرير، يعني نقرأ عليه كتاب المغازي عن أبيه عن ابن إسحق، فقال: تصرفون من عنده بكذب كثير، وقال عباس الدوري: سمعت أحمد بن حنبل وذكر محمد بن إسحاق فقال: أما في المغازي وأشباهه فيكتب، وأما في الحلال والحرام فيحتاج إلى مثل هذا، ومد يده
_________
[(١)] زيدت على النص لوضوح العبارة ولعل الصواب ما أثبتناه.
[(٢)] التدليس هو: أن يحدث المحدث عن الشيخ الأكبر وقد كان رآه، إلا أنه سمع ما أسنده إليه من غيره من دونه.
1 / 16
وضم أصابعه، وروى الأثرم عن أحمد: كثير التدليس جدا، أحسن حديثه عندي ما قال: أخبرني وسمعت، وعن ابن معين: ما أحب أن أحتج به في الفرائض، وقال ابن أبي حاتم: ليس بالقوي، ضعيف الحديث، وهو أحب إليّ من أفلح بن سعيد، يكتب حديثه، وقال سليمان التيمي، كذاب. وقال يحيى القطان: ما تركت حديثه إلا الله، أشهد أنه كذاب. وقد قال يحيى بن سعيد: قال لي وهيب بن خالد أنه كذاب، قلت لوهيب: ما يدريك؟ قال: قال لي مالك: أشهد أنه كذاب، قلت لمالك: ما يدريك؟
قال: قال لي هشام بن عروة: أشهد أنه كذاب، قلت لهشام: ما يدريك؟ قال: حدث عن امرأتي فاطمة الحديث.
قلت: والكلام فيه كثير جدا، وقد قال أبو بكر الخطيب: قد احتج بروايته في الأحكام قوم من أهل العلم، وصدف عنها آخرون. وقال في موضع آخر: قد أمسك عن الإحتجاج بروايات ابن إسحق غير واحد من العلماء لأسباب: منها: أنه كان يتشيع وينسب إلى القدر ويدلس، وأما الصدق فليس بمدفوع عنه. انتهى كلام الخطيب. وقد استشهد به البخاري، وأخرج له مسلم متابعة، واختار أبو الحسن بن القطان أن يكون حديثه من باب الحسن لاختلاف الناس فيه. وأما
روايته عن فاطمة فروينا عن أبي بكر الخطيب قال: أنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحرشي: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بدمشق، ثنا أحمد بن خالد الوهبي، ثنا محمد بن إسحق، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت امرأة وهي تسأل النبي ﷺ فقالت: إن لي ضرة، وإني أتشبع من زوجي بما لم يعطنيه لتغيظها بذلك قال: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» [١]
وقال أبو الحسن بن القطان: الحديث الذي من أجله وقع الكلام في ابن إسحق من روايته عن فاطمة حتى قال هشام إنه كذاب، وتبعه في ذلك مالك، وتبعه يحيى بن سعيد، وتابعوا بعدهم تقليدا لهم حديث
«فلتقرصه ولتنضح [٢] ما لم تر ولتصل فيه»
وقد روينا من حديثه عنها غير ذلك.
_________
[(١)] أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب المتشبع بما لم ينل (٧/ ٤٥) وأخرجه مسلم في باب النهي عن التزوير في اللباس رقم ٢١٢٩. وأخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في المتشبع بما لم يعط رقم ٤٩٩٧.
[(٢)] أي لترش الماء
1 / 17
ذكر الأجوبة عما رمي به
قلت: أما ما رمي به من التدليس والقدر والتشيع فلا يوجب رد روايته ولا يوقع فيها كبير وهن، أما التدليس فمنه القادح في العدالة وغيره، ولا يحمل ما وقع ها هنا من مطلق التدليس على التدليس المقيد بالقادح في العدالة، وكذلك القدر والتشيع لا يقتضي الرد إلا بضميمة أخرى ولم نجدها هاهنا. وأما قول مكي بن إبراهيم أنه ترك حديثه ولم يعد إليه فقد علل ذلك بأنه سمعه يحدث أحاديث في الصفات فنفر منه، وليس في ذلك كبير أمر، قد ترخص قوم من السلف في رواية المشكل من ذلك وما يحتاج إلى تأويله، ولا سيما إذا تضمن الحديث حكما أو أمرا آخر، وقد تكون هذه الأحاديث من هذا القبيل.
وأما الخبر عن يزيد بن هارون أنه حدث أهل المدينة عن قوم، فلما حدثهم عنه أمسكوا، فليس فيه ذكر لمقتضى الإمساك، وإذا لم يذكر لم يبق إلا أن يحول الظن فيه، وليس لنا أن نعارض عدالة مقبولة بما قد تظنه جرحا.
وأما ترك يحيى القطان حديثه فقد ذكرنا السبب في ذلك وتكذيبه إياه روايته عن وهيب بن خالد عن مالك عن هشام، فهو ومن فوقه في هذا الإسناد تبع لهشام، وليس ببعيد من أن يكون ذلك هو المنفر لأهل المدينة عنه في الخبر السابق عن يزيد بن هارون، وقد تقدم الجواب عن قول هاشم فيه عن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني بما فيه مغني.
وأما قول ابن نمير أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة، فلو لم ينقل توثقه وتعديله لتردد الأمر في التهمة بها بينه وبين من نقلها عنه. وأما مع التوثيق والتعديل
1 / 18
فالحمل فيها على المجهولين المشار إليهم لا عليه، وأما الطعن على العالم بروايته عن المجهولين فغريب، قد حكى ذلك عن سفيان الثوري وغيره، وأكثر ما فيه التفرقة بين بعض حديثه وبعض، فيرد ما رواه عن المجهولين ويقبل ما حمله على المعروفين، وقد روينا عن أبي عيسى الترمذي قال: سمعت محمد بن بشار يقول:
سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ألا تعجبون من سفيان بن عيينة، لقد تركت لجابر الجعفي لما حكى عنه أكثر من ألف حديث، ثم هو يحدث عنه. قال الترمذي:
وقد حدث شعبة عن جابر الجعفي وإبراهيم الهجري ومحمد بن عبيد الله العرزمي وغير واحد ممن يضعف في الحديث.
وأما قول أحمد يحدث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا، وقد تتحد ألفاظ الجماعة وإن تعددت أشخاصهم، وعلى تقدير أن لا يتحد اللفظ فقد يتحد المعنى، روينا عن واثلة بن الأسقع قال: إذا حدثتكم على المعنى فحسبكم. وروينا عن محمد بن سيرين قال: كنت أسمع الحديث من عشرة، اللفظ مختلف والمعنى واحد، وقد تقدم من كلام ابن المديني أن حديثه ليتبين فيه الصدق، يروى مرة: حدثني أبو الزناد، ومرة: ذكر أبو الزناد. الفصل إلى آخره ما يصلح لمعارضة هذا الكلام، واختصاص ابن المديني سفيان معلوم، كما علم اختصاص سفيان بمحمد بن إسحق. وأما قوله: كان يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه، فلا يتم الجرح بذلك حتى ينفي أن تكون مسموعة له، ويثبت أن يكون حدث بها ثم ينظر بعد ذلك في كيفية الأخبار، فإن كان بألفاظ لا تقتضي السماع تصريحا فحكمه حكم المدلسين، ولا يحسن الكلام معه إلا بعد النظر في مدلول تلك الألفاظ، وإن كان يروى ذلك عنه مصرحا بالسماع ولم يسمع فهذا كذب صراح واختلاق محض، لا يحسن الحمل عليه إلا إذا لم يجد للكلام مخرجا غيره. وأما قوله: لا يبالي عمن يحكي عن الكلبي وغيره، فهو أيضا إشارة إلى الطعن بالرواية عن الضعفاء لمحل ابن الكلبي من التضعيف، والراوي عن الضعفاء لا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يصرح باسم الضعيف أو يدلسه، فإن صرح به فليس فيه كبير أمر، روى عن شخص ولم يعلم حاله، أو علم وصرح به ليبرأ من العهدة. وإن دلسه فإما أن يكون عالما بضعفه أولا، فإن لم يعلم فالأمر في ذلك قريب، وإن علم به وقصد بتدليس الضعيف وتغييره وإخفائه ترويج الخبر حتى يظن أنه من أخبار أهل الصدق
1 / 19
وليس كذلك، فهذه جرحة من فاعلها، وكبيرة من مرتكبها، وليس في أخبار أحمد عن ابن إسحق ما يقتضي روايته عن الضعيف وتدليسه إياه مع العلم بضعفه حتى ينبني على ذلك قدح أصلا. وجواب ثان: محمد بن إسحق مشهور بسعة العلم وكثرة الحفظ، فقد يميز من حديث الكلبي وغيره مما يجري مجراه ما يقبل ما يرد، فكتب ما يرضاه ويترك ما لا يرضاه، وقد قال يعلى بن عبيد، قال لنا سفيان الثوري: اتقوا الكلبي، فقيل له: فإنك تروي عنه؟ فقال: أنا أعرف صدقه من كذبه. ثم غالب ما يروى عن الكلبي أنساب وأخبار من أحوال الناس وأيام العرب وسيرهم، وما يجري مجرى ذلك مما سمح كثير من الناس في حمله عمن لا تحمل عنه الأحكام، وممن حكى عنه الترخص في ذلك الإمام أحمد، وممن حكى عنه التسوية في ذلك بين الأحكام وغيرها يحيى بن معين، وفي ذلك بحث ليس هذا موضعه.
وأما قول عبد الله عن أبيه: لم يكن يحتج به في السنن، فقد يكون لما أنس منه التسامح في غير السنن التي هي جل علمه من المغازي والسير طرد الباب فيه، وقاس مروياته من السنن على غيرها وطرد الباب في ذلك يعارضه تعديل من عدله، وأما قول يحيى: ثقة وليس بحجة، فيكفينا التوثيق ولو لم يكن يقبل الأمثل العمري [١] ومالك لقل المقبولون.
وأما ما نقلناه عن يحيى بن سعيد من طريق ابن المديني ووهب بن جرير فلا يبعد أن يكون قلد مالكا لأنه روى عنه قول هشام فيه، وأما قول يحيى: ما أحب أن احتج به في الفرائض، فقد سبق الجواب عنه فيما نقلناه عن الإمام أحمد ﵏، على أن المعروف عن يحيى في هذه المسألة التسوية بين المرويات من أحكام وغيرها، والقبول مطلقا أو عدمه من غير تفصيل.
وأما ما عدا ذلك من الطعن فأمور غير مفسرة ومعارضة في الأكثر من قائلها بما يقتضي التعديل، وممن يصحح حديثه، ويحتج به في الأحكام أبو عيسى الترمذي ﵀ وأبو حاتم بن حبان، ولم نتكلف الرد عن طعن الطاعنين فيه إلا لما عارضه من تعديل العلماء له وثنائهم عليه، ولولا ذلك لكان اليسير من هذا الجرح كافيا في
_________
[(١)] أي عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ﵃ أجمعين.
1 / 20
رده أخباره، إذ اليسير من الجرح المفسر منه وغير المفسر كاف في رد من جهلت حاله قبله، ولم يعدله معدل، وقد ذكره أبو حاتم بن حبان في كتاب (الثقات) فأعرب عما في الضمير، فقال: تكلم فيه رجلان: هشام ومالك، فأما هشام فأنكر سماعه من فاطمة، والذي قاله ليس مما يجرح به الإنسان في الحديث، وذلك أن التابعين كالأسود وعلقمة سمعوا من عائشة من غير أن ينظروا إليها، بل سمعوا صوتها، وكذلك ابن إسحق، كان يسمع من فاطمة والستر بينهما مسبل. قال: وأما مالك فإنه كان ذلك منه مرة واحدة ثم عاد له إلى ما يحب، وذلك أنه لم يكن بالحجاز أحد أعلم بأنساب الناس وأيامهم من ابن إسحق، وكان يزعم أن مالك من موالي ذي أصبح، وكان مالك يزعم أنه من أنفسها، فوقع بينهما لذلك مفاوضة، فلما صنف مالك الموطأ قال ابن إسحق: ائتوني به فأنا بيطاره، فنقل ذلك إلى مالك فقال: هذا دجال من الدجاجلة يروى عن اليهود، وكان بينهما ما يكون بين الناس، حتى عزم محمد على الخروج إلى العراق، فتصالحا حينئذ وأعطاه عند الوداع خمسين دينارا ونصف ثمرته تلك السنة. ولم يكن يقدح فيه مالك من أجل الحديث، إنما كان ينكر عليه تتبعه غزوات النبي ﷺ من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر وقريظة والنضير، وما أشبه ذلك من الغرائب عن أسلافهم. وكان ابن إسحق يتتبع ذلك عنهم ليعلم ذلك من غير أن يحتج بهم، وكان مالك لا يروي الرواية إلا عن متقن صدوق. قلت: ليس ابن إسحق أبا عذرة هذا القول في نسب مالك، فقد حكى شيء من ذلك عن الزهري وغيره، والرجل أعلم بنسبه، وتأبى له عدالته وإمامته أن يخالف قوله علمه، وأما قول ابن إسحق: أنا جهبذها، فقد أتى أمرا إمرا، وارتقى مرتقى وعرا، ولم يدر ما هنالك من زعم أنه في الإتقان كما لك، وقد ألقته آماله في المهالك من أنفه في الثرى وهو يطاول النجوم الشوابك.
وأما الواقدي فهو محمد بن عمر بن واقد أبو عبد الله المديني، سمع ابن أبي ذئب، ومعمر بن راشد، ومالك بن أنس، ومحمد بن عبد الله ابن أخي الزهري، ومحمد بن عجلان، وربيعة بن عثمان، وابن جريج، وأسامة بن رزين، وعبد الحميد بن جعفر، والثوري، وأبا معشر، وجماعة، روى عنه كاتبه محمد بن سعد وأبو حسان الزيادي ومحمد بن إسحق الصاغاني وأحمد بن الخليل البرجلاني وعبد الله بن الحسين الهاشمي وأحمد بن عبيد بن ناصح ومحمد بن شجاع الثلجى
1 / 21
والحرث بن أبي أسامة وغيرهم. ذكره الخطيب أبو بكر وقال: هو ممن طبق شرق الأرض وغربها ذكره، ولم يخف على أحد عرف أخبار الناس أمره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم، من المغازي والسير والطبقات، وأخبار النبي ﷺ، والأحداث التي كانت في وقته وبعد وفاته ﷺ، وكتب الفقه واختلاف الناس في الحديث، وغير ذلك، وكان جوادا كريما مشهورا بالسخاء، وقال ابن سعد: محمد بن عمر بن واقد أبو عبد الله مولى عبد الله بن بريدة الأسلمي، كان من أهل المدينة، قدم بغداد في سنة ثمانين ومائة في دين لحقه، فلم يزل بها، وخرج إلى الشام والرقة، ثم رجع إلى بغداد فلم يزل بها إلى أن قدم المأمون من خراسان، فولاه القضاء بعسكر المهدي، فلم يزل قاضيا حتى مات ببغداد ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة سبع ومائتين، ودفن يوم الثلاثاء في مقابر الخيزران وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وذكر أنه ولد سنة ثلاثين ومائة في آخر خلافة مروان بن محمد. وكان عالما بالمغازي واختلاف الناس وأحاديثهم، وقال محمد بن خلاد: سمعت محمد بن سلام الجمحي يقول: محمد بن عمر الواقدي عالم دهره، وقال أبراهيم الحربي:
الواقدي آمن الناس على أهل الإسلام. وقال الحربي أيضا: كان الواقدي أعلم الناس بأمر الإسلام، فأما الجاهلية فلم يعمل فيها شيئا، وقال يعقوب بن شيبة: لما انتقل الواقدي من الجانب الغربي إلى هاهنا يقال إنه حمل كتبه على عشرين ومائة وقر [١]، وقيل: كانت كتبه ستمائة قمطر [٢] . وقال محمد بن جرير الطبري: قال ابن سعد: كان الوافدي يقول: ما من أحد إلا وكتبه أكثر من حفظه، وحفظي أكثر من كتبي. وروى غيره عنه قال: ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا سألته: هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه أو نحو هذا الكلام، وقال ابن منيع: سمعت هارون الفروي يقول: رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة فقلت: أين تريد؟ قال: أريد أن أمضي إلى حنين حتى أرى الموضع والوقعة، وقال إبراهيم الحربي: سمعت المسيبي يقول:
رأيت الواقدي يوما جالسا إلى إسطوانة في مسجد المدينة وهو يدرس، فقلنا له: أي
_________
[(١)] الوقر: الحمل الثقيل.
[(٢)] القمطر: ما تحفظ فيه الكتب وتصان خوفا من التلف، وجمعها: قماطر.
1 / 22
شيء تدرس؟ فقال: حزبي من المغازي. وروينا عن أبي بكر الخطيب قال: وأنا الأزهري قال: أنا محمد بن العباس قال: أنا أبو أيوب قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: وأخبرني إبراهيم بن عمر البرمكي: ثنا عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العكبري: ثنا محمد بن أيوب بن المعافي قال: قال إبراهيم الحربي: سمعت المسيبي يقول: قلنا للواقدي: هذا الذي تجمع الرجال تقول: ثنا فلان وفلان، وجئت بمتن واحد، لو حدثتنا بحديث كل رجل على حدة؟ قال: يطول، فقلنا له، قد رضينا، قال: فغاب عنا جمعة ثم أتانا بغزوة أحد، عشرين جلدا، وفي حديث البرمكي: مائة جلد، فقلنا له: ردنا إلى الأمر الأول. معنى اللفظين متقارب، وعن يعقوب بن شيبة قال: ومما ذكر لنا أن مالكا سئل عن قتل الساحرة فقال: أنظروا هل عند الواقدي في هذا شيء؟ فذاكروه ذلك، فذكر شيئا عن الضحاك بن عثمان، فذكروا أن مالكا قنع به. وروى أن مالكا سئل عن المرأة التي سمت النبي ﷺ بخيبر ما فعل بها؟ فقال: ليس عندي بها علم، وسأسأل أهل العلم، قال: فلقي الواقدي قال: يا أبا عبد الله: ما فعل النبي ﷺ بالمرأة التي سمته بخيبر فقال: الذي عندنا أنه قتلها: فقال مالك: قد سألت أهل العلم فأخبروني أنه قتلها. وقال أبو بكر الصاغاني:
لولا أنه عندي ثقة ما حدثت عنه، حدث عنه أربعة أئمة، أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو عبيد، وأحسبه ذكر أبا خيثمة ورجلا آخر. وقال عمرو الناقد: قلت للدراوردي: ما تقول في الواقدي؟ قال: لا تسألني عن الواقدي، سئل الواقدي عني.
وذكر الداروردي الواقدي فقال: ذلك أمير المؤمنين في الحديث، وسئل أبو عامر العقدي عن الواقدي فقال: نحن نسأل عن الواقدي: إنما يسأل هو [١] عنا، ما كان يفيدنا الأحاديث والشيوخ بالمدينة إلا الواقدي.
وقال الواقدي: لقد كانت ألواحي تضيع، فأوتي بها من شهرتها بالمدينة يقال:
هذه ألواح ابن واقد.
وقال مصعب الزبيري: والله ما رأينا مثله قط. قال مصعب: وحدثني من سمع عبد الله بن المبارك يقول: كنت أقدم المدينة فما يفيدني ولا يدلني على الشيوخ إلا الواقدي. وقال مجاهد بن موسى: ما كتبت عن أحد أحفظ منه. وسئل عنه مصعب
_________
[(١)] والمعنى: إنما يسأل الواقدي عنا.
1 / 23