صلى الله عليه وسلم : «لو دعيت إلى حلف الفضول لفعلت» (حلف الفضول: ما كان من هاشم وزهرة وتيم، حيث وفدوا على عبد الله بن جدعان وتحالفوا على أن يدفعوا الظلم ويأخذوا الحق من الظالم، وسمي حلف الفضول؛ لأنهم تحالفوا على أن لا يدعوا عند أحد فضلا يزيد عن حقه ويكون نواله بالظلم إلا أخذوه منه وردوه لمستحقيه)، فهو من حلف الجاهلية، وقد صرح الشارع بقبوله لو دعي إليه، هذا إجمال الأدلة على وجوب الاتفاق وحظر المنابذة والمغابنة بين المسلمين، بل وبينهم وبين غيرهم ممن رضي بذمتهم وقبل جوارهم بالمعروف في شرعهم، فإن سبيل المؤمنين يسعه ولا يضيق عنه.
وأما السعي لإعلاء كلمة الحق وبسطة الملك وعموم السيادة، فلا تجد آية من آيات القرآن الشريف إلا وهي داعية إليه، جاهرة بمطالبة المسلمين بالجد فيه، حاظرة عليهم أن يتوانوا في أداء المفروض منه، ومن الأوامر الشرعية أن لا يدع المسلمون تنمية ملتهم حتى لا يكون فتنة ويكون الدين كله لله، وفي السنة المحمدية والسيرة النبوية، مما يضافر آيات القرآن ما جمعه العلماء في مجلدات يطول عدها، هذا حكم ديننا لا يرتاب فيه أحد من المؤمنين به والمستمسكين بعروته.
هل يمكن لنا - ونحن على ما نرى من الاختلاف والركون إلى الضيم - أن ندعي القيام بفروض ديننا؟ كيف ومعظم الأحكام الدينية موقوف إجراؤه على قوة الولاية الشرعية، فإن لم يكن الوفاق والميل إلى الغلب فرضين لذاتهما، أفلا يكونان مما لا يتم الواجب إلا به؟ فكيف وهما ركنان قامت عليهما الشريعة - كما قدمنا؟ هل لنا عذر نقيمه عند الله يوم العرض والحساب، يوم لا ينفع خلة ولا شفاعة بعد هدم هذين الركنين، وأيسر شيء علينا إقامتهما وعديدنا خمسمائة مليون أو يزيد، هل يتيسر لنا - إذا خلونا بأنفسنا وجادلتنا ضمائرنا - أن نقنعها ونرضيها بما نحن عليه الآن؟
كل هذه الرزايا التي حطت بأقطارنا، ووضعت من أقدارنا، ما كان قاذفنا ببلائها، ورامينا بسهامها إلا افتراقنا وتدابرنا والتقاطع الذي نهانا الله ونبيه عنه. لو أدينا حقوقا تطالبنا بها تلك الكلمة التي تهل بها ألسنتنا، وتطمئن قلوبنا بذكرها - وهي كلمة الله العليا - هل كان يمكن للأغراب أن يمزقوا ممالكنا كل ممزق؟ وهل كان يلمع سيف العدوان في وجوهنا؟ وهل كنا نشيم نيران الأعداء إلا وأقدامنا في صياصيهم، وأيدينا على نواصيهم؟ إن لأبناء الملة الإسلامية يقينا بما جاء به شرعهم، لكن أليس على صاحب اليقين بدين أن يقوم بما فرض الله عليه في ذلك الدين؟
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين .
ولا ريبة في أن المؤمن يسره أن يعلمه الله صادقا لا كاذبا، وأي صدق تظهره الفتنة ويمتاز به الصادق من الكاذب إلا الصدق في العمل، هل يود المسلم لو يعمر ألف سنة في الذل والهوان وهو يعلم أن الازدراء بالحياة هو دليل الإيمان، أنرضى - ونحن المؤمنون - وقد كانت لنا الكلمة العليا أن تضرب علينا الذلة والمسكنة، وأن يستبد في ديارنا وأموالنا من لا يذهب مذهبنا، ولا يرد مشربنا، ولا يحترم شريعتنا، ولا يرقب فينا إلا ولا ذمة، بل أكبر همه أن يسوق علينا جيوش الفناء حتى يخلي منا أوطاننا، ويستخلف فيها بعدنا أبناء جلدته، والجالية من أمته؟
لا. لا. إن المخلصين في إيمانهم الواثقين بوعد الله في نصر من ينصر الله الثابت في قوله:
إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم
لا يتخلفون عن بذل أموالهم وبيع أرواحهم، والحق داع والله حاكم والضرورة قاضية، فأين المفر؟ المبصر بنور الله يعلم أنه لا سبيل لنصر الله وتعزيز دينه إلا بالوفاق وتعاون المخلصين من المؤمنين، هل يسوغ لنا أن نرى أعلامنا منكسة، وأملاكنا ممزقة، والقرعة تضرب بين الغرباء على ما بقي في أيدينا، ثم لا نبدي حركة، ولا نجتمع على كلمة، وندعي مع هذا أننا مؤمنون بالله وبما جاء به محمد؟ واخجلتاه لو خطر هذا ببالنا ! ولا أظنه يخطر ببال مسلم يجري على لسانه شاهد الإسلام.
إن الميل للوحدة والتطلع للسيادة وصدق الرغبة في حفظ حوزة الإسلام؛ كل هذه صفات كامنة في نفوس المسلمين قاطبة، ولكن دهاهم بعض ما أشرنا إليه في أعداد ماضية، فألهاهم عما يوحي به الدين في قلوبهم وأذهلهم أزمانا عن سماع صوت الحق يناديهم من بين جوانحهم، فسهوا وما غووا، وزلوا وما ضلوا، ولكنهم دهشوا وتاهوا، فمثلهم مثل جواب المجاهيل من الأرض في الليالي المظلمة، كل يطلب عونا وهو معه ولكن لا يهتدي إليه، وأرى أن العلماء العاملين لو وجهوا فكرتهم لإيصال أصوات بعض المسلمين إلى مسامع بعض؛ لأمكنهم أن يجمعوا بين أهوائهم في أقرب وقت، وليس بعسير عليهم ذلك بعدما اختص الله من بقاع الأرض بيته الحرام بالاحترام وفرض على كل مسلم أن يحجه ما استطاع، وفي تلك البقعة يحشر الله من جميع رجال المسلمين وعشائرهم وأجناسهم، فما هي إلا كلمة تقال بينهم من ذي مكانة في نفوسهم تهتز لها أرجاء الأرض، وتضطرب لها سواكن القلوب، هذا ما أعدتهم له العقائد الدينية.
Página desconocida