هذه صلة من أمتن الصلات، ساقها الله إليكم، وفيها عزتكم ومنعتكم وسلطانكم وسيادتكم فلا توهنوها، ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل؛ فالعدل أساس الكون وبه قوامه، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم، وعليكم أن تتقوا الله وتلزموا أوامره في حفظ الذمم، ومعرفة الحقوق لأربابها، وحسن المعاملة وإحكام الألفة في المنافع الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم وجيرانكم من أرباب الأديان المختلفة، فإن مصالحكم لا تقوم إلا بمصالحهم، كما لا تقوم مصالحهم إلا بمصالحكم، وعليكم أن لا تجعلوا عصبة الدين وسيلة للعدوان، وذريعة لانتهاك الحقوق؛ فإن دينكم ينهاكم عن ذلك ويوعدكم عليه بأشد العقاب، هذا ولا تجعلوا عصبيتكم قاصرة على مجرد ميل بعضكم لبعض، بل تضافروا بها على مباراة الأمم في القوة والمنعة والشوكة والسلطان، ومنافستهم في اكتساب العلوم النافعة والفضائل والكمالات الإنسانية.
اجعلوا عصبيتكم سبيلا لتوحيد كلمتكم، واجتماع شملكم، وأخذ كل منكم بيد أخيه ليرفعه من هوة النقص إلى ذروة الكمال، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
الفصل السابع
القضاء والقدر
مضت سنة الله في خلقه بأن للعقائد القلبية سلطانا على الأعمال البدنية، فما يكون في الأعمال من صلاح أو فساد، فإنما مرجعه فساد العقيدة وصلاحها على ما بينا في بعض الأعداد الماضية، ورب عقيدة واحدة تأخذ بأطراف الأفكار فيتبعها عقائد ومدركات أخرى، ثم تظهر على البدن بأعمال تلائم أثرها في النفس، ورب أصل من أصول الخير وقاعدة من قواعد الكمال إذا عرضت على الأنفس في تعليم أو تبليغ شرع يقع فيها الاشتباه على السامع فتلتبس عليه بما ليس من قبيلها أو تصادف عنده بعض الصفات الرديئة أو الاعتقادات الباطلة فيعلق بها عند الاعتقاد شيء مما تصادفه، وفي كلا الحالين يتغير وجهها ويختلف أثرها.
وربما تتبعها عقائد فاسدة مبنية على الخطأ في الفهم، أو على خبث الاستعداد ، فتنشأ عنها أعمال غير صالحة، وذلك على غير علم من المعتقد كيف اعتقد، ولا كيف يصرفه اعتقاده، والمغرور بالظواهر يظن أن تلك الأعمال إنما نشأت عن الاعتقاد بذلك الأصل وتلك القاعدة.
ومن مثل هذا الانحراف في الفهم وقع التحريف والتبديل في بعض أصول الأديان غالبا، بل هو علة البدع في كل دين - على الأغلب - وكثيرا ما كان هذا الانحراف وما يتبعه من البدع منشأ لفساد الطباع وقبائح الأعمال، حتى أفضى بمن ابتلاهم الله به إلى الهلاك وبئس المصير، وهذا ما يحمل بعض من لا خبرة لهم على الطعن في دين من الأديان، أو عقيدة من العقائد الحقة؛ استنادا إلى أعمال بعض السذج المنتسبين إلى الدين أو العقيدة.
من ذلك عقيدة القضاء والقدر، التي تعد من أصول العقائد في الديانة الإسلامية الحقة، كثر فيها لغط المغفلين من الإفرنج وظنوا بها الظنون، وزعموا أنها ما تمكنت من نفوس قوم إلا وسلبتهم الهمة والقوة، وحكمت فيهم الضعف والضعة، ورموا المسلمين بصفات ونسبوا إليهم أطوارا، ثم حصروا علتها في الاعتقاد بالقدر؛ فقالوا: إن المسلمين في فقر وفاقة وتأخر في القوة الحربية والسياسية عن سائر الأمم، وقد فشا فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب والنفاق والخيانة والتحاقد والتباغض، وتفرقت كلمتهم وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة، وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون، ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة، ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر في إلحاق الضرر به، فجعلوا بأسهم بينهم والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة بعد أخرى.
رضوا بكل عارض، واستعدوا لقبول كل حادث، وركنوا إلى السكون في كسور بيوتهم، يسرحون في مرعاهم، ثم يعودون إلى مأواهم، الأمراء فيهم يقطعون أزمنتهم في اللهو واللعب ومعاطاة الشهوات، وعليهم فروض وواجبات تستغرق في أدائها أعمارهم ولا يؤدون منها شيئا.
يصرفون أموالهم فيما يقطعون به زمانهم إسرافا وتبذيرا، نفقاتهم واسعة ولكن لا يدخل في حسابها شيء يعود على ملتهم بالمنفعة، يتخاذلون ويتنافرون، وينوطون المصالح العمومية بمصالحهم الخصوصية، فرب تنافر بين أميرين يضيع أمة كاملة، كل منهما يخذل صاحبه، ويستعدي عليه جاره، فيجد الأجنبي فيهما قوة فانية وضعفا قاتلا فينال من بلادهما ما لا يكلفه عددا ولا عدة.
Página desconocida