إن الخطر الذي ألم بمصر نغرت له أحشاء المسلمين، وتكلمت به قلوبهم، ولن تزال آلامه تستفزهم ما دام الجرح نغارا، وما هذا بغريب على المسلمين؛ فإن رابطتهم الملية أقوى من روابط الجنسية واللغة، وما دام القرآن يتلى بينهم وفي آياته ما لا يذهب على أفهام قارئيه فلن يستطيع الدهر أن يذلهم.
إن الفجيعة بمصر حركت أشجانا كانت كامنة، وجددت أحزانا لم تكن بالحسبان، وسرى الألم في أرواح المسلمين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من تذكار الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس زفيرا، بل نفيرا عاما، بل يكون صاخة تمزق مسامع من أصمه الطمع.
إن أولى المتغلبين بالاحتراس من هذه العواقب جيل من الناس لا كتائب له في فتوحاته إلا المداهاة، ولا فيالق يسوقها للاستملاك سوى المحاباة، ولا أسنة يحفظ بها ما تمتد إليه يده إلا المراضاة، يظهر بصور مختلفة الألوان متقاربة الأشكال كحافظ عروش الملوك والمدافع عن ممالكهم ومثبت مراكز الأمراء ومسكن الفتن ومخلص الحكومات من غوائل العصيان وواقي مصالح المغلوبين، فكان أول ما يجب عليه ملاحظته في سيره هذا أن لا يأتي من أعماله بما يهتك هذا الستر الرقيق الذي يكفي لتمزيقه رجع البصر وكر النظر، وأن يتحاشى العنف مع أمة يشهد تاريخها بأنها إذا حنقت خنقت، وليس له أن يغتر بعدم مكنتهم وهو يعلم أن الكلمة إذا اتحدت لا تعوزها الوسائط ولا يعدم المتحدون قويا شديد البأس يساعدهم بما يلزمهم لترويج سياسته، وإن المغيظ لا يبالي في الإيقاع بمناوئه أسلم أو عطب، فهو يضر ليضر، إن مسه الضر.
إلا أن غشية النهم ذهبت بعقول المنهومين ووقرت أسماعهم عن حسيس الهمسات المتراسلة من الهند إلى مكة ومن مكة إلى مصر، والكرير
1
الممتد من مصر إلى مكة ومن مكة إلى الهند، وكلها تتلاقى بين تراقي المغرورين بقوتهم المسترسلين في جفوتهم.
إن الرزايا الأخيرة التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط وقاربت بين الأقطار المتباعدة بحدودها المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدت بهم إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر وتواصلوا في طلب الحق وعمدوا إلى معالجة الحق وعلل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة ومؤملين أن تمهد لهم الحوادث سبيلا حسنا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وإن في الحاضر منها لنهزة تغتنم وإليها بسطوا أكفهم، لا يخالونها تفوتهم، ولئن فاتت فكم في الغيب من مثلها، وإلى الله عاقبة الأمور.
تألفت عصبات خير من أولئك العقلاء لهذا المقصد الجليل في عدة أقطار، خصوصا البلاد الهندية والمصرية، وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجه، ويوحدون كلمة الحق في كل صقع، لا ينون في السعي ولا يقصرون في الجهد، ولو أفضى بهم ذلك إلى أقصى ما يشفق منه حي على حياته.
ولما كانت بدايتهم تستدعي مساعدة من يضارعهم في مثل حالهم؛ رأوا أن يعقدوا الروابط الأكيدة مع الذين يتململون من مصابهم ويحبون العدالة العامة ويحامون عنها من أهالي أوروبا، وكتبوا على أنفسهم النظر في أمر السلطة العامة الإسلامية وفروض القائم بها، وبما أن مكة المكرمة مبعث الدين ومناط اليقين وفيها موسم الحجيج العام في كل عام يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقعها الطاهرة الجليل والحقير والغني والفقير؛ كانت أفضل مدينة تتوارد إليها أفكارهم ثم تنبث إلى سائر الجهات - والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.
ولما كان نيل الغاية على وجه أبعد من الخطر وأقرب إلى الظفر؛ يستدعي أن يكون للداعي في كل قلب سليم نفثة حق ودعوة صدق؛ طلبوا عدة طرق لنشر أفكارهم بين من خفي عن شأنهم من إخوانهم، واختاروا أن يكون لهم في هذه الأيام جريدة بأشرف لسان عندهم وهو اللسان العربي، وأن تكون في مدينة حرة كمدينة باريس ليتمكنوا بواسطتها من بث آرائهم وتوصيل أصواتهم إلى الأقطار القاصية؛ تنبيها للغافل وتذكيرا للذاهل، فرغبوا إلى السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني أن ينشئ تلك الجريدة بحيث تتبع مشربهم وتذهب مذهبهم، فلبى رغبتهم، بل نادى حقا واجبا عليه لدينه ووطنه، وكلف الشيخ محمد عبده أن يكون رئيس تحريرها، فكان ما حمل الأول على الإجابة حمل الثاني على الامتثال - وعلى الله الاتكال في جميع الأحوال.
Página desconocida