وفي سنة 1296ه/1879م صدر أمر الخديوي توفيق بإخراجه من القطر المصري هو وتابعه أبو تراب؛ لأن مساعيه السياسية أوغرت عليه صدر المستر فيفان قنصل إنجلترا الجنرال، وتعليمه الفلسفي هيج عليه الجامدين من الأزهريين، فجاءه الكيد من هنا وهناك!
أبحر السيد من السويس إلى «بوشيهر»، ومنها ذهب إلى حيدر أباد، فأقام عاما كتب في أثنائه مذكرات كثيرة باللغة الفارسية والأفغانية، وكتب في ذلك الوقت بالفارسية رسالة الرد على الدهريين.
ولما كانت الثورة العرابية دعي من حيدر أباد إلى كلكتا، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها حتى انقضى أمر الفتنة، وكانت الحكومة الإنجليزية تظن أن له فيها يدا، ثم أبيح له أن ينطلق إلى حيث شاء، فاختار الذهاب إلى أوروبا وقصد مدينة لوندرا، فأقام فيها أياما قلائل، ثم انتقل إلى باريس وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات.
وكتب في طريقه من بورسعيد إلى الشيخ محمد عبده يخبره بذهابه إلى لوندرا، ويطلب إليه أن يرسل الرد بعنوان جريدة الشرق والغرب، أو المستر بلانت.
وهذا يدل على أن السيد ذهب من الهند إلى لوندرا، خلافا لما نقله جولد شهير في دائرة المعارف الإسلامية عن المستر براون في روايته عن المستر بلانت «من أن السيد ذهب من الهند إلى أميريكا فأقام بها بضعة أشهر على عزم أن يتجنس بالجنسية الأمركية، ولكنه - فيما يظهر - لم ينفذ هذا العزم»، فإنا نجده في لندرا سنة 1883 حيث أقام زمنا قصيرا، ثم انحدر إلى باريس مع صديقه ومريده الأمين محمد عبده، الذي صار بعد ذلك مفتي مصر.
والأقرب إلى الصحة أن السيد جمال الدين وصل باريس آتيا من لوندرا سنة 1883؛ كما ذكره جورج كوتشي في رسالته التي عنوانها: «الشيخ جمال الدين الأفغاني ودخائل صاحب الجلالة الإمبراطورية السلطان عبد الحميد الثاني.»
أما الشيخ محمد عبده فقد وافى أستاذه في باريس مدة مقامه بها - على ما صرح به في ترجمته لأستاذه في فاتحة تعريبه لرسالة الرد على الدهريين.
وكان ذلك في أواخر سنة 1883؛ لأن الشيخ عبده سافر إلى سوريا منفيا في أواخر سنة 1882، وبعد نحو عام من مقامه هناك دعاه إلى باريس فسافر إليها.
وكان السيد جمال الدين في باريس منذ أول سنة 1883 ولقي الفيلسوف رينان في ذلك العهد، كما يقول رينان نفسه في رده على السيد جمال الدين المكتوب في 18 مايو سنة 1883:
لقد تعرفت بالشيخ جمال الدين منذ نحو شهرين، فوقع في نفسي منه ما لم يقع لي إلا من القليلين، وأثر في تأثيرا قويا، وجرى بيننا حديث عقدت من أجله النية على أن تكون علاقة العلم بالإسلام موضوع محاضراتي في السربون، والشيخ جمال الدين رجل أفغاني لا سلطان عليه لمؤثرات الإسلام، وهو ينتمي إلى ذلك الجنس القوي المستوطن إيران العليا الواقعة على حدود الهند، والتي لا يزال الذهن الآري يعيش فيها مطويا في غلالة رقيقة من الإسلام الرسمي، والشيح جمال الدين نفسه خير دليل يمكن أن نسوقه على تلك النظرية القائلة بأن قيمة الأديان بقيمة الأجناس التي تعتنقها، وقد خيل إلي من حرية فكره ونبالة شيمه وصراحته وأنا أتحدث إليه أنني أرى - وجها لوجه - أحد من عرفتهم من القدماء، وأنني أشهد ابن سينا أو ابن رشد أو أحد أولئك الملحدين العظام الذي ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار.
Página desconocida