وتجسم الخيال لأرباب الأذهان الحادة، فكان منهم مهندسو حرب يعينون مواقع العساكر وطرق المصاولة وجموع المتلاحمين تجول في أذهانهم يمينا وشمالا ويموج بعضها في بعض، وكأنما كانت مخيلاتهم معرضا لجيوش العالمين، وكأن في كل فوج داعيا وفي كل قبيل مناديا يقول: حقي هذا، فهيعات تتعالى وزفرات تتصاعد وأرغاء وأزباد، وتقطب في الوجوه وشزر في المناظر، وفي كل ذلك هول يأخذ بالألباب.
والعارفون بقوة فرنسا البرية والبحرية والذين يقدرون حقوقها حق قدرها؛ كانوا يعتقدون أن تمثال العظمة البريطانية أصبح منكس الرأس منحني الظهر قد هوى بهامته إلى ركبته يتوارى من الناس خجلا بما ظهر من ضعفه وعجزه، وأن حكومة إنجلترا ستعود بالخيبة (وإن أعدت فيالق من التهديد وجحافل من الأوغاد).
وتقوت هذه الأوهام بما يطنطن أرباب الجرائد، وولعت النفوس بالوقوف على الحقيقة، وانبعثت رسل الأفكار تجوس خلال الشئون والأطوار، لتصل إلى شيء من هذه الأسرار ، واجتمعت الأرواح في الآذان؛ لعلها تسترق سمعا عن تلك المداونات، وكمنت كل نفس في مشكاة باصرتها؛ لعلها تستشف من وراء الحجاب ما ينبئ عن الحقيقة أو يقربها من الفهم، والجميع واقفون وراء حجاب هذا الملعب الشائق، وبعد طول الانتظار كشف الستار.
فإذا عائدة الإنجليز جالسة في هيكل آمون، وبيدها تاج يحكي رأس الثور (تاج الفراعنة) متهيئة أن تضعه على رأسها، والملوك العظام وقوف بين يديها مستعدون لتهنئتها، كأنما كانت هذه المفاوضات والمخابرات إعدادا وتجهيزا لإجلاسها على كرسي مينا الأول ورمسيس الأول - لا حول ولا قوة إلا بالله.
قام رئيس الوزراء الفرنسي في مجلس النواب خطيبا؛ لبيان الاتفاق الذي عقده مع حكومة إنجلترا ليرى النواب رأيهم، وقبل ذكره أنفق ما لديه من البلاغة والفصاحة وحسن البيان لإقناعهم بقبول ما أجرا.
تلطف في الكلام وأبدع وصوب وصعد وأتى على ترغيب يشوبه ترهيب، ويأس يحوطه أمل، وأدرج في طي خطابه أن فرنسا قبل هذا العهد الجديد لم تكن على شيء، وبه نالت أشياء، وأومأ إلى أن وزارته لو طلبت أزيد مما حصلت لأدى الأمر إلى ممانعة الحكومة الإنجليزية وأفضى الخلاف إلى انقلابها، وربما يخلفها وزارة تطمح إلى الاستيلاء على مصر.
وجاء في نطقة بما حرك الطباع ومال بالأسماع حيث قال: يلزم لسياسي قبل إبرام حكم أن يلاحظ جميع أطرافه ولواحقه، فهذه الكلمة الرفيعة جددت في السامعين آمالا وظنوا أن المراقبة الثنائية قد أعيدت، أو تقرر اشتراك فرنسا مع إنجلترا في الاحتلال العسكري، أو إبرام الحكم بخروج الإنجليز من مصر، وبالجملة أنهم فازوا فوزا عظيما.
وبعد مقدمات طويلات
1
بين الاتفاق فإذا هو - بعد إمعان النظر - على هذا النحو: إن الإنجليز سادات مصر يفعلون فيها ما يشاءون، وليس لنا أن نعارضهم، فلا المراقبة الثنائية عادت، ولا الاشتراك في التداخل العسكري أو النظر الإداري حصل، ولا قررت حرية القتال على أصل ثابت، ولا تحقق جلاء الإنجليز على صورة قطعية، ولا تأصلت مراقبة دولية كما كان يتوهم بعض السياسيين، بل كما كان يلجأ إليه الإنجليز عند نهاية العجز على ما أشار إليه كثير من سياسييهم، فانقبضت صدور النواب.
Página desconocida