الإنجليز في السودان
إن البرقيات التي وردت من سواكن جميعها متفقة على أن العساكر الإنجليزية هاجمت معسكر عثمان دجمة في ثمانية منقسمة إلى مربعين، وبعد أن فارقت زفربا غارت عليها العرب بعدد وافر مع بسالة الأيس ودخلت في المربع الأول وهو المقدمة وكانت فيه مذبحة هائلة، وتقهقرت العساكر الإنجليزية وتركت مدافعها بعدما قتل منها جم غفير بأسنة العرب وحرابهم.
إلا أن فرقة من مشاة البحرية جاءت من القلب وسدت الخلل الذي وقع في صفوف العساكر من هجمات العرب ودفعت قوة المهاجم، ولم تكد المربعات الإنجليزية تلتئم وتعود إلى الانتقام حتى هاجمتها جيوش عثمان مرة أخرى ببأس شديد وانقضت عليها من الجناحين، والتحمت مقتلة عنيفة وترامى العرب على الموت واستهانوا بالحياة مفضلين الشهادة على التقهقر والتسليم.
وتضافرت الأخبار على أن العرب أظهروا من البسالة والشجاعة ما لا يوصف، حتى قال الرواة: إن ما شاهدوه منهم يعد من غرائب الأعمال البشرية، إلا أن الروايات اختلفت في عدد من قتل منهم ومن عساكر الإنجليز، فبعضها أوصل قتلى العرب إلى ثلاثة آلاف وبعضها إلى أقل، ثم جاءت الأخبار الرسمية (وما أدراك ما الأخبار الرسمية وما تبالغ في قتل أعدائها) مصرحة بأنها ألفان، أما قتلى الإنجليز فقد بالغوا في قلتها حتى أوصلوها إلى مائتين أو ثلاثمائة، بعدما اعترفوا بأن العرب فتكوا فيهم فتكا ذريعا.
وعلى أي حال قد انتهت الواقعة بانسحاب العرب إلى جبالهم ورجعت العسكر الإنجليزية بغاية السرعة إلى سواكن، وتركت المواقع التي استولت عليها، وتوافد إليها العرب مع قائدهم عثمان واجتمعت له في الموقع الذي هوجم فيه قوة حملته على الشموخ بأنفه والنداء باستعداده لمهاجمة العساكر الإنجليزية وأنه لا يقبل التسليم.
إنا لنعجب كما يعجب سائر الجرائد الأوروبية من هذه الرجعة العربية بعد الطنطنة بالنصر والظفر والإعلان بأن العساكر الإنجليزية نالت من الشرف أعلى ما يناله جيش في قتال، فإن سرعة الرجوع شاهد بين على أن هذا الجيش المنظم يقتدر على حفظ مركزه في ساحة الحرب وأنه خشي التلف لو بقي فيه فعاد راجعا إلى شواطئ البحر.
فكأن المقتلة لم تكن إلا كرة أعقبتها قوة حتى عدتها بعض الجرائد هزيمة وحسبتها من الخطأ العظيم؛ لأنها تجرئ العرب على البقاء في الطريق الذي يصل سواكن ببربر وقطع الطريق على سالكيه، وإنا لا نوافقهم على ذلك لكنا نعدها عجزا ظاهرا عن مقاومة العربان في جبالهم.
وما أشبه فعلة الإنجليز هذه بفعلتهم من نحو عشرين سنة عندما كان يحارب في حدود الهند سرايا الأمير عبد الله الوهابي وخوندسوات، فإنه بعدما انهزم في جبال «سوات وبنير» شر هزيمة وترك مدافعه وذخائره رجع ثانية ودخل قرية صغيرة من قرى تلك الجبال، وفاجأها ليلا على غفلة وأحرقها فقتل أهلها جميعا وانقلب راجعا إلى بلاده في الهند من ليلته، وأعلن بأنه قتل وسلب ونهب وظفر وانتصر! فليعتبر المعتبرون.
وكأن الجنرال جراهام بعمله هذا لم يرد إطفاء الفتنة في الأراضي المصرية، وإنما قصد رد شرف العساكر الإنجليزية والأخذ بثأر بعض من قتل منها سابقا، وإقامة البرهان لأوروبا على أن العساكر الإنجليز يقدرون على محاربة العربان ويستطيعون الهجوم عليهم، نعم، إنه لم يغفل التدبير بالكلية، فإن الجرائد أخبرت أنه وضع رأس عثمان دجمة في المساومة وجعل لمن يأتي به ألف ليرا إنجليزية، ونعم ما دبر ولكن يخاف أن عثمان عندما يبلغه الخبر يضع رأس الجنرال في المزايدة، ويجعل لمن يأتي به مائة قنطار من سن الفيل، ويكون الخطر على الجنرال أعظم!
ثم إن الجرائد الإنجليزية - على عادتها من ترويج سياسة حكومتها في الحروب - أشاعت أن الجنرال جراهام بعد رجوعه إلى سواكن دعا بعض رؤساء القبائل وذكرهم في إقرار الراحة بين سكان البلاد السودانية ورغب إليهم أن يتعهدوا به، فأجاب بأنه غير ممكن لهم إلا بمساعدة العساكر الإنجليزية، وأنهم استصوبوا ما نشره الجنرال من تعيين الجعالة على جز رأس عثمان بمبلغ ألف ليرا إنجليزية، وهذا مما لا نظنه بالعرب؛ لمخالفته طباعهم وبنوا أخلاقهم على الخضوع للأجنبي عنهم وما عهد ذلك فيهم من يوم نشأتهم العربية إلى اليوم، وبعد إنهاء الكلام معهم أخذ في ذم عثمان على ما روته تلك الجرائد؛ حيث لم يظفر به بأنه كذاب وخائن لبلاده وأبناء جلدته، فإنه الذي عرضهم لسفك الدم وإتلاف الأرواح.
Página desconocida