وساد بها الأمن وعمت الراحة، وضارعت في كل أحوالها نوع ما عليه الممالك الأوروبية العظيمة، وكان المتأمل في سيرها هذا يحكم حكما ربما لم يكن بعيدا من الواقع، أن عاصمتها لا بد أن تصير في وقت قريب أو بعيد كرسي مدنية لأعظم الممالك الشرقية، بل كان ذلك أمرا مقررا في أنفس جيرانها من سكان البلدان المتاخمة لها، وهو أملهم الكبير، كلما ألم خطب أو عرض خطر، غير أن الأيام كأنها حسدتها على ما منحته، فعثر العاقل، وفرط المالك، وأعثر المعجب، وتهور الغبي، وخار الأفين، فتقرب البعيد، وبعد القريب، ونزل بمصر ما لم يكن له أثر إلا حواشي طوامير الأوهام - ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألحمت إدارة الحكومة بما ليس من نسيج سداها، وانتفضت منها أصول على وجه غير مألوف، ففتحت للدسائس أبواب وأنساب، بين طبقات الناس، دهاة سياسة، وطلاب غايات، فتفرق اتصال، وتقطعت أوصال، فضعفت السلطة الوازعة، ونبذت الطاعة، والتهبت نيران الفتن.
قضاء حل بتلك البلاد، فاحتاجت في إعادة شأنها الأول إلى رأي قويم، وعزم ثابت، ووازع قوي، تدين لسطوته النفوس، وإن من ذوي الحقوق فيها من يجمع هذه الأوصاف، وله من القلوب المكانة العليا، وكان يسهل عليها القيام بما يعهد إليه، لكن تحكم طمع وأخطأ ظن، فتخلفت النتيجة، واشتدت الحاجة.
أشفقت دولة الإنجليز على طريق الهند، كما يقال، أو ظنت أن آن التقدم بعض خطوات قد آن، فرأت أن إعادة الأمن وتثبيت الراحة في مصر من فرائض ذمتها، فكان من التحريق والتدمير والقتل والشنق والحبس والإبعاد والتغريم، وما شاكل ذلك مما لا حاجة لبيانه، وعم بعض أنواع الهون، حتى لم يبق ممن يعرف اسمه أحد إلا مسه ضرمه، ما خلا أشخاصا قلائل، وهذه المرهبات على ما بها من القوة لم تبلغ الغرض من تأمين طريق الهند لإشرافه على الخطر من وجه آخر، ولم تأت بما كان يؤمل منها لنظام البلاد.
أليست المالية هي مرمى أنظار دول أوروبا، وما وضع نظام في البلاد ولا أحدث تغيير بمشورتهم إلا لوقاية الخزينة من العجز عن أداء ما يتعلق بها من الحقوق الأوروبية؟ اليوم رزئت بالنقص في الإيراد، وحملت من تعويضات متالف الحرب أربعة ملايين من الجنيهات، ورميت بنفقات جيش الحلول، وحرب السودان، ومصاريف إخلائه، وما يضاف إلى كل هذا مما يظهره المستقبل ، فاختلت الموازين، وبطل قانون الجبايات، وأي مصيبة على المالية أعظم من نوازلها الحاضرة؟!
عقد العزم على إلغاء الجيش الوطني، وهو قوة البلاد وبه فخارها، وكأنه لم توجد وسيلة لتنظيم جنود مصر، وقصر الجهد عن مجاراة محمد علي باشا، وإبراهيم باشا، اللذين دوخا كثيرا من الأقطار بجنود مصرية.
إن كان كل ما تقدم من الشدائد والخطوب وزيادة النفقات وإلغاء العساكر الوطنية إنما يتخذ سبيلا لراحة الأهالي، وتحسين أحوالها، فنعمت الوسائل إذا أدت إلى غاياتها، لكن أين السبيل من المقصد، وأين هذه المعدات من تلك الغايات؟
واأسفا على حالة الأهالي بعد هذا! حكم من لا دافع لحكمه بطرد آلاف من الوطنيين الموظفين في دوائر الحكومة، وما منهم أحد إلا ويتبعه عائلة وأولاد، ولا قوت لهم إلا من مرتب عائلهم، وما مرن على عمل للكسب سوى ما نشأ فيه من خدمة الحكومة، ألم يمس هؤلاء ضر الفقر؟! ألم يعضهم ناب الجوع؟! ألم يهتك مستورهم؟! ألم يضق ذرعهم؟! ألم يصبحوا كساة بسرابيل الكآبة، عراة من أكسية المسرة؟! إن لم يكن كل هذا فقد كان جله، وإن صدى أنينهم يتلى في صفحات الجرائد الوطنية العربية والإفرنجية وسيتبع السابقين منهم اللاحقون، حتى لا يجد وطني في البلاد من المهن إلا ما لا يليق بالإنجليزي تعاطيه من سفاسف الأمور - كما هو في البلاد الهندية.
اضطرب ميزان السلطة العامة لتعاكس قواها المختلفة فاشتبه الأمر على العمال، وظنوا أن لا تبعة عليهم فيما يعملون، فانطلق ما غل من أيديهم، وحكموا أهواءهم في أداء وظائفهم، فخبطوا وخلطوا، أفعمت السجون بأعيان الرعية، ورفعت أذناب الكرابيج لتشريح أبدانهم، واستعملت آلات التعذيب، وامتدت مخالب الجور لتجريدهم من بقايا أموالهم، وثمرات كسبهم، وحدث نوع من الحكم المطلق عزيز المثال، بعث عليهم عذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ولبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض. وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
غلقت أبواب العمل من وجوهه الرسمية في الإدارات، وتعطلت أشغال المحاكم، وشخصت الأبصار لعاقبة هذا التنازع بين القوى الحاكمة، فاتسع نطاق الفوضى وارتفع حجاب المنعة، فإذا الفلاح لا يبالي بعمدته، والعمدة لا يبالي بمأمور مركزه، والمأمور لا يحترم مديره، وسرى التهاون إلى الدوائر العليا، وعاد الأمر لقوة الساعد وكثرة الأعوان فعاثت اللصوص، وكثر قطع الطرق في كل ناحية.
Página desconocida